عندما اخترنا لأنفسنا أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في كل زمان ومكان ولم نكن إلا مسلمين مؤمنين ولنبينا محبين و لنهجه متبّعين، فالأولى أن يكون الدعاة من أول السائرين في هذا الطريق يتقدمهم الأئمة والخطباء، فدعونا اليوم اخوتي الخطباء لنقتبس روعة التعبير النبوي من كلماته وجلالة اللفظ المحمدي من عباراته، تحذونا بذلك الأمثلة الحية لأشهر خطبه عليه الصلاة والسلام وهي خطبة حجة الوداع ففيها دروس للخطباء وعبر للمتكلمين وفقه للعلماء.
وصف لشيء من الواقع:
لقد حج الحبيب - صلى الله عليه وسلم - على رَحلٍ رَثْ، وقطيفةٍ تساوي أربعة دراهم فقط، ومع كل ذلك؛ مع تواضعه وانكساره، وإخباته وإنابته، وانقياده لمولاه؛ إلا أن الموقف كان هالة من المهابة والجلال والتعظيم.
كان معه ما يزيد على مائة ألف، وقيل أنهم مائة وعشرون ألفاً، عن يمينه وشماله، يملئون الأودية والفجاج.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ارتفع على ناقته القصواء، لا ليشمَخِّر عليهم، ولا ليرتفع، فَخُلقُهُ النبوي الشريف أعظم من هذا، ولكن حتى يراه الناس جميعاً، لأن الهدي والمناسك لا تؤخذ إلا منه.
فتخيَّلْ معي أخي الخطيب لو دعيت لخطبة في مثل هذه الأجواء ماذا سيكون كلامك أو تعبيرك؟ أو إيحاءات ملامحك؟ وبماذا ستفكر في أول الأمر؟ لكن!!! لا تستغرق كثيرا في الإجابة على هذا السؤال فاليوم مسجدك مبني ،ومنبرك مقام،وقد نظفه لك الخدم وجمّلوه،وجهّزوا المايكروفون لكي يصل صوتك لا بعد مدى وأنت تتكلم بغاية الهدوء،وأنت في أرقى مراتب الراحة النفسية.
مع الهدي النبوي في خطبته:
1- سلاسة العبارة ووضوحها : البعض من الخطباء يحب أن يعبر عن ارتقائه الأدبي ووزنه العلمي وهذا من حقه وهو الذي اتعب نفسه في طلب العلم وتحصيل النفع لكن يغيب عن البعض أمر مهم وهو (لكل حادثة حديث ولكل مقام مقال) فأنت اليوم لست في مؤتمرٍ علميٍّ،ولا في جلسة أدبية،ولست في مقام الاختبار للفوز بجائزة ،إنما أنت مذكر بالله تعالى وبتعاليم دينه أوامره ونواهيه، منبه للغافلين، مبشرٌ للطائعين،ومنذرٌ للعاصين والمذنبين،وأنت تعلم إن في واقعنا في العراق هموماً وغموماً فمن الجلوس كبيرهم وصغيرهم ضعيفهم ومريضهم ومتعبهم وفي المقابل يتواجد المفكر والمتعلم والمثقف وهكذا... فهؤلاء مختلفون في قابلية الاستيعاب كاختلافهم وتنوعهم في الحياة فهذا سيجعلك محتاجاً للعبارة السهلة الواضحة لكي يفهمها الجميع دون استثناء كما فعل قدوتك في حجة الوداع ومن ذلك أنه خطب في الناس قائلايا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على عَجَمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى..). فهل هناك أوضح من هذا الكلام؟ فهل ابسط من هذا الكلام؟ فهذه هي السلاسة وهذا هو الوضوح.
2- التركيز على المسائل المهمة : فلم نر في خطبة الوداع التي خطبها النبي كلاماً فارغاً أو زائدا ،ولم نسمع توجيها الا كان في غاية الأهمية للسامعين جميعاً ،فركز النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته على حرمة دم المسلم وماله فقال: (إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كَحُرمةِ يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا..) فاليوم هو يوم عرفة، والتشبيه لبيان تأكيد التحريم وشدته، فدماء المسلمين حرام، والاعتداء عليها بغير حق اعتداء وتجاوزٌ وكبيرة من الكبائر، وكذا أموالهم وما يتعلق بها من أملاك ومتاع، فنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ركز على مسائل مهمة ولم يتكلم في مثل هذا الموقف الرهيب عن أشياء يملي بها الوقت.
ثم تناول موضوع الجاهلية وقبائح عاداتهم المشينة فقال: ( ألا كلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة) وأفعال الجاهلية معلومة كظلم المرأة ومنعها من الميراث،إضافة إلى العنصرية المقيتة.
ومنها موضوع الربا الذي هم اشد فتكا باقتصاد الضعفاء والفقراء والمساكين فهو مما وضِعَه تحت أقدامه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (... وربا الجاهليةِ موضوعٌ، وأول رباً أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله).
إلى آخر تلك العبارات النبوية المهمة التي كان لها الحظ الأوفر من خطبه عليه الصلاة والسلام.
3- الاهتمام بالواقع الأُسري : إذ إن الواقع الأسري هو منطلق الواقع الاجتماعي وثقله الأكبر فان صلح فبه صلاح المجتمع وإن فسد فبه فساد المجتمع وهو الخطوة الأهم لصلاح الأمم أو انهيارها ،فنرى تركيز النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الواقع واضحا في خطبته قائلا ( اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله، واستحللتم فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله... ) ثم يَردِفُ - صلى الله عليه وسلم - قوله: ( ولكم عليهنَّ أن لا يُوطِئنَ فُرُشكم أحداً تكرهونه ) إلى أن قال في كلمات بليغة وعبارات جميلة: ( فإن فـعلنَ ذلك فاضربوهنَّ ضرباً غير مُبرِّح (يعني : شاق). قال : ولهنَّ عليكم رِزقُهُنَّ، وكِسوتُهنَّ بالمعروف..).
فهل نظرنا لواقعنا؟ أحاولنا إصلاحه بمثل هذه الكلمات أم الواجب الأول ان نصلح خطبنا وكلماتنا؟ إنها إرشادات من ابلغ البلغاء وأفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم.
4- استبيان السامعين بمدى الانتفاع : ومن هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته انه سمع من الحضور آراءهم حول ما قال بسؤاله إياهم عن هذا ،وهذا أمر جيد للخطيب أن يستمع من مصليه آراءهم وما يجول في خواطرهم حول خطبته وأرائه وكلماته وطريقة إلقائه ومدى انتفاعهم وهذا يتم إما بالسؤال كما في طريقة النبي وأما في استبيان تحريري يوزع عليهم فيعدوه عند الكتابة فيه ،لقد قال لهم وهو يلقي آخر النظرات إليهم بعد أن نزلت آيات الله تبارك وتعالى ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
قال لهم: (فما أنتم قائلون؟)، فنطقت الأفواه في الموقف، وعَلا الضجيج من الحجيج في ذلك الجمع المبارك؛ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحتَ وأديت.
5- حركات النبي صلى الله عليه وسلم وإشاراته : من الأمور المهمة والتي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم الحركة أو الإشارة الداعمة للكلمة والموقف،فعندما أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا نشهد أنك قد بلَّغت ونصحتَ وأديت قال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها (أي يشير بها) إلى الناس: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد) أخرجه أبو داود وبن ماجة.
فهذه الإشارات لها أثرُها في ترسيخ المعنى وتثبيت المغزى ولو لم يكن لها اثر عظيم لما بقي الأولون والآخرون يحفظون كيفيتها بل بقي المحدثون ينقلونها إلى الخلف وأصبحت جزءاً من الإجازة العلمية والسند وما أكثرها في حديثه عليه الصلاة والسلام،فلابد من مراعاة الحركة والإشارة والاطلاع على الكتب المؤلفة في هذا الجانب.
ففي هذا الشهر يعيش الخطباء مع هدي خطيبهم الأول مرتقين جميعا إلى معالي الإلقاء مستذكرين ومستحضرين خطبة الوداع اللهم وفقْ خطباءَنا وأيدهم والحمد لله رب العالمين.