عهد الحاجب المنصور :-
تحجب محمد بن أبى عامر لهشام المؤيد بالله , وحجره فى قصره بالزهراء ومنع دخول الناس اليه وتصرف بالملك بنفسه واتخذ جميع مراسم الملك , ونقش اسمه على السكة , وخطب له على المنابر , تلقب "بالمنصور" وأصبح يدعى ( الحاجب المنصور ) , وابتدأ معه عهد جديد للأندلس ما عرفت مثله من قبل .
كانت من أول أعمال المنصور أنه نكب الصقالبة وأخرجهم من الزهراء بعدما فشى ظلمهم وتوحدت كلمتهم بعد موت الحكم المستنصر – رحمه الله – وظنوا أن لا غالب لهم , فاستبدل المنصور بهم البربر من أهل العدوة من زناتة وبنى برزال وغيرهم واستكثر منهم جدا وأصبحوا هم أهل خدمته وزينة ملكه .
والحديث عن المنصور بن أبى عامر مرتبط بالضرورة بالحديث عن جهاده وغزواته ضد الممالك النصرانية فى الشمال , وسنفصل هذا لاحقاً إن شاء الله ...
وأما عنه هيبته وحزمه :-
كان رحمه الله حازما شديد الهيبة , ماسمعنا أن أحدا من ملوك الإسلام قديما وحديثا من هو بمثل هيبته إلا ماكان من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رحمه الله ورضى عنه , وفى ذلك يقول ابن سماك العاملى فى كتابه "الزهرات المنثورة فى نكت الأخبار المأثورة " :
( انتهت هيبة المنصور بن أبى عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال وقوّام الملك الى غاية لم يؤتها ملكٌ قبله !! , فكانت مواقفهم فى الميدان على احتفاله مثلا فى الزماته والإطراق , حتى أن الخيل لتتمثل إطراق فرسانها , فلا تكثر الصهيل والحمحمة .... !!!! )
وكان لربما يتساهل فى أى أمر من الأمور إلا التساهل فى أمر من أمور الدولة وما يتعلق بهيبة الدولة , وقد وصلت هيبته الى ملوك النصارى فى الشمال فكانوا يهتزون ويرتجفون فرقا ورعبا من ذكر اسمه وكاد الواحد منهم أن يهذى كالسكران اذا علم بقدوم المنصور بن أبى عامر اليه بجيش المسلمين لغزوه ... !!
أى رجل كان !! رحمه الله .....
أما عن دينه وورعه :-
فقد كان رحمه الله شديد التدين , قمع أهل البدع وأقام السنة , وبلغه أن مكتبة الحكم المستنصر – رحمه الله – بها كتب بعض الفلاسفة والملاحدة التى تنافى أصول الدين , وعلم بانتشار تلك الكتب وكادت أن تفسد عقائد الناس فقام بحرقها والتخلص منها ولله الحمد والمنة , وفى هذا يقول ابن عذارى فى كتابه (البيان المغرب .. ) :
( وكان المنصور أشدّ الناس فى التغير على من عَلِمَ عنده شيىء من الفلسفة والجدل فى الاعتقاد والتكلم فى شيىء من قضايا النجوم وأدلتها , والاستخفاف بشىء من أمور الشريعة , وأحرق ما كان فى خزائن الحَكَم من كتب الدّهريّة والفلاسفة بمحضر كبار العلماء , منهم الأصيلىّ وابن ذكوان والزبيدىّ وغيرهم , واستولى على حرق جميعها بيده ... ) انتهى كلام ابن عذارى.
وكان شديد التعظيم للعلماء بدرجة كبيرة جدا , فقد ذكر النباهى فى كتابه "المرقبة العليا" فى ذكره لترجمة العالم الجليل محمد بن يبقى بن زرب حين وفاة الإمام :
( وأظهر ابن أبى عامر لموته غمّاً شديداً , وكتب لورثته كتاب حفظ ورعاية انتفعوا به , واستدعى ابنه محمد , وهو طفلٌ ابن ثلاثة أعوام , فوصله بثلاثة آلاف دينار , وألطافٍ قيمتها ما يناهز العدد المسمّى .....
وليس ذلك من أفعال المنصور ببدع , فقد كان فى حسن معاملته للناس والوفاء لهم بمنزلةٍ لا يقوم بوصفها كتابٌ , حتى يُقال إنه لا يأتى الزمان بمثله فى فضله , ولا طفرت الأيدى بشكله ... ) انتهى كلام النباهى
الله أكبر , أرأيتم كيف يكون معاملة الحاكم والأمير للعلماء , فلا ينكرون فضلهم ولا يستغنون عن مشورتهم بل ويمتثلون أمرهم , وبهذا يكون النصر والتمكين ....
وايضا فيما ورد عن دينه وتواضعه ما ذكره ايضا النباهى فى كتابه "المرقبة العليا" فى ترجمة الإمام محمد بن يبقى بن زرب عند صلاة الاستسقاء فى قرطبة , وأخبر أنه صلى 10 مرات صلاة الاستسقاء فحضر معه مرة المنصور بن أبى عامر فكان من أمره ما ذكره النباهى فى كتابه :
( حضر معهم المنصور محمد بن أبى عامر استسقاءاً واحداً , ولبوسه ثيابٌ بيضٌ وعلى رأسه أُقرُفُ وشْىٍ أغبر , على شكل أهل المصايب بالأندلس قديماً , قد أبدى الخشوع , وهو باكٍ ودموعه تسيل على لحيته : فتقدم الى جناح المحراب عن يمين الإمام , وقد كان فُرش له هنالك حصيرٌ ليُصلّى عليه , فدفعه برجله وأمر بنزعه وجلس على الأرض , وشهد الاستسقاء !!! ) انتهى كلام النباهى
الله أكبر , هذه والله هى العزة والكرامة , فإذا خشع الحاكم والأمير استجلب معه رحمات الله , كما قال الإمام المنذر بن سعيد حين أخبروه بأن الخليفة عبد الرحمن الناصر يبكى بكاء مريرا من الخشوع والخشية ويبتهل الى الله بنزول المطر , فقال المنذر بن سعيد – رحمه الله - : أبشروا .. اذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء !!
جامع قرطبة فى اسبانيا , وقد بنيت بداخله كاتدرائية للنصارى وتحول الباقى الى متحف !!
وقد أخبر ابن حيان فى كتابه عن المنصور بن أبى عامر :
( وكان متسماً بصحه باطنه , واعترافه بذنبه , وخوفه من ربه , وكثرة جهاده ,واذا ذُكّر بالله ذكر , واذا خُوّف من عقابه ازدجر ... )
وقال ابن خلدون مخبرا عن المنصور بن أبى عامر :
( أرخص للجند فى العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع , وكان ذا عقل ورأى وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين .. )
هكذا كان حكامنا وعلاقتهم مع الله , وما ارتبط اسم أحد من عظماء المسلمين بالعزة والمجد إلا ووجدته له حال عجيب مع الله سبحانه وتعالى , وهذا من سنن الله فى الكون , من استمسك بالله وجبت له العزة والتمكين .
بل أن المنصور – رحمه الله – اختط بيده مصحفاً كان يحمله معه فى غزواته ويقرأ فيه ويتبرك به !!! , وكان يحمل معه أكفانه وكان أمنيته التى يدعوا الله بها دائما أن يتوفاه الله وهو فى طريقه للغزو والجهاد !! , والحديث عن جهاد المنصور يطول جدا لذا قمت بإختصاره كما سيأتى إن شاء الله ...
وكان المنصور بن أبى عامر على مذهب الإمام مالك على عادة أهل الأندلس وقتها وقد أمر المنصور الفقيه المشهور أبو مروان القرشى المعيْطى والفقيه أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوى أن يجمعوا كتابا فيه أقاويل الإمام مالك بن أنس – رضى الله عنه - وروايات أصحابه عنه لينتفع به علماء المسلمين !!
وذكر ابن سماك العاملى فى كتابه "الزهرات المنثورة" , وذكرها ابن الآبار فى "إعتاب الكتاب" وغيرهما , قال خلف بن حسين بن حيان , وهو والد أبى مروان ابن حيان صاحب كتاب "نفح الطيب" وكان أبوه من كتاب المنصور بن أبى عامر , فأخبر عن نفسه وقال :
( بكّتنى المنصور محمد بن أبى عامر يوماً على ما أنكره منى تبكيتاً بعث من فزعى ما اضطربت منه , فلما أخلى مجلسه قال لى :
رأيت من فزعك وشدة روعك ما استنكرته منك , ومن وثق بالله برىء من الحول والقوة لله , وإنما أنا آلة من آلات الله تعالى , أتصرف بمشيئته وأسطو بقدرته وأعفو عن إذنه , ولا أملك لنفسى إلا ما أملك من نفسى لسواى , فطأمن جأشك وأزل عنك روعك , فإنما أنا ابن امرأة من تميم طالما تقوتت بثمن غزلها , أغدو به الى السوق وأنا أفرح الناس بمكانه , ثم جاء من أمر الله ما تراه , ثم قال : يابن حيان , إن أفضل الناس غراسا من غرس الخير , وإن أفضل السلطان غراسا ما أثمر فى الآخرة , ومن أنا عند الله تعالى لولا عطفى على المستضعف المظلوم وقصمى للجبار الغشوم اللاهى عن حقوق ربه بفسوقه ودنسه ..
هكذا كان تواضعه واعترافه بفضل ربه عليه ... !!!
أما عن عدله فى الرعية :-
كان رحمه الله عادلاً يكره الظلم والبغى , وكان لا يستهين بأمر الظالم , بل لربما أمر بتغليظ العقوبة عليه ليرتدع أهل الشرور وكان لا يقبل شفاعة أحد أبداً ولو كان من المقربين اليه , بل وإن كان من أهله ... !!
ومن أروع الأمثلة التى ضربها المنصور بن أبى عامر فى العدل وعدم الرفق بأهل الغدر والظلم , ما حدث مع ابنه عبد الله بن المنصور بن أبى عامر حين لجأ الى ملك ليون وأراد أن يساعده فى الخروج على أبيه وشق عصا الطاعة وعزل أبيه , فكان ماكان من المنصور إلا أن أمر ملك ليون بتسليم ابنه , فسلمه ابنه عبد الله , وقام بضرب عنقه جزاء خيانته , ولم تأخذه به رأفة ولا رحمة !!!!
وله بذلك القصص المشهورة والأحاديث المنثورة التى سارت بها الركبان وتسامر بها الرجال فى مجالسهم , ومنها ما ذكره ابن حيان فى كتابه :
( وأما عن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة بمجلسه , فنادى : ياناصر الحق , إن لى مظلمة عند ذلك الوصيف الذى على رأسك , وأشار الى الفتى صاحب الدرقة , وكان من المقربين الى المنصور بن أبى عامر , ثم قال : وقد دعوته الى الحاكم فلم يأتِ – لمكانته عند المنصور - , فقال له المنصور وقد اشتد غضبه :
أوَ عبد الرحمن بن فطيس – القاضى - بهذا العجز والمهانة !! , وكنا نظنّه أمضى من ذلك ؟ ثم وجه كلامه للقاضى وقال له :يا عبد الرحمن , أعجزت أن تأخذ العدل , أوَ كنت مهانا فلم تصل اليه !! , ثم قال للمظلوم : اذكر مظلمتك ياهذا , فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نَصَفٍ , فقال المنصور :
ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية , ثن نظر الى الصقلبىّ وقد ذُهل عقله – أى الفتى – فقال له : ادفع الدرقة الى فلان , وانزل صاغرا – ذليلا – وساو خصمك فى مقامه حتى يرفعك الحق او يضعك !!
ففعل ومثل بين يديه , ثم قال لصاحب شرطته الخاص به : خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدمه مع خصمه الى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره ..
ففعل ذلك , وعاد الرجل اليه شاكراً , فقال له المنصور : قد انتصف أنت , اذهب لسبيلك , وبقى انتصافى أنا ممن تهاون بمنزلتى .. فتناول الصقلبىّ بأنواع من المذلة , وأبعده عن الخدمة ... ) انتهى كلام ابن حيان
دينار ضرب عام 377 في عهد الحاجب المنصور
ومن ذلك أيضا ما رواه ابن حيان فى كتابه :
( ومن ذلك قصة فتاه الكبير المعروف "بالبورقى" – اسم الفتى – مع التاجر المغربى , فإنهما تنازعا فى خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور , وهو يومئذ أكبر خدم المنصور , واليه أمر داره وحرمه , فدافع الحاكم وظن أن جاهه يمنع من إحلافه ..
فصرخ التاجر بالمنصور فى طريقه الى الجامع متظلما من الفتى , فوكل به فى الوقت من حمله الى الحاكم , فأنصفه منه , وسخط عليه المنصور , وقبض نعمته منه ونفاه .. ) انتهى كلام ابن حيان
ومواقف المنصور بن أبى عامر فى عدله كثيرة ولكن أكتفى بما ذكرته آنفا , حتى لا أطيل ...
( يتبع)