نزار قباني الشاعر الذي جعل الأنثى في كل الاتجاهات
بسم الله الرحمن الرحيم
دعني أقول لك على رأي الشاعرة الكويتية سعاد الصباح"يا سيد الكلمات"، "من أين تأتي بالفصاحة كلها، وأنا يتوه على فمي التعبير.."هل يكفي أنك قلت في المرأة ما تعجز الكلمات عن وصفه.
وماذا عسى "نون"النسوة تقول وهي تستحصر الذكرى الثانية عشرة لرحيل فارس "الأحلام" القادم على صهوة جواد كي يخطف الصبايا العاشقات ويدخلهنّ عالمه السحري بكل ما فيه من صباحات ومساءات وردية؟، هي كلمات"ليست كالكلمات أحاول أن أتذكر بها الراحل نزار قباني.
وعن ماذا ستتحدّث "تاء" التأنيث وهي تندب ضميرها الغائب؟...حقيقة لا أجد العبارات التي يمكن أن تخرج من صدري كي تصوغ الكلمات،فــ"ماتت الحروف قبل أن تُقال" وكل القوافي تئن لفقد الشاعر الكبير نزار قباني الذي توفي يوم 30 أبريل /نيسان من العام 1998.
لست أنا من سيحكم على ذلك الصوت الدمشقي الذي متّعنا طوال أكثر من خمسة عقود بجميل الأحاسيس ونبل المشاعر، ولستُ في مقام تحليل لقصائده أو تناول طرائق قوله، فقط هي عبارات أردتُ من خلال استحضار تجربة نزار قباني التي كانت حسب رأي محمود درويش " فوق التجارب"...بسيطة هي الكلمة لديه وسلسة هي العبارة حين تنساب انسياب الماء في الجداول.
تغريد حمامة أو شدو عصفور صغير حنّ إلى عشه...دغدغات الحنان ورفق الملامسة وضيق أشواق وعبير ورود،نابعة هي الكلمات من قلب عاشق للجمال.. القصيدة عنده كبقايا حكايا حول المواقد المشتعلة شتاء،أوكلون الرمال الشاطئية صيفا.
خاطب فينا مراهقتنا وكتب تاريخ المرأة وعنفوان الأنوثة وتمرّد الرغبة وحزن الفراق وصورة الظل الأبديّ خلف أسوار قلاعه الشعرية التي تحصنت من كل الرياح والأعاصير فظل صامدا وعاشقا لأرض دمشق:
"هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطرٍ/بيتنا كان هذه القارورة/ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر بل أظلم دارنا/والذين سكنوا دمشق/ تغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة/ يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون."
نزار قباني الشاعر الذي أدخلنا "مدن الأحزان" وتجوّل بنا في حدائق"قصره المهجور" وحلّق معنا في سماء الطفولة والوداعة، ولوّن حياتنا برسومه المنقوشة على ميلاد كل نهد أو شفة متعطشة لماء الحياة... "أيظن أني لعبة بيديه" أم أن" الفساتين فرحت به، رقصت على قدميه".
بدأ نزار بكتابة الشعر وعمره 16 عاما، وأصدر أول دواوينه قالت لي السمراء عام 1944 بدمشق حين كان طالباً بكلية الحقوق، وطبعه على نفقته الخاصة.
لنزار عدد كبير من الدواوين، تصل إلى 35 ديواناً، كتبها على مدار ما يزيد على نصف قرن أهمها" طفولة نهد"،"الرسم بالكلمات"،"قالت لي السمراء"،"أحبك أحبك والبقية تأتي" ،" أنت لي"،"قصائد مغضوب عليها... وعدد من الكتب النثرية أهمها : قصتي مع الشعر، ما هو الشعر ، 100 رسالة حب.
وتحتل المرأة في شعر قباني مكانة بارزة،فدافع عنها ورآه رمزا للحرية حتى غدت وطنا من خلال تكثيف العالم في هيئة امرأة معشوقة حيث تتربع الأنثى على الخطاب الشعري لنزار دامجاً بينها وبين الكون والحياة والمصير. يقول نزار:
"بعينيكِ يبدأ تاريخ الفرات
ويبدأ حزني الجميل الذي يتكلم سبع لغات .
ويبدأ عشقي العظيم الذي يتسلقِ جدارنكِ كالنبات."
كما تتحول المرأة في النص الشعري عند نزار قباني إلى هيئة الأرض ولأنها الأنثى الأرض تصير هذه المرأة كائنا سحريا يقبع بين الممكن والمستحيل لتؤسس المكان بحضورها اللامرئي ولتصبح مكمن المعرفة والمغامرة. يقول نزار وقد جعل من الأنثى في جميع الاتجاهات:
"أحبكِ قبل الأنوثة/بعد الأنوثة/شرق الأنوثة/غرب الأنوثة/يا امرأةً لا أراها/ولكنها في جميع الجهات."
وتتحوّل الأنثى المستحيلة في شعر ه إلى تاريخ للجمال من خلال عبارات امتاز بها نصه الشعري على نحو" الياسمين الحريرالزهور/ الطيور/العطر/العصافير.."،عابراً بذلك إلى الأنثى المتعالية بذاتها التي ستفنى الحياة بلا وجودها في حياته ولتصير المرأة هي الثبات والضمان لفعل الحياة ذاتها ولتاريخ هذه الحياة. يقول نزار:
"لأشهد أنكِ آخر بيتٍِ من الشعر يروى
وآخر مروحةٍ من حرير
وآخر طفلٍ في عائلة الياسمين. "
يقول الشاعر أدونيس في تجربة نزار قباني الشعرية:" إن نزار كان منذ بداياته الأكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب في الإمساك باللحظة التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة وبخاصة همومهم المكبوتة والمهشمة إلى أكثرها إيغالاً بالحلم والحق في حياةٍ أفضل. "
وإذا أضفنا ما يراه النقاد بأن القصيدة عند نزار مسموعة لا مكتوبة، أي أن للصوت دخل في ايصالها إلى المستمع وهي تستمد جماليتها من حنجرة الشاعر لتخرج القصيدة كرداء حرير مطرّزأو كزربية مزركشة بأعذب الكلمات وأرقّ المفردات، فإن الإبداع حاصل والقلب نابض والفؤاد عاشق.