فقه الخلاف أو أدب الاختلاف
داود العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي باين بين خلقه، وجعلهم صنوفا وألوانا وشعوبا وأجناسا، وألف بين القلوب التي لم تأتلف ، وصلى على نبيه الرؤوف الرحيم وبعد :
مقدمة:
قد يسعى بعث الأفاضل إلى نبذ الخلاف جملة وتفصيلا وهذا غير معقول فالخلاف واقع لا محالة، والاختلاف كائن لا دافع له، ونحن إلى فقهه وأدبه أحوج من الوسائل التي تجمع بين الصفوف، أو تبحث عن نقاط التلاقي ..
فقد خلق الله خلقه و فاوت بينهما وباين، وإن الله لا يعجزه أن يجعل الناس على قلب رجل واحد( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) .
بل خلقهم لأجل الاختلاف قال الله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ثم قال ( ولذالك خلقهم ) أي خلقهم لأجله فمنهم شقي ومنهم سعيد .
ولولا الاختلاف بارت العقول !
الموضوع :
فقه الخلاف أو أدب الاختلاف، مبحث طال حوله الجدل، وتفجرت فيه ينابيع الكلم، وهتَنت منه مزن الأفكار، فأين محلي ومحلك من الإعراب في خِضم هذه النقولات والمعقولات وقد امتلأت أسماعنا تنظيرا لهذا البحث بيد أنا نعاني من الفجوة بين التنظير والتطبيق، إلا أن هذا لا يعزفني عن الضرب على وتره، والعَوم في لُجته !
الحاجة لي وللمفتقر مُلحة، لا سيما هؤلاء الشباب الذين يعانون من القوقعة حول أنفسهم، أو حول ما رُسم لهم أو رسموه بأيديهم، إذ إن العقل كلما تبحبح رجح رأيه، وكلما اعتزل ضاق كمه، فأول ما يثير اهتمامي وأرجوه من الذي أمامي أولا هو (( الحرية العقلية )) وعدم التسليم المطلق لفئة بعينها، والتخلص من براثن التعصب
ودعوني أطلق على هذا الأمر التحزب، فالتحزب ليس معناه أن تنضم إلى حزب، والحرية ليس مفهومها أن تخلع رقبتك من حزبٍ!!
كلا بل قد يكون المنتسب إليه غايةً في التجرد، وقد ترى المتجردَ من الحزب في أقصى درجات التعصب، فالتعصب له مظاهر كثيرة كالتمسك بالمذهب أو الشيخ أو القبيلة أو الوطن أو الطريقة أو المنهج، حتى رأينا من بذلوا أوقاتهم وشهروا سلاحهم في وجه العصبية غرقوا في وحلها وسُجنوا في مستنقعها !!
فإذا صرت في هذا المقام حسُن لك الخطاب، ورقيت درجة عالية فأرحت نفسك وخصمك، فحالة المتعصب يصعب معها الإقناع، فقد خالف سنة العقل وولج في حمئة مسنونة، فهو ناطق بلسان غيره، يعي بقلب معلمه، ويسمع بأذن سيده، يوحي إليه فيطيع، ويزجر فيننزجر .
وهذه حالة مَرَضية عانى البشر منها مذ خلق الخلق، فجُردت لها السيوف والأقلام، وزهقت الأرواح والدماء ولا بلوى غير التعصب .
فالتجرد للحق هو المطلب الأول والعظيم .
وغيره مؤذن بالبلاء المستطير، وقد تجد هذا عندما تنقد بعض الكُتل فتبصر حينها آذنا صما وعيونا عميا وقلوبا غلفا !!
وكأن الحق لا يعدوهم، والشر لا يعدو غيرهم، وهذه العلة تفرز أسقاما في الجدل، ووباء في الساحة .
فغالب من يتسم بهذه الخصلة مصاب بأخواتها من المصائب ..
فتجده حديدا لا يقبل منك أدنى أمر، فتطرح عشرين مسألة خالف فيها الصواب غير أنه مقفول، يردها من أولها إلى آخرها !!
فتتعجب قائلا: أيعقل أن كل ما قلته باطل والصواب لديه فحسب؟
فهذا يعني العصمة التي ما نالها أحد إلا الله !!
ومن شأن هذا الرد أن يزيد في الجفوة ويذكي نار الحمية، فيشتعل فتيل الغضب لدى المنتقِد، ويكون المنتقَد أشبه بشيطان أخرس لا ينصح نفسه ولا زمرته !!
فتحدث الصدامات والتهم الجائرة والله المستعان .
ثانيا: الانتقال من جادة الموضوع إلى كيل التهم الجزاف والطعن في ذات المنتقِد، في دينه وعرضه ونسبه، وهذه الحالة أحسن أحولها أن يحكم على المتلبس بها : السفه !
فيجب الترفع عن هذا الخصم وتركه بمعزل، والصمت عنه، لأنك كلما زدت في حجتك زاد في شتمك وانتقاصك .
فأفضل ما يُرد به الحق -عند هؤلاء- ذمُ الداعي له والتشهير به، حالهم حال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : سقم الفهم، وسوء الظن، فما أحلى أن يكون خصمك ذا فهم ورزانة ورصانة، بريء النفس طيب الخاطر، معتدل المزاج، تفيده فيستفيد، ويُقوِّمُك فتعتدل .
فحذار من التسرع قبل التيقظ، والحكم قبل الفحص، والقسوة قبل إقامة الحجة .
"فنظيف اللسان، والمتجرد للحق، وحَسَن الفهم يُجادل ولو كان زنديقا، ومن تلبس بأحدهما يقصى ولو كان له قدم في الإسلام ".
مبحث : "الخلاف المذموم والممدوح، وهل الخلاف رحمة" .
"الخلاف رحمة" وإن جادل بهذه المقولة ثُلة، ولا يضيق بالخلاف إلا ضيق العطن، وعرُ العريكة، وإن كان الصحابة- رضوان الله عليهم- قد اختلف بعضهم على بعض فكيف بغيرهم؟ وما حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" ببعيد .
فمنهم من فهم المراد بالحديث التعجل، ومنهم من أخذه على ظاهره .
واختلافهم في الوضوء مما مست النار وغير ذلك كثير .
فالخلاف المحمود غذاء للعقل وغربلة للفكر، وقوة في الحجة وهذا خلاف التنوع .
وهناك خلاف مذموم خلاف تضاد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "" وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين". وحديثِه " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" وهي كما في رواية" من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" .
فهذا النزاع والشقاق يجب رده إلى الكتاب والسنة، وأن يُحكِّم في ذلك أهل العلم.
فهو مذموم لأن منشأه التنازع والتباغض، وتقديم الرأي على النقل، أو البُعد عن الوحي، أو قلة العلم، أو قلة الفهم .
مسألة : ( تنوع الخلاف، وعدم فهمه لدى الناشئ، وحال السلف معه )
الخلاف فنون فقد يكون في الكليات أو الجزئيات ولكل أدبه وفقهه، فقد يكون الهجر والترك والطرح خلقا مستحسنا، وقد يكون النقد اللاذع وأسلوب التهكم أمرا محببا، وهذا في الكلي، أو في أصل من أصول الدين، أما استعمال هذا النموذج في الجزئي فهو ضرب من الوهن !
وعلى المنتسب إلى علم الشريعة معرفة ذلك وفهمه، فقد بلينا في هذا العصر بمتحذلقين، دخل في الدين أمس وهو اليوم يطعن ويجرح ويعدل في جزئيات وفروع فقهية اتسع صدر العلماء لأعظم منها وأجل، وهو لضيق باعه عادى عليها ونصب راية الولاء والبراء .
والأفظع من ذلك أن يحكم في كليات كأن يفتي في الدماء أو الكفر والإيمان وهو لا يحسن الوضوء، ولو عُرضت هذه النازلة على عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لجمع لها أهلَ بدر رضوان الله عليهم أجمعين .
وقد ضرب السلف الصالح من لدن الصحابة إلى أواخر القرون المفضلة روائع المواقف في ذلك، ولهم مقولات عديدة مبثوثة في مظانها، فقد فقِهوا الخلاف أيما فقه وأتقنوه وعلموه
، وأمارة ذلك أن يذهب أحدهم إلى مخالفه فيعمل بقوله خشية الفرقة .. فابن مسعود أنكر على عثمان إتمامه للصلاة في السفر، ثم صلى خلقه متما وقال الخلاف شر!!
وانظر إلى الحبر الشافعي رحمه الله حين يقول : "ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته"، والإمام الذهبي مضرب المثل في ذلك واقرأ سير أعلام النبلاء وما كتبه عن مخالفيه ومن عاداه وعادى شيوخه .
تنبيه :
الانفتاح على المخالف والتسامح مقبول لكن من غير اضطراب في الدين وتذبذب في الفكر .
فهناك دعاوي يطلقها دعاة التغريب في جمع صف المؤمنين والكافرين ووحدة الأديان أو تقاربها وهي مشتملة في بعضها على الكفر، فهذا لا يسمى أدبا، بل يسمى خروجا عن الدين وتجاوزا عن النص، والتساهل فيها تمييع ..!
خاتمة:
أعظم آداب الخلاف أن تراعي حرمة القول، وحرمته أن تكون هذه المسألة أفتى بها علماء أجلاء ودرج عليها بررة أتقياء، فكيف وأنت لم تبلغ سن الرشد تسفه هذا القول كأن لم يقل به أحد ؟!
وهَب أنه لم يقله أحد فقد أوسع الله لنا الاجتهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجرن، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"
هذا فيض من غيض وقطرة من بحر وهو باب واسع لا يُبلغ شأوه إلا الخاصة، ولكن عسى أن يكون مفتاحا للباب، وبلغة للأصحاب والله أحكم الحاكمين .
داود العتيبي