مقامات السائرين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله
وصحبه أجمعين.
أما بعد..
إن أشرف المقامات أيها الإخوة الأبرار هي مقامات العبودية لله بأن تكون عبداً لله، هذا هو شرفك في الدنيا والآخرة؛ ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بأشرف الأوسمة والألقاب والصفات، فسماه ووصفه بالعبد في الإسراء والمعراج: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى))، وسماه بالعبودية في مقام التنزيل فقال: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا))، وسماه في مقام الدعوة والتبليغ والتبشير والإنذار فقال: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)).
فشرفك في الحياة أن تكون عبداً لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أي: أن تكون داخلاً مع عباد الرحمن تحت هذه الياء، ياء النداء (يا عبادي).
لا تدعني إلا بيا عبدي فإنها أشرف أسمائي
فالقوة كل القوة في عبودية الله، والعزة كل العزة في عبوديته سبحانه وتعالى؛ لأنه السند والركن، وهو سبحانه وتعالى المرتجى والقوة التي لا تغلب ولا تهزم.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ روى ابن كثير عن طاووس بن كيسان العابد العالم الكبير الزاهد الخطير النحرير قال: دخلت الحرم فصليت ركعتين عند المقام، وإذا بـالحجاج بن يوسف الثقفي قد قدم ومعه حرسه عليهم السلاح، فسمعت جلبة ورائي، فالتفت فإذا بـالحجاج وحرسه يصلون عند المقام، وبينما الحجاج يسلّم من ركعتيه فإذا بأعرابي جاء من اليمن فمر من أمام الحجاج فخطف ثوبه حربة عند الحجاج وأوقعها بجانبه.
فأخذ الحجاج بثوب هذا اليمني الأعرابي وسأله: ممن أنت؟
قال: أنا من أهل اليمن .
فقال: كيف أخي محمد ؟ أخو الحجاج محمد بن يوسف ، ظالم غاشم كان والياً على اليمن .
قال: تركته سميناً بطيناً.
قال: ليس عن صحته أسألك، لكن أسألك عن عدله.
قال: تركته غشوماً ظلوماً.
قال: أما تعرف أني أنا الحجاج وهو أخي، ألا تخاف مني؟
قال الأعرابي: أتظن أنه يعتز بانتسابه إليك أعز من انتسابي إلى الله؟
قال طاووس : فما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
إنها عبودية الانتساب إلى الله سبحانه وتعالى.
إنها قوة المؤمن يوم لا يكون له وال إلا الله، ولا سند إلا هو سبحانه وتعالى.
ولذلك ذكر الذهبي في ترجمة ابن أبي ذئب المحدّث، أن المهدي الخليفة العباسي دخل المسجد النبوي والناس جلوس وطلبة العلم في حلقاتهم، فلما رأوا الخليفة قاموا جميعاً إلا ابن أبي ذئب لم يقم من مكانه.
فقال المهدي للعالم ابن أبي ذئب : أما عرفتني، لم لم تقم لي؟
فقال ابن أبي ذئب : والله لقد هممت أن أقوم لك فتذكرت قوله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ))، فتركت القيام لذاك اليوم!
هؤلاء أناس عرفوا مقام العبودية.
ومن أعظم مقامات العبودية عبودية الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد أثنى الله على الخائفين ومدح المخبتين، وذكر سبحانه وتعالى المنيبين إليه بأحسن الصفات وأجل القربات والطاعات؛ ولذلك يقول عز من قائل: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، ويقول: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)).
ولذلك يقول بعض أهل العلم: كل شيء تقرب منه تأمن منه إلا الله، فكلما اقتربت منه خفت منه.
أما يقول عز من قائل عن العلماء المخلصين: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))، فذكرهم بالخشية والخوف لقربهم منه تبارك وتعالى.
ولذلك كان أكثر الناس خوفاً وإخباتاً ووجلاً وخشية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن مسعود أحد تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبرار، وأحد خريجي تلك المدرسة التي ما عرفت البشرية مدرسة مثلها، مدرسة حياة الإنسان وصنع الأجيال ورقيّ القلوب وقيادة الأرواح إلى بارئها سبحانه وتعالى.
لأننا أيها الإخوة الأخيار قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا أمواتاً، فما كان عندنا حياة ولا حضارة ولا معرفة ولا رقي ولا تقدم، ولو دجل الدجالون وكذب الكذابون من القوميين وأذنابهم، فليس عندنا حضارة ولا رقي ولا ثقافة إلا بدعوته صلى الله عليه وسلم.
ويوم جاء، تلك الفترة، بدأ تاريخنا؛ ولذلك يقول عز من قائل: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).
فبدأنا الحياة يوم أتى صلى الله عليه وسلم: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا))، أو من كان ميتاً في جهله وفي معصيته وفي شهوته وشبهته كمن أحياه الله بالإيمان؟ لا سواء.
والشاهد في مقام الخوف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود، هذا التلميذ البار الحبيب النجيب، الذي كان قوة متفجرة في تهذيب الأمة، كان هزيلاً في جسمه ضعيفاً في بنيته ضحلاً في هيكله؛ لكنه قوي في إيمانه؛ لأن ديننا لا يعترف بالأجسام إنما يعترف بالقلوب والأرواح، فلما أتى صلى الله عليه وسلم جعل من هذه القلوب مادة قوية توجه الناس وترشد الحائرين.
يقول أهل السير عن ابن مسعود : كان ضئيل البنية، إذا وقف بجانب الرجل الجالس يوازيه قياماً.
صعد مرة من المرات شجرة فأخذت الريح تهز هذه الشجرة وهو على أغصانها، فتضاحك الناس.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده إنها في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد) (1) ، بالإيمان وباليقين وبالاتصال بالله.
وقال له صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن، قال: يا رسول الله، أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ ..)، يا للأدب! يا للحياء! يا للخجل من أهل الفضل!
فقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن فإني أحب أن أسمعه من غيري، فاندفع رضي الله عنه وأرضاه يقرأ من سورة النساء والرسول صلى الله عليه وسلم يستمع.
فلما بلغ قوله سبحانه وتعالى: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))، أخذ صلى الله عليه وسلم يبكي وعيناه تذرفان ويقول: حسبك الآن) (1) ، حسبك فقد بلغت، وحسبك فقد أثرت، وحسبك فقد وصل الكلام مكانه ومستقره.
هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم الله عليه نعمته ظاهرة وباطنة، لكنه ما اغتر وما انخدع، وما زاده ذلك إلا عبادة وخوفاً.
كان يقوم صلى الله عليه وسلم في الليل يستمع إلى الصحابة وهم يقرءون القرآن.
عبّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
فاستمع صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى وهو يقرأ بصوته الشجي الندي ذي الصدى العجيب.
وفي الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا موسى لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) (1) .
فيقول أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: (أإنك كنت تستمع إلي يا رسول الله؟! قال: إي والذي نفسي بيده.
قال: والله لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً) (1) ، أي: حسنته وزينته وجملته بالصوت الحسن.
فكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن؛ لأنه يذكره بالخوف والخشية من الله تبارك وتعالى.
وفي تفسير ابن أبي حاتم بسند حسن، قال أبو هريرة : (ذهب صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بعد أن أظلم الليل، فمر بسكة من سكك المدينة، وإذا بعجوز تقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على الباب وأخذ يستمع إليها، عجوز مسنة كبيرة طاعنة في السن؛ لكن قلبها شاب وقلبها حي مع الله.
فأخذت تردد: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ))، وهي لا تدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليها.
فأخذ يبكي ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني).
لقد عرف السلف الصالح مقام الخوف فجعلوه من أعظم المقامات الموصلة إلى الله.
ولذلك لام الله عز وجل، ومقت الله البشرية جمعاء إلا بقايا من أهل الكتاب على عدم خوفهم من الله.
وفي كتاب الزهد - للإمام أحمد بسند جيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا ابن آدم، خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وتتبغض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إليّ، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد) (1) . وهذه صفة العبد إذا تمرد وفجر على الله، وخرج على حدود الله، وترك رقابة الله.
ولذلك فالرقابة هي أولى درجات الخوف.
قد أثر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: [والله ما نظرت إلى عورتي حياء من ربي، ولا اغتسلت واقفاً حياءً من الله عز وجل].
كأن رقيباً منك يرعى جوانحي وآخر يرعى مسمعي وجناني
ولذلك يقول الأندلسي لابنه وهو يوصيه بتقوى الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولو أننا جميعنا قلنا: إن الذي خلق الظلام يرانا، ما عصينا وما تمردنا على الله، وما انتهكنا حدود الله، وما فجرنا، لكن الرقابة قلّت في كثير من القلوب والنفوس.
يقول ثعلب الأديب كما في بعض التواريخ: دخلت على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: من أنت؟
قلت: أديب أحفظ شيئاً من الشعر.
قال: هات أسمعني.
قال: قلت: يقول أبو نواس :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
قال: فترك كتبه ومحبرته وقام وأغلق على نفسه الحجرة، ثم والله لقد سمعته يبكي ويردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولذلك يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد أيضاً بسند حسن: أثر عن أبي بكر الصديق الخليفة الزاهد العابد المجاهد، الذي وصفه صلى الله عليه وسلم وأفاض عليه أحسن الأوسمة، أوسمة التبجيل والتقدير والتوقير، شيخ الإسلام والمجاهد يوم الردة، والمتولي في الساعات الحرجة رضي الله عنه وأرضاه، قال الإمام أحمد : أثر عنه أنه دخل مزرعة رجل من الأنصار فأخذ يتلفت في النخيل، فإذا بطائر يطير من شجرة إلى شجرة، فجلس رضي الله عنه وأرضاه يبكي ويقول: [طوبى لك يا طائر ترعى الشجر وترد الماء ثم تموت فلا حساب ولا عذاب]، ثم بكى، فبكى الصحابة.
فهي رقابة لله عز وجل، هذا وهو مشهود له بالجنة، بل قال له صلى الله عليه وسلم كما في كتاب البخاري : (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة، يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة).
فيقول أبو بكر بهمته العالية وتشوقه إلى رحمة الله: (يا رسول الله! أيدعى أحد من تلك الأبواب جميعاً؟
فيقول صلى الله عليه وسلم: إي والذي نفسي بيده، وأرجو أن تكون منهم) (1) .
هذه هي الهمم العالية.
ألا لا أحب السير إلا مصاعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
لأن أهل الدنيا اهتماماتهم دنيوية: مناصب، ووظائف، وصدارة، وظهور، وأموال.
وأما المؤمن فهمته متعلقة برضى الرب سبحانه وتعالى.
أبو بكر الصديق حضرته الوفاة -كما في سيرته- فأتته ابنته عائشة المطهرة المبرأة من فوق سبع سموات فقالت: [يا أبتاه صدق الأول الذي يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها كالمغضب وقال: يا بنية، لا تقولي ذلك ولكن قولي: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ))].
فلما توفي وهو خليفة كان ذهب الأمة تحت يديه، فما وجدوا في ميراثه إلا بغلاً وناقة وثوبين، فاستلمها عمر إلى بيت المال وبكى عمر وقال: [أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر].
وروى ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، أن عمر رضي الله عنه كان يتفقد أبا بكر بعد صلاة الفجر، فكان يراه إذا صلى الفجر يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة كل يوم، فيتساءل ما له يخرج؟
ثم تبعه مرة من المرات فأتى فإذا هو قد دخل خيمة منزوية هناك، فلما خرج أبو بكر دخل بعده عمر ، فإذا في الخيمة عجوز حسيرة كسيرة عمياء معها طفلات لها، فقال لها عمر : [يا أمة الله من أنت؟
قالت: أنا عجوز كسيرة عمياء في هذه الخيمة، مات أبونا ومعي بنات لا عائل لنا إلا الله سبحانه وتعالى.
قال: ومن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟ وهي لم تعرفه.
قالت: هذا شيخ لا أعرفه يأتي كل يوم فيكنس بيتنا ويصنع لنا فطورنا ويحلب لنا شياهنا.
فبكى عمر وقال: أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر].
إي والله، لقد أتعب كل خليفة من بعده إلى قيام الساعة بهذه العبادة والاتصال بالله.
يقف عمر يوم الجمعة وبطنه عام الرمادة يقرقر من الجوع فيقول: [قرقر أو لا تقرقر، والله لا أشبع حتى يشبع أطفال المسلمين].
يقف يوم الجمعة وبردته مرقعة عليها أربع عشرة رقعة، و كسرى و قيصر يهتزان خوفاً منه.
يا من ترى عمراً تكسوه بردته والزيت أدْم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لما خفنا الله خافت منا الأمم، وخاف منا الفجرة، وخاف منا المردة.
فلما لم نخف من الله خوفنا الله منهم سبحانه وتعالى.
لقد حاربنا الأمم بلا إله إلا الله ولم نحاربهم بغيرها؛ فلذلك انتصرنا عليهم ولم نخف منهم؛ لأننا جعلنا خوفنا محصوراً في الله تبارك وتعالى.
دخل ربعي بن عامر على رستم في القادسية ، ورستم في وزارته وفي إمارته الذهب والفضة والإكليل والديباج والحرير وزخرف الدنيا.
فدخل ربعي وعليه ثياب ممزقة وفرس هزيل ورمح مثلّم؛ لكنه يخاف الله؛ لكنه يرجو رحمة الله؛ لكنه يتصل بالله.
فيضحك رستم .. يضحك من هذه الهيئة ويقول: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الرمح المثلّم، وبهذه الثياب الممزقة، وبهذا الفرس المعقور.
فيقول: [إي والله، إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كنا نكبر فتهتز لنا قصور الأعداء؛ ولذلك من خوف سعد بن أبي وقاص لله- كما يروي الذهبي و ابن كثير - أنه لما رأى قصر كسرى أنوشروان، كسرى الضلالة، وكسرى العمالة، وكسرى البطالة، وكسرى الصد عن الله.
لما رآه سعد بعد القادسية قال: (الله أكبر..) فانصدع الإيوان.
فقال سعد ودموعه تهراق من فرحة النصر:
طفح السرور عليّ حتى أنني من عظم ما قد سرّني أبكاني
قال سعد : ((كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)).
كان الصحابة أقربهم إلى الله أخوفهم منه سبحانه وتعالى.
ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأ قوله تعالى: ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا))، بكى وقال: ذلك عثمان بن عفان الذي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً.
حتى يقول حسان رضي الله عنه وأرضاه وهو يتعجب من قتل عثمان محيي الليل، الشهيد العظيم يقول:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل قرآناً وتسبيحا
ولذلك روى المروزي وذكره ابن حجر في الفتح في كتاب الوتر من الصحيح بسند صحيح: أن عثمان رضي الله عنه قام ليلة من الليالي بركعة واحدة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر قرأ في هذه الركعة القرآن كاملاً.
فيا أمة الرسالة، نحن بحاجة إلى أن نراجع عبوديتنا مع الله، وأن نحاسب أنفسنا أين نحن من ذلك الجيل؟
أين نحن من ذلك الطراز الرفيع الذي ما عرفت الإنسانية ولا طرق البشرية مثلهم رضوان الله عليهم؟
هذا خوفهم مع أعمالهم الصالحة لله عز وجل، ونحن ماذا قدمنا؟ وماذا فعلنا؟
يقف صلى الله عليه وسلم - كما تعلمون- قبل معركة تبوك على المنبر فيقول للمسلمين وهم في المسجد: (من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟) (1) .
فيسكت الناس؛ لأن التكاليف باهظة، ولا يجهز الجيش إلا رجل يريد الله والدار الآخرة.
فيقول رسول الله ثانية: (من يجهز جيش العسرة وله الجنة) فيسكتون فيقول ثالثة: (من يجهز جيش العسرة وأضمن له الجنة؟!).
فيقوم عثمان من وسط الصفوف ويقول: [أنا يا رسول الله أجهز جيش العسرة بماله وأقتابه وجماله وأحلاسه في سبيل الله].
فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم فيقول: (اللهم اغفر لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض) (1) .
وإنما نردد أخبار هؤلاء وسيرهم؛ لأنها عبرة؛ ولأن الله جعلهم قدوة لنا، ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)). فمن أراد العبادة والاتصال فعليه بسير الصحابة.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباه
وتربع الأمة بـعلي رضي الله عنه وأرضاه، فيكون مثالاً للخليفة الزاهد العابد الخائف من الله.
ولذلك يقف على المنبر كما يقول ضرار بن الحارث الصدائي فيأخذ لحيته بيديه ويقول: [يا دنيا يا دنية غري غيري، طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها.. زادك حقير.. وسفرك طويل.. وعمرك قصير.. آه من وحشة السفر.. وبُعد الزاد.. ولقاء الموت].
إنهم خافوا من لقاء الله عز وجل فبلغهم الله ما أرادوا وأعطاهم سبحانه وتعالى ما تمنوا.
والمسلم كل المسلم هو الذي يخاف من الله.
وأحسن من عرف الخوف هو ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله، الداعية الكبير الذي يقول: الخوف ما حجزك عن المعاصي، وما زاد فلا يحتاج إليه، وصدق وبر رحمه الله، فحد الخوف ما حجزك عن المعاصي، فما زاد فلا يحتاج إليه، أي لا خوف غلاة الصوفية الذين أداهم خوفهم إلى ترك الطعام والشراب والمنام والنكاح، وهذا ليس من الإسلام.
لكن حد الخوف ما حجزك عن المعاصي.
ومن كثرة رقابة عباد الله عز وجل الصالحين لربهم أثمر الخوف فيهم الاستقامة وترك المعاصي.
والخوف الذي لا يترك صاحبه المعصية ليس بخوف، إنما هو كلام باللسان.
ولذلك يقول الحسن كما في الموطأ موقوفاً: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ولذلك يظهر الإيمان وآثار الخوف في الأعمال الصالحة.
يروي الذهبي في المجلد الثامن من سير أعلام النبلاء في قصة عبد الله بن وهب المصري العالم الكبير الزاهد أنه ألف كتابه: أهوال يوم القيامة ، فقال له أصحابه: اقرأ علينا الكتاب.
قال: أما أنا فوالله ما أستطيع أن أقرأ الكتاب؛ لكن مروا أحدكم يقرأ الكتاب.
قالوا: ابنك يقرأ علينا الكتاب.
فاندفع ابنه يقرأ الكتاب الذي ما سمع الناس بمثله في بابه.
فغشي على عبد الله بن وهب .
قال الذهبي : بقي ثلاثة أيام مغمىً عليه ومات في اليوم الرابع.
وأثر عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة، فسمع ابنه الصغير يقرأ: ((وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ))، فأغمي عليه وسقط وهو يغتسل.
إن هؤلاء قوم اتصلت قلوبهم بالله فقلّلوا من المعاصي وأكثروا من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله والعودة إليه، فأعطاهم الله ما تمنوا.
ولذلك يقول صاحب طبقات الحنابلة في ترجمة عبد الغني المقدسي المحدث الكبير الشهير صاحب كتاب الكمال في أسماء الرجال ، الذي ما أُلف في علم الرجال مثله.
قال عنه: بأنه سجن وسجن معه بعض الكفرة.
فقام عبد الغني المقدسي في الليل يتوضأ ويصلي ركعتين، فإذا جف وضوؤه عاد إلى الضوء مرة ثانية وصلى ركعتين وقرأ وبكى حتى الصباح.
وهؤلاء الكفرة ينظرون إلى هذا المشهد العظيم.
فلما أصبح الصباح ذهبوا إلى السجّان وقالوا: أطلقنا فإنّا قد آمنا بالله وشهدنا أن محمداً رسول الله.
قال السجّان: ولم؟
قالوا: لقد مرت علينا ليلة ما مرت علينا في حياتنا كلها، لقد تصورنا أن القيامة قامت لما رأينا هذا الرجل يصلي ويبكي.
لقد كنا ندعو الناس بأعمالنا قبل أقوالنا، وبزهدنا وبتقوانا وباتصالنا بالله عز وجل، فأثمرت جهودنا وأثمر علماؤنا ثمرة طيبة.
ولذلك كان الخوف دائماً أعظم المنازل عند أهل العلم.
يقول أحد تلاميذ ابن المبارك : سافرت مع عبد الله بن المبارك فرأيته في السفر فقلت: سبحان الله يصلي كصلاتنا، ويقرأ كقراءتنا، ويصوم كصيامنا، ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله له مكانته في العالمين، فبماذا؟
قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، فأتينا ابن المبارك بعد ساعة بالسراج فإذا هو في الظلام يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته.
قلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن ؟
قال: والله لقد ذكرت القبر بهذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر؟ فعلم هذا التلميذ مصدر السر وراء هذه المنزلة العالية لـابن المبارك .. إنها الخشية والخوف من الله.
إننا يا أيها المسلمون بحاجة إلى مراجعة أنفسنا في الرقابة مع الله، وفي تذكير أيام الله، وفي الاستعداد للقاء الله عز وجل قبل أن نصل إلى حفرة نستعتب فيها فلا نعتب، ونطلب العودة فلا نعاد، ونطلب الرجعة فلا نرجع أبداً.
كان ابن عمر فيما أثر عنه إذا قرأ: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ))، يبكي ويقول: [اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي].
قالوا: تشتهي ماذا يا أبا عبد الرحمن ؟
قال: أشتهي أن أقول: لا إله إلا الله في قبري فيحال بيني وبين لا إله إلا الله.
هل سمعتم بمقبور يقول: لا إله إلا الله؟
هل سمعتم بميت يصلي في قبره؟
هل سمعتم بمدفون يصوم في قبره؟ ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)).
ولذلك في ترجمة علي رضي الله عنه أنه مر بمقابر الكوفة فقال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنتم سلفنا ونحن بالأثر، أما ظهور مقابركم فجميلة، لكن يا ليت شعري ما في بواطنها.. وما هي أخباركم؟ أما أخبارنا: فالبيوت سكنت، والزوجات تزوجت، والأموال قسمت، هذه أخبارنا.. فما أخباركم؟ ثم بكى وقال: سكتوا ولو نطقوا لقالوا: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))].
ولذلك ذكر ابن كثير في ترجمة الخليفة عمر بن عبد العزيز الزاهد الشاب الذي قاد الأمة وهو لم يجاوز الأربعين لما علم الله صدقه وإخلاصه بلّغه الله ما تمنى، يقول ابن كثير : أنه أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه صلى صلاة العيد ومعه أمراء بني أمية ووزراء بني أمية، فقربوا له المراكب والموكب ليركب، فقال: [ما أنا إلا رجل من المسلمين، ثم مضى].
فلما مر بالمقبرة وقف عندها وقال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الله أيتها القبور كم فيك من خد أسيل وطرف كحيل!].
ثم قال: [ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ما كأنهم لعبوا مع من لعب، ما كأنهم تمنوا مع من تمنى].
ثم رفع صوته وقال: [يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟].
فأجاب نفسه بنفسه، وقال: أكلت العينين، وزرّقت بالحدقتين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرّ خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غدٍ رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
من أراد أن يعمل فليعمل لدار البقاء، دار الصفاء، دار الحياة التي لا هم، ولا حزن، ولا غم فيها.
ومن أراد ذلك فعليه بمركب الخوف.
ولذلك في مسند الإمام أحمد بسند حسن أن الجواري في الجنة ينشدن ويغنين ويقلن: (نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنّ له وكان لنا) (1) .
إنهن يغنين بصوت جميل لمن ترك الغناء واللذات في الدنيا، أما من استمع هنا وتمنى هنا ولها هنا فلا يستمع هناك جزاء وفاقا.
ولذلك يقول ابن القيم :
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإ نسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
يا أيتها الأذن التي تريد النعيم لا تستمعي إلى اللغو الأثيم.
يا أيها القلب الذي يريد أن يرضى عنه الله وينشرح برضوان الله لا تنغمس في الخطايا.
يا أيتها العين التي تريد أن تنظر في الجنة لا تنظري إلى الحرام.
لقد كان الخوف ومركب الخوف أقرب المراكب عند السلف الصالح وصولاً إلى الله سبحانه وتعالى، فهم أقرب الناس إلى الله بالخوف منه سبحانه وتعالى وطلب ما عنده؛ ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يقوم الليل بآية واحدة ليس إلا هي، وهي قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء: ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا))، ويبكي حتى الصباح خوفاً من الله.
يقول عطاء بن أبي رباح تلميذه: [والله لقد رأيت ابن عباس وعيناه أو جفناه كالشراكين الباليين من البكاء].
ولذلك ذكر عنه المترجمون أنه لما حضرته الوفاة في الطائف وأدرج في أكفانه وعرض للصلاة أتى طائر ووقع على أكفانه وسمع هاتف يقول: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)).
تدخل في عباد الله وتدخل في جنة الله؛ لأنها رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً، فجزاؤها عند الله أن يرضى الله سبحانه وتعالى عن هذه النفس.
لقد كانوا أخوف الناس لله؛ لأنهم أعرف الناس بالله؛ ولذلك في كتاب -الإيمان- في صحيح البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) (1) ، وصدق صلى الله عليه وسلم، فهو أخوفنا لربه، وهو أخشانا لمولاه، وهو أقربنا منه سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول ابن مردويه بسنده عن بلال قال: (مررت قبل صلاة الفجر أؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فإذا هو يبكي.
فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما الذي يبكيك؟
قال: يا بلال أنزلت عليّ آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))) (1) .
إن وقاية عذاب النار وغضب الجبار بالخوف منه سبحانه وتعالى.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
فالعتق من النار بالخوف من الواحد الجبار ومراقبته سبحانه وتعالى.
لذلك أثر عن إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد أنه كان إذا جلس وحده في البيت تربع وجلس عليه السكينة والخشوع.. فإذا ظهر أمام الناس لا يرى عليه ذلك الخشوع، فسئل فقال: إن معي رقيباً يجالسني.
وصدق رحمه الله، فإن الله عزّ وجل كما في الحديث الصحيح يقول: (أنا جليس من ذكرني) (1) ، وفي حديث أبي هريرة : (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) (1) .
إذاً: فالخوف واحد من أهم مقامات العبودية؛ ولذلك بدأت به قبل غيره.
وأما الرجاء فهو مقام آخر للعبودية؛ لكنه مبذول للجميع وليس الناس بحاجة إليه كحاجتهم إلى الخوف؛ فلذلك بدأت بالخوف.
وأما المقام الآخر الكبير من مقامات العبودية فهو (الإخلاص).
فإننا من أحوج الناس إليه.
فلا ثواب ولا أجر ولا عاقبة إلا لمن أخلص لله عز وجل، ولذلك يقول عز من قائل: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))، ويقول: ((أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ))، والخالص: النقي من شوائب الرياء والسمعة وقصد غير الله عز وجل: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)).
فالله الله في الإخلاص، فإنه الطريق العامر، وهو الباب المفتوح لله عز وجل، فلا قبول إلا بإخلاص ومتابعة.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (يا معاذ أخلص دينك يكفيك القليل من العمل) (1) .
فالكثير مع الرياء لا خير فيه ولا بركة.
والقليل مع الإخلاص كثير ومبارك بإذن الله.
ولذلك فقد ورد في صحيح مسلم أن أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة: عالم وتاجر ومجاهد؛ لأنهم كانوا يراؤون الناس في الدنيا (1) .
فلما أخبر معاوية بهذا الحديث بكى وقال: صدق الله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)).
فمن أراد الرياء راءى الله به كما في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله بن سفيان : (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به) (1) ، ومن أراد الظهور منح الظهور؛ لكن لا حظ له عند الله، ومن أراد المنزلة عند الناس ولم يرد ثواب الله أعطاه الله ما تمنى في الدنيا وحرمه ثواب الآخرة جزاءً وفاقاً.
وعند أحمد عن عدي بن حاتم أنه قال: (يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويحمل الكلّ، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك عند الله شيئاً؟
فقال صلى الله عليه وسلم: لا، إن أباك طلب شيئاً فأصابه) (1) ، فلا حظ له عند الله؛ لأنه طلب الذكر في الدنيا، وطلب المنزلة في الدنيا، وطلب الصيت في الدنيا، فحصل عليه ولا زال اسمه إلى اليوم يذكر في عالم الكرماء.
وفي صحيح مسلم قالت عائشة : (يا رسول الله! إن ابن جدعان كان ينفق وكان كريماً فهل ينفعه ذلك عند الله؟
فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً من الدهر ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين) (1) .
ولذلك كان الصدق والإخلاص هو الباب الأول من أبواب الدخول إلى العبودية الحقة، فهو يقترن مع مقامات كثيرة؛ لكنه شرط أكيد في صحة الأعمال، ولا عمل بلا إخلاص، ولا إخلاص لمن لا متابعة له، فليعلم ذلك.
وواجبنا في الإخلاص أن نصدق النية مع الله عز وجل، يقول عز من قائل: ((فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)).
وقد كان بعض الأعراب يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، فتأتي الغنائم فيعطيه صلى الله عليه وسلم من الغنائم فيقول الأعرابي: (غفر الله لك يا رسول الله ما بايعتك على الغنائم ولا على أخذ شيء من المال، وإنما بايعتك على أن يأتيني سهم غرب -أي طائش- فيقع هنا -وأشار إلى صدره- ويخرج من هنا -وأشار إلى ظهره-.
فيقول صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلما أتت المعركة قتل هذا الأعرابي، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: صدق الله فصدقه الله) (1) .
فمنزلة الإخلاص لا بد للعبد أن يحققها ليقبل الله سبحانه وتعالى طاعته، وليثيبه وليجعله من المقبولين عنده تبارك وتعالى.
ولذلك علم -بارك الله فيكم- أن من نوى نية ثم لم يستطع أن يعمل العمل الصالح كتب الله له سبحانه وتعالى الأجر على حد الأثر: (نية المؤمن خير من عمله) (1) ، وهذا الأثر قبله ابن تيمية في مختصر الفتاوى .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن سهل بن حنيف : (من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) (1) .
وهذا من الصدق؛ لأن من طلب الصدق وحققه حقق الله له ما تمنى.
وتعلمون أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حج وقف في الأبطح ورفع يديه وقال: [اللهم إنه ضاعت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك وارزقني شهادة في بلد رسولك].
فلما علم الله صدقه تقبّل دعاءه فرزقه الشهادة في المدينة المنورة على يد مجوسي خاسر.
فالصدق والإخلاص هو أول مقام من مقامات العبودية، ولابد من مصاحبة متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمل المقبول عند الله لابد فيه من الإخلاص والمتابعة.
فالله الله في قصد الله بالعمل وتصفية الأعمال من الرياء والسمعة فإنها عدوة الثواب، وإنها مطردة للأجر والمثوبة من الله عز وجل.
والرياء داء فتاك يدخل على العابد في عبادته، وعلى العالم في علمه، وعلى الداعية في دعوته، وعلى الكريم في بذله، وعلى المجاهد في جهاده.
ولا خلوص من هذا الرياء إلا بثلاثة أسباب:
أولها: أن يعتقد العبد أن النافع والضار هو الله عز وجل، فهو الذي يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويرزق ويعدم، وهو الذي بيده مقاليد الأمور سبحانه وتعالى.
والسبب الثاني: أن يعتقد أن الدنيا زائلة، وأنه سوف يلقى الله فيوفيه عمله ويوفيه حسابه، إن أحسن فبالإحسان يجازى، وإن أساء فبالإساءة يعاقب.
والسبب الثالث: أن يستحضر دائماً عظمة الله ويدعو بالدعاء الخالص، بدعاء الاستغفار ودعاء المثوبة ودعاء الكفارة، فيقول دائماً وأبداً كلما أصبح وأمسى: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) (1) .
فحياة القلوب هي بالعبودية أيها الأخيار، وبالرجوع إلى الله عز وجل، فعليكم بتحقيق هذه المقامات السابقة بجد وحرص.
وفقني الله وإياكم للسير في مقامات عبوديته.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حدائق ذات بهجة