إن الله لا يحب المفسدين
كتبه/ علي حاتم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالفساد من الأمور التي لا يحبها الله -تعالى-، وهو يأخذ صورًا متعددة كما بينها الله -عز وجل- في كتابه.
صور الإفساد في الأرض:
1- الشرك بالله -عز وجل-:
ولا شك أنه أعظم إفساد في الأرض؛ قال الله -عز وجل-: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) (النحل:88).
فالله -عز وجل- يذكر في هذه الآية عاقبة المجرمين الذين ارتكبوا جريمتين:
- كفرهم بالله -عز وجل-.
- وصدهم عن سبيله؛ فصاروا بذلك مكذبين بآيات الله، دعاة إلى الضلال، فاستحقوا مضاعفة العذاب كما تضاعف جرمهم، وكما أفسدوا في أرض الله.
2- النفاق:
حيث وصفهم الله -تعالى- بقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12)، فالمنافقون إذا نُهوا عن الإفساد في الأرض، وهو الكفر والمعاصي عمومًا، وإفشاء أسرار المؤمنين إلى الكافرين خصوصًا، وموالاتهم ( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )؛ فجمعوا بين الإفساد في الأرض وإظهار أنه ليس بإفساد، بل هو إصلاح، وهذا قلب للحقائق فأكذبهم الله -عز وجل-، وحصر الإفساد فيهم: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
3- جحد الحق على الرغم من الإيقان به:
قال الله -عز وجل- عن قوم فرعون: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (النمل:14)، فليس جحدهم مستندًا إلى شك أو ريب، وإنما مع علمهم، وتيقنهم بصحة آيات الله. (ظُلْمًا) منهم لأنفسهم بهذا الجحود.
(وَعُلُوًّا) على الحق وعلى العباد. (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الدنيا؛ أغرقهم وأخزاهم، وفي الآخرة صارت أرواحهم للنار.
4- دعاء غير الله:
قال -عز وجل-: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (الأعراف:55-56).
فالله -عز وجل- يأمر عباده بدعائه والإخلاص في الدعاء (تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) فالدعاء خفية: أي بلا جهر يُخشى منه الرياء، بل خفية وإخلاصًا لله -تعالى-، (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: المتجاوزين للحد، ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له، أو ينقطع بالكلية عن الدعاء، (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، ولا شك أن دعاء غير الله هو عبادة لغيره -عز وجل-، حيث إن (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقد سبق التنويه إلى أن الشرك من أعظم الفساد في الأرض.
قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المخلصين في عبادة الله وحده، المتبعين لنهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
5- التطفيف في الكيل والميزان:
قال -عز وجل-: ( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (الأعراف:85).
- فلقد أرسل الله شعيبًا -عليه السلام- إلى مدين أن يأمرهم بعد الأمر بعبادته وتوحيده بإيفاء الكيل والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم؛ لأن هذا من الإفساد في الأرض.
6- مجاوزة الحد بالمعاصي والعثو في الأرض:
قال -عز وجل- في بني إسرائيل: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60).
فليس الإفساد في الأرض مقصورًا على تخريب الديار، والآبار، والحروث، وغير ذلك من ألوان الإفساد الحسي، بل يكون الإفساد في الأرض أيضًا بالمعاصي، والتي تكون سببًا في الدمار والفساد الحسي؛ قال الله -تعالى-: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى:30)، وقال أيضًا: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الروم:41).
والله -عز وجل- يأمر بني إسرائيل أن يأكلوا ويشربوا من رزق الله، وأن يقوموا بأداء عبادة الشكر على نعم الله -عز وجل-، ولا يدفعهم الأشر والبطر إلى عصيان الله والفساد في الأرض.
7- نقص العهد والمواثيق وقطع ما أمر الله به أن يوصل:
قال -عز وجل- في وصف الفاسقين: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).
- وعهد الله الذي عهد به إلى عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
- ومن أوصافهم أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه، وحقوق عباده من: الأقارب، والجيران، واليتامى، والمساكين، وغير ذلك...
- ويفسدون في الأرض بنقض تلك العهود والمواثيق وبشتى أنواع المعاصي، والتي تكون سببًا في ظهور الفساد في البر والبحر.
8- التكبر والتجبر على عباد الله:
قال -عز وجل- عن واحد من مشاهير ورموز الثراء الفاحش، وهو قارون: ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (القصص:77).
- قوله -عز وجل-: ( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ) أي بالتجبر على عباد الله والتكبر عليهم، والعمل بالمعاصي والاشتغال بالنعم عن المنعِم -عز وجل- ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ).
- ومن المعلوم أن قارون قد فرح بالدنيا وافتخر بها، وتلهى بها عن الآخرة ونسيها، ودفعه الفرح والسرور والأشر والبطر إلى التجبر على عباد الله، والإفساد في الأرض.
9- قطع الأرحام:
إن من سنن الله -عز وجل- ومن حكمته أن الذي يُعرض عن الحق يبتليه الله -عز وجل- بالاشتغال بالباطل، فهما أمران: إما التزام بطاعة الله وامتثال لأوامره، وهذا يترتب عليه الفلاح والرشاد في الدنيا والآخرة، وإما الإعراض عن ذلك والتولي عن طاعة الله؛ فلا يكون إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطع الأرحام؛ قال الله -عز وجل-: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد:22).
10- إيقاد نار الحروب بين العباد:
قال -عز وجل- عن اليهود: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (المائدة:64).
- فاليهود كلما أوقدوا نارًا للحرب؛ ليكيدوا بها الإسلام وأهله، أطفأها الله بخذلانهم، وتفرق جنودهم، وانتصار المسلمين عليهم.
(وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) بتدمير ديار المسلمين، وحرق زروعهم وتخريب معايشهم، والصد عن دين الله -تعالى-.
11- السرقة:
السرقة من أعظم أنواع الفساد في الأرض، ولقد أقسم إخوة يوسف -عليه السلام- أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، ولما سُئلوا عن جزاء من وُجد صواع الملك في رحله، قالوا: جزاؤه بأن يتملكه صاحب السرقة، ولقد كان هذا الحكم في دينهم، إذا ثبتت السرقة على شخص؛ كان هذا الشخص ملكًا لصاحب المال المسروق، قال الله -عز وجل-: ( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ . قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ . قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) (يوسف:73-75).
12- السحر:
السحر من السبع الموبقات أي: المهلكات، كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكره بعد الشرك بالله، قال -صلى الله عليه وسلم-: ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: ( الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) (متفق عليه).
والسحر من أكبر أنواع الإفساد في الأرض، ذلك أن الساحر يعمل أشياء تضر الناس وتؤذيهم، وتضلهم؛ سواء بالاستعانة بالجن في ذلك، أو عن طريق التخييل حتى يرى الإنسان الشيء على غير ما هو عليه، قال -عز وجل-: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81)؛ لأنهم كانوا بذلك -قبل أن يهديهم الله- يريدون نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!
13- القتل للنفس بغير حق:
قال -عز وجل-: ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ . قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) (النمل:48-51).
لقد أرادوا بنبي الله صالح -عليه السلام- وأهله أمرًا، وأراد الله أمرًا؛ فوقع ما أراد الله -تعالى- على مراد الله، لقد مكروا ( وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (آل عمران:54).
هؤلاء تسعة رهط في المدينة أرادوا قتل صالح -عليه السلام- وأهله، وبيتوا النية على ذلك، وتقاسموا فيما بينهم كل واحد أقسم للآخر لنأتينهم ليلاً هو وأهله فلنقتلنهم، ووصفهم الله -عز وجل- بالإفساد في الأرض. فهل حصل مقصودهم؟!
لقد دمرهم الله -عز وجل- ودمر قومهم، واستأصل شأفتهم؛ فجاءتهم صيحة عذاب أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله نبيه صالح -عليه السلام-، ومن معه من المؤمنين.
14- إتيان الفواحش والمنكرات:
( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) (العنكبوت:28-30).
ولقد جمع قوم لوط بين الفاحشة في الذكور، وقطع السبيل، وفشو المنكرات في مجالسهم، فنصحهم لوط -عليه السلام-، وبيَّن لهم قبح أفعالهم، فلما لم يمتثلوا أوامر الله وطاعة نبيه؛ قلب الله عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل؛ فصاروا عبرة من العبر.
والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة لا بالله.
صوت السلف