ما أروع الحياة في كنف الله
ترددت هذه الكلمات في نفس أحد التائبين كما ترددت في أنفسنا ومضى يتذكر تلك اللحظة التي أحياه الله فيها من جديد، يوم أن ودع حياة البعد والعصيان، وذاق حلاوة الإيمان بعد أن كاد يموت في حادثة غرق، تماما كما مات قلبه من قبل غرقا في لجج المعاصي والآثام.
نعم، نذكر يوم أن مضى إلى بيته، ودخل حجرته ليجد تلك الصور القبيحة التي زين –بل قبح- بها جدران الغرفة، فجعل يمزقها ويبكي، يبكي على ليال انقضت في بعد عن ربه ، وأيام مضت في انتهاك لمحارم، ومفارقة لموبقات ، فما أشقاها من حياة! مزق تلك الصور، وتخلص من هذه الشرائط والأفلام ، رمى كل ذلك في سلة المهملات، ثم ارتمى على فراشه يجهش بالبكاء ، وهو يهتف : يا رب..يا رب..يا رب طالما عصتك ، فهل قبلتني؟ يا رب ، طالما بارزتك بالقبيح فهل تسامحني؟
وهنا يأتيه النداء العلوي الشفيق الرقراق ، وكأنما يريد الله تعالى أن يذيقه برد الأجابة، بعد أن ألهمه حلاوة النداء ، فإذا بصوت المنادي لصلاة الفجر ينادي حي على الصلاة حي على الفلاح ، وكأنما رب العباد يناديه : يا عبدي ، عصيتنا فأمهلناك ، وإن عدت إلينا فإنا قبلناك ، فتعال إلى بيتي ، إلى حيث النور ، تعال واغترف منه ؛ ليبدد ظلمات الماضي و لتحيا حياة الطهر و النقاء ، لتذوق طعم الراحة والسعادة بعد طول التطواف في دروب الشقاء.
وعند هذا الحد من الذكريات لم يتمالك صاحبي نفسه، فإذا بدموعه تسيل على خديه ، وهو يتلو في قلبه قول الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)
أي المتيقظين أنت؟
ولئن كنا في الخطوة السابقة قد اهتز في قلوبنا ذلك الإيمان الدفين، فأراد لنا الرب الرحيم أن تستيقظ قلوبنا عبر المحبة والخوف والرجاء ، فإننا في هذه الخطوة نريد أن نستغل تلك اليقظة فنجعل منها وقودا إيمانيا نقطع بواسطته مسافة عظيمة في الطريق إلى الله تعالى.
ذلك أن اليقظة وحدها لا تكفي كي يصل المسافر إلى ربه فالشأن كل الشأن فيما يفعله بعد أن يستيقظ من نومه.
من أجل ذلك فقد وجب أن يقف كل مسافر منَّ عليه ربه باليقظة من رقاد الغفلة مع نفسه وقفة حساب وتدقيق، ليسألها في صدق وإخلاص: أي المتيقظين أنت؟
وهنا يأتي ابن الجوزي رحمه الله ليعينك على الإجابة فيقول مبينا لك أصناف المتيقظين: (وتفكرت في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته فوجدت السبب الأكبر، اختيار الحق سبحانه وتعالى لذلك الشخص)، كما قيل : إذا أرادك لأمر هيأك له، ثم ينقسم المتيقظون :
*فمنهم من يغلبه هواه ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده فيعود القهقري ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه، فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه.
*ومنهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين، العقل الآمر بالتقوى والهوى المتقاضي للشهوات فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر يختم له به، ومنهم من يغلب تارة، ويغلب تارة فجراحاته لا في مقتل.
*ومنهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوسواس.
*ومنهم الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، مذ سلكوا ما وقفوا، فهمهم صعود وترق، كلما عبروا إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه؛ فاستغفروا.
فتأملي كيف استوى هؤلاء المتيقظين في أصل يقظتهم واختلفوا كل الاختلاف في عاقبتها.
الولادة الجديدة
ولئن كنا في المرحلة السابقة قد بدأنا طريق الهداية وقطعنا فيه أولى خطواته، فإن علينا الآن أن نكمل الطريق، وأن ندخل في عرضه ونغوص في أعماقه؛ حتى لا نعود القهقري، فلابد أن ننغمس في حياة النور بكل كياننا، أن نولد ولادة جديدة ونحيا حياة جديدة، أن يتغير فينا كل شيء، مشاعرنا وأفكارنا، مفاهيمنا وتصوراتنا، سلوكياتنا وأفعالنا، قيمنا وأخلاقياتنا.
ولابد أن نعيد صياغة كل ذلك وفق منهج هذا الدليل العظيم، الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى لعباده فقالالْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
إن هذه الولادة الجديدة هي نفسها التي حدثت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فصاغتهم تلك الصياغة الفريدة.
فلقد تبدل فيهم كل شيء تبدلت تصوراتهم وأفكارهم فإذا هي كلها وفق لا إله إلا الله.
وتبدلت أحاسيسهم ومشاعرهم فبعد أن كانوا يوالوا ويعادوا، ويحبوا ويكرهوا وفق عصبيتهم الجاهلية لقبيلتهم وعائلتهم فإذا محبتهم تصبح لله وبغضهم يصبح لله حتى ليحب أحدهم أخاه المؤمن ويكره شقيقه أو أباه لأنه الكافر البعيد عن الله تعالى.
وتبدلت أخلاقهم وقيمهم فإذا كلها قد اكتست بنور شريعة الله، فهم سلوكياتهم وأفعالهم فإذا هم قرآن يمشي على الأرض من أجل ذلك، كانوا هم سادة الدنيا والآخرة، وعلى أكتافهم شيد صرح الإسلام العظيم، حتى وصل إلينا كما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى دربهم لابد أن يسير كل مسافر إلى الله، يبغي سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
عوائق في الطريق
ولكن أمر تلك الولادة الإيمانية ليس بتلك السهولة التي قد يبدو عليها الأمر، ولو كانت المعالي رخيصات الثمن، ما كان للقيعان والطين سوق رائجة.
يوضح لك ابن الجوزي رحمه الله "واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه، ليست مما يقطع بالأقدام، وإنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة قطاع الطريق، والسبيل كالليل المدلهم، غير أن عين الموفق بصر فرس، لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار، أينما وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص عمن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله ".
فحياة النور في ظل كتاب الله؛ وسنة رسوله ومصطفاه حلو طعمها الذيذ عيشها لكن دون الوصول إليها والتحقق بها عقبات ومزالق، تمنع معظم الناس من الانتظام في سلوكها، والثبات في قطعها.
نية وهمة ورفقة
ولكن يهون كل ذلك بصدق وإخلاص هما عنوان فلاح المسافر ونجاحه، وسر نجاته من التعثر في طريق الأنوار، ويؤهلانه لنيل اصطفاء الله تعالى واختياره له؛ فيكلأه سبحانه برعايته، ويمده بقوته بعونه.
ثم بهمة عالية وعزيمة صادقة على سلوك الصراط المستقيم مهما كلف ذلك المسافر من تضحيات ومهما قابله فيه من أشواك وعقبات.
وإن كنت قد نصحتك من قبل بلزوم رفقة الإيمان فاعلمي أن حاجتك لها في هذه المرحلة أشد من سابقتها، فلا تعد عيناك عن إخوان الإيمان الذين يسيرون إلى جوارك جنبًا إلى جنب في طريق الله، فمعهم تنعمي بدفء حياة النور، ونعيم الالتزام بشريعة الله.
· أخيرًا كوني على يقين من أنه: " إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصوده؟!
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحل