التشابه القدري بين الحج والصلاة
القدر نوعان:
شرعي : وهو مجموعُ التكاليف التي تَعبَّد الله بها الناس، مِن أعمال القلب واللِّسان والجوارح، وتَحقُّق هذا القَدْر متروك لإرادة الناس، ففاعلون له أو تارِكون.
كَوْني: وهو ما قدَّره الله تعالى ليكون، وليس لإرادةِ الناس إليه سبيل.
وقد يتداخَل القَدَران، فيكون بين العبادات التي هي أقدارٌ شرعية تشابهٌ كونيٌّ، ومِن ذلك: الحج والصلاة.
والحج والصلاة عبادتان عظيمتان، الأولى خُفِّف في وجوبها إلى سقوطها بعدمِ الاستطاعة، والثانية شُدِّد في أدائها إلى سقوطها عن أمواتِ المسلمين فقط، أمَّا أحياء المسلمين فلا بدَّ أن يصلُّوا بأيَّة كيفيَّة كانت [بخلاف حالتي الحيض والنفاس].
وعظَمةُ كلِّ عبادةٍ منهما تتحقَّق بخلاف طريقة الأخرى، فالحجُّ تتحقَّق عظمته مِن خلال ضخامةِ أدائه، والصلاة مِن خلال تَكرار أدائها واستمرارها.
وثمة قضية أخرى:
إنَّ هناك تشابهًا بين الحج والصلاة، وقد خَصَّصتُ هذا المقال لبيان عظمةِ التشريع من خلال بيان هذا التشابه، وتحليل مظاهره.
1ـ التشابه في الدعوة الإلهية:
قال - تعالى -: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ﴾ [الحج: 27 - 28].
وتَروي التفاسير "أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ".
فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتَّخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنَّ الجبال تواضعتْ، حتى بلغَ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيء سمعه مِن حَجَر ومَدَر وشجر، ومَن كتَب الله أنه يحجُّ إلى يوم القيامة: "لبَّيْك اللهمَّ لبَّيْك".
هذا مضمون ما رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وغيرِ واحد من السَّلف، والله أعلم"؛ ا.هـ [ابن كثير، تفسير الحج: (27، 28)].
فكلُّ هؤلاء حولَ الكَعْبة كلَّ عام يُجيبون دعوة إبراهيم - عليه السلام - من قبل؛ ولذلك صارتِ التلبيةُ شعارَ الحجَّاج.
وكذلك للصلاةِ أذان.
حي على الصلاة .. حي على الفلاح
ولا يكون أحدٌ مفلحًا في الآخِرة إلا المصلِّين، ولمَّا كان أذان الحج مقصدُه لذِكر الله تعالى، كان أذان الصلاة ذِكرًا لله، ودعوةً لذكر الله.
فأنتَ كأنَّك تحجُّ خمسَ مرَّات في اليوم قاصدًا لبيت الله، مستجيبًا لدعوته تعالى.
2ـ التشابه في فكرة "القصد":
الحجُّ لغة: القصْد، ولكنَّ بينهما فرقًا، بيَّنه أبو هلال العسكريُّ في كتابه "الفروق اللغوية"، قال: الفرق بين الحج والقصد: أن الحج هو القصْد على استِقامة، ومن ثم سُمِّي قصْدُ البيت حجًّا؛ لأن من يقصد زيارة البيت لا يَعدِل عنه إلى غيره، ومنه قيل للطريق المستقيم: مَحَجَّة.
والقصْد هنا قرينُ النية والعزْم؛ لأنَّ القاصد لا بدَّ أن يكون ناويًا عازمًا على ما قصَد، ولما كانتْ كلُّ عبادة قصدًا إلى الله تعالى، مُيِّز الحج بأنه قصْدٌ إلى بيت الله الحرام، وكانتِ الصلاة مشابهةً لهذا في كونها قصدًا إلى بيت مِن بيوت الله، وهذا باعتبارين:
الأول : أنَّ المصلِّي قاصدٌ لمسجدٍ تُقام فيه الصلاة لله.
الثاني : أنَّ المصلِّي لا بدَّ أن يستقبل الكعبة التي يقصدها الحجَّاج.
فنحن نقصِد في الصلاة بيتَ الله الأوَّل.
الأمر الذي يعكس قِيمةَ صلاة الجماعة في المسجد في تحقيقِ معنى التشابه في القصْد بيْن الحج والصلاة.
وهناك أمرٌ عامٌّ يُمكن الكلام عنه عندَ الكلام على فِكرة "القصد" في أداء العبادة، إنَّه الفرْق بين العادة والعبادة، فالأُولى لا تُفعَل بقصد، والثانية تُفعَل بقصد، وقيمة هذا التفريق بيانُ أنَّ العبادة الخالية من القَصْد إما أن تَبطُل كلُّها كالصلاة، وإمَّا أن يقلَّ أجرها.
وهذا مقامُ السؤال : هل نُحقِّق معنى القصْد لله في عباداتنا؟
3ـ المضمون التعبُّدي:
أول ذلك : ذكر الله تَعالى:
ذِكْر الله تعالى في الحج مقصودٌ بنص القرآن: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، وبنصِّ الحديث: عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذِكْر الله))؛ أبو داود: 1890، وحسَّنه الشيخ الأرنؤوط، وهذا الذِّكْرُ هو مصبُّ العبادات كلها أساسًا، ولكن أظهر مجالَيْه: الحج والصلاة.
فالحجُّ والصلاة مجموعُ أفعال وأقوال مَقصدُها ذكْر الله على نحوٍ مِن الخشوع والخضوع، في الحجِّ طواف وسعْي ورمل، وفي الصلاة قِيام وركوع وسجود، وفيهما معًا ذِكْرٌ لله، ودعاء وقراءة قرآن.
ولذلك : الطواف صلاة، فالطواف يقوم مقامَ رَكعتي تحية المسجِد في بيت الله الحرام، ويقوم مقامَ رَكَعات التطوُّع كذلك.
ثاني ذلك: إقامةُ التوحيد مِن خلال التوحُّد:
لكلِّ حقيقة مقتضًى، وأعظمُ الحقائق : لا إله إلا الله، التوحيد.
والحج والصلاة مظهرٌ جماعي للتوحيد، الحجُّ جماعةٌ كبرى، والصلوات تؤدَّى في جماعةٍ أخرى، ولأجْلِ ذلك المقصد - التوحُّد لإقامة التوحيد - شدَّد الإسلام في أداء الصلوات في جماعة، وسَلَك مسلكَ الترغيب والترهيب؛ عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((صلاة الجماعة تفضُل صلاةَ الفذِّ بسبع وعشرين دَرَجة))؛ البخاري (645).
هذا في الترغيب، وأمَّا في الترهيب فلم أقَعْ على أشدَّ مِن هذا الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((والذي نفْسي بيده، لقدْ هممتُ أنْ آمرَ بحطب فيُحطَب، ثم آمر بالصلاة فيؤَذَّن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ فأُحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مِرْمَاتَيْن حسنَتَيْن لشَهِد العِشاء))؛ البخاري (644).
وإنَّما يُشدَّد على الشيء بقدْر أهميته، ولو أنَّ كل أحد عبدَ الله وحْدَه لأضلَّ الشيطانُ جميعَ المسلمين، وإنما يعجزه عن إضلالِ الجميع تجمُّعُهم على أداء العبادات، واستمِعْ لهذا الحديث: عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: أينَ مسكنُك؟ قال: قرية دون حِمص، قال أبو الدرداء: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما مِن ثلاثة نفرٍ في قرية ولا بدوٍ لا تُقام فيهم الصلاةُ، إلاَّ استحْوَذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعةِ، فإنَّما يأكُلُ الذئبُ مِنَ الغنمِ القاصيةَ))؛ المستدرك (765)، وصحَّحه الذهبي.
فما دام المسلمون في جماعةِ الحجِّ وجماعة الصلاة، فالأمَّة في خير على هَنَاتِها.
4ـ التشابه في معاني العبودية:
• أوَّل المعاني الإيمانية التي تُستشعَر في الحج : الاستسلام لله تعالى؛ لأنَّك تُؤمر فيه بأفعال لا تعليلَ لها إلا ذلك، أو لها تعليلٌ غير ظاهِر لك، فكلُّ ما تفعل مِن طواف وسعْي ورَمل، وصعود وهبوط، ورمي للجمرات، وكذلك أنتَ في الصلاة تقوم بأفعال: تقِف وتركَع وتسجد، بترتيبٍ لا يختلط.
والاستسلام لله هو مضمونُ طاعته، وقد يُشْغَل المؤمن بالبحث في حِكمة الله في العبادة، ولكن جهل الحِكمة لا يُفضي إلى ترْك العبادة، وهذا معنَى التسليم.
• أمَّا ثاني هذه المعاني : التساوي أمامَ الله تعالى.
فالناس في الحجِّ متساوون، كلُّهم يدعو ربًّا واحدًا، وكذلك هم في الصلاة، مستوون في العبودية لا يَختلفون إلا في العملِ بمقتضاها.
إذا تأدَّب الناس بأدبِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أداء الحج صاروا كلُّهم سواءً، لن تعرفَ الغني مِن الفقير، كلهم يلبسون شيئًا واحدًا، لا ينتمي للدنيا، ولن تعرِفَ القويَّ من الضعيف، فلا مزاحمةَ ولا تدافُع، والكلُّ يَلين للكلِّ، والكلُّ يحمل الكلَّ.
هكذا ينبغي أن يكون التديُّن.
5ـ التشابه في حضور الملائكة:
الحُجَّاج يطوفون حولَ الكعبة في الأرض، والملائكة يطوفون حول البيت المعمور في السماء، والبيت المعمور ((يدخُله كلَّ يوم سبعون ألْف مَلَكٍ، ثم لا يعودون إليه))؛ مسلم (429).
وفي الصلاة تصطفُّ الملائكة مع المصلين ويشاركونهم في التأمين؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أمَّنَ القارئ فأمِّنوا؛ فإنَّ الملائكةَ تُؤمِّن، فمَن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تَقدَّم من ذَنبِه))؛ البخاري (6402).
فالتوافُقُ بيْن الملائكة والمصلِّين يغفر الله به لعبدِه المؤمن، وهل ثَمَّة شيء أحسن مِن موافقة قوم ﴿ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؟!
6ـ التشابه بين الحج والصلاة في الأجر:
عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من أتَى هذا البيت فلم يرفثْ ولم يفْسُق، رجَعَ كما ولدتْه أمُّه)).
فالحجُّ المبرور يُنقِّي صاحبَه مِن الذنوب.
وكذلك الصلاة تفعَل؛ عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تَحْتَرِقون تحترقون، فإذا صليتم الفجْرَ غسلتها، ثم تَحْترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتْها، ثم تَحْترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتْها، ثم تَحْترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتْها، ثم تَحْترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتْها، ثم تنامون فلا يُكتب عليكم شيءٌ حتى تستيقظون))؛ المعجم الكبير (2224).
وآخر القول:
إنَّ وَحْدَة الشريعة دليلٌ على وَحْدة الشارع.
وإنَّ كلمة "لا إله إلا الله" التي جمعتْنَا في حجِّنا وفي صلاتنا لَحَرِيَّة أن تجمعَنا في حياتنا ومعاملاتنا.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].