يــا أسير دنياه، يــا عبد هواه، يــا موطن الخطايا، ويـا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن
يطّلع على بـاطن زللك وجفـاك، فيصـدك عـن بـابه، ويبعـدك عـن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان،
وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك:
إلــيك عنــا فمــا تحـظى بنجوانـــا *** يـــا غــادرًا قد لهـا عنــا وقد خانــا
أعرضت عنـا ولـم تعـمل بطاعتـنا *** وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بــأي وجـه نـراك اليـوم تقـصدنــا *** وطــال مــا كـنت فـي الأيـام تنسانـا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع *** إلا لـمـجـتــهد بالــــجـــدّ قــد دانــــا
يـا مـن بـاع الباقي بالفاني، أمـا ظهر لك الخسران، مـا أطيب أيام الوصال، ومـا أمرّ أيام الهجران، مـا طاب عيش القــوم حتى
هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدًا وقياما.
عن عبد العزيز بن سلمان العابد، قال: حدثني مطهر، وقد كان بكى شوقًا إلى الله تعالى ستين عامًا، قال: رأيت كأني على ضفة
نهـر يجـري بالمسك الأذفـر، وحافاته شجـر اللؤلؤ، وطينة العنبر، وفيه قضبان الذهب، وإذا بجوار مترنمات يقلن بصوت واحد:
سبحانه وتعالى سبحان، سبحان المسبّح بكل لسان سبحان الموجود في كل مكان نحن الخالدات فلا نموت أبدًا. نحـن الراضيات،
فلا نغضب أبدًا. نحن الناعمات، فلا نتغيّر أبدًا. قال: فقلت لهن: من أنتن؟! فقلن: خلق من خلق الله تعالى. قلت: ما تصنعن هاهنا؟
فقلن بصوت واحد حسن مليح:
ذرانا إله الناس رب محمـد *** لقوم على الأطراف بالليل قــوم
يناجون رب العالمين إلههم *** ونسري هموم القوم والناس نوم
فقلت: بخ بخ! من هؤلاء الذين أقر الله أعينهم؟ قلن: أما تعرفهم؟! قلت: لا والله ما أعرفهم. فقلن: هم المجتهدون بالليل، أصحاب
السهر بالقرآن.
طوبى لمن سهرت بالليل عيناه *** وبات في قلق من حب مولاه
وقام يرعى نجوم الليل منفــردًا *** شوقًــا إليه وعين الله ترعـاه
ما هذا، أتدري ما صنعت؟ بعت القرب بالبعد، والعقل بالهوى والدين بالدنيا.
قم فأرث نفسك وابكها *** ما دمت وابك على مهل
فــإذا اتقى اللهَ الفتــى *** فيمـــا يــريــد فقد كـمـل
يــا عبد السوء، كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كـم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كـم نطلب وصلك
بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكـر. خدعتك الدنيـا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر.
سخّرت لك الأكوان وانت تطغى وتكفر، وتطلب الإقامة في الدنيا وهي نظرة لمن يعبر.
منعوك من شرب المودة والصفا *** لما رأوك على الخيانة والجفا
إن أنت أرسلت العنـــان إليـهــم *** جــادوا عليك تكــرّمًا وتعطّفـا
حـاشــاهم أن يظلمــوك وإنمـــا *** جعلوا الوفا منهم لأرباب الوفا
روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قـال: (دخلت عـلى بعـض المجـوس وهـو يجـود بنفسه عند الموت، وكان حســن
الجـوار، وكـان حسن السيرة، حسن الأخـلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له: ما تجد، وكيـف
حـالك؟ فقـال: لي قلب عليل ولا صحة لـي، وبـدن سقيم، ولا قـوة لي، وقبـر موحـش ولا أنيس لـي، وسفـر بعـيد ولا زاد لــي،
وصــراط دقيــق ولا جــواز لـي، ونــار حــامـيــة ولا بـدن لـي, وجـنّـة عــالـية ولا نصيــب لي، ورب عـادل ولا حجة لي.
قال الحسن: فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له: لم لا تسلم حتى تسلم؟ قال: إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشــار
إلى صدره وغشي عليه.
قـال الحسن: فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيـــا،
وانقطاع الأمل.
فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال: يا شيخ، إن الفتاح أرسل المفتاح. أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمدًا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله.
يا ثقتي يا أملــي *** أنت الرجا أنت الولي
اختم بخير عملي *** وحــقــق التـوبـة لي
قبل حلول أجلي *** وكن لي يا ربّ ولـي
إخواني، ما هذه السّنة وأنتم منتبهون؟ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟ وما هذه السكـرة وأنتــم
صاحون؟ وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟ وما هذه الاقامة وأنتم راحلون؟ أما آن لهؤلاء الرّقدة أن يستيقظوا؟ أما حان لأبنــاء
الغفلة أن يتعظوا؟.
واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر، فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر.
آن الرحيل فكن على حذر *** ما قد ترى يغني عن الحذر
لا تغتــرر باليــوم أو بغـد *** فلــربّ مغـرور على خطر
قال الجنيد: كان سري السقطي رضي الله عنه متصل الشغل، وكان إذا فاته شيء من ورده لا يقدر أن يعيده.
وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن له وقت ينام فيه، فكان ينعس وهو جالــس، فقيل له: يــا أمير المؤمنين، ألا
تنام؟ فقال: كيف أنام؟! إن نمت بالنهار، ضيّعت حقوق الناس، وإن نمت بالليل ضيّعت حظي من الله.
وسمــع الجنيد رضي الله عنه ما يقول: مـا رأيت أعبـد لله تعالى مــن سريّ السّقطي، أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤي قط
مضطجعًا إلا في علته التي مات فيها.
قـال الجنـيد رضي الله عنه: سمعـت السـريّ السقطي رضي الله عنه يقول: لولا الجمعة والجماعة ما خرجت من بيتي، وللزمت
بيتي حتى أموت.
عن علي بن محمد بن إبراهيم الصفار، قال: حضرت أسود بن سالم ليلة وهو يقول هذين البيتين ويكررهما ويبكي:
أمـــامي مـوقف قــدّام ربـــي *** يسألني وينكشف الغطـا
وحسبي إن أمرّ على صراط *** كحد السيف أسفله لظى
قال: ثم صرخ صرخة، ولم يزل مغمى عليه حتى أصبح رضي الله عنه.
إذا أذنب العبـد نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زيد فيها حتى يعلــو قلبه ، فذلك الــران
الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }
منقووول