" قطر الندى" أسطورة جنائزية حزينة
لم تعمر دولة بني طولون أكثر من 38 عاما لكنها تميزت بالكثير من البهاء والبذخ ما جعلها في حقبة قصيرة كأعظم الدول وأغناها، وقد ظهر هذا البذخ بالأخص في زواج الأميرة قطر الندى ابنة خماروية بن أحمد بن طولون.
عندما تولى خماروية إمارة مصر عقب وفاة والده أحمد بن طولون عام 885 م، قرر أن ينتهج سياسة سلام ومهادنة تجاه الخلافة العباسية في بغداد، لكي يستطيع أن يتفرغ إلى أعمال الإنشاء والتعمير التي شغف بها، فعرض خماروية على السفير المصري أن يعرض على الخليفة المعتضد أن يتزوج ولده وولي عهده المكتفي بالله من الأميرة قطر الندى، فوافق الخليفة على مشروع الزواج لكنه عرض أن يتزوجها هو، فوافق خماروية على رغبة الخليفة.
يروي محمد عبد الله عنان في كتابه "مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية"، أن الأميرة المصرية كان اسمها الحقيقي "أسماء" وتعرف بـ"قطر الندى" وكانت أجمل نساء عصرها وأوفرهن ذكاء و تثقيفا، ولم تكن حين خطبها الخليفة قد جاوزت الأربعة عشر ربيعا.
وبالرغم من عدم وجود تفاصيل شافية عن أوصافها الشخصية إلا أن جميع الروايات تشيد بجمالها الفائق، وكان والدها يهيم بها حبا ويحيطها بكل ما يتصوره الخيال من العز والترف.
دفع الخليفة مهر قطر الندى ألف ألف درهم ( عشرة آلاف دينار ) وكان هذا الصداق ضربا من الخيال في ذلك العهد، لكنه لم يكن إلا جزءا يسيرا مما أنفقه والدها على تجهيزها من الأموال الطائلة، حيث أراد أن ينافس الخلافة في مظاهر غناها وبذخها.
وتقول الرواية أنه "لم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وحسن إلا حمله معها، ومن ذلك أريكة من الذهب عليها قبة من الذهب المشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من الجوهر لا يقدر بمال.. ومائة هون من الذهب.. لقد صرف على جهازها أربعمائة ألف دينار وهذا مبلغ ضخم جدا يعادل دخل دولة بأكملها".
ويرى بعض المؤرخين أن الخليفة المعتضد أراد بهذا الزواج أن يفقر الدولة الطولونية، فقد كان يعلم ما يتسم به خمارويه من الشغف بالبذخ والترف والإسراف البالغ في هذا الصدد.
بعد أن فرغ خماروية من الجهاز الذي اشتراه من بلاد الهند والسند أخذ يتأهب لإرسال ابنته إلى زوجها الخليفة، فأراد أن يجعل من رحلتها الشاقة من مصر إلى بغداد، نزهة ممتعة، فأمر أن يبني لها على رأس كل محطة تنزل فيها قصرا وثيرا كامل المعدات.
وأقام خمارويه حفل حنة قطر الندي مده أربعين يوما لا تطفئ الأنوار والموائد مليئة بأشهى أنواع الأطعمة لكل المصريين احتفالا وابتهاجا بهذه المناسبة السعيدة.
في أواخر سنة 281 هـ / 894 م خرجت قطر الندى في موكب عظيم، وبرفقتها عمتاها شيبان والعباسة، وعدد من الكبراء والحشم، ويقول أحد المؤرخين في وصف رحلة الأميرة "كانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة، وجدت قصرا قد فرش فيه جميع ما تحتاج إليه، وقد علقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها، وكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد، على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها".
وتحكي بعض الروايات أن قطر الندى كانت ستتزوج ابن الخليفة ولكن عندماوصلت إلي بغداد ومعها خدمها ووصيفاتها وجهازها, نزلت لتزف إلي عريسها ابن الخليفة العباسي, ولكنعندما رآها الخليفة قرر أن يتزوجها بدلا من ابنه, فوافقت العروس بعد ضغط من والدها علي قبول العريس العجوز, حيثكانت زيجة سياسية بالدرجة الأولي . وهكذا زفت الأميرة الشابة إلي الخليفة العجوز, فكانت ليلة زفاف حزينة بالنسبة لها.
ولهذا عندما ألفت أغنية " يا حنة يا حنة يا قطر الندي" التي غنتها شادية جاء لحنها حزين كأنه لحن جنائزي!
وصل ركب قطر الندى إلى بغداد في أول محرم 282 هـ ، وزفت إلى الخليفة في شهر ربيع الأول من نفس العام، في حفلات عظيمة على مدى أيام في العاصمة العباسية، وشغف الخليفة بها لجمالها الرائع وأدبها الجم، فكانت أحظى نسائه إليه.
ومما يروى أن الخليفة خلا بها ذات يوم فوضع رأسه على ركبتها وغلبه النوم، فتلطفت الأميرة حتى أزالت رأسه عن ركبتها ووضعتها على وسادة، ثم تنحت عن مكانها وجلست بالقرب منه. فانتبه المعتضد فزعا، وكان كثير التحرز على نفسه، وصاح بها فأجابته في الحال. فلامها على ما فعلت قائلا "أسلمت إليك نفسي، فتركتيني وحيدا، وأنا في النوم لا أدري ما يفعل بي".
فقالت: "يا أمير المؤمنين ما جهلت قدر ما أنعمت علي، ولكني فيما أدبني أبي، أني لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس"، فأعجبه ذلك منها وازداد شغفه بها.
لم تمض شهور قليلة على زفاف قطر الندى إلى زوجها، حتى قتل والدها، حيث خرج بعساكر مصر إلى الشام استعدادا للحرب، ونزل بدمشق فأقام بها مدة يسيرة، وذات مساء قتله خدمه وهو نائم.
عاشت الأميرة قطر الندى بضعة أعوام ثم رحلت في شهر رجب سنة 287 هـ بعد خمسة أعوام من زواجها، ودفنت داخل قصر الرصافة ببغداد، وكانت عند وفاتها في الثانية والعشرين من عمرها.. وهكذا أسدل الستار على حياة الأميرة التي ما زال اسمها مرتبطا بالثراء والبذخ.