(1)
وتذكرتُ..
حفرةٌ موحشة ٌ ,جدرانٌ ضيقةٌ,تقتربُ منّي فأزدادُ وحشةً إلى وحشةٍ صحراء مقفرةٌ ومنازلُ مهجورةٌ, تركها أهلها زهداً بها فأتتْ بهم على حينِ كراهة ٍ لمفارقةِ دنيا..
وظلمةُ الليلِ تطوي أيامي وليالي ,لتجعلَ السكونَ يخيّم على ذلك المكانِ الذي سأقطنُ فيه ,فأقضي ليلي وحدي ,دونَ أنيسٍ ,ودونَ صاحبٍ أوحبيب ٍ أو قريب..
وتذكرتُ..
أنّ لاصاحبَ إلا عمل ,وأن لاأنيسَ إلا عمل ولانورَ إلا عمل ولاسعةَ تبعد جدرانَ ضيق ٍ عن صدري إلا عمل ..فسألتُ الله أن يباركَ فيما بقي وأن يجعلَ آخرَ أيامي طاعةً.. وآخرَ أعوامي طاعةً ..
وآخرَ أعمالي طاعةً..وآخرَ أنفاسي طاعةً..
(2)
وتذكرتُ..
حصة كانتْ تُضاحكُني ,أحلامُها كانت كبيرةً, آمالُها كانتْ بامتدادِ الأفقِ وهيا.. جارتي كانتْ تنازعني ماأملك ,فيفترّ ثغرٌ بابتسامة ِ ظفر ..
وندىَ كانت ْتقفزُ كغزالة حلم ٍ قصيرٍ, لاتُبالي أينَ تحطّ قدم ٍ, تبتسمُ للدنيا بدلال غنج..
وسارة ٌ لم تكنْ أحوالها سارّة ,لكنّها كانتْ تُقاسمني ذلك المكانِ الذي أفرُّ إليه ِمن ضوضاء الحياةِ لتبث ّ لي بأحزانٍ وآمال تقلقها ..
وحياة ,كم أبكتها الحياة..وكم قاتلتْ من أجلِ حياةٍ,أيّ حياة , فمضتْ مودعةً إيَّايِ بنظراتٍ صامتة ,لم أكنْ أفهم ذات حزنٍ أنّها كانتْ تودعُني على خجلٍ..
وتذكرتُ..أنّ فوضى الأمانيّ تُقلقنا, وزهرةَ الدنيا تُبهرنا,وضجيجَ الأحياءِ يُنسينا سكونَ الأمواتِ إن سكنوا في زاوية ٍ من الدنيا ,وأنّ اشتدادَ قوةٍ يُنذرُ بطغيانٍ ,وكثرةَ أموال ٍوأولادٍ تُلبسنا رداءَ التفاخرِ والتكاثرِ فتُعمينا حتىَ نصمّ أذنَ قلبٍ عن موعظة ٍموقظةٍ ونُسلمُ قيادَ نفس ٍ لحبائل َشهواتِ دنيا غرّارة (( يا أيّها النّاس ُ إنّ وعد الله حق ٌ فلاتغرنّكم الحياة الدنيا ولايغرنّكم بالله الغرور)) وتذكرتُ..
أنّ الأمرَ عاجل..أيامٌ ومراحل ..ومطايا تَطوي صفحةً مكتوبةً لنمضي لدار ٍ نسينا في زحمةِ كل شيء ٍأن نعمُرها ..فغدتْ خراباً موحشة..
(3)
وتذكرتُ..
سجودَ قلبٍ..كيف يكونُ حرّاً من كل ّ قيدٍ تحبسهُ ,تقلقهُ,تزعجهُ ,تجعلهُ يتملّمل في مكانه ِ من ضيق ِ التفاتة ٍ يسيرة لسوى الله..
وتذكرتُ..
كم شقيَ القلبُ بطول ِوحشةٍ..لالتفاتة ٍ..وكم ذاقَ سقمَها ,فألفيتُ نفسي أتقلب ُ على لهيبِ جمرٍ لاألوي على شيءٍ,فلا القلبُ عاد قلباً..ولاالروحُ ساكنتْ جَسداً ,فلا أحسنتُ عُلواً ولارضيتُ بسفولٍ وتذكرتُ..
كم عشتُ هجرةَ روح ٍ لتنكّر ِ جسدٍ ,وشرودِ أنسٍ لحضور ِ وحشة ٍ..
وتذكرتُ..
أنّنا بهذا الذي بين جنبينا نكونُ ..
وأنّ التفاتةٍ لغيرِ ربهِ شقاءٌ وعذاب..
وأنّ سعادةَ الروحِ وأنسَ الدنيا والآخرة كلّه ُجُمع في مضغة ٍ لاتُحسنُ إلا التفاتاً لله ..فإن قُصرتْ على التفاتٍ لغيره سَامَها صاحبَها سوءالعذابِ.. فلا هوأسعدَها ولاأسعدَ نفسهُ..
(4)
وتذكرتُ..
بُعدَ الطريق ِ ..وطولَ السفر ِ ..وقلةِ الزاد ِ..ووحشةِ المقام ِلو أنّي جمعت ُ حسنات ٍ كجبال ِ تهامة ,ما دَفعتْ عنّي زفرةَ حسرة ٍعلى تقصيرٍ وتفريط ٍ في ساعة ٍ كانَ لي فيها حياة فلم أملأها بما خُلقتْ له..
وتذكرتُ..
تفرّق عنّي الأصحابُ والأحبابُ ..وضمّة قبري واقتراب جدران ظلمة تقلقني ,فياليتَ شعري ..أضمّة محبّ أم ضمة كرب..
وتذكرتُ..
صوتٌ منقطع ٌقد بُحّ منّي فياليتَ من يسمعني..
أيا..كلّ من أحببتُ وأحبني ..
أيا كلّ من لاقيتُ في دنيا واجتمعت ,
لاتنسوا فقري إلى مُزنِ رحمة ٍ تغسلني ..
في زحمةِ حياتكم..ياصحبِ دربي .. لآتنسوني..
واستمطروا رحمة ومغفرة ..جسداً فقيراً إلى دعاءِ رحمة..
وتذكرتُ..
أيّ زاد ٍ حملت ُ معي..
وأي عمر ٍ فرقته فما اجتمعَ علي..
وأي لهوٍ ولعبٍ شتت جمعي..
وأي جهل ٍ كنتُ فيه..فغرّني..
وتذكرتُ..
أنّ الحقائقَ..
تجلتْ لي
لما صرتُ وحيداً
دونَ شغل ٍ ..ولاعمل ٍ ..
بل سكونٌ ٌ في سكونٍ
وتذكرتُ..
وأنا أتوسّدُ ترابَ ظلمةٍ..
أنّ النوّم مثلي كثير..
فياليتَ شعري
أي يقظةٍ تنفع..وأي بصيرة ٍ ترفع..
بعدَ صحف ٍ قد طويت..باسمي قد رفعت..
فلا تُنشر إلا ساعةَ تطايرُ صُحفي..
(5)
وتذكرتُ
ضعفاً وحاجة ً وفاقة ً تحيط ُ بكَ أيّها الإنسانُ
فحاجتُكَ لن يقضيها لكَ إلا الله ,وفاقتكَ لن يسُدها
إلا عبوديتكَ وانطراحُكَ بينَ يديهِ مداوماً طرقَ الأبوابِ
وضعُفكَ لن ينقلبَ قوة ًحتى تأوي إلى ركنٍ شديدٍ
فتسألهُ حولاً وقوةً..تقطعُ بها الطريقَ الطويل..
"ياعبادي كلكم ضال ٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
ياعبادي كُلكُم جائع ٌ إلا من أطعمتُهُ, فاستطعموني أُطعِمُكُم
ياعبادي كُلكُم عارٍ إلا من كَسوتُهُ فاستكسوني أكسِكُم "
وتذكرتُ
كم أنتَ مسكينٌ أيّها الإنسان ُحين َتغفلُ عن فقرٍ قد شهدَ به ِمولاكَ
"ياأيُّها النّاسُ أنتمُ الفقراءُ إلى اللهِ والله ُهو الغني ُّالحميد"وكم أنتَ مسكينٌ أيُّها الإنسانُ حينَ تستجدي أنفُساً لاتملكُ لأنفُسِها
نفعاً ولاضراً
"واعلمْ أنّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك َبشيءٍ لم ينفعوك َإلا ّبشيء ٍقد كتبهُ الله ُلكَ ,وإن ْاجتمعوا على أنْ يضروك َبشيءٍ لم يضروكَ إلاّ بشيء ٍقد كتبهُ الله ُعليكَ"
وكم أنتَ مسكينٌ أيّها الإنسانُ تركنُ إلى قوة ٍأو علمٍ أو عمل ٍأو فَهم ٍ
فتتكلُ على السببِ فيفرُّ منكَ قلبكَ..
فلا القوةُ تغنيك َإنْ لم يأذن ِاللهِ
ولاعلمُكَ ينفعُكَ ويرفعُكَ إن ْلم يأذنِ اللهِ
ولاعملٌ ينفعُك إن ْلم يرفعُهُ اللهُ
ولافَهمٌ ينفعُك وينجيكَ إنْ لم يتفضّلِ اللهُ عليكَ
وتذكرتُ..
أنّنا باللهِ نكونُ وبغيرهِ نشقىَ ونفتقر
فيا أكُفاً رُفعتْ لغيرهِ
وياألسُناً لهِجتْ بغيرِ الثناء ِعليهِ
وياأقلاماً كتبتْ لغيرِ مقصدهِ
وياقلوباً تقلّبت أعيُنها في غيرِ مابيدهِ
هلاّ تذكرتُم..
أن كلّ هذا هباءٌ في هباءٍ..
"ياعبادي إنّكم تُخطئونَ بالليل ِوالنّهار وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً
فاستغفروني أغفرْ لكُم"
(6)
وتذكرتُ..
طلاقةَ لسان ٍ وقوةَ بيان ٍ ومقارعةَ حُجة ٍ
كيف تخذُلك َ أحوجَ ماتكون َ إليها إن ْلم تكُنْ لله ِ
وكيف تتفّلتُ منكَ فلا تُحسِنُ لها قِياداً ولامُصانعةً
حينَ يفرُّ عنكَ كلّ من كان َمعكَ تستكثِر ُبهِ من دُونِ الله ِ
وتذكرتُ..
لحظة ِ نَزع ٍ أقوالاً تتفلّت,وستوراً تنكشفْ
وحقائقَ تتجلّى إن لم تكنْ لهُم فلكَ..
فلاتَ حين َمندم ..
وتذكرتُ..
أنّ عملكَ لكَ
وقولكَ لكَ
وكسبُكَ لكَ
وبيتكَ أنت تبنيه لكَ لالغيركَ
فليَحُسنَ العمل
وليَصدِقَ القول
ولتُحسِنُ الكسب
ولتعمّر داراً لن يقطُنها غيُركَ..
(7)
وتذكرتُ..
طيشاً وغرواراً وأشراً وبطراًوظهوراً..وعلواً
وتذكرتُ ..
اغتراراً بقوةٍ
وإعجاباً برأيٍ
وزهواً بمُلكٍ
وتفاخرَ وتكاثرَ في مال ٍ وولد ٍ ودور ٍ وقصور..
وتذكرتُ ..
فقراً أحاط َبي ,لمّا حَملوني على أكتافِهُمُ
فإلى أينَ يانفسُ يُصارُ بي..
وتذكرتُ..
سيرهُم بي في طريق ٍلم أسلكهُ
وبيت ٍ لم أعرفهُ
وخطب ٍ لم أعدُّ لهُ
وظلمة لم أألفُها
وتذكرتُ..
أيّ طريق ٍ قد ذُهبَ بي إليهِ
وأيّ مصير ٍ أصيرُ إليهِ
وأيّ وزرٍ يثقُلني
وأيّ نجاةٍ أرجّيها وأؤملها
إنْ لمْ يرحمُني
وتذكرتُ
فراقُ الصّاحبْ
وديونُ المُطالبْ
وعثرةُ لسان ٍ
وتفلّتُ بيان ٍ
ووحشة َ مرقدٍ
وفزعَ السؤالِ
وضعف الحالِ
وتذكرتُ..
أنّ في الأمر ِلا مُهلة ٍ لمُسترجع ٍ
فياعينُ فلتدمعي
ويانفسُ فلتفزعي
ويا صاحِ فلترعوي
فالسفرُ قد بعُد..والزادُ قد قلّ..والأجلُ قد حلّ..
(8)
وتذكرتُ..
القدومَ على الله ِكيفَ يكون ُ,فتقنّعتُ برداءِ ِحياء ٍ
فما حالُ مفلس ٍ إذا عرضَ البضاعةَ على من دلّهُ على"ياأيّها الذينَ ءامنوا هل أدلُكُم على تِجارةٍ تُنجيكُم مِن عذاب ٍ أليم"وماحالُ مُفرّطٍ إذا ضيّع ماجمَع ,وربما لم يجمعْ في الحقيقةِ
فكان َحالهُ كحالِ"أتدرونَ مَنِ المُفلس"؟!
وتذكرتُ..
تطايرَ الصحُفِ
ونشرَ الكتبِ
وكشفَ الستورِ
ونصبَ الموازينِ
فنظرت ُ في كفَّي عامل ٍ فلم أرْ أثرَ عمل ٍ
ونظرتُ في ليلهِ ونهارهِ فلم أرْ اجتهادَ طالبٍ للآخرة ِ
ونظرتُ في حالهِ فلم أرْ فِرارَ خائف ٍمن هلاكِ مفازة ٍ
ونظرتُ في بضاعتهِ فلم أرْ إلا بضاعةً مزجاة ٍ أعجبت ْ صاحبها فغرّتهُ عن استزادة ٍ
وتذكرتُ..
ضعفاً وخوراً
وعجزاً وكسلاً
فيا ويَحَ نفسٍ من قدوم ِمفلسٍ على الله..أيُّ قدوم ٍ سيكون !
وياويحَ آمن ٍ من مخاوفَ وعقبات ٍ وأهوال ٍ وشدائد
وتذكرتُ
قدومَ المشتاق ِ على حبيبهِ كيفَ يكونُ!
وقدومَ الخائفِ المقصّرِ كيفَ يكونُ!
فعلا صوتٌ يطرقُ باب َالسماءِ:
ياأما نَ الخائفينَ ارحمني
وياملاذَ القاصدينَ الطُف بي..
وتذكرتُ..
م0ن