وقـــــدّر فيــــها أقواتـــــها
فــي أربعـــة أيــــام
الدكتور منصور العبادي
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
إن الحياة على هذه الأرض لم يكن لها لتظهر لو لم يتم خلق جميع أجزاء هذا الكون بتقدير بالغ في جميع مراحل خلقه حيث أن خللاً بسيطاً في خلق مرحلة ما من هذه المراحل قد يحول دون أن تكون الأرض بالشكل والمواصفات التي هي عليها الآن.
وإن كان هناك من يعتقد أن هذا الكون قد خلقته الصدفة فقد تبين لنا اليوم بعد أن عرفنا القوانين التي تحكم الصدفة أنه يستحيل أن تتفق ملايين الصدف خلال هذه الرحلة الطويلة التي مر بها خلق الكون لكي توفر بالنهاية شروط ظهور الحياة على الأرض. وإذا كان الإنسان العاقل لا يمكنه أن يصدق أن الصدفة يمكنها أن تصنع مسمارا من الحديد على سطح أرض يملأ قشرتها الحديد فلا يجدر به أن يصدق أن الصدفة قد وقفت وراء خلق هذا الكون وما يحويه من مخلوقات بالغة التعقيد يقف البشر عاجزين عن فهم كثير من أسرار تركيبها. وممّا يدل على أن هذا القرآن قد أنزل من لدن عليم خبير هو كثرة الأيات التي تدعو البشر للتفكير في أوجه هذا التقدير البالغ في عمليات خلق الأشياء من حولهم. فلا يمكن لمثل هذه الدعوة أن تصدر عن رجل أمي عاش في وسط أمة أمية بل إنها صدرت عن من أحاط علمه بكامل تفصيلات هذه المخلوقات ويعلم أن كل ما في هذا الكون من مخلوقات قد تم خلقها وفق تقدير بالغ مصداقا لقوله تعالى "وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا" الفرقان 2،وقوله تعالى "إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر" القمر 49 وقوله تعالى "وكلّ شيء عنده بمقدار" الرعد 8، وقوله تعالى"الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين" السجدة 7،وقوله تعالى "صنع الله الذي أتقن كلّ شيء" النمل 88،وقوله سبحانه "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون" الحجر 10.
لقد شرحنا في مقالة سابقة أن أيام الخلق الستة التي ذكرتها الكتب المقدسة تمثل المدة الزمنية التي تطلبها خلق الكون منذ الانفجار الكوني العظيم الذي ملأ الفضاء بالدخان إلى أن يفنى الله هذا الكون ويعيده من حيث بدأ مصداقا لقوله تعالى "ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى "يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين" الأنبياء 104. وقد تفرد القرآن الكريم على بقية الكتب المقدسة بأنه قسم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين وهما فترة خلق الأرض الأولية وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة وفترة تقدير الأقوات في هذه الأرض والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية مصداقا لقوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت 9-12.
وذكرنا أن فترة خلق الأرض الأولية تمثل المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل. أما فترة تقدير الأقوات فهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق وقد حدد الله علامة بارزة لبداية هذه الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض وهذه العلامة هي تكون الجبال فوق سطح الأرض. ومن الطبيعي أن تكون الجبال أول ما ظهر على سطح الأرض وبالتالي أول أحداث تهيئة الأرض فالأرض كانت قبل ذلك كما ذكرنا سابقا كرة ملساء وسطحها حار جدا وشبه سائل وكانت تغلي وتفور بسبب الحرارة الشديدة التي في باطنها كما سيكون مصيرها عند قيام الساعة لقوله تعالى "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا" طه 105- 107.
وسنبين في هذه المقالة ما هو المقصود بتقدير أقوات الأرض من خلال شرح الأحداث التي مرت على الأرض بعد أن استقرت في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل. وتعني كلمة الأقوات في هذه الآية كل ما يلزم من شروط ظهور الحياة على سطح الأرض فالقوت للكائن الحي هو ما يلزمه من طعام يبقيه على قيد الحياة. وفي هذه الأيام الأربعة التي قدّر الله فيها أقوات الأرض تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية. وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات ومن ثم خلق الله الإنسان في آخر ساعة من ساعات اليوم السادس من أيام الخلق كما جاء ذلك في الأحاديث النبوية.وقد تمكن العلماء في مختلف التخصصات من رسم صورة واضحة وتفصيلية لجميع الأحداث التي مرت على الأرض منذ أن كانت كرة ملتهبة إلى أن أصبحت على هذا الشكل البديع التي هي عليه الآن.
يقول علماء تطور الكون أن الأرض وكذلك بقية كواكب المجموعة الشمسية قد تكونت نتيجة لتجمع الحطام المتناثر من انفجار بعض النجوم بعد أن وقع في أسر جاذبية الشمس وقد تم إذابة هذا الحطام من خلال التصادمات العنيفة بينها وبين النيازك التي تقع عليها من الفضاء الخارجي. ولقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي. وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية جسم ما كالشمس فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة وهذا بالضبط ما حصل مع الأرض عند بداية تكونها مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات 30. ولقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار كما نشاهد ذلك عند خروج هذه المادة من شقوق هذه القشرة عند حدوث البراكين. ومن عجائب التقدير أن البشر يعيشون آمنين مطمئنين على ظهر كرة ملتهبة من المواد المنصهرة تبلغ درجة حرارتها عند مركز الأرض خمسة آلاف درجة ويزيد نصف قطرها عن ستة آلاف كيلومتر ولا يعزلهم عن حرارتها إلا قشرة رقيقة من الصخور لا يتجاوز سمكها الخمسين كيلومتر.
ولكن هذه القشرة الرقيقة هي التي ساعدت على بقاء مواد الأرض في حالتها المنصهرة حيث عملت كطبقة عازلة حالت دون إشعاع حرارة الأرض الداخلية إلى الفضاء الخارجي الذي تصل درجة حرارته قريبا من الصفر المطلق. وفي الإبقاء على مواد الأرض الداخلية في حالة الانصهار حكمة بالغة حيث أن هذه المواد المنصهرة التي تخرج على شكل براكين من حين لآخر هي التي تزود سطح الأرض بالمواد اللازمة للكائنات الحية التي تعيش على سطح الأرض كالماء وثاني أكسيد الكربون وغيرها من العناصر الطبيعية وصدق الله العظيم القائل "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم" النازعات 30-33.
وعندما أصبح سمك القشرة الأرضية بالقدر الكافي بدأت المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين من جوف الأرض بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال التي هي أول أحداث الأيام الأريعة لقوله تعالى "وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين". ولا زال مشهد تكون الجبال من البراكين قائما إلى يومنا هذا ولكنه يحدث بمعدل لا يكاد يذكر مع الحال الذي كان عند بداية تكون الأرض. ويمكن للقارئ أن يتخيل ما الذي يكون عليه حال الأرض لو أن القشرة الأرضية قد تكونت وكانت بسمك لا يسمح بخروج المواد المنصهرة منها على شكل براكين فسيبقى سطح الأرض كما وصفه الله قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا أيّ كرة ملساء جامدة وقاحلة كما هو الحال مع أسطح كثير من كواكب المجموعة الشمسية. وبعد أن بدأت الجبال بالتكون فوق سطح الأرض في بداية الأيام الأربعة الأخيرة من أيام الخلق جاءت مرحلة تأهيل الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها أو مرحلة تقدير الأقوات التي استمرت على مدى هذه الأيام الأربعة وذلك لقوله تعالى "وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين". وسنشرح في ما يلي بعض الشروط الرئيسية التي تلزم لظهور الحياة على سطح الأرض وسنبين أن غياب أحد هذه الشروط كفيل بمنع الحياة من الظهور على الأرض كما حدث مع كواكب المجموعة الشمسية التي تخلو تماما من أيّ أثر للحياة عليها كما أثبت ذلك العلماء من خلال الرحلات الفضائية إلى تلك الكواكب.
إن الشرط الأول في تصميم الأرض لتكون مهيأة لظهور الحياة عليها هو ضرورة وجودها بالقرب من مصدر لإنتاج الطاقة الذي يمدها بالطاقة اللازمة لحفظ درجة حرارة سطحها ضمن حدود دنيا وعليا تضمن ظهور الحياة عليها. وقد تم اختيار الشمس كمصدر يمد الأرض بالطاقة اللازمة لها من خلال إشعاع الأمواج الكهرومغناطيسية التي تسقط على سطح الأرض فيمتص طاقتها وترفع درجة حرارته. والشمس نجم متوسط الحجم يبلغ نصف قطرها سبعمائة ألف كيلومتر أيّ أن حجمها يزيد عن حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة وتبلغ قدرتها الإشعاعية أربعمائة بليون بليون ميجاواط أيّ أنها تنتج في الثانية الواحدة كمية من الطاقة تعادل ما تنتجه جميع المحطات الكهر
القدرة الإشعاعية للشمس هي أربعمائة بليون بليون ميجاواط أيّ أنها تنتج في الثانية الواحدة كمية من الطاقة تعادل ما تنتجه جميع المحطات الكهربائية في العالم في ثمانية ملايين سنة
بائية في العالم في ثمانية ملايين سنة. وتولد الشمس هذه الطاقة الهائلة من خلال صهر ما يقرب من أربعة ملايين طن من الهيدروجين في الثانية الواحدة وذلك على شكل تفاعل نووي حراري يتم فيه تحويل ذرتي هيدروجين إلى ذرة هيليوم واحدة وتحويل فرق الكتلة إلى طاقة. ومن عجائب التقدير أن درجة حرارة سطح الشمس يبلغ ستة آلاف درجة مئوية وقد تبين أن درجة الحرارة هذه تعطي طيف إشعاع يتمركز حول الجزء المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي والذي يتوافق تماماً مع متطلبات الكائنات الحية من الإشعاع الشمسي الذي يستخدم في عملية التمثيل الضوئي وكذلك في نظام الإبصار المستخدم في كثير من أنواع الكائنات الحية. ولضمان بقاء الأرض على بعد ثابت من الشمس لكي تمدها بمقدار ثابت من الطاقة فقد قدّر الله أن تدور الأرض حول الشمس في مدار شبه دائري يبلغ متوسط نصف قطره مائة وخمسين مليون كيلومتر. ومن الجدير بالذكر أن دوران الأجرام حول بعضها البعض في هذا الكون هي الوسيلة الوحيدة لمنع هذه الأجرام من أن تنهار على بعضها بسبب قوة الجاذبية بينها فالقمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس والشمس تدور حول مركز المجرة وصدق الله العظيم القائل "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون" يس 38-40. وعلى الرغم من بعد الأرض الكبير عن الشمس إلا أن كمية الطاقة التي تسقط على المتر المربع الواحد من سطح الأرض عند خط الاستواء يبلغ ما يقرب من ألف جول في الثانية،أيّ أن مجموع ما تستلمه الأرض من طاقة الشمس في الثانية الواحدة يبلغ مائة بليون ميجاواط. إن هذه الكمية من الطاقة التي تستلمها الأرض من الشمس كافية لحفظ درجة حرارة سطحها عند خمسة عشر درجة مئوية في المتوسط وهذه درجة حرارة مناسبة للكائنات الحية المختلفة. ولقد تم اختيار بعد الأرض عن الشمس بتقدير بالغ فلو كان بعدها أقرب أو أبعد ممّا هو عليه الآن لكانت درجة حرارة الأرض أكبر أو أقل من تلك اللازمة لظهور الحياة وممّا يدلل على ذلك هو غياب الحياة في بقية كواكب المجموعة الشمسية سواء تلك التي هي أقرب للشمس مثل عطارد والزهرة أو تلك الأبعد عن الشمس مثل المريخ والمشتري وبقية الكواكب.
أما الشرط الثاني فهو ضرورة دوران الأرض حول محور متعامد تقريباً مع الخط الواصل بين الشمس والأرض وذلك لكي يتم تعريض جميع سطحها لضوء الشمس من خلال تعاقب الليل والنهار عليها. فلو توقفت الأرض عن الدوران أو كان محور دورانها موازياً لهذا الخط كما هو في بعض الكواكب لكان أحد نصفي الأرض معرض للشمس باستمرار بينما لن يصل ضوء الشمس للنصف الآخر وبذلك يكون أحد نصفيها نهارادائماشديد الحرارة والنصف الآخر ليلادائماشديد البرودة وصدق الله العظيم القائل "قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" القصص 71-73. إن شرط دوران الأرض حول محورها قد لا تكفي لظهور الحياة عليها إن لم يتم اختيار سرعة دورانها بشكل دقيق فلو كانت هذه السرعة أبطأ ممّا هي عليه لزاد طول كل من الليل والنهار ولارتفعت درجة حرارتها بشكل كبير أثناء النهار بسبب طول فترة تعرضها للشمس ولانخفضت درجة حرارتها أثناء الليل بسبب طول فترة إشعاع الحرارة منها. ولو كان دورانها أسرع ممّا هو عليه لقصر طول كل من الليل والنهار ولما تمكنت الأرض من أخذ كمية كافية من طاقة الشمس أثناء النهار وبذلك ينخفض معدل درجة حرارتها عما هو عليه الآن. ومن فضل الله على الناس أنه على الرغم من حركة الأرض حول الشمس وبسرعة هائلة تزيد عن مائة ألف كيلومتر في الساعة وحركتها حول محورها وبسرعة سطحية تزيد عن ألف وخمسمائة كيلومتر في الساعة عند خط الاستواء إلا أن البشر لا يحسون بهذه الحركات على الإطلاق بل تبدو لهم الأرض في تمام السكون والاستقرار. ولم يتمكن البشر من اكتشاف أن الأرض تتحرك بهذه السرعات الهائلة إلا في القرن السابع عشر للميلاد.
أما الشرط الثالث فهو ضرورة إمالة اتجاه محور دوران الأرض عن الاتجاه العمودي بزاوية كافية وبشكل متواصل أثناء دورانها حول الشمس وذلك لأسباب تلزم لاستمرار الحياة على الأرض. وقد وجد العلماء أن هذا المحور
لقد وجد العلماء أن محور الأرض يميل بزاوية مقدارها ثلاث وعشرون درجة ونصف الدرجة عن المستوى الرأسي للدوران
بزاوية مقدارها ثلاث وعشرون درجة ونصف الدرجة عن المستوى الرأسي وهو يتحرك حركة مخروطية بطيئة تؤدي إلى تغير بطيء لاتجاه المحور بحيث يميل النصف الشمالي للأرض نحو الشمس في فصل الصيف ويبتعد عنها في فصل الشتاء. إن هذه الإمالة ضرورية لتعريض قطبي الأرض الشمالي والجنوبي لضوء الشمس الذي لا يمكنه الوصول إليهما فيما لو بقي محور الدوران ثابتا على الاتجاه العمودي. إن وصول ضوء الشمس للقطبين ضروري جدا لإذابة بعض الجليد الموجود عليهما وإلا فإن المطر الذي يسقط عليهما سيتجمد ولن يعود مرة ثانية إلى المحيطات وبذلك ستنضب المحيطات من مياها في نهاية المطاف. ويلزم تأرجح محور دوران الأرض كذلك لتغيير درجات حرارة سطحها بشكل دوري من خلال تغيير اتجاه حركة الرياح والتي توزع الأمطار على معظم أجزاء سطح اليابسة. ويعمل هذه التأرجح كذلك على نشوء ظاهرة الفصول الأربعة الضرورية لضبط دورة حياة كثير من النباتات وكذلك يعمل على توفير أنواع متعددة من الظروف المناخية تساعد على ظهور طيف واسع من أشكال الكائنات الحية على الأرض. وقد يكون في قول الله تعالى "ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا ثمّ قبضناه إلينا قبضا يسيرا" الفرقان 45-46 إشارة إلى ظاهرة التأرجح هذه فطول ظل الأشياء في كل يوم من أيام السنة يختلف عن طوله في بقية الأيام بسبب هذا التأرجح وقد يكون القبض اليسير التي تشير له هذه الآية في طول الظل إشارة إلى هذه الظاهرة والله أعلم.
أما الشرط الرابع فهو ضرورة حماية الحياة على الأرض من الإشعاعات الضارة التي تنطلق من الشمس ومن بقية النجوم في هذا الكون حيث أن هذه النجوم تنتج طاقتها من خلال عملية الاندماج النووي الذي ينتج جميع أنواع الإشعاعات النافعة منها والضارة. وقد كان من لطف الله أن اختار موقع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة في مكان في غاية التقدير فلا هو في قلب هذه المجرة اللولبية ولا هو في داخل الذراعين الممتدين منها حيث تكون كثافة النجوم والشهب والغبار الكوني عالية جداً. بل جاء مكانها فيما بين هذين الذراعين حيث تكون كثافة النجوم أقل ما يمكن وبذلك لا يصل من إشعاعات نجوم المجرة إلى الأرض إلا القدر اليسير. ويبقى بعد ذلك حماية سطح الأرض من إشعاعات الشمس الضارة وقد تم هذا بطريقة بالغة الذكاء حيث وجد العلماء أن الأرض تتفرد بوجود مجال مغناطيسي تفوق شدته مائة مرة شدة أقوى المجالات المغناطيسية في بقية الكواكب رغم أن الأرض ليست بأكبرها حجماً. وقد تبين للعلماء أن هذا المجال المغناطيسي العالي قد نتج عن وجود قلب كبير من الحديد والنيكل في باطن الأرض والذي لا يوجد ما يشبه في بقية الكواكب ولذلك كانت الأرض أكثرها كثافة. وقد تبين للعلماء أن هذا المجال المغناطيسي الشديد نسبياً لم يخلق عبثاً بل هو الدرع الذي يحمي سطح الأرض من وصول إشعاعات الشمس الضارة إليها حيث يقوم هذا المجال الذي يحيط بها بصد هذه الإشعاعات وتغيير مسارها نحو قطبي الأرض الشمالي والجنوبي حيث يندر وجود كائنات حية عندها. وبما أن المجال المغناطيسي للأرض لا يتفاعل إلا مع الإشعاعات التي تحمل شحنات كهربائية فهو غير قادر على صد الجسيمات المتعادلة كهربائية والقادمة من الشمس ولذلك لا بد من وجود وسيلة أخرى لمنع وصولها لسطح الأرض فكان من لطف الله أن أحاط الأرض بدرع ثان لحمايتها من هذه الإشعاعات وهو طبقة الأوزون الموجود في أعالي الغلاف الجوي حيث يقوم الأوزون بامتصاص طاقة هذه الإشعاعات ويمنع وصولها إلى سطح الأرض.
أما الشرط الخامس فهو حماية الأرض من النيازك التي تقذف بها النجوم المنفجرة في داخل مجرتنا أو المجرات المجاورة حيث يصل إلى المجموعة الشمسية آلاف الشهب والنيازك في الساعة الواحدة. وهذه النيازك قد تسبب دماراً هائلاً على سطح الأرض على الرغم من صغر حجمها وذلك بسبب سرعتها الهائلة التي قد تصل إلى مئات الآلاف من الكيلومترات في الساعة. وقد يتسبب نيزك بكتلة لا تتجاوز عدة مئات من الكيلوجرامات دماراً لا يقل عن الدمار الذي يسببه تفجير قنبلة نووية.وفي الحفر الواسعة التي تتركها النيازك بعد ارتطامها بالأرض مثال على هذا الدمار. وإن أخوف ما يخافه العلماء على سكان هذه الأرض هو ارتطام نيزك كبير الحجم بها بحيث يؤدي إلى فناء الحياة عليها وصدق الله العظيم القائل "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف تذير" الملك 17. ومن لطف الله بالبشر أنه حمى الأرض من هذه النيازك بعدة آليات أهمها وجود عدد كاف من الكواكب الخارجية التي تقوم بجذب النيازك لها قبل أن تصل إلى الأرض كما يفعل ذلك كوكب المشتري الذي يفوق حجمه حجم الأرض بألف وثلاثمائة مرة. والمشتري موجود في مدار أبعد من مدار الأرض عن الشمس وهو على عكس المألوف في توزيع الكواكب حول نجومها حيث تكون الكواكب الأكثر وزناً أقرب للنجم الذي تدور حوله من الكواكب الأقل وزنا ولذلك فقد أطلق العلماء اسم صياد الشهب
أطلق العلماء اسم صياد الشهب على كوكب المشتري
على كوكب المشتري. أما ما تبقى من النيازك الصغيرة التي تفلت من جاذبية الشمس والكواكب الخارجية والداخلية وتصل إلى الأرض فإن الغلاف الجوي يتكفل بحرق معظم كتلتها قبل وصولها إلى سطح الأرض بسبب الاحتكاك الشديد بينها وبين الهواء وما نشاهده في السماء أثناء الليل من شهب إنّما هو احتراق هذه النيازك في جو الأرض.
وأما الشرط السادس فهو ضرورة أن تكون قشرة الأرض رقيقة نسبياً حيث يبلغ متوسط سمك القشرة تحت القارات خمس وثلاثون كيلومتر وتحت المحيطات سبعة كيلومترات ومع مقارنة سمك هذه القشرة مع نصف قطر الكرة الأرضية البالغ ستة آلاف وأربعمائة كيلومتر تقريباً يتبين لنا مدى رقة هذه القشرة. إن هذه القشرة من الرقة بمكان بحيث من المحتمل أن تتشقق فتخرج منها البراكين أو تنخسف بسبب تآكل باطنها بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض وصدق الله العظيم القائل "ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور" الملك 16.
وقد تبين للعلماء أن لرقة هذه القشرة أهمية بالغة لظهور الحياة على الأرض فبسبب هذه القشرة الرقيقة نسبياً لم تتمكن من امتصاص بعض الغازات المكونة للغلاف الجوي والتي لا يمكن للحياة أن تظهر على الأرض بدونها. هذا بالإضافة إلى أن رقة هذه القشرة قد سهلت حركة هذه القشرة لتكوين القارات والمحيطات وسمحت كذلك بحدوث البراكين التي شكلت هذه التضاريس الأرضية البديعة من جبال وتلال وسهول وهضاب وصحارى وأودية وأغوار وقيعان.
إنهذه التضاريس العجيبة لم تخلق فقط للنواحي الجمالية فقط بل لتلعب دوراًَ مهما في ظهور الحياة على الأرض فالجبال الشامخة تحتفظ بمياه الامطار على شكل ثلوج تمد الأنهار بالماء أثناء ذوبانها في الصيف والقيعان تحتفظ بمياه الأمطار على شكل بحيرات والتعرجات في الطبقات الصخرية للاحتفاظ بالمياه الجوفية.
وقد أدى تفاوت ارتفاع هذه التضاريس إلى تفاوت في درجات حرارة سطح الأرض ممّا أدى إلى توفير بيئات مختلفة لمختلف أنواع الكائنات وصدق الله العظيم القائل "أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون" النمل 61. وبسبب رقة هذه القشرة كان لا بد من تثبيتها بشكل كبير لكي لا تنزلق فوق الوشاح شبه السائل الذي يقع تحتها أثناء دوران الأرض حول محورها وقد تم هذا التثبيت باستخدام جذور الجبال التي تغوص في داخل هذا الوشاح وتعمل كالأوتاد التي تمنع انزلاق القشرة بسبب الاحتكاك الكبير بين جذور الجبال الصلبة وطبقة الوشاح السائلة وصدق الله العظيم القائل "خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبثّ فيها من كلّ دآبّة وأنزلنا من السماء مآء فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم" لقمان 10، والقائل سبحانه
"ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا" النبأ 6-7.
أما الشرط السابع فهو ضرورة توفر عدد كبير من العناصر اللازمة لبناء الكائنات الحية وممّا يثير دهشة العلماء أن الأرض تحتوي على اثنين وتسعين عنصر طبيعي من بين ما يزيد عن مائة عنصر يمكن أن تكون موجودة في هذا الكون. ولا يزال العلماء في حيرة من أمرهم حول كيفية وصول هذا العدد الكبير من العناصر إلى الأرض وبكميات تتناسب والحاجة إليها فشمسنا التي تحرق نووياً أربعة ملايين طن من الهيدروجين في الثانية الواحدة لا يمكنها أن تصنع إلا عنصر واحد وهو الهيليوم.
ولذلك فقد استدل العلماء على وجود نجوم في هذا الكون لها أحجام تفوق حجم الشمس بملايين المرات لكي تتمكن من تصنيع هذا العدد الكبير من العناصر الثقيلة.
وقد قدّر الله أن تنفجر هذه النجوم لتتطاير منها هذه العناصر المختلفة في أرجاء الفضاء المحيط بها ليقع قسما من هذه الكتل المتطايرة في أسر جاذبية الأرض عند أول نشأتها. وتشكل ثمانية من هذه العناصر ثمانية وتسعين بالمائة من وزن القشرة الأرضية وهي الأوكسجين (47%) والسيليكون (28%) والألمنيوم (8%) والحديد (5%) والكالسيوم (3،6%) والصوديوم (2،8%) والبوتاسيوم (2،6%) والمغنيسيوم (2،1%). وتحتاج الكائنات الحية لبناء أجسامها ما يزيد عن عشرين عنصراً من العناصر الطبيعية التي يحويها تراب هذه الأرض والبالغ عددها اثنين وتسعين عنصرا وتشكل أربعة من هذه العناصر وهي الكربون والأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين ما يزيد عن خمس وتسعين بالمائة من وزن الكائن الحي بينما تشكل بقية العناصر التي أهمها الفوسفور والكبريت والصوديوم والكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم والكلور والحديد الخمسة بالمائة المتبقية. ومن عجائب التقدير أن العناصر التي تحتاجها النباتات لإنتاج المواد العضوية قد تم توزيعها في جميع هواء وماء وتراب الأرض وقلما تجد تربة على سطح الأرض تخلو من العناصر الضرورية للحياة. وعلى الرغم من أن ما يلزم لبناء أجسام الكائنات الحية من العناصر الطبيعية لا يزيد عن عشرين عنصراً إلا أن توفر بقية العناصر على الأرض لم تعرف أهميته إلا في هذا العصر حيث قام الإنسان باستخدامها في عدد كبير من التطبيقات. فلولا عنصر الحديد ذوالمتانة العالية وذوالقابلية العالية للتشكيل لما ظهرت كثير من الصناعات الحديثة كصناعة السيارات والمحركات والآلات والمعدات الزراعية والحربية. ولولا عنصرا الألمنيوم والتيتانيوم خفيفاالوزن لما كانت صناعة الطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية ولولا عنصراالسيليكون والجرمانيوم لما ظهرت صناعة الإلكترونيات ولما ظهرت بالتالي أجهزة الاتصالات والمعلومات. ولولا عنصراالنحاس والألمنيوم ذات الموصلية العالية للكهرباء لما أمكن توليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها على المنازل والمصانع بهذه الكفاءة العالية. ولولا عنصر اليورانيوم لما أمكن استغلال الطاقة الذرية وهكذا هو الحال مع بقية العناصر التي لكل منها من الخصائص المميزة ما يناسب مختلف أنواع الصناعات وصدق الله العظيم القائل "وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفار" إبراهيم 34 والقائل سبحانه"وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" الحديد 25.
أما الشرط الثامن فهو ضرورة توفر الماء بكميات كافية على سطح الأرض مع وجود آليات محددة لتوزيعه على سطح اليابسة. وقد تفرد كوكب الأرض من بين جميع كواكب المجموعة الشمسية بوجود هذه الكميات الضخمة من الماء الذي يغطي ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض. وقد اكتشف العلماء أن معظم الماء الموجود على سطح الأرض قد خرج من باطنها من خلال تفجر البراكين مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مائها ومرعاها" النازعات 30-31. وقد قدّر العلماء كمية الماء الموجودة على سطح الأرض بألف وأربعمائة مليون كيلومتر مكعب وهذه الكمية كافية لتغطية جميع سطح الأرض بارتفاع ثلاثة كيلومترات فيما لو كانت الأرض على شكل كرة ملساء. ولكن بتقدير من الله وبسبب ضغط الماء الكبير على قشرة الأرض التي كانت طرية ورقيقة في بداية نشأة الأرض فقد بدأ جزء من سطح الأرض بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ممّا جلب مزيدا من الماء لهذا الجزء الذي واجه مزيدا من الانخفاض وقد توالت هذه العملية حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطح الأرض وانحسر عن الجزء المتبقي من السطح الذي ارتفع مستواه بسبب الضغط المعاكس على القشرة من داخل الأرض مكونا اليابسة. ولقد تبين للعلماء من خلال أبحاثهم في هذا المجال أن المحيطات التي نراها اليوم كانت محيطاً واحداً وكذلك القارات فقد كانت قارة واحدة ولكن وبسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات بشكل بطيء جداً بما يسمى ظاهرة انجراف القارات. وتشكل المحيطات سبعين بالمائة من سطح الأرض بينما تشكل اليابسة ثلاثين بالمائة ويبلغ متوسط ارتفاع اليابسة عن سطح البحر ما يقرب من كيلومتر واحد بينما يبلغ متوسط انخفاض المحيطات عن سطح البحر أربعة كيلومترات تقريبا. أما عملية نقل الماء من المحيطات وتوزيعها على كل جزء من أجزاء سطح اليابسة فقد تمت بآليات بالغة الإتقان حيث يتم استخدام الطاقة الشمسية لتبخير الماء من البحار والمحيطات بدون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان ومن ثم تعمل الرياح على حمل بخار الماء من فوق السطوح المائية فترتفع به إلى طبقات الجو العليا حيث يتكثف إذا ما صادف مناطق باردة ويسقط على شكل أمطار وثلوج فوق اليابسة وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون" الأعراف 57. ومن عجائب التقدير أن نسبة سطح المحيطات إلى سطح اليابسة قد تم اختياره بشكل بالغ الدقة بحيث تكون كمية الأمطار التي تسقط على اليابسة بقدر لا هو بالمرتفع فيجرف كل ما هو عليها ولا هو بالمتدني فيصيبها الجفاف وصدق الله العظيم القائل "وأنزلنا من السماء مآء بقدر فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين" المؤمنون 18-20.
أما الشرط التاسع فهو توفر الغلاف الجوي الذي يحيط بهذه الأرض والذي قد تم تقدير محتوياته بشكل بالغ الدقة بحيث لو اختلت نسب هذه المحتويات ولو بمقدار بسيط لما ظهرت الحياة على الأرض. ويتكون الغلاف الجوي من خليط من أربع غازات وهي النيتروجين الذي تبلغ نسبته ثمانية وسبعين بالمائة والأوكسجين الذي تبلغ نسبته واحد وعشرين بالمائة والآرغون الذي تبلغ نسبته ما يقرب من واحد بالمائة وثاني أكسيد الكربون الذي تبلغ نسبته ثلاثة من مائة بالمائة. ولقد تم تصميم الغلاف الجوي بشكل دقيق بحيث يقوم بمهام متعددة تساعد على ظهور وبقاء الحياة على الأرض. فأول هذه المهام هو عزل سطح الأرض عن الفضاء الخارجي الذي يحيط بها والذي تقترب درجة حرارته من الصفر المطلق حيث يسمح الغلاف الجوي بمرور الطاقة الشمسية إلى سطح الأرض أثناء النهار بينما يمنع بشكل جزئي مرور الإشعاع الحراري الذي ينبعث من سطح الأرض الساخن إلى الفضاء الخارجي. ولكي تبقى الأرض في حالة اتزان حراري فإنه يلزم أن تكون كمية الطاقة المستلمة من الشمس تساوي كمية الطاقة المنبعثة من الأرض إلى الفضاء الخارجي وقد وجد العلماء أن هذا الاتزان الحراري يتم عند درجة حرارة متوسطة لسطح الأرض تبلغ خمسة عشر درجة مئوية. ويعمل الغلاف الجوي على أن تبقى درجة حرارة سطح الأرض في الليل والنهار ضمن الحدود المسموح بها لبقاء الحياة على الأرض حيث لا يتجاوز الفرق بين أعلى وأقل درجة في أقسى الظروف الأرضية الخمسين درجة مئوية وعند مقارنة ذلك بدرجة حرارة سطح القمر الذي يفتقر لغلاف جوي نجد أن درجة حرارة سطحه تبلغ مائة وثلاثون درجة مئوية في النهار ومائة وسبعون درجة مئوية تحت الصفر في الليل أيّ بفارق ثلاثمائة درجة مئوية. وقد تبين للعلماء أن غاز ثاني أكسيد الكربون على قلة نسبته في الغلاف الجوي يلعب دورا كبيرا في تحديد درجة حرارة الاتزان هذه وهنالك تخوف كبير من أن تؤدي الزيادة في نسبة ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن حرق هذه الكميات الكبيرة من أنواع الوقود المختلفة إلى زيادة درجة حرارة سطح الأرض بما يسمى بظاهرة الانحباس الحراري والتي قد تؤدي إلى اختلال كبير في مناخ الأرض ونظامها البيئي. أما المهمة الثانية للغلاف الجوي فهي حماية الكائنات الحية من الإشعاعات الضارة التي تصل إلى الأرض من الشمس ومن الشهب والنيازك القادمة من الفضاء الخارجي حيث تعمل طبقة الأوزون الموجودة في أعالي الغلاف الجوي على امتصاص هذه الإشعاعات الضارة بينما يتم حرق كتل الشهب والنيازك أثناء مرورها عبر الغلاف الجوي. أما المهمة الثالثة للغلاف الجوي فهي توفير الغذاء اللازم لجميع الكائنات الحية حيث يحتوي على ثلاثة عناصر من أهم أربعة عناصر تحتاجها الكائنات الحية وهي الكربون والأوكسجين والنيتروجين أما العنصر الرابع وهو الهيدروجين فتأخذه النباتات من الماء الذي تمتصه من خلال جذورها. وحسب تقديرات العلماء فإن كمية ثاني أكسيد الكربون التي تأخذه النباتات من الهواء سنويا يبلغ خمسمائة بليون طن وكمية الماء الذي تمتصه يبلغ 410 بليون طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس يبلغ جزء من ألفي جزء من الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض وتنتج في المقابل 341 بليون طن من سكر الجلوكوز و205 بليون طن من الماء و364 بليون طن من الأوكسجين وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي أنزل من السماء مآء فأخرجنا به نبات كلّّ شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبّا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزيتون والرمّان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون" الأنعام 99 والقائل سبحانه "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون" يس 80.
أما الشرط العاشر فهو وجود قمر بحجم كبير يدور حول الأرض حيث يبلغ قطر القمر ما يقرب من سبع وعشرين بالمائة من قطر الأرض ويدور في مدار شبه دائري وعلى بعد ثلاثمائة وأربع وثمانون ألف كيلومتر في المتوسط. ويقول العلماء أن استقرار سرعة دوران الأرض حول محورها وحول الشمس وكذلك ثبات بعد مدارها عن الشمس يعود إلى وجود قمر بهذا الحجم حولها. ويعمل القمر كذلك على إحداث ظاهرة المد والجزر في البحار والمحيطات والتي يعتقد العلماء أنها تلعب أدوارا مهمة في تأرجح الأرض
يقول العلماء أن استقرار سرعة دوران الأرض حول محورها وحول الشمس وكذلك ثبات بعد مدارها عن الشمس يعود إلى وجود قمر بهذا الحجم حولها
حول محورها وتحديد طبيعة المناخ وتشكيل السواحل البحرية واستمرار الحياة البحرية. ومن عجائب التقدير أن ظاهرة المد والجزر تعمل على نقل جزء من الطاقة الحركية الناتجة عن دوران الأرض حول نفسها إلى القمر فتزيد من سرعة دورانه حول الأرض وبالتالي يزداد بعده عن الأرض بمعدل ثلاث سنتيمترات في السنة بينما تتباطأ سرعة دوران الأرض بمقدار ضئيل جدا. ولولا هذا التقدير البالغ لكان من الممكن أن يسقط القمر على الأرض مع مرور بلايين السنين نتيجة لتباطؤسرعته بسبب النيازك التي ترتطم بسطحه أو أن يقترب كثيرا من الأرض ممّا يزيد من شدة ظاهرة المد والجزر. ويعتقد العلماء كذلك أن جاذبية القمر تعمل على تحريك المادة شبه السائلة الموجودة في وشاح الأرض ممّا يؤدي إلى حدوث بعض العمليات الجيولوجية في قشرة الأرض كالزلازل والبراكين والتي ساعدت في الماضي على تشكيل تضاريس الأرض وإخراج كثير من العناصر الطبيعية اللازمة للحياة من باطن الأرض إلى قشرتها. ولا ننسى كذلك دور القمر في توفير الإضاءة لسطح الأرض في الليل الدامس وكذلك المنظر الجمالي الذي يوفره للإنسان وكذلك دوره في تحديد الشهور والسنوات وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ يفصل الأيات لقوم يعلمون" يونس 5. والقائل سبحانه"تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكّر أو أراد شكورا" الفرقان 61-62.