50 عاما على استقلال بلد المليون شهيد
يحتفل الجزائريون اليوم بالذكرى الخمسين لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. في الوقت الذي تنطلق فيه الحفلات الصاخبة والاحتفالات الضخمة بالعاصمة الجزائرية، والمسرحيات الموسيقية التي تعيد تمثيل ذكرى الحرب، مثل مسرحية "البطل" الموسيقية، يعيش نحو 200 ألف جزائري ذكرى هذا اليوم مكللين بالعار، خانوا بلادهم فأصبحوا "خونة" فيها، و"مواطنين درجة ثانية" في البلاد التي خدموها.
"الحركيون"، هم مواطنون جزائريون فضلوا التعاون مع العدو الفرنسي ضد بني جلدتهم. بدأت حكايتهم في 1954 بعد اندلاع حركة التحرير الجزائرية، يقول عبد الحميد بلعروسي -أحد الحركيين الجزائريين الذين شاركوا في حرب التحرير التي دامت لـ7 سنوات- "هم رجال رفضوا نظام الحزب الواحد، ورفضوا العنف، ولم يقبلوا أن يتم تجريد البعض وذبح البعض الآخر، كانوا جنودا إضافيين في الجيش الفرنسي، وشكلوا فرقا مساعدة للجيش، ولكنهم لم يتمتعوا بنفس منافع الجيش الفرنسي".
"الحركيون"، هم من يرون في أنفسهم الأكثر إنصافا لبلادهم، في حين أن الجزائريين أنفسهم يرونهم على أنهم خانوا بلادهم. أصبحوا يعانون عقدة الخوف منذ تخلي الفرنسيين عنهم بعد اتفاقية "إيفيان"، فقد انتهج الجزائريون فيهم عمليات انتقامية واعتداءات مختلفة.
يقول عبد الحميد بلعروسي -أحد الحركيين الجزائريين في حوار مع مراسل قناة الجزيرة سامي كليب-: "حركيون".. كلمة مشتقة من الكلمة "حركة"، أي أنها تشير إلى النشاط والفعالية، مؤكدا أنها جاءت من مفهوم عسكري تام، فهم كانوا عسكريين بالدرجة الأولى.
يدافع الحركيون عن أنفسهم بأنهم يعتبرون أنهم عملوا من أجل بلادهم، فهم -على حد وصف بلعروسي- عملوا من أجل الدولة الفرنسية، باعتبار أن الجزائر في ذلك الوقت كانت فرنسية أصيلة. التحقوا بالجيش الفرنسي بدءا من عام 1954، أي بعد اندلاع حركة التحرير الشعبية بفترة قليلة.
يرى بلعروسي أن جبهة التحرير الجزائرية كانت إرهابية، فقد شهد على حريق متجره وممتلكاته أمام أعينه، واتهم فيها جبهة التحرير، وهو ما دفعه إلى الانضمام للجيش الفرنسي. اختاروا فرنسا لأنهم رأوا أنها الخير الأفضل للبلاد والعائلة، مؤكدين أنهم لم يروا الأعمال التي قام بها الفرنسيين قانونية دائما، فقد مارسوا التعذيب وأساؤوا التصرف.
ينظر عموم الجزائريين إلى "الحركيين" على أنهم خائنون لوطنهم، فقد فضلوا الالتحاق بالصف الفرنسي عندما قرر الجزائريون مواجهة الاستعمار بالسلاح، ولم يكتفوا بمعاداة الثورة بل رفعوا السلاح ضد أبناء جلدتهم.
بدأت مأساة الحركيين الجزائريين في مارس 1962، عندما أعلنت فرنسا التزامها التام بقرارات مفاوضات "ايفيان"، التي أنهت الحرب الطويلة بينها وبين جبهة التحرير الجزائرية، وبدءا من التاريخ ذاته، بدأ الجيش الفرنسي في تجريد الحركيين من أسلحتهم، التي كانت قد سلمتها لهم لاستخدامها في مقاومة الجزائريين أبناء بلدهم نفسها وقتلهم واعتقالهم، مستعملا القوة مرة والحيلة مرة أخرى. وصدرت أوامر سرية تقضي بعدم السماح لهم بمغادرة التراب الجزائري باتجاه فرنسا، وبهذا تخلت عن حلفائها في الجزائر، لتتركهم عرضة للاعتداءات والعمليات الانتقامية التي شرع الجزائريون فيها فور إنهاء الاحتلال.
يؤكد بعض المؤرخين الفرنسيين أن عدد الضحايا من "الحركيين" خلال عمليات الانتقام التي تعرضوا لها تجاوز الـ65000 ضحية، أما الذين نجوا منهم وتمكنوا من الالتحاق بفرنسا، عاشوا ولا يزالون يعيشون ظروفًا قاسية كمواطنين "فرنسيين" من الدرجة الثانية ولا يزال ماضيهم يسيطر على حياتهم وحياة أولادهم وأحفادهم.
في إبريل الماضي، وبعد مرور خمس سنوات على تعهد ساركوزي خلال حملته الانتخابية عام 2007، بالاعتراف رسميا بمسؤولية فرنسا في التخلي عن الحركيين الجزائريين، اعترف الرئيس الفرنسي بمسؤولية بلاده في التخلي عن عشرات الآلاف من الحركيين، بعد أن قاتلوا إلى جانب فرنسا.
على الرغم من مرور نصف قرن على الاستقلال، الذي أعقب 132 عاما من الاحتلال، يستنكر البعض عدم مطالبة الحكومة الجزائرية باعتذار رسمي من فرنسا حتى الآن، وخاصة بعد تجديد اعتراف الرئيس الفرنسي السابق -نيكولا ساركوزي- بالمسؤولية التاريخية في التخلي عن "الحركيين"، وهم جزائريون وقفوا إلى جانب فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية.
وربما أكثر ما زاد الأمر سوءا بالنسبة للجزائريين، هو تبني مجلس الشيوخ الفرنسي لمشروع قانون يهدف إلى تجريم إهانة الحركيين الذين خدموا في الجيش الفرنسي. قانون يخدم أكثر من 200 ألف جزائري من الحركيين في فرنسا، فقد استقرت بهم الحال أخيرا في البلد التي سعوا لخدمتها بعد خيانتهم وطنهم