سورية... النواعير احدى عجائب الدنيا المنسية
سوريا أقدم موطن للبشرية وعاصمتها " دمشق " تعتبر أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ ولذلك تتواجد على أراضيها الكثير من الأوابد التاريخية التي تشهد على عظمتها وعلى عراقة حضارتها , التي تحكي قصة مدنها وتاريخ قلاعها التي ما تزال قائمة كشاهد حي على وجود هذا التاريخ والنواعير أحد هذه الشواهد التي لا يمكننا الحديث عنها دون أن نعرج على نهر العاصي ونتحدث عنه لأنها تنتشر على ضفافه ويتشاركان في حياة طويلة أمضياها سوياً منذ آلاف السنين .
ولا يمكننا أيضا الحديث عن النواعير دون أن نتحدث عن نهر العاصي , وسمي عاصي لأنه عصى باتجاه جريانه ومصبه اتجاه بقية الأنهر في سوريا . وهو نهر سوري بامتياز لأنه ينبع من سوريا الطبيعية.
لنهر العاصي عدة ينابيع حيث أهم نبع له هو: " عين الزرقا وشوغير والهرمل" من سفوح جبال لبنان الغربية , و مجموعة ينابيع "اللبوة وعين فلكية ورأس بعلبك " من سفوح لبنان الشرقية , ومجموعة ينابيع "الزراعة" قرب جوسيه في شمال البقاع حيث يدخل بعدها إلى الأراضي السورية عند بلدة ربلة, يقطع العاصي ربلة والقصير والقرى العديدة بينهما ليلتقي في نقطة مصب النهر في بحيرة قادش أو بحيرة قطينة.
في منطقة الرستن يبدأ العاصي بالتعمق بالهضبة السورية حيث يبلغ فرق الارتفاع الذي يبدأ بحدود 20- 70 م بين مستوى النهر ومستوى الهضبة ومن هنا أتت الحاجة لاستخدام النواعير في ري المنطقة حيث لا يمكن بناء سد لأنه لو بني سد في حماه كان سيغمرها نتيجة الميل الموجود والدليل على ذلك تعرج النهر وبالتالي كل البساتين التي نراها الآن بالقرب من حماه وتسمى الازوار ومفردها " زور" كلها ستغمرها المياه ولذلك الخسارة ستكون كبيرة ومن هنا أتت فكرة النواعير.
وتتكون الناعورة من دولاب خشبي ضخم يدور حول محور خشبي من خشب "الجوز" حصرا يدعى القلب يرتكز على قواعد خشبية متوضّعة على قواعد حجرية ثابتة وقوية في قاع النهر،
تعمل بآلية مائية دائرية دائمة الحركة مخصصة لرفع الماء من النهر إلى مكان مرتفع النئير (القائم)؛وهو جزء من الحجرية, ويغطس جزء من هذا الدولاب الضخم بالماء فيدور بفعل ضغط الماء على الريش ؛ فيرفع معه الماء من النهر إلى الأعلى ؛ بواسطة صناديق مثبتة فيها تعمل عمل الدلو. ليصب الماء المرفوع في مجرى مائي مخصص ؛ وهو النئير ويمشي ضمن الحجرية (ساقية من الحجر مرفوعة على قواعد ضخمة ) فتسقي الإنسان ؛وتروي البستان على جانبي النهر, وتتراوح أقطارها الناعورة بين (5 ـ 12)م ، وعدد الصناديق التي ترفع الماء بين (50 ـ 120) صندوقاً، وتدور دورة كاملة كل /30- 70 / ثانية تعطي خلالها /2400/ لتر من الماء، وتزن أكبرها /31/ طن بدون الماء و /50/ طن مع الماء.
للناعورة جمال خاص حيث تعتبر لوحة فنية رائعة الجمال مليئة بالفتنة والسحر تصدر صوتا بشكل متواصل يدعى "عنين" أو" نعير" ومن هنا أتت تسمية الناعورة من " نعيرها " وتبين المصادر العربية أن كلمة ناعورة عربية ومعروفة ففي المنجد نعر- نعيرا ونعارا: الرجل صاح بخيشومه والناعر الصائح والنعير مصدر الصراخ. ويختلف صوت الناعورة بحسب الكبر أو الصغر، وهي تعطي من /120 ـ 170/ مقاماً موسيقيا.
تغنى الشعراء والمطربين بنواعير حماه و صار لها أغنية فلكلورية مخصصة يتذكرها كل من يرى النواعير أو يسمع صوتها وهي:
سمعت عنين الناعورة
وعنينا شغل بـــــالي
وهي عنينا ع الميــــة
وأنا عنيني عالغالي
أووف يابا يبا ياابا
والسوريون القدماء برعوا في شتى نواحي العلوم ، وابتكروا طرق وأساليب كثيرة تتعلق بالزراعة والري منها القنوات المائية النواعير المخصصة لرفع مياه نهر العاصي, وتعد مدينة حماة أقدم موطن للنواعير حتى أصبحت الناعورة رمز مدينة حماه .
اختلف الباحثون في تحديد تاريخ ظهور النواعير ؛ منهم من يرى أنها تعود إلى العهد الآرامي ، ومنهم من يرى أنها ظهرت في العصر الهلنستي ، وآخرون يرون أنها رومانية ، وقد ذهبت المستشرقة الإنكليزية "مسز بل" بعيداً عندما أصدرت كتابها (الصحراء والمعمورة) عام 1907 في أعقاب زيارتها لمدينة حماة فذكرت أنها فارسية، وهذا القول لا سند له، ولعل أقدم مصدر لتاريخ النواعير هو صورة من الفسيفساء عثر عليها المنقبون بين أطلال أفاميا بالقرب من حماة تعود إلى عام 469 م أي إلى الفترة البيزنطية أي الفترة الرومانية, ويقصد بها النواعير بشكلها الحالي لكن قبل ذلك يعتقد أن النواعير وجدت مع اختراع الدولاب وعلى الفرات استخدمت أشكال تشبه النواعير لكن النواعير الحقيقية التي تروي مساحات من 20- 50 هكتار أي 500 دونم ويمكن أن يصل قطرها إلى 22 م مثل الناعورة المحمدية واللوحة موجودة في حديقة المتحف الوطني في دمشق اليوم, ويرى بعضهم أنها تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد. وقد ذكر الرحالة والجغرافيون العرب نواعير حماة في مؤلفاتهم أمثال ابن جبير فيقول عنها : "هي مدينة شهيرة في البلدان قديمة الصحبة للزمان حتى إذا جست خلالها ونفرت ظلالها أبصرت بشرقيها نهرا كبيرا تتسع في تدفقه أساليبه وتتناظر في شطه دواليبه وقد انتظمت طرفيه بساتين تتهدل أغصانها عليه".
وللنواعير أحجام مختلفة ويمكن أن تكون ناعورتين متقابلتين وأهم نقطة في الناعورة هو المثلث الحجري الذي يحمل محور الناعورة الذي نسمع صوته مصنوع بشكل أساسي من خشب الجوز وممكن أن يكون من خشب التوت .
وفي بداية القرن العشرين كان عدد النواعير في مدينة حماة وريفها " 115" منها "25" داخل مدينة حماة، أما اليوم فعدد العامل منها "24" ناعورة، " 22" ناعورة داخل المدينة.تضاف إليها ناعورتي شيزر فتصبح 24 ناعورة. . تنتظم في خمس مجموعات هي :
1 ـ مجموعة البشريات, 2 ـ مجموعة الجسريات, 3 ـ مجموعة الكيلانيات, 4 ـ مجموعة شمال القلعة, 5 ـ مجموعة باب النهر.
وبرع الحمويون في صناعة النواعير وتوارثها أبناؤهم عن آبائهم وأجدادهم منذ القديم,
وتتميز صناعة النواعير بدقة زائدة وإتقان عالي وخبرة كافية تسمح للنواعير بالدوران التلقائي بواسطة الجريان الطبيعي للمياه كما أن أي خلل في تصنيع الناعورة قد يؤدي إلى تحطمها خلال دورانها بسبب اختلال توازنها لاسيما وأنه استخدم في صناعتها أكثر من 50 طناً من الأخشاب إضافة إلى كمية من المسامير الحديدية الخاصة تتراوح أطوالها بين 7 و45سم ويبلغ وزنها نحو500- 1000 كغ وحسب قطر الناعورة و يزداد وزن الناعورة عند ابتلالها بالماء خلال عملية دورانها ليصل إلى حوالي 70 طناً. تصنع الناعورة من خشب الجوز والتوت والحور والمشمش.
وللناعورة آلية عمل لم تتغير من اليوم الذي استقر شكلها وتطور إلى وضعها الحالي الذي نراه , حيث تتألف الناعورة من صناديق خشبية مثبتة على صفائح خشبية محمولة على أعصاب خشبية تتصل بمركز يدور حول محور خشبي ضخم سميك من خشب الجوز بفعل قوة المياه ، وعندما تغطس الصناديق في الماء تحمل الماء إلى الأعلى لتسكبه في جدول فوق قناطر حجرية عالية تنقل الماء إلى أماكن مرتفعة لتسقي البساتين والحدائق حولها , و كلما ارتفعت المياه كان مدى نقلها لمساحات أوسع وصار بمقدورنا إيصال المياه إلى مسافة ابعد , ولزيادة سرعة ارتطام الماء بالعوارض " الفراشات " يتم بناء سد أمام الناعورة لحجز المياه وجعلها تتدفق بسرعة أكبر نحو فتحة ذات انحدار خاصة بالناعورة يقال لها " البيب " فتقوم هذه المياه المتدفقة بقوة الارتطام بالفراشات واحدة تلو الأخرى فتدور الناعورة حاملة الماء في صناديقها نحو أعلى الحجرية .
أصبح للنواعير مديرية تسمى مديرية النواعير هي الوحيدة في العالم مسؤولة عن صيانتها حيث كان يوجد نظام جماعي لإدارة نظام النواعير لأنها كانت بحاجة إلى صيانة في كل عام وكانوا يسمونها " القشطة " حيث يفتح السد الصغير الذي يجلب المياه إلى الناعورة وينظفون الخشب الذي تربى عليه الطحالب مما يؤدي إلى صعوبة دوران الناعورة ويؤدي إلى تفسخ الخشب .
ولكي تظل النواعير دائرة وتؤدي عملها بشكل مقبول يلزم إيقافها مرة كل عامين لإجراء عملية صيانة لها تتضمن تبديل بعض القطع منها مثل الفراشات والصناديق وتسمى عملية الصيانة الدورية هذه باسم القشطة ولا يمكن أن تتم هذه العملية إلا بعد إيقاف الناعورة عن الدوران وذلك بنصب سد مؤقت يؤدي إلى حجب المياه عنها وأفضل الأوقات لإجراء هذه الصيانة هو وقت الربيع.
لعبت النواعير فيما مضى دوراً أساسياً في الحياة الزراعية، إلا أن هذا الدور أخذ يقل شيئاً فشيئاً مع التطور الإنساني , وتنقسم النواعير إلى قسمين : نواعير تروي حدائق وبساتين ونواعير تروي المدينة وهناك ثلاث جهات توجه إليها المياه السكان والخانات والحمامات . وتمتد النواعير من الرستن حتى مدينة إنطاكية .
في الخمسينيات بدأت ظاهرة حديثة حيث توقفت النواعير عن العمل وحل محلها المضخات لأن مضخات المازوت كان عملها أقوى ويرسل المياه إلى مسافات ابعد من الناعورة وأعلى وهي ليست جماعية يمكن أن تكون لمالك أو اثنين , و بدأ استخدام المضخات المائية الكهربائية. أما من الناحية التراثية صارت النواعير تتخرب وانتبهت الدولة إلى هذا الموضوع فشكلت إدارة لصيانة النواعير للحفاظ على الناعورة كمعلم سياحي وانتهت وظيفتها الاقتصادية وبقيت وظيفتها السياحية فتدمرت الخانات مثل الخان الذي كان بالرستن فالذي يمر بالمنطقة لا يرى الخان ولا الناعورة .
كما تم تصنيع ناعورة وضعت بشكل مسطح في مدخل حديقة أم الحسن , موضح عليها مراحل تصنيع الناعورة من أجل الشرح للسياح عن الناعورة وكيفية صنعها.