بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإنّ من أمراض النفوس التي انتشرت في المجتمع المسلم مرض النميمة.. وهو داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأُسر، ويفرق الأحبة، ويُقطع الأرحام.
وهذا هو الجزء الثاني من "رسائل التوبة من.." يهتم بأمر النميمة.. حكم الله فيها وزواجرها وأسباب بواعثها ثم كيفية الخلاص منها.
وهذه الرسالة متممة للرسالة الأولى عن الغيبة.
حفظ الله ألسنتنا ونزه أسماعنا عن كل ما يشين.
وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
مدخل:
يتميز المجتمع المسلم بصفات المحبة والأخوة؛ تزين المحبة القلوب وتُجمل الابتسامة الوجوه.
فالأساس بين المؤمنين الأخوة والرفقة الطيبة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: من الآية 10]. وقد حرم تعالى على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة: 91].
وامتن سبحانه وتعالى على عباده بالتآلف بين قلوبهم فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران: من الآية 103]. وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سورة الأنفال: 62-63].
وينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلاّ كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنَّة الإِمساك عنه، لأنّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ففي هذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنّه لا ينبغي أن يتكلم الشخص إلاّ إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.
قال الإمام الشافعي: "إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى يظهر".
تعريف النميمة:
اسم النميمة إنّما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى القول فيه. كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا.
وليست النميمة مختصة به، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث.
وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول عن الأعمال أو من الأقوال. وسواء كان ذلك عيبا ونقصا في المنقول عنه أو لم يكن، بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلاّ ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية.
مثل أن يرى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، أما إذا رآه يخفي مالًا لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر.
وإن كان ما ينم به نقصا وعيبا في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة.
وبهذا يتضح أنّ النميمة نقل كلام النّاس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف السر وهتك الستر.
والبهتان على البريء أثقل من السموات وويلٌ لمن سعى بوشاية بريء عند صاحب سلطان ونحوه، فصدقه، فربما جنى على بريء بأمر يسوءه وهو منه براء.
قال يحيى بن أكثم: "النمام شر من الساحر، ويعمل النمام في ساعة مالا يعمل الساحر في سنة".
ويقال: "عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن الشيطان، بالخيال والوسوسة وعمل النمام بالمواجهة والمعاينة".
حكم النميمة:
النميمة من أقبح القبائح وكثر انتشارها بين النّاس حتى ما يسلم منها إلا القليل.
والنميمة محرمة بإجماع المسلمين وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتب والسنة وإجماع الأمة.
قال الحافظ المنذري: "أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنّها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل.
وقد حُرمت النميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين.
أدلة تحريم النميمة:
قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [سورة القلم: 11].
وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة قّ: 18]. وقال جل وعلا: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [سورة الهمزة: 1]. قيل الهمزة: النمام.
وقال تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد: من الآية 4]. قيل: كانت نمامة حمالة للحديث إفسادا بين النّاس، وسميت حطبا لأنّها تنشر العداوة والبغضاء بين النّاس كما أنّ الحطب ينشر النّاس، والنميمة من الأذى الذي يلحق المؤمنين ويُفسد بينهم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب: 58].
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام» [متفق عليه].
وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنّه لا يدخل الجنة نمام، فإذا لم يدخل الجنة لم يكن مأواه إلاّ النار، لأنّه ليس هناك إلاّ الجنة أو النار، فإذا ثبت أنّه لا يدخل الجنة ثبت أن مأواه النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشراركم؟» قالوا: بلى. قال: «المشاؤن بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب».
ولنتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أشاع على مسلم كلمةً يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة».
هذا جزاؤه يوم القيامة وقبل ذلك عذاب القبر. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله».
قال العلماء في معنى «وما يعذبان في كبير»: "أي في زعمهما وقيل: كبير تركه عليهما".
ويقال: "أنّ ثلث عذاب القبر من النميمة".
ولقد حرم الله جل وعلا المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ورغب في الإصلاح بين المسلمين. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [سورة الأنفال: من الآية 1].
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة».
دوافع النميمة:
إنّ ممّا يدفع الإنسان إلى النميمة بين النّاس بواعث خفية منها:
أولًا: جهل البعض بحرمة النميمة وأنّها من كبائر الذنوب، تؤدي إلى شر مستطير، وتفريق أحبة، وتهديم بيوت، وإشاعة التباغض والتناحر بين المسلمين.
ثانيًا: التشفي والتنفيس عما في النفس من غلٍ وحسد وذلك بالنميمة بين الأحبة. ومحاولة التنقص من المحسود أمام النّاس.
ثالثًا: مسايرة الجلساء ومجاملتهم والتقرب إليهم بخبر جديد وأمر يستمعون إليه.
رابعًا: إرادة إيقاع السوء للمحكي عنه كنقل الكلام إلى من بيده سلطة أو قوة. أو مرادة إيقاع الضرر بأي شكل كان.
خامسًا: إظهار الحب والتقريب للمحكى له وكأنّه أصبح من أعوانه وأحبابه فلا يرضى بما قال عنه فلان من الناس، بل ينقل إليه كل ذلك وربما يزيد رغبة في زيادة محبة المنقول إليه.
سادسًا: اللعب والهزل فإن هناك مجالس تقام على الضحك والهزل ونقل الكلام بين النّاس.
سابعًا: إرادة التصنع ومعرفة الأسرار والتفرس في أحوال النّاس فينم عن فلان ويهتك ستر فلان.
ماذا تفعل مع النمام؟
أخي الكريم: كل من حملت إليه النميمة وقيل له أن فلانًا قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا وكذا، أو هو يدبر في إفساد أمرك، أو في ممالأة عدوك، أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور:
الأول: أن لا يصدقه لأنّ النمام فاسق وهو مردود الشهادة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [سورة الحجرات: من الآية 6].
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله. قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة لقمان: من الآية 17].
الثالث: أن يبغضه في الله فإنّه بغيضٌ عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى.
الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [سورة الحجرات: من الآية 12].
الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس والبحث والتحقق، إتباعا لقول الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات: من الآية 12].
السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماما ومغتابا وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت.
قال الحسن: "من نمَّ إليك نمَّ عليك". وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإِفساد بين النّاس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الشورى: من الآية 42]. والنمام منهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ من شرار النّاس من اتقاه النّاس لشره» والنمام منهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع» قيل: وما القاطع؟ قال: «قاطع بين النّاس» وهو النمام وقيل: قاطع الرحم.
قال مصعب بن عمير: "نحن نرى أنّ قبول السعاية شر من السعاية لأنّ السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة".
من صفات النمام
قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [سورة القلم: 11-13].
ووصف القرآن الكريم النمام بتسع صفات كلها ذميمة:
الأولى: أنّه حلاف.. كثير الحلف ولا يكثر الحلف إلاّ إنسان غير صادق يدرك أن النّاس يكذبونه ولا يثقون به فيحلف ليداري كذبه ويستجلب ثقة النّاس.
الثانية: أنّه مهين.. لا يحترم نفسه ولا يحترم النّاس قوله، وآية مهانته حاجته إلى الحلف، والمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً ذا مال وجاه.
الثالثة: أنّه همَّاز.. يهمز النّاس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم على حدٍ سواء.
الرابعة: أنّه مشاء بنميم.. يمشي بين النّاس بما يفسد قلوبهم ويقطع صلاتهم ويذهب بمودتهم. وهو خلق ذميم لا يقدم عليه إلاّ من فسد طبعه وهانت نفسه.
الخامسة: أنّه مناع للخير.. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره.
السادسة: أنّه معتدٍ.. متجاوز للحق والعدل إطلاقا.
السابعة: أنّه أثيم.. يتناول المحرمات ويرتكب المعاصي حتى انطبق عليه الوصف الثابت والملازم له "أثيم".
الثامنة: أنّه عتل.. وهي صفة تجمع خصال القسوة والفضاضة فهو ذا شخصية كريهة غير مقبولة.
التاسعة: أنّه زنيم.. وهذه خاتمة صفاته.
قال عبدالله بن المبارك: "هو ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث".
ذو الوجهين
أخي الكريم.. أعظم من النميمة هذا الذي يتردد بين المتعاديين، ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه.
وإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكن واحد منهما ما هو عليه في المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين.
وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته، وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين، بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.
قال صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانا من نار يوم القيامة».
وقال عليه الصلاة والسلام: «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة: ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه» [متفق عليه].
روي عن حماد بن سلمة أنّه قال: باع رجل غلاما فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلاّ أنه نمام فاستخفه المشتري، فاشتراه على ذلك العيب، فمكث الغلام عنده أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموس واحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج، وقال: إن امرأتك تخادنت (يعني اتخذت خليلًا) وهي قاتلتك، أتريد أن يتبين لك ذلك؟ قال: نعم، قال: فتناوم لها، فتناوم الرجل فجاءت امرأته بموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنّها تريد قتله، فأخذ منها الموس فقتلها، فجاء أولياؤها فقتلوه، فجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين.
أخي.. ها هو ذو الوجهين:
يسعى عليك كما يسعى إليك فلا
تأمن غوائل ذي وجهين كياد
درر من أقوال السلف
اعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ البهتان على البريء أثقل من السموات، والصمت سلامةٌ وهو الأصل، والسكوت في وقته صبغة الرجال، كما أن النطق في موضعه أشرف الخصال.
وإليك بعضا من أقوال وأفعال السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ:
- زار بعض السلف أخوة فنم له عن صديقه. فقال له: يا أخي أطلت الغيبة وجئتني بثلاث جنايات:
بغضت إليّ أخي، وشغلت قلبي بسببه، واتهمت نفسك الأمينة.
- رفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أفضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكًا في مستور، ولولا أنّك في خفار شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم صبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.
- كان بكر بن عبد الله يقول: عليكم بأمر إن أصبتم أجرتم وإن أخطأتم لم تأثموا، وإياكم وكل أمر أن أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم.
قيل: ما هو؟ قال: سوء الظن بالناس فإنكم لو أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم.
- قيل لمحمد بن كعب: أي خصال المؤمن أوضع له؟
فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد.
- قال رجل لعمرو بن عبيد: إن فلانًا ما يزال يذكرك في قصصه بشر.
فقال له عمرو: يا هذا، مارعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين.
-روى عن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أنّه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئا فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات: من الآية 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: {همَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [سورة القلم: 11] ، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا.
- قال لقمان لابنه: "يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيدا: ابسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك".
- وقال بعضهم: "النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل".
- وقال بعضهم: "لو صح ما نقله النمام إليك لكان هو المجترىء بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنّه لم يقابلك بشتمك".
- كان سليمان بن عبدالملك جالسا وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنّك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت. فقال سليمان: إنّ الذي أخبرني صادق. فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقا. فقال سليمان: صدقت قم، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.
أخي المسلم:
من نمّ في النّاس لم تؤمن عقاربه
على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد
من أين جاء ولا من أين يأتيه
الويل للعهد منه! كيف ينقضه!
والويل للود منه! كيف ينعيه؟!
علاج النميمة
امتن الله تعالى على عباده بالتأليف بين قلوبهم وجمع شتاتهم فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران: من الآية 103]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: من الآية 10]. وكل من سعى إلى إشعال الفتنة والعداوة بين المؤمنين فإنّه تجاوز حدود الله ووقع في معصيته، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [سورة المائدة: من الآية 91]. ومن أراد أن يعالج لسانه من النميمة فعليه أن يشغل لسانه ومجلسه بذكر الله وبما ينفع ويتذكر:
أولًا: أنّه متعرضٌ لسخط الله ومقته وعقابه.
ثانيًا: أن يستشعر عظيم إفساده للقلوب وخطر وشايته في تفرق الأحبة وهدم البيوت.
ثالثًا: أن يتذكر الآيات والأحاديث الواردة في النميمة وعليه أن يحبس لسانه.
رابعًا: عليه إشاعة المحبة بين المسلمين وذكر محاسنهم وحفظهم في غيبتهم.
خامسًا: أن يعلم أنّه إن حفظ لسانه كان ذلك سببًا في دخوله الجنة.
سادسًا: أنّ من تتبع عورات النّاس تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته.
سابعًا: عليه بالرفقة الصالحة التي تدله على الخير وتكون مجالسهم مجالس خير وذكر.
ثامنًا: ليوقن أنّ من يتحدث فيهم اليوم وينال من أعراضهم هم خصماؤه يوم القيامة.
تاسعًا: أن يتذكر الموت وقصر الدنيا وقرب الأجل وسرعة الانتقال إلى الدار الآخرة.
أخي الكريم: النمام ينبغي أن يُبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، لأنّه لا يخاف الله ولا يحافظ على أعراض المسلمين، يحب الفرقة ويزرع الشتات.
فلا تدع النمام يلوث مجلسك ويدنس سمعك بالذنوب والمعاصي، بل كن آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، وازجره شر زجرة وابن له قبيح فعله وسوء صنيعه، ولا تصغ له سمعك وابرأ إلى الله من فعله.
حفظ الله لسانك وسمعك وبصرك.
عبد الملك القاسم
منقول