الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أحبتي في الله, كم يحتاج العبد في هذا الزمان إلى أن يثبت على معاني الخير والاستقامة في ظل هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن والمحن؛ مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» [رواه مسلم].
كم يحتاج الواحد منا إلى الثبات على الخير بعد ما ذاق حلاوة الإيمان في مواسم الطاعات، بعد ما وجد ذلك في الصيام والصلاة و القيام والذكر وتلاوة القرآن. ما وجده الإنسان في قلبه, وما حصل في فؤاده مما يعجز القلم أن يصفه وتقصر الكلمات عن الوفاء به, فإنها حلاوة لا تضاهيها حلاوة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» [متفق عليه].
حلاوة لا يجدها الإنسان في لذات الدنيا, لا يجدها في جمع المال، ولا في التلذذ بالنساء، ولا في التمتع بالطعام والشراب ولا غيرها من زخارف الدنيا... وأنت تلحظ ذلك من نفسك وتجده في الناس ممن حولك، فمظاهر الخير تزيد في المجتمع -والحمد لله-.
إذاً نحتاج دائماً إلى أن يظل القلب ثابتاً على الخير والطاعة والاستقامة حتى تحصل تلك اللذة؛ التي قال عنها بعض السلف وهو إبراهيم بن بشار -رحمه الله-: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والسرور لجالدونا عليه بالسيوف".
وكان الواحد منهم يصلي طيلة الليل حتى لا يعود إلى فراشه إلا حبواً وهو في منتهى الراحة الوجدانية، والسعادة القلبية فسبحان الله!
إنها الأرواح إخوتاه!
كم نحتاج إلى ثبات القلب على معاني الخير والقلوب تتقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لشدة تقلبه, ويروي الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا استحكمت غلياناً» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "إنما سمي قلباً من تقلبه, إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن".
وما يعرض على القلب الآن في هذا الزمان من فتن وشهوات؛ كشهوة الجاه، والسلطة، وشهوة المال والغنى، وشهوة الشهرة، وشهوة النساء.. شهوات وشهوات، مصداق قول الله -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ} [آل عمران: 14].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» [رواه مسلم].
إنها الفتن, فتن الشهوات وفتن الشبهات، فإما أن تنكر فينتفض القلبُ بنور الإيمان والمعرفة، ويقوى في مواجهة الأمواج, وإما أن يشرب الفتنة كالخرقة حتى يملأ القلب بسواد المعصية ويعلوه الران {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ولا يصل إليه النور، ولا يخرج من الضلالة, بل يكون هواه هو حاكمه أيما سار، أينما توجه قاده كالدابة البهيمية تقاد بخطامها إلى حيث أريدت أن تذهب!!
نعوذ بالله من هذا الحال، فأنى للقلب أن يثبت دون أن يتعضض ويتحصَّن بأسباب الثبات على الخير، وهذا ما نريد أن نتحدث عنه وسنعرفه -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل في حلقات قادمة.
نسأل الله -تعالى- لنا ولكم الثبات حتى الممات، كما كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، فإن كان هذا حاله -صلى الله عليه وسلم-، ودعاؤه فنحن أشدُ حاجة إلى ذلك.
م.ن