تحطُّ الطائرة على أرض العاصمة الصومالية قادمة من سويسرا، تتسارع دقات قلب السيد والسيدة سايبر الذين لم يتوقعا أن
يزورا الصومال في شهر حزيران الملتهب من هذا الصيف الأسود، ولكن للضرورة أحكام... فلقد انقضت ثلاثة أشهر منذ
أن بدأ ابنهما مارك عمله كمتطوع في فرقة الإغاثة الطبية في القارة السمراء، ثلاثة شهور انقضت وكل شيئ كان يسير على خير
ما يرام إلى أن وقع ما لم يكن على البال...
باتجاه مستشفى المدينة، سارت السيارة التي تقل الوالدين، وفي كل مشهد يتغير في هذه الرحلة القصيرة كانت الغصة في قلب السيدة
تشعل ضلوعها وكأنها تتنفس هواء جهنم، فهي على وشك رؤية ابنها العزيز أو ما بقي منه...
في السيارة كان برفقتها، رئيس البعثة الطبية التي كان يعمل فيها مارك بالإضافة إلى مندوب من القنصلية. على باب
المستشفى كانت مجموعة من الناس - تلبس الزي الأبيض المؤشّر بوضوح بالعلامة الطبية - تحجب المدخل عندما توقفت السيارة.
يقترب شاب أسمر من السيدة سايبر ويهمس بالإنجليزية في أذنها برقة وبصوت يكاد لا يسمعه هو نفسه : هل أنت أم مارك ؟
لم تتغير ملامحها ولم تُشح بوجهها - المختبيء وراء خمار شفاف - عن حقيبة يدها التي ترقد على ركبتيها وهي تجلس في
ذلك الممر الطويل المظلم من المستشفى، ثم تجيب : نعم ؟ تصمت لبرهة من الوقت ثم تتابع : هل كنت تعرفه ؟ فيرد سريعاً
: اسمي عبد الرحمن، وكان مارك شريكي في سيارة الإسعاف، أنا السائق... تقاطعه السيدة سايبر : هل كنت معه عندما ...
وانفجرت بالبكاء. يتردد عبد الرحمن في وضع يده على كتف السيدة سايبر ثم يضمها بقوة إلى كتفه الأيسر محاولاً أن يخفي
دموعه هو الآخر. أخبرني كيف حدث !
كنا في طريقنا إلى المركز عائدين من مهمة روتينية من إحدى القرى المجاورة، وكان كل شيء يبدو هادئاً على غير العادة،
كنا نتحدث عن حياتنا العائلية ونتبادل النكات في بعض الأحيان، فالطريق طويل ووعر، ويلزمنا ثلاث ساعات خلف المقود
للوصول إلى المركز، ولكن بالقرب من أحد الحقول المجاورة للطريق، قفز رجل يسند امرأة كان من الواضح أنها حامل في
شهورها الأخيرة، بدا الفزع واضحاً على عيني الرجل المسكين وكأن تلك العينين أكبر من وجهه المتعرق، فيما كان نفسه
يكاد يسمع من داخل سيارة الأسعاف التي كنا فيها. توقفت جانباً لمساعد الزوجين، فأسرع الرجل نحو مارك الذي كان
يجلس بجانبي وكان من الواضح أنه يطلب المساعدة، فأسرع مارك وفتح الباب الخلفي وأدخل المرأة الحامل وزوجها،
وعندها... كانت هناك حركة غريبة وصوت محرك آت من بين الأشجار، لقد كانت إحدى سيارات المليشيات المتنازعة
وهي كثيرة، توقفت أمام سيارتنا ونزل منها رجلان مثقلان بالأسلحة والذخيرة تلف عنقيهما، فاتجه مارك نحوهما عالماً أنه
محمي جداً بشعار الإغاثة الطبية المرسوم على قميصه من الأمام ومن الخلف، شعار محترم من الجميع... تقريباً.
يحاول التكلم معهما إلا أنهما لا يتكلمان سوى اللغة المحلية فتدخلت لتسهيل المهمة، كان الرجلان يتهماننا بصراحة أننا نحمل
أسلحة ومسلّحين لإعدائهم المزعومين، بينما كنا نصر على أننا من المهمات الطبية العاملة في الميدان وليس معنا أحد سوى
امرأة حامل وزوجها (الذي كانا يبحثان عنه). لم يكن يبدو عليهما اللطف ولا حتى القدرة على الفهم، فلقد فتحا باب سيارة
الإسعاف وقام أحدهما بضرب المرأة المسكينة على قدميها، في حين كان الآخر يحاول جرّ الرجل المذعور إلى خارج
السيارة متذرعاً بتفتيشه ولكن الرجل كان على علم بما سيحصل له إن تمكنّا منه. كان مارك من الشجاعة بمكان حين
أخبرني بالإنجليزية طبعاً أنه علينا الانطلاق بسرعة حفاظاً على حياة الزوجين، وقد كان ما أراد... فقد استغل حديثاً جانبياً
بين المسلحين عمّا سيفعلان، حين انطلقت بأقصى سرعة للهروب إلى حدود المدينة، وبالطبع لم يرق لهما ذلك فاندفعت
سيارتهما ذات الدفع الرباعي محاولة التقدم من اليمين، ولكن ذلك لم يفلح فبدأ رجل منهما بإطلاق النار دون تمييز، كان
مارك يقول لي : أسرع أسرع ! حين نظر إلى يده ورأى اللون الأحمر يغطي كفّه الأيسر، فمن شدة التوتر لم يكن يدرك بعد
أنه قد أصيب، نظر إليّ بعينين مفتوحتين وقال : لربما يمكننا الوصول في الوقت المناسب إلى المستشفى، هذه المرة بدا
هادئاً مطمئناً. في تلك اللحظة كانت سيارة الميليشيا قد تجاوزتنا وتوقفت أمامنا، لم آبه كثيراً بالمسلحين وأنا أنظر إلى قميصه
المثقوب من جهته اليمنى، توقفت وأسرعت لأخرج مارك من السيارة، فلربما أستطيع وقف نزيفه، بينما كان أحد المسلحين
يضربني بكعب بندقيته على ظهري، اعتلت وجه ذلك الرجل الدهشة ونظر إلى مارك ثم توقف عن ضربي واتجه نحو
اللاسلكي وأخذ بالاتصال... في تلك اللحظات القيّمة كان وجه مارك على التراب وكان من الصعب عليه التكلم ولكني أذكر
جيداً ما قال لي. سيدة سايبر ! هل تودين أن أكمل ؟ فردت : هل تكلم عنّي ؟
حسناً... لقد أخرج بصعوبة بعض الكلمات، فقال : يا عبد الرحمن... لقد عشت فتى وحيداً مدللاً لوالدي الذين شجعانني على
التطوع في الخدمات الطبية، قد أكون خيّبت أملهما في بعض الأحيان ولكني كنت أرجو أن أعوّض لهما لاحقا، وها أنا ملقى
على أرض غريبة عنّي، لا أرى الآن سوى حذاء عسكري لرجل مسلح وحجارة صغيرة على الطريق تبدو كبيرة جداً
بالقرب من وجهي ويدك السمراء التي تسند خديّ. إن متّ هنا يا عبد الرحمن فقل لأمي التي قد تراها... وأظنك ستراها
قريباً، قل لها أنّي لم أتوقف يوماً عن التفكير بها، وكم كانت لتسعد عندما أمنحها لقب جدة.
ثم غاب عن الوعي .... سكت عبد الرحمن ولم تعقب السيدة سايبر.
يلوح خيال من مدخل المستشفي في آخر الممر من خلال خلفية ضوء الشمس المنبعث من حر حزيران ويقترب من السيدة
سايبر وعبد الرحمن، كانت امرأة تحمل رضيعاً وتسأل باللغة المحلية : هل أنت أم مارك ؟ فيترجم عبد الرحمن، فتمد تلك
المرأة طفلها لتضعه على حجر السيدة سايبر وتجثو على ركبتيها مقابل السيدة السويسرية وتقول غير عابئة بالترجمة :
لم أجد لطفلي هذا اسماً يشرفه أكثر من اسم ابنك مارك.
......مما راق لى...........
قد لا أكون الأجمل ...
وقد لا أكون الأروع ...
وقد لا أكون الأذكى ...
...
وقد لا أكون الأبرع ...
ولكني إذا جاءني المهموم أسمع ...
وإذا ناداني صاحبي لحاجة أنفع ...
وحتى إذا حصدت شوكا ...