بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [سورة الحجرات: 9].
سبب النزول:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم «لو أتيت عبد الله بن أبيّ، فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ربحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت الآية»، وهذا ما قاله الطبرسي والقرطبي والشوكاني وابن كثير في تفاسيرهم.
ابن كثير:
قال ابن كثير في معرض تفسير هذه الآيات: «يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم مؤمنين مع الاقتتال وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس مرة أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كما قال صلى الله عليه وسلم أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والوقعات المهولة. وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله وتسمع للحق وتطيعه كما ثبت في الصحيح أن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قلت يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم : تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه».
وقوله عزّ وجل: {فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي اعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل… وقوله: {فأصلحوا بين أخويكم} يعني الفئتين المقتتلين {واتقوا الله} أي في جميع أموركم {لعلكم ترحمون} وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
فتح القدير:
وقال الإمام الشوكاني في تفسيره: «… والمعنى أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحم الله. ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى...».
مجمع البيان في تفسير القرآن:
وقال الطبرسي في تفسيره هذه الآيات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما صاحبه {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حتى يصطلحا ولا دلالة في هذا على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان ويطلق عليهما هذا الإسلام ولا يمتنع أن تفسق إحدى الطائفتين أو تفسقاً جميعاً {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقاتل الأخرى ظالمة لها معتدية عليها {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} لأنها هي الظالمة المتعدية دون الأخرى {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي حتى ترجع إلى طاعة الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة {فَإِنْ فَاءَتْ} أي رجعت وتابت وأقلعت وأنبت إلى طاعة الله… {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} أي بينهما وبين الطائفة التي هي على الإيمان {بِالْعَدْلِ} أي بالقسط حتى يكونوا سواء لا يكون من إحداهما على الأخرى جور ولا شطط فيما يتعلق بالضمانات من الأروش {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين الذين يعدلون فيما يكون قولاً وفعلاً.
الخلاصة:
يقول عليه الصلاة والسلام : «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض» و«سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر» و«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار».
لقد وردت نصوص شرعية تفيد أن المسلم يجوز له أن يستعمل السلاح دفاعاً عن دمه وماله وعرضه. ووردت نصوص تحرّم عليه أن يستعمل السلاح ضد المسلم حتى لو كان معتدياً. ومن ثمّ فإن الشرع ميز بين حالتين، حالة يكون الدفاع فيها مشروعاً، وهي الحالة التي يصول فيها صائل لغصب المال أو الاعتداء على العرض أو النفس. في هذه الحالة يجوز للمعتدي عليه أن يقاتل الصائل، وأن يقتله إذا لم يمكن ردعه بأقل من القتل.
أما الحالة الثانية فهي حالة الفتنة بين المسلمين، وهي الحالة التي يختلط فيها الأمر على كثير من المسلمين، ويظن كل فريق أنه على حق. هذه الحالة لها أحكام خاصة، أهمها أنه لا يجوز للمعتدى عليه أن يقاتل المعتدي ولو كان على يقين أنه مظلوم وأن المعتدي عليه ظالم، وكل ما يجوز له هو أن يحاول ردع المعتدي بالموعظة بدون سلاح، وأن يلوذ في وجه المعتدي. فعن سعد بن أبي وقاص قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتنة القاعدُ فيها خيرٌ من القائم والقائم خيرٌ من الماشي والماشي خيرٌ من الساعي» قال أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي فبسط إليَّ يده ليقتلني؟ فقال: «كُنْ كابن آدم». وتلا {ولئِن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يَديَ إليكَ لأقتلك إنّي أخاف الله ربَّ العالمين}.
وجاء في الحديث الآخر عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا ذر أرأيت إن قتلَ الناسُ بعضهم بعضاً يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «اقْعُد في بيتك واغْلِقِ عليك بابَك» قال: فإن لم يردعك شُعاعُ السيفِ فَاَلقِ طَرَفَ ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك».
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في الفتنة أن يقطعوا أوتار قُسيِّهم، وأن يضربوا حدّ سيفهم بالحجارة، فتعطيل أسلحتهم خير من أن يستعملوها لقتل بعضهم.
وأما دور الإصلاح بين المتخاصمين، فالله يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا… الآية}.