الملك فاروق (4): فضيحة..في جناح مولانا
حكمة القصور تقول: ليس من الصعب اصطياد ملك عابث
ففي يوم 24 أبريل نيسان عام 1945 كتب اللورد كيلرن إلى لندن (1531/ 45970) ما نصه:
"أتشرف بأن أبعث إليكم بصورة تقرير سري كتبه مصدر موثوق على اتصال بنا (كريم ثابت) عن واقعة بطلتها سيدة اسمها ليلى شيرين ضُبطت على مدخل جناح الملك فاروق في قصر عابدين، وتحول مشهد ضبطها إلى فضيحة شهدتها الملكة فريدة وشاركت في وقائعها
"إن مصدرنا الوثيق الصلة بالقصر والذي نستطيع الاعتماد بالكامل على صحة روايته، قال "إن الملك فاروق كان "بريئاً" لأنه لم يكن في قصر عابدين من الأصل، وإنما كان يقضى الليلة في استراحته بالفيوم"
يستكمل اللورد كيلرن برقيته فيقول:
"إن السيدة التى ضُبطت على مدخل الجناح الملكي اسمها ليلى شيرين، وهي سيدة "متسامحة في الفضيلة" A lady of easy virtue وقيل إنها مصابة باضطرابات عصبية عولجت بسببها في مستشفى الدكتور "جيلات" للأمراض النفسية في المعادي. ومن الملاحظ ولحظوظ الجميع الحسنة أنه أمكن الحصول على شهادة بعلاجها من مستشفى الدكتور جيلات قُدمت إلى النائب العام الذي أصرت الملكة فريدة على إبلاغه بواقعة وجود "سيدة غريبة" على باب جناح الملك قريباً من جناحها!"
يستطرد اللورد كيلرن في تقريره فيقول:
"من نتيجة الحادث أن الملكة فريدة صممت على طلب الطلاق، قائلة إنها تريد أن تترك القصر وتعيش وحدها مع بناتها وتترك فاروق يفعل ما يشاء. وكان الملك في البداية مغتاظاً مما جرى ويوافق على إجراء الطلاق فوراً، لكن أحمد حسنين (باشا) هرع إلى مكتبه عندما عاد من الفيوم يرجوه ألا ينفعل، لأن الأوضاع السياسية الآن (وهو المسؤول فيها عن البلد بعد إقالة حكومة النحاس (باشا) لا تسمح بمثل ذلك). ونزل الملك في ما علمنا على رأي حسنين، لكننا على ثقة بأن موضوع الطلاق سوف يطرح نفسه مرة أخرى، لأن الملكة فريدة لم تعد تطيق الحياة مع زوجها. وهو من ناحيته لا يمانع في طلاقها، معتبراً أنها لم تستطع أن تنجب له ولداً يخلفه على العرش. إن الملكة هائجةٌ على نحو خاص من غرام الملك بالنبيلة فاطمة طوسون، والعقبة أن فاطمة طوسون عليها أولاً أن تحصل على الطلاق من زوجها الأمير حسن طوسون، وعندما يطلق الملك زوجته فريدة، ويطلق حسن طوسون زوجته فاطمة فإن عمليات الطلاق المزدوجة سوف تخلق موقفاً شديد الحساسية"!
وفي ملفات الحرس الملكي (هيئة ضباط الياوران المكلفين بمرافقة الملك والخدمة المباشرة معه)، تقرير بخط يد الأميرالاي عثمان المهدي (بك)، (أو ربما بإملائه على أحد موظفي مكتبه) ترد الواقعة في سطور قليلة:
12 أبريل 1945
"أبلغت صاحبة الجلالة الملكة عن سيدة ادعت أنها من مربيات الأميرات، وكانت موجودة قرب الجناح الملكي، وعلى الفور تحرك الأميرالاي عثمان المهدي وضبط المدعوة ليلى شيرين، وتم إبلاغ النيابة بناءً على طلب من حضرة صاحبة الجلالة الملكة، وتم اتخاذ اللازم"
لكن السفير البريطاني ما لبث أن بعث إلى لندن مذكرة أشرف على إعدادها السير كين بوين (مستشار وزارة الداخلية المصرية السابق، وكان يدير وقتها شبكة معلوماتٍ نافذة إلى صميم الحياة السياسية والاجتماعية في مصر) وكانت المذكرة على النص التالي:
"بعد منتصف الليل يوم 12 أبريل 1945 لاحظت الوصيفة المناوبة للملكة فريدة وهي السيدة نعمت مظلوم (كريمة أحمد مظلوم (باشا) وهو صهر لأسرة حسين سري (باشا) وزوجته السيدة ناهد خالة الملكة فريدة) عندما خرجت من جناح الملكة لتجري حديثاً تليفونياً مع بيتها، أن هناك سيدة ترتدي ملابس السهرة، وتتمشى في الصالون الملحق بجناح الملك (وكان الباب مفتوحاً). واندهشت السيدة نعمت مظلوم واقتربت من السيدة الغريبة تستطلع أمرها "من هي؟"، و"ماذا تعمل؟" و"ما الذي جاء بها إلى هنا في هذه الساعة داخل الجناح الملكي الخاص؟". ثم سألتها بحدةٍ: كيف دخلت؟ وردت عليها السيدة بهدوء قائلة لها: "من الباب طبعاً"! ثم بدا أن السيدة الغريبة تريد أن تنصرف بسرعة، لكن نعمت مظلوم أمسكت بها، وسمعت الملكة فريدة أصواتاً غريبة وهرعت نحو مصدرها، وعندما وقع نظرها على السيدة المذكورة، صرخت الملكة تطلب "مسدساً" من غرفتها، لأنها لا بد أن تقتل "هذه المرأة". وتحت التهديد بالقتل اعترفت المرأة الغريبة باسمها ليلى شيرين، وذكرت أنها جاءت إلى هنا مراتٍ من قبل عندما كان الملك يدعوها بنفسه أو بواسطة مكتب الشؤون الخاصة (مكتب بوللي بك)، وقد أبلغوها بأن جلالة الملك يطلبها، وأن كلمة السر في القصر الليلة هي "المنتزه"!
"وتحت تهديد السلاح في يد الملكة فريدة جلست ليلى شيرين تكتب بخط يدها اعترافاً بعلاقتها مع الملك، وقد أخذته الملكة فريدة وهي تقول لنعمت مظلوم "هذه المرأة تقول أيضاً إنها حامل من فاروق!"
قالت الملكة أيضاً إنها لمحت في يد ليلى شيرين خاتماً عليه صورة للملك فاروق، واعترفت لها بأنها تلقت الخاتم هدية منه
وفي هذه اللحظة أخطرت الملكة ثلاثة رجال داخل القصر بالواقعة:
مراد محسن (باشا) ناظر الخاصة الملكية
أحمد صادق (باشا) قائد الحرس الملكي
الأميرالاي عثمان المهدي (بك) وهو ليلتها الياور النوبتجي المكلف بالخدمة
ثم اتصلت الملكة بنفسها بعد ذلك برئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (باشا). وأصرت على إبلاغ النائب العام بالواقعة. وكلفت السيدة نعمت مظلوم بإبلاغ مأمور قسم عابدين كذلك
روت الملكة في اليوم التالي أن كل المسؤولين في القصر كانوا في حالة ذعرٍ شديد. وأن الأميرالاي عثمان المهدي (بك) الياور النوبتجي الذي قال في تحقيق النائب العام إنه توجه إليها بعد دقيقتين ونصف الدقيقة، لم يصل في الواقع إلى حيث كانت إلا بعد خمس وأربعين دقيقة، وكان خلال هذه المدة يحاول الاتصال بأحد من حاشية الملك الموجودين معه في الفيوم لإبلاغه بما جرى، حتى يتلقى "التوجيهات" في كيفية التصرف
والظاهر من التحقيقات الأولية أن الملك واعد ليلى شيرين على اللقاء مبكراً من أول الأسبوع، وبعد عشاءٍ يحضره مع الوفد المصري المسافر إلى سان فرانسيسكو (للمشاركة في وضع ميثاق الأمم المتحدة)، ثم حدث أن العشاء أُلغي، ونسي الملك بعد إلغائه موعده الغرامي الذي رتبه بعد ذلك العشاء وذهب إلى الفيوم وهكذا جاءت ليلى شيرين في موعدها ولم تجده
وبعد مشاوراتٍ بين الحكومة والقصر، تقرر اعتبار ليلى شيرين مجنونة، وأمكن استصدار شهادة بذلك من مستشفى الدكتور جيلات، وبالفعل أودعت مستشفى الأمراض العقلية
لكن الملكة فريدة لم تكن مقتنعة، وقد أبدت رضاها لأنها حصلت من ليلى شيرين على اعترافٍ كامل يثبت استهانة فاروق ليس فقط بكرامتها كزوجة، ولكن بقصر عابدين كمقر للعرش، ثم أضافت "إن فاروق بعد ذلك لا يحق له أن يرفع عينه فيها أو يحاسبها على شيء!"
ولم تسكت الملكة عن طلب الطلاق إلا عندما أقنعها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (باشا) "بأن المصالح العليا للبلد لا تتحمل الآن فضائح". على أن الأمر الذي نستغربه جميعاً هو "لماذا اختار فاروق قصره الملكي لمواعيده الغرامية، وهو القادر على إيجاد مساحةٍ لغرامياته في ألف مكانٍ آخر؟!"
لقد ظل فاروق يحب فريدة حتى النفس الأخير، لكن ذلك الحب لم يمنعه من أن يطلقها في 17 نوفمبر تشرين ثانٍ عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين. وكان الشهر المذكور شديد الدقة بالنسبة لأوضاع الجيش المصري في فلسطين، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استولت على تقاطع الطرق ما بين "مستعمرة نجبا" وحتى "مستعمرة نيتساليم"، وبذلك تمكنت من احتلال شمال النقب، وقسمت الجيش المصري إلى قسمين كل منهما معزول عن الآخر: المجموعة الضاربة التى يقودها القائمقام أحمد عبد العزيز وقيادتها في بيت لحم، والمجموعة الرئيسية التى يقودها اللواء أحمد محمد المواوي وقيادتها في المجدل على الطريق الساحلي
وكان ذلك هو الظرف الذي اختاره الملك فاروق لإتمام طلاقه من المرأة التي أحبها
والمدهش في الأمر أن الملكة فريدة أرادت أن تعرف السفارة البريطانية بالتفاصيل الدقيقة لما جرى معها ساعة الطلاق، وكانت الأميرة سميحة حسين ابنة السلطان حسين كامل، (ووالدة وحيد يسري (باشا)، هي التي دعت المستشار الشرقي في السفارة السير والتر سمارت لتنقل له على لسان الملكة تفاصيل ما وقع لها
وكتب السير والتر سمارت تقريراً عن لقائه الأميرة سميحة حسين، مشيراً إلى أن "سموّها" أبلغته بالتفاصيل نقلاً مباشراً عن الملكة فريدة
ونص التقرير (484/ 6/ 553) كما يلي:
"يوم 10 نوفمبر طلب نجيب سالم (باشا) مدير الخاصة الملكية مقابلة الملكة فريدة على وجه الاستعجال، وأبلغته باستعدادها لمقابلته على الفور في جناحها الخاص، وجاء نجيب (باشا) ومعه ظرف سلمه للملكة، وكانت فيه "ورقة طلاق"
قال لها نجيب سالم (باشا) إن "جلالة الملك" يعطيها مهلة شهر لكي تجد لنفسها مكاناً تقيم فيه وتخرج من القصر الملكي. وأبلغها أن الملك سوف يحتفظ بحضانة البنتين الأكبر (فريال وفوزية). لكن الأصغر وهي فادية ستظل في حضانتها هي حتى تبلغ سن التاسعة، وسوف تتكفل الخاصة الملكية بكل نفقاتها، وهذه النفقات تشمل كل ما هو لازمٌ لأميرة ملكية من الحضانة والتربية والتعليم والخدمة وهذه إضافة مستقلة عن التسوية المالية مع الملكة نفسها عقب الطلاق
وتنقل الأميرة سميحة حسين إلى السير والتر سمارت بالنص:
"إن الملكة فريدة شكرت نجيب سالم على إبلاغه بهذه الأخبار ولاحظت حرجه وهو يقوم بمهمته، ورجته هي إبلاغ الملك بأن يهتم برعاية "البنات" حتى لا يتحولن إلى "بغايا مثل عماتهن!" So they do not become prostitutes like their aunts
"خرج نجيب سالم (باشا) مهرولاً من جناح الملكة، لكن أنتوني بوللي (بك) مدير الشؤون الخاصة للملك ما لبث أن وصل إلى جناحها مهرولاً يقول إنه يريد جلالتها لكلمة واحدة"
وتنقل الأميرة سميحة حسين عن فريدة بالنص:
"قال بوللي إنه يحمل رسالةً ذات طابع سري من الملك، وهي أن جلالته يريد منها أن تسلم التاج الذي كان في عهدتها، وأن تسلم أيضاً كافة المجوهرات التي تلقتها منه عند الزواج أو في مناسبة الزواج، لأن تلك كلها متعلقات ملكية
وردت فريدة بأنها سوف تسلمه التاج الآن، على أنها تريد لفت نظره إلى أن هناك ماسة ضائعة فيه، وأنها تتكفل بشراء بديلة لها توضع مكانها. ثم قالت إنه بالنسبة للهدايا التي جاءتها من الملك عند الزواج أو في مناسبته فتلك أشياء تملكها هي الآن، وأبلغها بوللي أن جلالة الملك مصممٌ على طلبه، وقامت فريدة غاضبة وجاءته بكل ما كان عندها قائلة له "إنه عندما تهدأ أعصاب فاروق فإنها تريد أن تجلس معه على انفرادٍ لحديث طويل"
ذكرت الأميرة سميحة حسين "أن الملك فاروق كان قد أطلق اسم فريدة على "تفتيش زراعي" ملكه مساحته 1700 فدان، وسماه فعلاً باسم "الفريدية"، لكنه لم يتخذ بعد "الاسم" أية إجراءات، ومن الظاهر أن هذا التفتيش سوف يضيع على الملكة. كذلك أشارت الأميرة سميحة حسين إلى أن الملك كان قد أهدى إلى الملكة فريدة قصراً قدمه له ابن عمته محمد طاهر (باشا) وهو قصر الطاهرة، لكن فاروق لم ينقل "عقد الهبة" إلى فريدة، وظهر أن هدية ابن عمته له موثقة، وأما هديته إلى زوجته فقد كانت شفوية. وبذلك فإن الملكة سوف تخرج بأقل القليل بعد إتمام الطلاق"
وهكذا خرجت الصحف المصرية، وتناقلت عنها وسائل الإعلام العربية والأجنبية بلاغين صادرين عن ديوان حضرة صاحب الجلالة الملك:
البلاغ الأول يعلن طلاق الملك فاروق من الملكة فريدة، والسبب "أن حكمة الله وإرادته اقتضت وقوع الانفصال بين الزوجين الكريمين"
والبلاغ الثاني يعلن طلاق الأميرة فوزية من زوجها محمد رضا بهلوي شاه إيران، والسبب "ما ثبت من أن مناخ طهران لا يلائم صحة الأميرة المصرية التي تحملت ذلك المناخ حتى اعتلت صحتها، ولم يعد في مقدورها الاستمرار
المدهش أن أحد أسباب الطلاق في الحالتين واحد: عدم إنجاب ولي العهد
وفي اليوم التالي دعا مجلس البلاط إلى اجتماع عاجل لبحث مسألة طرأت للملك فاروق وهي ضرورة إصدار فتوى أو قرار شرعي يمنع الملكة فريدة من الزواج مرة أخرى في حياتها، ويجعل مثل هذا الزواج باطلاً مهما كانت ظروفه. وكان داعي الملك إلى هذا الطلب أنه سمع خبراًعن احتمال أن تتزوج فريدة من وحيد يسري (باشا)، وقد أراد أن يسبق احتمالات مثل هذا الزواج ويحول دونه
وحاول فاروق استصدار فتوى من شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي بتحريم الزواج على فريدة من بعده، لكن المراغي رفض الأمر لمخالفته الشريعة الإسلامية، وإن لم تتزوج فريدة من بعده بلا فتاوى
بعد الطلاق، أخرجت فريدة طاقتها في الرسم بعد أن حُرِمَت من رؤية بناتها. وقد امتد ذلك الحرمان بعد الثورة حين رحلن مع أبيهن إلى المنفى
وبعد سنواتٍ طويلة أرسلت خطاباً إلى جمال عبد الناصر تستأذنه في السفر لرؤية بناتها، ووافق بخطاب يحمل توقيعه، لكن الخطابين حرقهما فيما بعد ميشيل أورلوف وهو نجل ابنتها فادية التي تزوجت من الروسي بيير أورلوف.. كما حرق جزءاً من مذكراتها وحمل ما تبقى منها إلى موسكو ليخفيها
وقد كتبت المذكرات باللغة الفرنسية وكشفت فيها عن رغبة عضو مجلس قيادة الثورة جمال سالم في الزواج منها، وعندما رفضت وضع ما تبقى من ممتلكاتها تحت الحراسة، فعاشت من بيع لوحاتها ومن نفحات المحسنين. وقبل أن ترحل بسنواتٍ قليلة أصبحت لها شقة صغيرة في حي المعادي منحتها لها الدولة، لكنها لم تعش فيها طويلاً، فقد ماتت بسرطان الدم..اللوكيميا