بوكو حرام \" والفهم السقيم للإسلام
بقلم د. أسامة عبد العظيم
وأخيرا ً أسدل الستار على فصول الصراع الدامي الذي تخوضه الحكومة النيجيرية مع جماعة "بوكو حرام" ، والذي استمر قرابة خمس سنوات.. وأسفر عن مقتل وإصابة المئات، وتدمير العديد من المنشآت الحكومية والأهلية منذ أن ظهرت تلك الجماعة التي تهدف إلى محاربة التعليم الغربي في نيجيريا ، وتسعى لإسقاط الحكومة النيجيرية لكونها – في نظر أتباع هذه الجماعة - حكومة علمانية تحكم بغير ما أنزل الله .
ـ وجاء الفصل الأخير من ذلك الصراع العنيف الذي بدأت أحداثه منذ عدة أيام باعتقال الحكومة لعدد من أفراد الجماعة قام على إثره الباقون بشن عدة هجمات مسلحة على مراكز للشرطة.. ومبان حكومية وسجون وكنائس قتلوا وأصابوا خلالها عددا من المواطنين، مما استثار حفيظة الحكومة فقامت بشن حملة عسكرية على معاقل الجماعة في الجبال والمناطق النائية قتلت فيها من قتلت ، واعتقلت فيها من اعتقلت.. وكان ممن قتلته خلال تلك الحملة مؤسس الجماعة وزعيمها المسمى "محمد يوسف" والذي اعتبرت الحكومة النيجيرية موته شهادة الوفاة الحقيقية لتلك الجماعة.
ـ وكان الظهور الأول لهذه الحركة في عام 2004 تحت اسم "حركة الهجرة" ، في إشارة إلى هجرة عناصرها للمجتمع النيجيري الذي ينظرون إليه بوصفه مجتمعاً مدنساً غارقاً في الفقر الأخلاقي والسياسي ، ولذلك فإن أفضل شيء للمسلم المتدين ـ من وجهة نظرهم ـ هو هجر الخطايا والفساد إلى مكان أو مجتمع تتحقق فيه العدالة الإسلامية ، والوسائل الشرعية في الحصول على الرزق .
ـ وعلى مدى السنوات الخمس الماضية تحولت عناصر الحركة إلى ما يشبه الشوكة في ظهر الحكومة النيجيرية من خلال استهداف مقار الشرطة، والتحريض على قتل العناصر الأمنية النيجيرية، والتعامل مع العناصر الأمنية بوصفها "عناصر كافرة".
إضافة إلى استهداف غير المسلمين، والمسلمين الذين يتخلقون بما يرون أنها أخلاق غربية، إضافة إلى رفض التعليم الغربي باعتباره حراماً.. وهو الرفض الذي اكتسبت منه الحركة اسمها "بوكو حرام"، والذي يعني حرفيا ً: "التعليم الغربي حرام".
ـ وتعرف حركة "بوكو حرام" أحيانًا بـ " اليوسفية " نسبة إلي زعيم الحركة في مايدوجوري: محمد يوسف ، الذي أشرنا إليه سابقا ، والذي كان يبلغ من العمر 39 عاما ً.
ومن الجدير بالذكر أن محمد يوسف كان قبل تأسيسه لجماعته قائدا للشيعة بولاية برنو – وهي إحدى أكبر ولايات الشمال الإسلامية - حتى أوائل التسعينات .. ثم تحول للمذهب السني ، واتسمت دعوته بالتشدد ومنع التوظف "بالحكومة الكافرة" .. وتكفير جميع العاملين في الأجهزة الأمنية وكذلك البرلمانيــين ورؤساء الحكومة .. ثم شكّل جماعة اسمــها شباب السنة ، عرفت بالدعوة لرفــض المدارس الأجنبية ، ومن هنا سموا جماعة " بُوكُو حرام".
ـ وقد تزايد عدد أتباع محمد يوسف من عام 2002 حتى صاروا يعدون بعشرات الآلاف، ويملئون الشوارع في أوقات دروسه .. ومعظم أتباعه من الأميين أو التاركين لدراستهم، حيث ترك المئات من الطلاب المنتمين للحركة دراسة الطب والهندسة والعلوم وعادوا يبيعون الحطب ويغسلون الملابس.. كما ترك بعض الموظفين مناصبهم اقتناعا بالدعوة.
ويرفع عناصر "بوكو حرام" راية المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية على الرغم من أن هناك 12 ولاية في شمال نيجيريا ذات الأغلبية المسلمة تطبق فيها الشريعة الإسلامية بعد عودة الحكم المدني عام 1999.. بل ويقوم على تطبيق الشريعة مجموعة من المحاكم الإسلامية لها جهاز شرطة خاص يقوم بتنفيذ القوانين والحدود منذ صدور قرار تطبيق الشريعة في عام 2000، وهو القرار الذي اعترف بهذه المحاكم دستوريا.
ـ لكن " بوكو حرام " للأسف لا تعترف بالتطبيق الحالي للشريعة بدعوى أن هناك أحكاما كثيرة تخالف القرآن .. بل ويذهب عناصر الحركة - والذين يقدر عددهم بنحو 1000 شخص - إلى حد تكفير غيرهم من أعضاء الجماعات والتنظيمات بما في ذلك أعضاء الجماعات والتنظيمات الإسلامية.. على اعتبار أنهم يقبلون العيش في مجتمع كافر يجب الانعزال عنه ، وهو ما جعلهم يرفضون الصلاة خلف من لا ينتمون إلى جماعتهم حركياً وتنظيمياً ، بل ويتعاملون مع من دونهم بوصفهم "مرتدين عن الدين".
ـ هذه هي قصة جماعة "بوكو حرام" في نيجيريا ، والتي شغلت معظم عناوين الأخبار خلال الأيام الماضية .. وهي في الوقت ذاته تمثل مأساة جديدة من مآسي الفهم السقيم للإسلام .. ذلك الفهم الذي تشوهت بسببه معالم الدين الحنيف ، وذهب بهاؤه ونضارته ، وأزهقت من جرائه أرواح ، وأهدرت جهود وطاقات ، وأنفقت أموال ، وفتحت سجون ومعتقلات ، وانقضت أعمار ، وتعطلت مسيرات نهضة وتنمية ورخاء في كثير من البلدان .. وكل ذلك بسبب الفهم الخاطئ للإسلام .
وكم عانى الإسلام، وأضيرت دعوته من جراء تلك الجماعات التكفيرية المسلحة.. وما جرى في الجزائر وغيرها خير شاهد على ذل .. وفي السبعينيات من القرن الماضي ابتليت مصر ببعض المجموعات التكفيرية ، ولكن الله سلم .. فطبيعة المجتمع المصري تأبى ذلك النوع من التفكير الانعزالي المنغلق ، وجهود الحركات الإسلامية ذات الفكر الصحيح حالت دون انتشار هذه الأفكار.
ـ كما كان للجماعة الإسلامية وغيرها من الجماعات دور كبير في تحجيم هذا الفكر خاصة في مناطق الصعيد .. وكان هذا فضلا من الله تعالى .. إذ كانت ستحدث كارثة لو اقترن الفكر التكفيري بالسلاح الذي كان منتشرا في الصعيد في تلك الأثناء .
ـ ولعل الأزمة الفكرية التي تعاني منها كافة الجماعات التكفيرية – ومنها " بوكو حرام " – هي أنها قامت على مفارقة المجتمع واعتزاله ، وذلك لكونها لا ترى فيه خيرا قط .. فشعارها : "خذوا الإسلام جملة .. أو دعوه جملة" .
فإما أن يطبق المجتمع شعائر الدين وشرائعه بأكملها فيكون مجتمعا مسلما صالحا .. أو يقصر في بعض أحكام الشريعة فهو حينئذ مجتمع جاهلي كافر .. إذ المسلم – في نظرهم – لا يقبل بأنصاف الحلول .. ولا يلتقي مع الجاهلية في منتصف الطريق .. فعلى الرغم من تطبيق الشريعة الإسلامية في عدد غير قليل من الولايات النيجيرية تطبيقا كاملا .. غير أن أتباع هذه الجماعة قد تجاهلوا ذلك الأمر ، ولم يعتبروه شافعا للمجتمع لينال منهم وسام الإسلام .
ـ وهذا التصور مخالف لروح الإسلام وحقيقته.. فشريعة الإسلام إنما جاءت بجلب المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها .. والمسلم يتسم بالعدل والإنصاف حتى مع مخالفيه .. فلا يجوز له أن يتجاهل ولو ذرة خير يتصف بها المجتمع .. بل عليه أن يثمن الخير الموجود في مجتمعه، ويركز عليه، ويضيف إليه ، ويدعمه .. ويحاول في الوقت ذاته أن يقلل من الشر، ويحجمه.. وكل ذلك بحكمة وتؤدة ورفق وأناة .. فالزمن جزء من العلاج .. وما لا يدرك كله لا يترك جله ، وما زال الخير في أمة الإسلام إلى قيام الساعة.
ـ بيد أن الحقيقة التي تغيب كثيرا عن أذهان بعض الشباب المتحمس الرافض للواقع الذي يعيش فيه أن الهدم أسهل كثيرا من البناء .. فما أسهل أن أرفض واقعا معينا ، وأصوب نحوه معاول الهدم والتدمير.
ولكن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه:
هل سأقدر على تأسيس واقع مواز وبديل عن ذلك الذي أرفضه ؟
أم سأترك الناس يعيشون في فوضى وفراغ .. وحينها سيكون الواقع المرفوض – بعيوبه ومثالبه – أفضل بكثير من عدم وجوده ؟ .
ـ لقد بنت جماعة "بوكو حرام" رؤيتها وإستراتيجيتها على رفض نظام التعليم القائم في البلاد .. وقد يكون معها حق في مآخذها على النظام التعليمي ، وانتقاداتها الموجهة له .. ولكنها بدلا من أن تؤسس لرؤية تعليمية حضارية توافق الشريعة الإسلامية ، وتلبي متطلبات الواقع الحديث .. فإنها شنت حملتها لهدم النظام التعليمي من أساسه ، ودعت أتباعها لمفارقته وهجره .. فماذا كانت النتيجة.
أتباع أميون جهلاء لا يحسنون القراءة والكتابة ، ويعتبرون أن من الكفر الصراح القول بأن الأرض كروية ، وبأن المطر ينشأ بسبب تكاثف البخار ، وتصاعده إلى طبقات الجو العليا ، وحدوث بعض التغيرات المناخية .. فهل هذا هو الإنجاز الحضاري والتعليمي الذي قدمته تلك الحركة وأمثالها للإسلام ؟!!!
ـ ولكن حتى نكون منصفين ، فإن أمثال تلك الحركات الإسلامية البعيدة عن فهم صحيح الإسلام لا تتحمل بمفردها مسؤولية المآسي المتعددة جراء فهم الإسلام بطريقة خاطئة.. ولست أتفق مع من يرتدون مسوح العقلاء والحكماء ، ويصبون جام غضبهم ولعنتهم على أبناء تلك الحركات ، متهمين إياهم بكل نقيصة ، مطالبين بتوقيع أقصى العقوبة عليهم ، ثم يغسلون أيديهم من أدنى مسؤولية تجاه هؤلاء .. والحقيقة أن المجتمع بأسره يتحمل المسؤولية ، ويشارك في الجرم.. بل ربما كان المجتمع في بعض الأحوال أشد جرما من هؤلاء الشباب .
ـ فعندما يغلق المجتمع أبواب الإصلاح السلمي والمشاركة الفعالة والتعبير الإيجابي عن الذات في وجه الشباب .. وعندما ينشغل المثقفون والنخبة وأصحاب الرأي والفكر عن هموم المجتمع ومشكلاته الحقيقية كالفقر والبطالة والأمية وغيرها ، ويتفرغون للحديث في قضايا هامشية وجدلية لا تمت للواقع بصلة .. وعندما ينخر الفساد والرشوة والمحسوبية في جسد المجتمع ، ولا يجد المتفوقون والمتميزون فرصتهم ، بينما يجدها المتزلفون والمتملقون وأصحاب رؤوس الأموال في أماكن لا يستحقونها .. عندما تكمم أفواه أصحاب الفكر المتزن والفهم الوسطي للإسلام ، في حين تفتح على مصراعيها صفحات الجرائد ومنابر الإعلام للمتهجمين على ثقافة الأمة وهويتها ، وعلى دين المجتمع وثوابته ... عندما يحدث كل ذلك ، فما الذي ننتظره ؟!!!
ـ إنني بالطبع لا أتحدث هنا عما جرى تحديدا في نيجيريا .. ولكني أتحدث عن ظاهرة عامة ظهرت واختفت في بلدان إسلامية عدة .. متمثلة في مجموعات إسلامية عنيفة تتبنى فكرا تصادميا مع دولها ومجتمعاتها .. تلك الظاهرة التي كلفت أمتنا وأوطاننا على مدار عشرات السنين أثمانا باهظة كنا في غنى عنها، وكنا أحوج لتلك الجهود والطاقات أن توجه نحو الرقي والنهوض والإصلاح.
ـ لقد أعلنت الحكومة النيجيرية مؤخرا أنها قضت على تلك الجماعة ، وقطعت دابر أعضائها إلى الأبد .. ولا أدري هل غفلت أو تغافلت عن حقيقة هامة ، ألا وهي : أن الأفكار المتشددة لا تعالج جذريا بالحلول الأمنية فقط ، فلابد من إفساح المجال لفكر وسطي متزن يقتلع تلك الأفكار من جذورها ، ويمحوها من أذهان معتنقيها .. وبدون ذلك فلا يعدو الحل الأمني إلا أن يكون مجرد ذر للرماد على جمر مشتعل سرعان ما يتأجج اشتعاله مع أول هبة ريح قادمة.
ـ إنني أستعيد في هذه اللحظة تلك التجربة الفريدة التي قدمتها الجماعة الإسلامية من خلال مبادرتها الجريئة والقوية أواخر التسعينيات من القرن الماضي.. وقد أحسنت الدولة المصرية صنعا في هذه النقطة بالذات حين تفاعلت بإيجابية مع مبادرة الجماعة الإسلامية التاريخية لوقف نزيف الدماء في مصر.. والذي أتى على الأخضر واليابس على مدى قرابة ثلاثة عقود من الزمان.
ـ ولم تفلح الجهود الأمنية رغم قوتها وإحكامها في قطع دابره نهائيا ً، حتى تبنت الدولة مبادرة الجماعة بعدما اقتنعت بنبل توجهاتها، وصدق نواياها.. فكان الأمن والأمان بفضل الله عز وجل هو سيد الموقف في مصر في ذات الوقت الذي كانت فيه بلدان أخرى تكتوي بنيران العنف والعنف المضاد .
إن تلك الأحداث التي جرت في نيجيريا مؤخرا ً.. وما سبقها من أحداث جرت في الجزائر والمغرب والسعودية وغيرها من الدول الإسلامية لتقطع مرة تلو الأخرى بصحة ما ذهبت إليه المبادرة من نبذ الصراع المسلح مع الحكومات.. والذي لا يفرز سوى مزيد من تدهور الأوضاع سواء على صعيد العمل الإسلامي أو على صعيد الواقع المحلي.
ولعل تلك الأحداث وأمثالها تلفت أنظار العقلاء في كل بلد لتحصين شبابه بفكر إسلامي وسطي متزن ، يجمع ولا يفرق ، يبني ولا يهدم ، يعمر ولا يخرب ، يحيي الدنيا بالدين ، يعمل على النهوض بالأمة والمجتمع ، ويؤسس لعصر جديد تتلاحم فيه الجهود لنصرة الإسلام ورفعة أوطان المسلمين .
موضوعات ذات صلة
قاعدة من لم يكفر الكافر , ومدى صحتها