القرآن الكريم الحديث عنه لا يمل ، هذا الكتاب الذي تعجز الألسن أن توفيه حقه ، وتكل الأقلام عن بيان عجائبه ، يزداد مع كثرة النظر فيه تألقاً وبهاء ، صدق في أخباره ، عدل في أحكامه ، عذب في كلماته ، غزير في معانيه ، فريد في أسلوبه .
يقول الرافعي تعالى عن القرآن:
" ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة ، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة ، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها ، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنةَ ترعدُ من حمى القلوب."
حتى نعيش مع القرآن:
لقد وصف القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تدل على علو قدره وعظيم منزلته ، ومن تأمل في أوصاف القرآن يعجب كيف يعيش بدونه الإنسان ، والمجال لا يتسع لذكر كل أوصاف القرآن ، ولكن أذكر منها ما يرى معه القارئ أنه لا يمكن أن يحيى حياة سعيدة مطمئنة في هذه الحياة الدنيا بعيداً عن هذا القرآن.
أولاً : القرآن كلام الله:
الله الذي خلق الإنسان وخلق الكون من حوله وسخره له وأودع فيه من النواميس "القوانين" التي تجعل الإنسان يعيش حياة آمنة مستقرة، هل يعقل أن يكون له كلام ثم لا يلتفت إليه هذا الإنسان ؟
إذا كان الإنسان قد أعمل عقله في النظر في خلق الكون ومعرفة نواميسه واكتشاف أسراره وما فيه من إحكام ودقة تدبير ثم وجد كل ذلك يصب في مصلحته ، فمن باب أولى أن يعمل العقل في النظر في كلام الخالق لهذا الكون ، لأن الذي أحكم الخلق ليكون في مصلحة الإنسان فلابد أن يكون قد أحكم القول كذلك ليكون في مصلحة الإنسان أيضاً. وما يدركه الإنسان من مصالح بنظره في القول هو أعظم مما يدركه بالنظر في الخلق ولا شك.
ولهذا نجد أن الله تعالى قد نبه في كتابه إلى هذه الحقيقة في سورة افتتحها باسم من أسمائه الحسنى فقال:
(الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4))
فقدم ذكر نعمة التعليم ؛ تعليم القرآن على نعمة الخلق وهي سابقة عليها.
ثانياً: القرآن روح
إذا كانت الحياة نعمة أنعم بها الله على الإنسان ، وكانت حياة الإنسان متوقفة على تلك النفخة العلوية التي تسري بأمر الله في جسد الإنسان وهي الروح فإن هذه النعمة لا تتم إلا بقبول الروح الذي جعله الله سببا للحياة الحقيقية المشتملة على السعادة الأبدية ، ألا وهو القرآن العظيم وقد سماه الله تعالى روحا في أكثر من آية:
( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) سورة النحل(2)
(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ) سورة غافر(15)
فالناس بدون القرآن أموات الأرواح وإن كانوا أحياء بأجسادهم كما قال تعالى:
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام (122)
فالقرآن يسري في أرواح المؤمنين فيبعث الحياة في قلوبهم وعقولهم وبصائرهم ، بخلاف الذين لا يعرفون الله تعالى ولا يعرفون كلامه فهم أموات بأرواحهم وإن كانوا أحياء بأجسادهم .
جاء في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري قال : قال النبي : " مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ."
بل إن البيئة التي يتلى فيها القرآن بيئة حية بخلاف البيئة التي لا يتلى فيها القرآن فهي بيئة ميتة ، فقد جاء في الصحيح من حديث أبي موسى أيضا أن النبي قال: " مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ."
ثالثاً : القرآن نور
قد يكون الإنسان حياً ولكنه بلا نور يبصر به جمال الحياة ، والحياة جمالها في أن يبصر الحي ما أودع الله فيها من دلائل وحدانيته وجمال وجلال صفاته ، وهذا الجمال لا يبصره إلا من أنيرت بصيرته بنور القرآن. لأن القرآن بنوره يبدد الظلمات التي تحيط بالنفس الإنسانية من كل جوانبها .
ولقد وصف الله تعالى القرآن بأنه نور في أكثر من آية ، ومن ذلك قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) سورة النساء (174)
وقوله تعالى:
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام(122)
وقوله تعالى:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) سورة الشورى(52)
وبنور القرآن تشرق النفس البشرية وتصبح مصدراً للنور في هذه الحياة ، وذلك من خلال الأعمال التي تباشرها في هذه الحياة.
ولقد ضرب الله تعالى المثل لنور القرآن في قلب المؤمن وحياته فقال:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) سورة النور(35)
فحياة المؤمن كلها نور أقواله وأفعاله وتصوراته وطريقة تفكيره.
وعكسه تماما الكافر ، فتصوراته وأقواله وأفعاله وطريقة تفكيره ظلمات بعضها فوق بعض ن كما قال تعالى:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)) النور
رابعاً: القرآن هدى
قد يكون الإنسان حياً مبصراً وذا فطرة سليمة ترى في النفس والكون آيات دالة على عظمة الخالق ودقة الصنع وحسن التدبير ، لكنه لا يجد تفسيراً لوجوده ووجود الكون من حوله ، لا يجد تفسيراً لمعنى الحياة والموت ، لا يجد تفسيراً لهذا التفاوات بين البشر في كثير من الأمور : التفاوت في الخلقة ، وفي القدرات ، وفي الأحوال المتضادة كالفقر والغنى ، والصحة والمرض ، والقوة والضعف ، والأمن والخوف ، والسعادة والشقاء ، والرفعة والوضاعة ، والعز والذل .....الخ.
والقرآن كلام الخالق جاء ليفسر ويهدي في نفس الوقت.
جاء ليفسر الغاية من الوجود قال تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات(56)
وقال تعالى:
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) الملك
وقال :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) هود(7)
وقال :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنعام (165)
وقال :
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء (35)
وقال :
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف (32)
من خلال الآيات السابقة نرى أن القرآن يحدد لنا الغاية التي وجدنا في هذه الحياة من أجلها، ألا وهي عبادة الله تعالى، وهذه العبادة تكون من خلال التنافس في إحسان العمل في جميع جوانب الحياة، وهذا الإحسان لم يتركه القرآن إلى اجتهادات الناس ، بل وضع قواعده وأسسه التي إذا ما ألتزمها الإنسان كان جديرا بأن يصل إلى أعلى مراتب إحسان العمل ، قال :
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) الإسراء (9)
ونرى أيضا من خلال الآيات الآتية كيف أن القرآن يفسر بطريقة مجملة سر التفاوت بين الناس وسر الأحوال المتغيرات التي تعتري حياتهم ، نرى هذا في قوله تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ)
وقوله تعالى:
(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)
وقوله تعالى:
(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)
والآيات كثر في هذا الباب والتي يمكن أن نصل من خلالها إلى تفسير كثير من الأمور التي ربما توقف عندها الإنسان وتساءل عن سرها أو عن الحكمة من ورائها.
في الحلقة القادمة أتحدث إن شاء الله تعالى عن المحاور التي يمكن أن نعيش مع القرآن من خلالها وهي عبارة عن الأهداف الرئيسة للقرآن الكريم.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.