قاضي الأدب .
لا يوجد قاضٍ في الأدب ، وإنما الأدب عيْنُهُ هو القاضي الحقيقي ، الذي يقضي بين الأدباء ، والمتأدبين ، وأدعياء الأدب .
والأدبُ ليس رجل سلطة ، ولا أمين شرطة ، ولا رئيس محكمة ، ولا مدير سجن .
الأدب معلمٌّ جميلٌ ، يكادُ يكون رسولاً . يمشي بين الناس ، ويبتسم في وجوههم جميعاً ، ويوزع عليهم الحلوى ، والهدايا ، وباقات الورد ، وكلمات الحب . ويختارُ منهم تلاميذ أذكياءً ، موهوبين ، في نظم الشعر ، أو كتابة النثر .. يحبونه ويحبهم ، فيَهبُ لهم خريطة الكنز ، ويسافر بهم إلى جُزُر الخيال والإبداع . ويهْدي لهم جوامع الكلم ، والبيان السحري ، والقول البليغ .
وهؤلاء لا يحتفظون بهذه الكنوز لأنفسهم ، وإنما يغدقون بها على الناس جميعاً ، ولا ينتظرون منهم جزاءً ولا شكوراً . ولعلَّ كلمة ثناءٍ بسيطةٍ ، أو إشارة إعجابٍ عابرةٍ ، تَصْدر من أحدهم ، تجعلُ هؤلاء الموهوبين يُوغلون إلى أماكن أخرى ، تكونُ مجهولة ، وبعيدة ، في تلك الجُزُرِ ، ويواصلون السفر إلى أبعد مدى ؛ كي يكتشفوا مزيداً من الكنوز ، والنفائس ، والذخائر ...
وهم إن عادوا بها ، ووضعوها بين الناس ، فلكي يفرحوا ، ويفرح معهم المؤمنون بهم ، وليس أن يقبضَ عليهم مُحْتسبون ناقمون ، ويحكم عليهم قضاةٌ حاقدون ، ويقولوا لهم أنتم ضالون مشاغبون ، فذلك ليس من اختصاصهم ، ولا يملكون تلك الصلاحية . وإنما يملكها القراءُ أولاً ، والنقاد ثانيةً . وليس أي نقاد ، بل نقادٌ خبراء ، وأكفاءٌ ، ومخلصون للأدب وحده . وهم ينظرون إلى تلك الكنوز ، ويختبرون قيمتها ، وجوْدتَها ، ونفاستها ، وأصالتَها ، سواء كانت قديمةً أو جديدةً ، ويحكمون عليها بما تستحق من أحكامٍ ، ولا ينظرون إلى صور أصحابها ، ولا يفرقون بينهم إلا بالعمل ، والإتقان ، والجمال .
وفي النهاية ، الأدبُ وحده هو القاضي ، والمحكمة التي يعملُ فيها تُسمَّى محكمة التاريخ .