العودة   شبكة صدفة > المنتديات العامة > ابحاث علميه و دراسات

ابحاث علميه و دراسات Research , analysis, funding and data for the academic research and policy community , ابحاث , مواضيع للطلبة والطالبات،أبحاث عامة ،بحوث تربوية جاهزة ،مكتبة دراسية، مناهج تعليم متوسط ثانوي ابتدائي ، أبحاث طبية ،اختبارات، مواد دراسيه , عروض بوربوينت

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 06-09-2011, 03:36 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة


الفصل التاسع
(1977/ 1978)
فتــرة الاستســلام

أولاً ـ انعقاد المجموعة الاستشارية الأولى (إعلان الاستسلام في الجبهة الاقتصادية):
(1) عودة إلى أحداث كانون الثاني/ يناير ـ خلفياتها ونتائجها:
عودة واستطرادًا حول ما حدث في كانون الثاني/ يناير، نذكر بأن المباحثات السرية بين صندوق النقد والمجموعة الاقتصادية، كانت قد أسفرت عن إذعان الحكومة لمعظم المطالب، أو عن قبول إحداث تغيير حاسم في السياسة الاقتصادية، وفي إدارتها لقاء اتفاق مساندة من الصندوق، وانعكس هذا الإذعان أولاً في مشروع الموازنة الذي قدم إلى مجلس الشعب متأخرًا عن موعده. وفي اجتماع الهيئة البرلمانية لحزب مصر لمناقشة الإجراءات المالية المطلوبة (16 كانون الثاني/ يناير) عرض الأمر بطريقة غامضة (1)، والإعلان الأفصح تحت قبة مجلس الشعب (17 كانون الثاني/ يناير) كان مفاجئًا للجميع.
في البداية، تحدَّث القيسوني أمام مجلس الشعب، وقال إنه لا بد من مواجهة المشكلة الاقتصادية مواجهة تامة، وحدد برنامج العمل للمجموعة الاقتصادية في خطوات متتالية على النحو التالي (2):
ضرورة العمل على موازنة الموازنة العامة بقدر الإمكان؛ لتفادي القوى التضخُمية التي تؤثر على الأسعار.
ضرورة الاتجاه نحو موازنة الموازنة النقدية بقدر الإمكان، وهذا الأمر بالغ الصعوبة، وكل ما يمكن عمله في سنة 1977، هو البدء في هذا الاتجاه.
- ضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
- ضرورة الاتفاق مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
- عمل بعض الإصلاحات الاقتصادية الداخلية ـ كإصلاح النظام الضريبي، خصوصًا فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وتفادي التهرب من الضرائب وإصلاح نظام الجمارك.
- العمل أيضًا على إدخال التعديلات اللازمة على قانون الإسكان أو قانون الإيجارات العقارية؛ بحيث تتمشى الإيجارات مع مستوى الدخل الذي ينتظره المستثمر من استثماراته.
- إدخال الإصلاحات اللازمة على قانون استثمار المال العربي والأجنبي.
- زيارة الدول العربية، وخاصة الدول التي كونت هيئة الخليج؛ لشرح أن علاج المشاكل الاقتصادية لا يمكن أن يتم جزءًا جزءًا، ولكن يجب أن يكون علاجًا شاملاً.
- التباحُث مع البنك الدولي، ومع الدول التي ستحضر المجموعة الاستشارية، للاتفاق على الترتيبات اللازمة لعقد المجموعة.
- زيارة الولايات المتحدة للتباحث الاقتصادي مع الحكومة الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
- زيارة بعض الدول التي تقدم المساعدات الاقتصادية لمصر، وخاصة ألمانيا الغربية وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، وإيران، واليابان.
وهذا البرنامج، وبترتيب بنوده، واضح الآن أنه كان من إملاء صندوق النقد و(الحكومة الأمريكية بالتالي)؛ فالبندان (1)، (2) كما يتحققان في مشروع الميزانية ـ شرطان ضروريان، ويسبقان التوصل إلى البند (3)، أي خطاب النوايا واتفاق المساندة، وهذا بدوره شرط يسبق البند (4)، أي إعلان سياسة من الحكومة يقبله البنك، وإذا تحققت - على ضوء ذلك - البنود (5)، (6)، (7) يمكن التوصُّل إلى نتائج مع دول الخليج، وحينئذ يكون هناك جدوَى من بدء الاتصالات حول المجموعة الاستشارية، ثم تُعتمد النتائج في واشنطن.
بعد هذا البيان من القيسوني لخط السير، بدأت الخطوة العملية الأولى بالبيان المالي الذي ألقاه وزير المالية (صلاح حامد) (3)، وباسم تقليل العجز في الموازنة العامة، وفي الجوهر؛ لتحرير الأسعار من سيطرة الدولة، أعلن الوزير أن إعانات خفض تكاليف المعيشة، تقرر الهبوط بها من 553.7 مليون جنيه في موازنة 1976 إلى حوالي 276.4 مليون جنيه في موازنة 1977 ( أي كان الهبوط بنسبة 50 بالمائة)(4). وصحيحٌ أن الخفض كان جزئيًّا؛ بسبب انخفاض الأسعار عالميًّا لبعض السلع (وخاصة القمح)، ولكنه كان يعكس أساسًا إلغاء اعتمادات الدعم، لسلع مثل الدقيق والذرة والأرز، والسكر الحر والشاي والبوتاجاز، والآثار المباشرة لمثل هذا القرار على أصحاب الدخل المحدود، وخاصة أصحاب الأجور غير المرنة في الحكومة والقطاع العام، كان لا يمكن أن تُدارَى بأيَّة مناورة؛ ولذا ركزت المعارضة الشعبية، وداخل مجلس الشعب، على هذا الجانب، فأعلن الرئيسُ السادات إلغاء قرار خفض اعتمادات الدعم مساء 18 كانون الثاني/ يناير. إلا أن المقارنة بين الإجراءات المُتَّخذَة في موازنة كانون الثاني/ يناير، وبين مذكرة بول ديكي (راجع ـ الفصل الثامن) تظل تُشير إلى أن الجانب المصري أذعن في المباحثات لأغلب المطالب، وليس لكل المطالب. فقد ألحَّت مذكرة ديكي على إلغاء قائمة الدعم بأكملها؛ بحُجة أن الاقتصار في معونات الدعم على الخبز والدقيق (الذي يهبط باعتمادات الدعم إلى حوالي 250 مليون جنيه)
لا يحقق الخفضَ المطلوب في الإنفاق العام. ولكن حدث في المباحثات أن قبل الصندوق قدرًا من التدرُّج في إلغاء الدعم. وهذا هو مفهوم ومنطق المباحثات مع الصندوق؛ فالصندوق لا يتنازل عن هدف التغيير الجوهري للسياسات الاقتصادية المصرية على نحو عاجل، (بل وفي عام 1977 بالتحديد، بعد أن أفلت منه عام 1976)، ولكنه على استعداد لإبداء بعض المرونة في هذا الإطار. وقد أجبرته الهَبَّةُ الجماهيرية في كانون الثاني/ يناير على تراجع كبير نسبيًّا، حين قبل تأجيل خفض اعتمادات الدعم (المباشر) لمدة سنة على الأقل. ولكن كان الأمر مختلفًا في جبهة سعر الصرف.
كانت مذكرة ديكي تُطالب بالتنفيذ الفوري لإجراءات الخفض الفعلي لسعر الصرف ـ أي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1976 ـ ودعم هذا الاتجاه بمطلب معاملة المستثمرين الأجانب في تحويلاتهم (فورًا) بمستوَى السوق الموازية، بل أكد الصندوق - في هذه النقطة - أنه "إذا ثبت أن ذلك صعبٌ، فإن هذا العامل وحده، يقودني إلى استنتاج أن خفض السعر الرسمي جملة وفَورًا - أمرٌ حتمي". وقد قبل الصندوق تأجيل تنفيذ هذا المطلب إلى بداية العام الجديد؛ بسبب ظروف الانتخابات لمجلس الشعب؛ وانتظارًا للتعديل الوزاري بما يتضمنه من تشكيل قيادة اقتصادية جديدة (أكثر تفاهمًا). وتم الاتفاق فعلاً مع هذه القيادة الجديدة على الإجراءات المطلوبة وعلى مراحل التنفيذ خلال العام (1977)، وانعكس هذا مباشرة في الموازنات المُعلنة في كانون الثاني/ يناير، ولكن تمكَّن الصندوقُ ـ بالتعاون مع الحكومة ـ من مغافلة الجميع عن هذا الجانب من الاتفاق، أي عن قرار التوسُّع في استخدام السعر التشجيعي، وهذا القرار كان خطوة حاسمة نحو التخفيض الفعلي لسعر الصرف الرسمي، وأثره على الأسعار المحلية، لم يكنْ أقل من قرار خفض الدعم المباشر. وتحققت المغافلة بطريقة سهلة؛ إذ عمدت الحكومةُ ببساطة إلى إخفاء الموضوع في البيانات والتصريحات المُعلَنة؛ ففي البيان المالي أشير إلى الموضوع في جملة عابرة، بمناسبة الحديث عن زيادة إيرادات الجمارك (ضمن الحديث عن الزيادة العامة المتوقعة في الإيرادات السيادية)، فقيل: إن من أسباب زيادة الجمارك، "معاملة بعض السلع على أساس الأسعار التشجيعية، بدلاً من الأسعار الرسميَّة".
وحين تحدَّث القيسوني ـ بعد عدوله عن الاستقالة ـ قال إنه لا يرى بديلاً للإجراءات المُلغاة، وشرح - باستفاضةٍ- رؤيته للمشاكل الاقتصادية، والقرارات المطلوبة، ولكنه أسقط أي ذكر لحكاية التوسع في استخدام السعر التشجيعي (5). ونفس الموقف تكرر في بيان ممدوح سالم بعد عشرة أيام من الهبَّة الشعبيَّة العارمة، فبعد حديثه عن الأسباب الداعية للإجراءات "التي نبعت من أفكار كبار الاقتصاديين المصريين، مع أفكار الاقتصاديين الدوليين"، عدد "الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، وترتب عليها زيادةُ أسعار بعض السلع" فقال إنها:
- زيادة الضريبة الجُمركية على بعض الواردات.
- زيادة رسوم الإنتاج على بعض المنتجات المحلية وزيادة رسوم الاستهلاك على مثيلات هذه المنتجات المستوردة من الخارج.
- رفع الدعم أو تخفيضه عن بعض السلع" (6).
ولم يذكر بكلمة صريحة، إجراء التوسع في استخدام السعر التشجيعي (رغم إشارته الملتوية إلى الفكرة). وقد انعكس هذا التجهيلُ في صياغة الاستجوابات التي قدمتها المعارضة في مجلس الشعب، حول إجراءات كانون الثاني/ يناير 1977 لرفع الأسعار؛ فمقدمو الاستجوابات ـ على علمهم واتصالاتهم ـ لم يتوصلوا إلى هذا السر الذي أخفته السلطات، فلم يتناوله واحدٌ منهم في استجوابه (7)، وبالتالي نجحت الحكومة في حماية هذا القسم من إجراءات الصندوق.
فقط انكشف السرُّ في 22 شباط/ فبراير حين سجلت لجنة الخطة والموازنة في تقريرها "أن الموازنة النقدية (التي
لا تنشر عادة) لعام 1977 تُشير إلى زيادة حجم الواردات الممولة بالسعر التشجيعي زيادة كبيرة، فبلغ هذا الحجم نحو 950 مليون جنيه" (8)، فأُسقِط في يد الحكومة، وكان على القيسوني أن يرد بعد انكشاف المستور، فبدأ بتجريح كاتب التقرير (أحمد أبو إسماعيل) وقال: "إن الحكومة الحالية
لا دخل لها بموضوع السعر التشجيعي، ويجب أن نعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وكلَّ ذي فضلٍ فضلَه.
فقد بدأ تطبيقُ السعر التشجيعي اعتبارًا من شهر نيسان/ أبريل 1976، وقد كان السيد الدكتور أحمد أبو إسماعيل رئيس لجنة الخطة والموازنة - أولَ من وافق على السعر التشجيعي (حين كان وزيرًا للمالية) وأول من حول الواردات من السعر الرسمي، إلى السعر التشجيعي في حدود 25 % من الواردات، بل إنه عزز هذا العمل؛ بأن فرض الجمارك على الواردات بالسعر التشجيعي أيضًا".
واعترف القيسوني ـ بعد هذا التقريع ـ بأن الواردات المحولة إلى السعر التشجيعي في عام 1977 كانت تبلغ 986 مليون جنيه (أي أكثر أيضًا مما جاء في الموازنة النقدية)، وبالتالي تكون الحكومة قد أضافت نحو 500
أو 580 مليون جنيه إلى ما سبق تقريره في العام السابق. ولم يشر القيسوني طبعًا إلى علاقة صندوق النقد بقرارات
أبي إسماعيل، أو بقراراته هو. كذلك التزم أبو إسماعيل الصمت في هذه النقطة. والحقيقة أن الإضافات المقررة عام 1977، كانت في الحدود التي طالبت بها مذكرة ديكي؛ لكي تنفذ في أواخر 1976، ورفضها مسئولو القطاع الاقتصادي في ذلك الوقت؛ لأن شريحة الواردات المحولة للسوق الموازية عام 1976 اقتصرت على واردات ممولة بتسهيلات ائتمانية، وعلى استثمارات طويلة الأجل، وبالتالي لا يظهر أثر تمويل استيرادها بالسعر التشجيعي على مستوى الأسعار في السوق المحلية في وقت قصير. والشريحة الثانية التي رفضت في أواخر 1976، ونفذت عام 1977، كانت مكوناتها تختلف. وصافي أثر هذه الشريحة الثانية على الأسعار خلال عام 1977 قدر وقتها بحوالي 403 مليون جنيه، وحاولت الحكومةُ التخفيفَ من أثر هذه الزيادات السعرية، فرصدت مبلغ 224 مليون جنيه لمواجهتها. وهذا التكتيك أصبح تقليدًا لتمرير ارتفاع الأسعار بتدرج يغافل المستهلك، واعتمادات صندوق موازنة الأسعار هذا،
لا تغطي إلا جزءًا من الزيادة السعرية (وتبقى زيادات سعرية حوالي 180 مليون جنيه). وإلى جانب ذلك، فإن الصندوق أجله سنة. أي بعد السنة يتحمل المستهلك الزيادة السعرية كاملة (9).
ج ـ المهم أوضحت مناقشات 22 شباط/ فبراير ـ لأول مرة ـ أن هناك طريقًا سريًّا آخر لرفع الأسعار، لم تكشفه ولم تغلقْه هبَّةُ كانون الثاني/ يناير، وأشارت المناقشات كذلك إلى أن هذه القفزة في استخدام السعر التشجيعي، وضعتنا على حافة القرار لتخفيض السعر الرسمي للجنيه، وفي وقت غير مواتٍ اقتصاديًّا، واعترف القيسوني بعد ثلاثة أشهر بخطورة هذه النقطة، فقال إنه "عندما نتكلم عن موضوع السعر التشجيعي، فربما تكون هذه أسوأ نقطة في خطاب النوايا" (10).
ولكن مناقشات الموازنة، كانت بعد "قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 2 لسنة 1977 بمناسبة أحداث الشغب" (11)، الذي أحال كل همسة اعتراض، إلى جريمة تستحقُ الأشغال الشاقة، وبعد الحملة المكثفة ضد أي معارض، باعتباره من المخربين و"الحرامية" والملاحدة.. إلخ، وساعد هذا، على أن تمر المسألة بسلام، وقد نُضيف سببًا آخر، يتعلق بالقضايا النقدية وسعر الصرف، وما أشبه، التي نجحت إحاطتُها بالغموض، وطُمِست روابطُها الطبيعية بباقي المتغيرات الاقتصادية (والسياسية)؛ بحيث بدت من المسائل التي ينبغي ألا يخوض فيها إلا خاصةُ الخاصة، وقد استخدم هذا الضباب والتجهيل بعد ذلك وبانتظام؛ لإحكام سيطرة صندوق النقد وسياساته على القطاع الخارجي، وأصبح التركيز على "تحرير" الأسعار يأتي من جبْهة سعر الصرف، أكثر منه عن طريق التعرض لاعتمادات الدعم "المباشر"، أو كمدخل للوصول إلى الدعم المباشر. وعلى كلٍّ، لم تكن الحكومة مستعدةً (حتى منتصف شباط/ فبراير) لأي تراجع عن قرارها في جبهة سعر الصرف؛ لأن الصندوق لم يكن ليسمح بذلك، بعد أن أصدر هو التعليمات الجديدة. وقد لاحظنا كيف أن القيسوني وأبا إسماعيل (احترامًا لأصول وآداب اللعبة) تجنبًا أيَّة إشارة لدور الصندوق في إملاء القرارات، وتمشيًّا مع الأصول نفسها والآداب؛ أصبحت أيَّة ملاحظة حول صندوق النقد أو البنك الدولي،تُصيب ممثلي الحكومة المصرية بأشد الانزعاج؛ فحين تعرَّض حلمي مراد ومحمود القاضي ـ أثناء مناقشة الميزانية العامة المعدلة ـ للصندوق والبنك بشكل عابر، كان ملحوظًا مدى الذعر الذي أصاب الحكومة، رغم أن المتحدثَين أشارا فقط، وبلباقة شديدة، إلى أنَّ مُقترحات الهيئات الدولية قد لا تكون كلها صحيحة، وأنها قابلة للنِّقاش.
على أيَّة حال، ينبغي أن نُشير ـ بقدر المعلومات المحدودة المتاحة ـ إلى ما حدث من اتصالات ومساومات خلف الكواليس في الفترة من 18 كانون الثاني/ يناير حتى عرض الميزانية المعدلة على مجلس الشعب، ويمكننا على ضوء هذه المعلومات أن نشهد للجماهير المصرية أنها كسرت في انتفاضَتها حدة الهجوم الخارجي، وأربكت بعضَ الترتيبات التي كانت مُعدَّة للتنفيذ بعد إجراءات الموازنة (والتي عددناها على لسان القيسوني). فبدلاً من زيارة المسئولين المصريين لدول الخليج ثُم واشنطن، أسرع مسئولو الخليج إلى زيارة القاهرة، فبدأت الاتصالات مع المملكة العربية السعودية منذ اللحظات الأولى للأحداث، ونتيجة لهذه الاتصالات؛ تمت زيارة سرية لمصر على مستوى عالٍ(12)، كذلك تمت اتصالات مباشرة مع كبار المسئولين في الولايات المتحدة (تقلد كارتر مهام منصبه رسميًّا في 20 كانون الثاني/ يناير).
لقد أفزعت الغضبةُ الجماهيرية العارمة كل أصحاب ومؤيدي الخط الأمريكي، وطلبت القيادة المصرية من كل هذه الجهات التزامًا بدعم سياسي واقتصادي مناسب. وتمثلت الاستجابات الأولى في سماح هيئة الخليج ببدء استخدام قرضها الأول (250 مليون دولار)، وبالنسبة للصندوق، أبرَق ويتيفين (رئيسُ مجلس المديرين) بموافقته على تراجع الحكومة عن بعض الإجراءات، وحين وصل جون جنتر للقاهرة، تضمن تقريره إلى القيسوني تأكيدًا جديدًا بأن الصندوق يكتفي مؤقتًا بالقرارات التي لم يشملها الإلغاء (13). ولم تكن قليلة، فبالإضافة إلى مسألة إدخال بقية مستلزمات الإنتاج إلى السوق الموازية (بحيث لا تبقى خارج السوق الموازية إلى السلع التموينية الضروريَّة)، كان قد تم رفع سعر الفائدة 1 % مع إعفاء فوائد المدخرات من الضرائب التي تشكل 40 % من قيمة هذه الفوائد. وبالنسبة للميزانية العامة، أقرَّت بعثة الصندوق الميزانيةَ المعدلة، التي ظلت تحتفظ بخفض ملموس في اعتمادات الدعم المباشر للأسعار؛ حيث هبطت إلى 380 مليون جنيه مقابل حوالي 550 مليون في ميزانية 1976؛ فقد أُلغِي دعمُ الاستهلاك المحلي من القطن (56 مليون جنيه)، وظلت سارية قرارات الرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج على السلع الكمالية، وزيادة رسوم التمغة (الحصيلة المتوقعة 60 مليون جنيه)، ومن ناحية أخرى، أُلغيت الضريبةُ على القيم المنقولة، ورسوم الاستيراد على السلع الرأسمالية ومواد البناء، وكان صافي هذه الإجراءات يؤدي إلى تحسن في الميزانية بحوالي 100 مليون جنيه، وتمثل 40 % من عائد الإجراءات التي خُطط لها أصلاً، ويُضاف إلى هذا ارتفاعُ الرسوم الجمركية؛ نتيجة لزيادة تحويل الواردات إلى السوق الموازية (14).
ولم تستغرق مباحثات جنتر وقتًا طويلاً، لكي يعلن في 23 كانون الثاني/ يناير أن بعثة الصندوق وافقت مبدئيًّا- على تقديم اتفاق مساندة، يتضمن تقديم تسهيل ائتماني 140 مليون دولار، في حالة إثبات الحكومة لجديتها في مواصلة "برنامج التثبيت الاقتصاديّ"، بالمعدلات والترتيبات الجديدة التي أقرها الصندوق.
ولكن يبدو لنا الآن، أن هذه الاستجابات المحدودة كانت خلف البيان الصادر عن اجتماع السادات مع رؤساء المؤسسات الرسمية (23 كانون الثاني/ يناير)؛ فالبيان كان تحليلاً متوازنًا إلى حد بعيد، وأوضح أن حدوث ردود فعل بالنسبة للقرارات الاقتصادية، كان أمرًا طبَعيًّا لما تمثله من أعباء على الشعب، وأهم من ذلك، أن البيان قال إن "مصلحة البلاد العليا، والخروج من الأزمة الاقتصادية، يقتضي حلاً جذريًّا شاملاً، وليس عودة إلى الحلول الجزئية والوقتية". وكانت هذه العبارة ـ في تقديرنا ـ إشارة إلى ضرورة أن تحث الولايات المتحدة هيئةَ الخليج، على التحرك السريع لمواجهة أزمة الإعسار على نحو حاسم. ونتصور أن مضمون هذه الرسالة العلنية إلى الأطراف المعنيَّة، تناولته بتحديد أكثر الاتصالات السرية، وأجَّل الرئيسُ السادات بعد ذلك خطابه العام حول الأحداث، وأُشيع وقتها (على لسان من يعلمون) أن الرئيس يتجه إلى تعديلات هامة في السياسة الاقتصادية (وفي السياسة العامة)؛ حتى يتمكَّن من مواجهة الأزمة (15)؛ ولذا كان خطاب 3 شباط/ فبراير مباغتًا في مضمونه وحِدَّته وقراراته، وبدأ وصف التحرك الشعبي (الذي كان طَبَعيًّا في البيان الأول) بأنه "انتفاضة حرامية"، وقال الخطاب إن كل التطورات السابقة على 15 أيار/ مايو، كانت تحت سيطرة الشيوعيين والسوفييت (الميثاق كان ماركسيًّا أيام علي صبري ـ والشيوعيون وصلوا إلى المراكز الهامة في السلطة ـ السفير السوفييتي ارتدى رداء المندوب السامي، بعد أن سيطر الشيوعيون على الداخلية والجيش). وهاجم الخطاب المواقفَ النقدية في الصحافة، وأثناء المعركة الانتخابية، وأضاف أن الشيوعيين يسعون من خلال حزب التجمع للوثوب على السلطة. ثم أعلن في الختام عن استفتاء عام، حول عدد من القرارات أفزعت كل الفئات، ولكن كان مفهومًا أنها موجهة في الأساس إلى المعارضة الشعبية. وليس مجرد استنتاج أن نقول إن هذا الخط ـ الذي بدا للبعض مفاجئًا ـ كان على صلة بالوعود التي أسفرت عنها الاتصالات المُكثَّفة، ولا ندري طبيعة الوعود التي قدمت في هذه الفترة الحرِجة.
ولكنْ لوحظ تواصلُ الاتصالات خلال شهر شباط/ فبراير وما بعده. وبدأت اللقاءاتُ المُعلنة بزيارة فانس (وزير الخارجية الأمريكي الجديد) للقاهرة ضِمْن جولته في الشرق الأوسط، ولم يبدُ أثر الاتصالات في تيسيرات جديدة بالميزانية العامة (كما سبق أن أشرنا)، ولكن وصل عدد من مسئولي القطاع الاقتصادي والمالي في دول الخليج، واستُؤنِفت المباحثاتُ مع بعثة صندوق النقد؛ للبحث عن حلول جذرية لقضية الديون المصرية. وتواصلت الجهود وانتهت إلى نتائجَ حاسمة فعلاً كما سيجيء.
(2) جبهة الصِّراع العربي الإسرائيلي:
و... نعود بعد هذا إلى تطورات الصراع المصري الإسرائيلي:
أ- قلنا إن القيادة المصرية بدأت تستعد للتعامل ـ بتوجس وحذر ـ مع الرئيس الأمريكي الجديد جيمي كارتر. واستوقف المراقبين الغربيين أيامها أن الرئيس السادات كان يعبر بثقة عن توقعه لتحرك أمريكي نشِط، وكان يصف عام 1977، بنفس ما سبق أن وصف به كلاً من عامي 1974، 1975، فقال إنه عام الحل الشامل وتحقيق السلام. وقد عبَّر أحدُهم أمام الرئيس عن دهشته من هذا التفاؤل، وتساءل: "أنتم تقولون إن كل شيء يتجه نحو استئناف الولايات المتحدة لدورها في إقرار السلام، وقد قال كارتر - بالتحديد- إنه لن يكون مستعدًا لأنْ يتقبل ضغطًا باتجاه عمل أي شيء لا يريد هو أن يفعله. فهل تلقيت أية معلومات تدل على أن الولايات المتحدة، أو أن مستر كارتر، مستعدٌ لأنْ يتحرك بسرعة عندما يتسلَّم مهام منصبه؟؟. وكانت الإجابة: "مطلقًا.. ثم إنني لا أحاول دفع الرجل أو أستعجله" (16).
ولكن ضمن إجراءات الإعداد للتعامل مع كارتر، واصلت القاهرة إسهامها النشيط في الاتصالات والتنسيق مع الأطراف العربية المعنية. في 14 كانون الثاني/ يناير (قُبَيل الأحداث العنيفة مباشرة) كانت محادثات الرئيس السادات مع الملك حسين قد بدأت في أسوان. وصرَّح إسماعيل فهمي أنها بهدف التنسيق بين دول المواجهة ومع الفلَسطينيين، في إطار الاستراتيجية العربية، ودفع الأطراف للذهاب إلى جنيف والبدء بطريقة عملية لحل المُشكلة (17).
ب ـ وأدت أحداث كانون الثاني/ يناير إلى وقف الاتصالات، وقد نَفترض أن الاتصالات السرية التي تلت الأحداث، تناولت أيضًا قضية الشرق الأوسط. وعلى كلٍّ، حدث أن أعلن كارتر في أول كلمة وجهها إلى الأمة (18 شاط/ فبراير) أنه يعتزم إيفاد فانس إلى الشرق الأوسط؛ بهدف إيجاد الطُّرق الكفيلة بتحقيق سلْم حقيقي. وبعد محادثات فانس في القاهرة، تأكد أن تصورات الإدارة الأمريكية عن الحل الشامل بعيدة جدًا عن مفاهيم الساعين إلى حل أمريكي. أيضًا أوضحت الولايات المتحدة أنها ضد توقعات عقد مؤتمر جنيف قبل آذار/ مارس، بل وأوضحت أنها لا ترحب بصيغة جنيف. فبالنسبة للموعد، صرح فانس بأنه لا بد من انتظار الانتخابات الإسرائيلية، وبالتالي
لا يمكن أن ينعقدَ مؤتمر جنيف قبل أيار/ مايو. ولم يكن الموقف الأمريكي طبعًا مجرد اقتراح، كان قرارًا؛ ولذا أُعلِن أن كارتر رتب سلسلة من اللقاءات مع القادة العرب والإسرائيليين، تمتد حتى آخر أيار/ مايو، ولم يكن ممكنًا أن يبدأ تحرك نشط قبل انتهاء هذه اللقاءات. وبالنسبة لفكرة مؤتمر جنيف نفسها، صرَّح فانس بأنه يقترح عقد مؤتمر في النصف الثاني من عام 1977 على نمط جنيف؛ إذ "لا بد أن يكون هناك اتفاقٌ يسبق انعقاد المؤتمر فيما يتعلق باشتراك أطراف فيه، بمعنى من يحضره (يقصد مشكلة تمثيل الفلسطينيين) وهذا موضوع إجرائي، ثم يتم إرسال الدعوات وتحضره بعهد ذلك جميع الأطراف". والحقيقة أن الموضوع لم يكن إجرائيًّا، وإذا تم بحث جوهر النزاع (القضية الفلسطينية) في هذا المؤتمر التحضيري، يكون جنيف مجرد قاعة تشهد التوقيع النهائي. وكان الرئيس السادات مرتبطًا باتفاقات سابقة مع الأطراف العربية حول انتهاج صيغة جنيف للحل الشامل؛ ولذا صرح يومها بأنه لن يتكلم عن هذا الاقتراح الأمريكي، إلا أثناء زيارته للولايات المتحدة (18).
ج ـ انعكست نتائج جولة فانس في تصاعد جهود القاهرة لتنسيق المواقف، فبعد تشكيل القيادة السياسية الموحَّدة بين مصر وسوريا، وقعت وثيقة إعلان تشكيل القيادة السياسية الموحدة بين مصر وسوريا والسودان (28 شباط/ فبراير). ولا شك أن الاهتمام الخاص بالسودان من قِبَل القيادة المصرية كان يرجع ـ في جانب أساسي منه ـ إلى إمكانية تعظيم الدور المصري في أفريقيا والبحر الأحمر. وهذا الدور المُحتمل كان سعيًّا من القيادة السياسية لاجتذاب الاهتمام الأمريكي (9 آذار/ مارس ميثاق القاهرة لتدعيم التعاون السياسي والاقتصادي والمالي بين القارة الأفريقية والعالم العربي. ولكن كانت دول الخليج وعلى رأسها السعودية محط أنظار المُجتمعين).
وكالعادة ظلت الحسابات غير المفهومة في كثير من الأحيان خلف تضارب التصريحات، فتمشيًّا مع السياسة العامة المُعلَنة بعد خطاب شباط/ فبراير، كان طَبَعيًّا أن يصرح الرئيس السادات في آخر شباط/ فبراير بأن "علاقاتنا مع السوفييت متوترة للغاية" (19). ولكن يبدو أن الاتصالات بسوريا، مع نتائج الاتصالات مع الجانب الأمريكي التي
لم تعكس أية تعديلات أو تسهيلات مقبولة سياسيًا واقتصاديًّا، كانت خلف ما قيل في الفترة نفسها عن اتصالات مجددة مع السوفييت. وصرح السادات وهو في طريقه مع الرئيس السوري إلى الخرطوم بأن "الأسد قرر وهو في موسكو في تشرين الأول/ أكتوبر 1972، أن يسافر الوزير المصري إلى موسكو يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر، فنفذت مصر هذا القرار، والرئيس الأسد يعلم أنه يستطيع أن يتخذ في مصرَ أي قرار كما اتخذ في الماضي، فإن سوريا هي القلب النابض دائمًا" (20).
د ـ وشهِد شهر آذار/ مارس توترًا ملحوظًا في علاقات القاهرة ـ واشنطن، فمع محادثات إسحق رابين (رئيس حكومة إسرائيل آنذاك) تتالت تصريحات كارتر التي ميزت بين الحدود القانونية لإسرائيل، وبين خطوط الدفاع لإسرائيل التي يمكن أن تتطابق أو لا تتطابق في المستقبل المرئي مع الحدود القانونية، ويمكن بالتالي أن تمتد خطوط الدفاع الإسرائيلية فيما وراء الحدود الدائمة المعترَف بها؛ بوضع قوات إسرائيلية لبعض الوقت، أو محطات إنذار فيما وراء الحدود الدولية التي يُتفق عليها بين إسرائيلَ وجيرانها. وذكر كارتر أن هناك عناصرَ ثلاثة رئيسَة في حدود البحث عن السلام، هي بالترتيب:
- إنهاء حالة الحرب، وإقامة علاقات طبيعية كاملة.
- مسألة الحدود.
- المسألة الفلسطينية.
ولكنْ لم تلتزم الحكومة الأمريكية بموقف مُحدد، إلا بصدد العنصر الأول؛ فطلبت تحقيقه فورًا، أما النقطتان الأخيرتان، فقالت إنهما متروكتان لما تسفر عنه المفاوضاتُ. ولا شك أن هذا الإفصاح عن التصورات الأمريكية للحل الشامل كان مثبطًا ـ في تلك الأيام ـ لآمال القيادة المصرية؛ فبادر الرئيس السادات إلى رد فوري حاد، بمناسبة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، ويحسُن أن نثبت هنا جزءًا كبيرًا من النص؛ حتى يتضح حجم التنازلات التي تحققت بعد ثمانية أشهر في الأهداف السياسية المُعلَنة.
قال الرئيس السادات (13/ 3/ 1977):
"لقد نسفت حرب أكتوبر التحريرية المجيدةُ نظرياتِ الأمن الإسرائيلية، ولم يعد منطقيًّا أن يعود أحد إلى ترديد هذه النظريات المتساقطة، أو يستخدم المنطق الذي تقوم عليه، وعلى ذلك، فليس من المقبول أن يعود البعضُ إلى الحديث عن الحدود الآمنة ضمن المفاهيم الإسرائيلية، ودعوني أكرر أمامكم، وعلى مسمع من الجميع: إننا لا نقبل التفريط في شبر واحد من أرضنا، وإن التراب الوطني ليس محلاً للمساومة، وإن أي حديث عن تأمين الحدود، يجب أن يتمَّ في إطار التسوية الشاملة التي تُطرح فيها جميعُ جوانب المشكلة، وفي مقدمتها القضيةُ الفلسطينية، كما أن يجب أن يكون منطلقًا من انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية المحتلة، ومن مبدأ احترام السيادة الإقليمية، وعدم جواز ضم الأراضي بالقوة؛ لأننا لسنا بصدد تكريس الاحتلال، ومكافأة المعتدي على عدوانه، بل نحن نتجه إلى انحسار العدوان ليصبح كأنْ لم يكن، غير منتج لأي أثر".
وبالنسبة للقضية الفلسطينية، ولمنظمة التحرير، قال الرئيس السادات أنه "بالرغم من التحديَّات التي واجهتها الثورة الفلسطينيةُ، والمصاعب التي تعرضت لها نتيجة أوضاع معاكسة لا تخفَى على أحد، وبالرغم من السلبيات التي أصابت الحركة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى التعزيز والمساندة، فإن من الحقائق التاريخية التي لا يمكن طمسُها أن ثورتكم استطاعت أن تحافظ على ذاتها، والإبقاء على قدرتها على حماية مصالح جماهير الشعب الفلسطيني، وأهليتها للتعبير عن أحاسيسه، وتعبئة طاقاتها في هذه المرحلة الحاسمة (....) وليس الشعب الفلسطيني مطالبًا بالتخلي عن حقوقه أو تقديم التنازلات، فقد أثبت للعالم أجمع رغبته الصادقة السلام، وحرصه على أن يكون قوة إيجابية بناءة في هذه المنطقة الاستراتيجية".
إن إسرائيل "تحاول استبعاد هذا الشعب من جهود السلام، كما لو كان طرفًا غريبًا يحاول أن يُقحِم نفسَه في المعادلة، هذا قلب للأوضاع لا نَقبله ولا نتسامح فيه.. إن الشعب الفلسطيني، هو صاحب القرار في كل ما يتعلَّق بمصيره وقضيته (....) كما أننا نصرُّ على احترام ما صدر عن هذه الإرادة من قرارات، وفي مقدمتها اختيارُ منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًّا وحيدًا له، ومدافعًا عن حقوقه ومصالحه. إن القرار الإجماعي الذي صدر في مؤتمر القمة في الرباط، هو قرار نهائي لا رجعة فيه، ولا مَساس به، ونحن لا نقبل أي انتقاص منه، بل إن المطلوب في هذه المرحلة من كفاح شعب فلسطين، هو أن نضيف إلى هذا القرار قوة، وأن نجعل فحواه مستقرًا في التعامل الدولي كل يوم؛ لأن في تدعيم منظمة التحرير الفلسطينية تدعيم للجبهة العربية كلها، كما أن في النيل منها ومن مركزها وقدرتها على الحركة إساءة بالغة لقضيتنا الواحدة، (....) وسيظل هذا هو موقفنا على الدوام، أوفياء لشعب فلسطين، وحقه في تقرير مصيره واختيار طريقه دون مُعقِّب"... "وأودُّ أن تطمئِنُّوا جميعًا إلى أن مصر لم تُسقط أيَّ احتمال من حسابها، وأن قواتها المسلحة على أُهْبة الاستعداد للتعامل مع أي موقف؛ فقد وعينا دروس الماضي، كما أننا يقظون لأحداث الحاضر، عازمون على أن يحمل المستقبلُ بين ثناياه للأجيال القادمة من أبنائنا مزيدًا من الطمأنينة والاستقرار".
هذا الكلام العنيف والحاسم، قِيل ردًا على كارتر، وكان طَبَعيًّا أن يواكب التشدُّدَ في موضوعي الانسحاب والحق الفلسطيني، تشددٌ مشابه في موضوع العلاقات الطبيعية، فصرح السادات بأنه لا يمكن أن ينص على العلاقات الدبلوماسية والحدود المفتوحة في اتفاق سلام.. "هذا لم يحدث أبدًا من قبل، ومعنى ذلك هو فرض شروط، وهي نظرية بن جوريون التي يسميها:رض السلام على العرب" والسلام
لا يمكن فرضه" (21). وعاد الرئيسُ إلى تأكيد الموقف نفسِه فقال: إنه عند إنهاء حالة الحرب رسميًّا، تصبح قضايا "الحدود المفتوحة أو التبادل الاقتصادي أو العلاقات الدبلوماسية أو ما أشبه، مسألة سيادة بالنسبة لكل بلد، وإنني لا أعتقد أن أحدًا قد قام بعد أيَّة حرب، بوضع اتفاق سلام، يقضي بأن تبدأ العلاقات الدبلوماسية مع هذا أو ذاك" (22).
ولكن ظلت التحركات المختلفة للقيادة المصريَّة من أجل تحسين موقفها التفاوضي في إطار الحل الأمريكي، وأوضح الرئيس مثلاً ـ بعد خطابه الحاد أمام المجلس الوطني الفلسطيني مباشرة، أنه "على استعداد للقاء مع بريجنيف، بشرط الإعداد لهذا اللقاء، ونحن لا نريد الإساءة إلى الاتحاد السوفيتي، ولكننا ننطلق من حقيقة قائمة هي أن أمريكا تملك 99 % من أوراق اللعبة" (23). وخطا كارتر من ناحيته خطوة تقرِّبه من الجانب العربي، حين أعلن ـ بعد تصريحاته السابقة ـ وفي اجتماع عام، أنه من الضروري أن يكون للشعب الفلسطيني وطنٌ قومي، وأن المشكلة الفلسطينية هي مركز التسوية النهائية لأزمة الشرق الأوسط (17 آذار/ مارس). وزاد من أهمية التصريح أنه كان بمثابة رسالة تحية إلى المجلس الوطني الفلسطيني المُنعقِد في القاهرة.
هـ ـ مع الاقتراب من موعد اللقاء مع كارتر (3 نيسان/ أبريل)، كان الموقف الإسرائيلي واضح التشدد، والتحرشات اليمينية بمساعدة إسرائيل لا تنقطع في لبنان، والتوتُّر حاد بين ليبيا وتونس من ناحية، وبين ليبيا ومصر من ناحية ثانية، والانقسام في جبهة الأوبيك - بسبب رفض السعودية رفع سعر النفط - لا زال فعالاً، وداخل مصر.. كان الضغط الاقتصادي متصاعدًا لفرض الخضوع.. وكانت الإدارة الأمريكية ـ التي تقف خلف كل هذا ـ تتحرك بتثاقل، وتطرح تصورات غير مطمئنة للأطراف العربية المعنيَّة، فهل تضمنت الاتصالات السرية بين القاهرة وواشنطن، شيئًا آخر؟ كانت أسئلة الصحفيين الغربيين في تلك الأيام (وبينهم صهاينة طبعًا) تسعى لالتقاط أية معلومات حول هذا، خاصة مع مظهر التفاؤل الذي بدا به الرئيس. كانت الأسئلة على سبيل المثال:
س: إن ضخامة الخلافات التي تباعد بين سيادتك وبين إسرائيل، تدعونا إلى أن نسألك كيف تفسر تفاؤلك؟
س: هل تبدو الظروف مشجعةً للرئيس، بحيث يقرر وجود تطور إيجابي في الموقف الأمريكي تجاه النزاع؟
س: هل يمكنك يا سيادة الرئيس، أن تشرح لنا - بمزيد من الوضوح - رأي كارتر الذي يقولك يجبُ أن تجري تعديلات طفيفة للحدود، يتراوح مداها من خمسة إلى عشرة كيلومترات؟
س: ما الرأي في أن التجربة أظهرت أن الولايات المتحدة لا تريد - ولا تستطيع - ممارسة ضغوط على إسرائيل؟
س: هل تعتقدون أنه في إمكانكم إقناع الرئيس كارتر بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها المفاوض المعتمد في المفاوضات؟
س: في حالة عدم تحقق الآمال بتدخل أمريكي خلال المستقبل القريب، ماذا سيكون رد الفعل لديكم؟ هل تنتظرون لأجل غير مُسمَّى، حتى تغير الولايات المتحدة موقفها، وحتى تكون قادرة على ممارسة ضغط معين، أم هل ستبحثون عن بديل؟
وكانت إجابة السؤال الأخير، أن المثل الإنجليزي يقول: "لا تدعنا نعبر الجسر حتى نصل إليه، ولكن يجب أن أخبرك أننا لا نستطيع أن ننتظر إلى أجل غير مسمَّى". وقال الرئيس السادات أن هناك دلائل صدرت عن الرئيس كارتر جعلته يشعر بمزيد من التفاؤل (24).
ثم بدأت مباحثات واشنطن، وقد ذكر السادات (في فترة تالية) أنه أنفق أكثر من ساعة ونصف، في مباحثاته مع كارتر؛ "لمحاولة التوصل إلى نوع من التفهم والاتفاق حول طبيعة السلام" (25). والحقيقة التي كشفها كارتر، هي أنه أصرَّ على مبدأ قيام علاقات طبيعية مع إسرائيل، وعلى أسبقية هذا المبدأ على كل ما عداه. وقيل إن السادات وافق على التنازل في هذه النقطة، أمام تحذير صريح بوقف الدور الأمريكي في حالة عدم الموافقة، رغم إصرار الإسرائيليين ـ في المقابل ـ على عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو حتى من "أراضٍ" في كافة مناطق الاحتلال، ودعك من مسألة الفلسطينيين. وقد أسفرت المباحثات عن تنازل مصري آخر يتعلق بصيغة مؤتمر جنيف لحساب الأسلوب الذي سبق أن أعلنه فانس في القاهرة، وقال السادات: إنه هو الذي اقترح "على كارتر تشكيلَ مجموعات عمل تحت رئاسة وزير خارجيته فانس؛ لكي تتصل بجميع الأطراف بما فيها الاتحاد السوفيِتِّي، وأخذ الرئيس كارتر باقتراحي هذا" (26). وفي هذا الاتجاه، قالت القيادة المصرية: إنها هي التي بادرت أيضًا إلى حث المسئولين الأمريكيين على مزيد من الاهتمام بالخطر الشيوعي في أفريقيا. وشهدت القارة تنافسًا ملحوظًا بين المغرب ومصر على التدخل في زائير. أعلن في خطاب أول أيار/ مايو قرار إيفاد بعثة طبية للمساعدة في علاج الجرحَى والمصابين في زائير، وكذلك إرسال 50 من الطيارين والفنيين لمساعدة القوات الجوية الزائيرية في نقل المؤَن والذخائر، ولكن كان واضحًا أن المغرب هي التي وقع عليها الاختيار للقيام بالمهمة؛ فقد أعلن الملك الحسن منذ 7 نيسان/ أبريل، أنه قرر إرسال قوات، وبالفعل اشتركت القوات المغربية في القتال الفعلي منذ ذلك التاريخ، بمساعدات فرنسية وأمريكية. ولكن كانت المساعدات العسكرية المصرية - في المقابل - تخدُم المخطط الأمريكي بنشاط، في صراعات القرن الأفريقي.
وكل هذه التنازُلات، وهذا التورط، كان في مقابل وعد باستمرار قوة الدفع، ويقال أيضًا: إن موافقة السلطات المصرية على تعليمات صندوق النقد، كانت شرطًا لاستمرار قوة الدفع، ولرفع الحصار الخانق الذي فرضه الدائنون.
و ـ وتوالت الاتصالات السياسية الأمريكية، وتبلورت في مباحثات كارتر وحسين في واشنطن (25/ 4) ـ ثم في مباحثات كارتر والأسد في جنيف (9/ 5) ـ وفي مباحثات كارتر وفهد في واشنطن (23/ 5). وفي هذه الأثناء كان الصلَف الإسرائيلي في قمته، ومشفوعًا بالمزايدة الطبيعية في موسم انتخابات الكنيسِت، وجرت محادثات في القاهرة مع كرايسكي مستشار النمسا (6/ 5) ومع تشاوشيسكو الرئيس الروماني (11/ 5)، وواضحٌ الآن أن هذه المباحثات كانت ضمن قنوات الاتصال السري مع الجانب الإسرائيلي. كان كارتر يؤكد طوال هذه الفترة على منهج الحل الشامل، وصرح بأنه لن يكون هناك أملٌ معقول في التوصل إلى تسوية للمشكلة، دون إقامة وطن قومي للفلسطينيين (12 أيار/ مايو).
ويبدو أن إلحاح كارتر في تلك الفترة على البعد الفلسطيني، كان أهم ما في جَعبته بالنسبة للتسوية الشاملة، رغم غموض التعبيرات التي استخدمَها في هذا الإطار. ولكن في 16/ 5 أعلنت هزيمة حزب العمل في الانتخابات العامة، وأصبح على كتلة ليكود أن تشكِّل الوزارة لأول مرة، وأعلن رئيس الوزراء الجديد بيجن ـ في أول تصريح بعد الانتخابات ـ أنه يسعَى إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، عن طريق إقناع الولايات المتحدة بحاجة إسرائيل إلى الاستيلاء نهائيًّا على الضفة الغربية.
كان موقف الإدارة الأمريكية لا يطمئن تمامًا الأطراف العربية الساعية على سلام أمريكي، ولم تفلحْ كافة الاتصالات والتحركات في تغيير هذا الموقف. وبدا عزوفُ الإدارة الأمريكية عن القيام بدور نشط للتوصل إلى تسوية، كعامل ضغط إضافي لانتزاع تنازلات جديدة من الجانب العربي. ولا نعتقد أن انتخاب كارتر بدلاً من فورد، كان السبب الأساسي خلف هذا الموقف. وصحيح أن الانتخابات الإسرائيلية كانت عاملاً غير مواتٍ للتحرك النشط في النصف الأول من العام، ولكنها لا تمثل أيضًا السبب الأساسي للموقف الأمريكي؛ فالسبب الأساسي، هو أن استراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء الصراع منذ أواخر 1973، وتفرض السلام الأمريكي (أو السيطرة الأمريكية) على المنطقة، قامت على انتزاع المخالب العربية، وكسب الوقت لإحداث التغييرات السياسية والعسكرية والاقتصادية المناسبة خطوة خطوة؛ بحيث ينعكس كل ذلك في وزن المفاوض العربي، وفي إصراره على الحد الأدنى من مطالبه. وإذا كان كيسنجر قد تحرك كالمكوك للتوصل إلى اتفاقيات فصل القوات، فإن هذا يرجع إلى أن الاتفاقيات كانت خطوات حاسمة "لانتزاع الفتيل" كما قيل أيامها بحق، ويعني انتزاع الفتيل: منع احتمال استخدام القوة، ويحقق هذا تسلُّم الولايات المتحدة لمفتاح الموقف، وبعد ذلك لا يعود هناك ما يدعو للعجلة، حتى يُعاد ترتيبُ الأوضاع والتوازنات على النحو المطلوب.
لقد أوضحنا كيف استفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من الفترة التالية لاتفاقية الفصل الثاني للقوات، ولكن بدا من مواقف القيادات العربية المعنية في مطلع 1977 أن عملية الترويض لم تكتمل بعدُ؛ ولذا كان مُتصورًا ألا تسرع الإدارة الأمريكية في تدخلها لفرض التسوية (سواء في ظل فورد
أو كارتر)، إلى حين الانتهاء من الخطوات الضرورية لإعادة ترتيب الأوضاع على نحو حاسم، يفرض الشروط كاملة.. وانعكس ذلك بوضوح في الجانب الاقتصادي داخل مصر؛ فعينُ الولايات المتحدة لا تغفل أبدًا عن هذا المجال، وتطوراته على صِلة وثيقة بتوقيت تدخلها السياسي في التسوية.

ز ـ ولكن ينبغي ـ مع ذلك ـ أن نُشير إلى حقيقة الدور الإسرائيلي المتزايد في التسوية، لا على حساب الدور المصري والعربي فقط، ولكن على حساب الدور الأمريكي أيضًا. إن التحرك الصهيوني النشط لمساندة إسرائيل، استعاد عافيته بعد مرور زمن كافٍ على حرب تشرين الأول/ أكتوبر. ويبدو أن مسألة ووتر جيت أضافت إلى فاعليته، وهذه حقيقة كان حرِيًّا أن تفرض نفسها - بدرجة أو أخرى- في ظل الجمهوريين أو الديمقراطيين. صحيحٌ أن الوزن الصهيوني في السياسة الأمريكية لم يعد إلى القمة التي بلغها قبل تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ولكن إسرائيل تحاول العودة إلى هذه القمة بلا كلل، ويبدو أنها قطعت شوطًا بعيدًا. لقد توحَّد الصهاينة مع سياسة كسب الوقت التي انتهجتها الولايات المتحدةُ، وشحذوا طرفها الحاد الموجه إلى الجانب العربي، وشيئًا فشيئًا، زاد توظيف هذه السياسة لصالح إسرائيل. إن سياسة كسب الوقت، كانت تهدف إلى خلق وقائعَ جديدة في المنطقة: عزل الاتحاد السوفيتي ـ اختلال التوازن العسكري ـ التمزق العربي.. إلخ. والمؤسسة الصهيونيةُ - وإسرائيلُ - أسهمت بلا شك في هذا كله، مستفيدة من الإمكانيات الهائلة للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار لم تكن إعادة صياغة الاقتصاد المصري - بالتأكيد- بعيدة عن الصهيونية وإسرائيل؛ فإعادة الاقتصاد المصري إلى التبعية، لم تكن في صالح الولايات المتحدة وحدها؛ فهي أيضًا تأمين لإسرائيل، وإعداد "لتطبيع العلاقات". ولا يُعقل أن تكتفي الصهيونية في هذا المجال بموقف المتابع من بعيد؛ فمن المنطقي تمامًا، أنها أسهمت إسهامًا مباشرًا وكبيرًا في إنجاز ما تحقق. ولا نقصد بذلك أنها كانت مساهمة في تنفيذ المخطط (من خلال سيطرتها المؤثرة في شبكة المصارف الدولية على سبيل المثال)، ولكن لا بد أنها ساهمت في وضع المخطط وفي إدارته؛ فالنفوذ الصهيوني ـ في الحياة السياسية الأمريكية ـ لا يتركز فقط في الصحافة والكونجرس، ولكن في المراكز العصبية الأكثر حساسية (وهذا هو الأخطر). "إن معلومات المخابرات الإسرائيلية عن التطور في واشنطن، تزيد - قَطعًا - عن معلومات المخابرات الأمريكية حول إسرائيل.. وإذا حاولنا التجسس عليهم، فإننا مُخْترقون إلى الحد الذي يجعل محاولتنا تنكشف، وساعتها تحدث فضيحة هائلة.. إن الإسرائيليين يعلمون أن حكومتنا كالجبن السويسري، وهم يتسللون عبر كل ثقب فيها"(27).
هذا الكلام يبدو معقولاً وقابلاً للتصديق، ولكن يترتب عليه أن تدخل الصهيونية في سياسات الشرق الأوسط،
لا يمكن أن يقتصر على أعمال المخابرات، أو على التأثير في الاتصالات السياسية للبيت الأبيض والخارجية الأمريكية؛ فمن الضروري والممكن أن يتدعم أيضًا عبر اتصالات صندوق النقد والبنك الدولي، وعبر وكالة التنمية الأمريكية ومعوناتها. ووكالة التنمية ـ على أيَّة حال ـ فرع من الخارجية الأمريكية كما نعلم.







آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:38 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

(3) الخطوات المتتالية لكي تنعقد المجموعة الاستشارية:
أ ـ توضيح عام:
كان محددًا للمجموعة الاستشارية، أن تنعقد في كانون الثاني/ يناير 1977، ولكن تأجل الموعد إلى آذار/ مارس، وأُجِّل مرة أخرى إلى نيسان/ أبريل، ثم انعقدت فعلاً في أيار/ مايو. وفي شباط/ فبراير (بعد "نجاح الاتصالات السرية "وقبيل رحلة فانس المُثبِّطة للآمال) قال وزير الاقتصاد إن "الدول الصديقة في أوروبا واليابان، بالإضافة إلى أمريكا والدول العربية، سوف تعقد اجتماعًا يرأسه البنك الدولي للإنشاء والتعمير؛ لتنسيق معونتها لمصر في تمويل مشروعاتها للتنمية، وتقديم الدعم النقدي المباشر لها" (28) ولكن هذه الصياغة كانت أقرب إلى مفهوم "الكونسورنيوم" الذي يعني أن دولاً معينة تتدخل بالتزامات محددة لمساعدة دولة ما في تسديد ديونها وإقراضها قروضًا ميسرة، ولذا صحح القيسوني هذا الأمر في مناسبة تالية، وقال إننا بصدد مجموعة استشارية، "فنحن لم نصل بعد إلى حد الدخول في مثل هذا الكونسورتيوم". والهدف من المجموعة مجرد "تبادل الرأي في الخطوات التي تُتبع لإصلاح المسار الاقتصادي وإنارة الطريق أمام مصرَ؛ للإسراع في خُطَا تقدمها، وأمام الدول والمؤسسات المشتركة معها لدعم وتبرير تعاونها مع مصر" (29).
وهذا الكلام ـ حتى قبل سبْر أغواره الحقيقية ـ كافٍ لإثارة الاعتراض، فهو إعلان بأن إدارة الاقتصاد المصري وتحديد مساراته المستقبلية أصبح شركة بيننا وبين آخرين (وآخرين أقوَى منا). ولكنَّ المسألة مع ذلك أخطرُ، والقريبون من الصورة، كانوا في منتهى الفزع من هذه المجموعة الاستشارية، واضطر كاتب حكومي إلى كشف الانقسام الحادث داخل الجهاز التنفيذي حول الموضوع، فكتب قبيل اجتماع باريس أن "البنك الدولي هو الذي طرح الفكرة على المسئولين في مصر"، وتعددت الآراء في القاهرة حول الفكرة؛ "ففي مواجهة الرأي الرسمي بأن المجموعة الاستشارية هي مجرد "نادي الأصدقاء"، كان هناك "رأي يقول إن تكوين هذه المجموعة قد يعيد إلى الأذهان قصة (صندوق الدَّين)، وهو صندوق تكوّن عندما كانت نصف أطيان مصر مرهونة لديون الخديو إسماعيل، ثم بيعت حصة مصر في قناة السويس في صفقة مريبة، وأعلنت بعد ذلك لجنة تحقيق - تكونت من الأجانب - إفلاسَ الدولة بأسرها بسبب تراكم ديون الخديو، وقد تغلب الرأي المؤيد "لنادي الأصدقاء" على الرأي المعارض؛ لأن الأخير لا يستند في الواقع إلا على مخاوف نظرية، أو على جمود لا يعود على مصر وشعبها بأي خير" (30).
إلا أن المجموعة الاستشارية ليست أبدًا ناديًا للأصدقاء لتبادل الرأي، في صراحة وندية، حول ما ينفع لمصر، وما لا ينفع؛ فالمضمون الحقيقي للقاء هذه المجموعة، هو إعلان صندوق النقد والبنك الدولي (ومن خلفهما الإدارة الأمريكيةـ الإسرائيلية) أن الدولة المصرية قد همدت مقاومتها، فتم ترويضها، وقبلت كل السياسات والتغييرات اللازمة لضمان خضوعها. وحضور "الأصدقاء" - دون الالتزام بأي شيء- هو مجرد نوع من اعتماد كل الأطراف المعنية لهذا الإعلان، بعد أن يشهدوا العرض بأنفسهم؛ فممثلو الدولة المصرية يتكلمون أمامهم، ويناقشون معهم تمامًا كما لقنهم المروِّض، ويعترفون بأنهم أخطئُوا في الماضي حين حاولوا التمرد، وأنهم يستحقون من "الأصدقاء" أقسى العقوبات إن أعادوا الكَرَّة.
هذا التشخيص مقصود منه أن يعبر عن مضمون المجموعة الاستشارية بدقة علمية. وبسبب التعثر في تحقيق هذا المضمون؛ تأجل اجتماع المجموعة عدة مرات، وخلال ما يقرب من ستة أشهر. فالاجتماع مفروض أن يسبقه إذعان من الحكومة المصرية، لتعليمات صندوق النقد الدولي، وينبغي أن تحصل الحكومة من الصندوق على شهادة بأنها أذعنت فعلاً، وتنفذ تعليماتِ الصندوق بجدية وتحت إشرافه، وباختصار: لا بد من خطاب نوايا واتفاق مساندة.
أيضًا يسبق الاجتماع إذعانٌ من الحكومة لتعليمات البنك الدولي فيما يتعلق بمفاهيم واستراتيجية التنمية، أي إعلان سياسة يعتمد من مجلس مديري البنك. وكانت التقديرات أن يتم ذلك كله خلال 1976؛ ولذا حدد أول كانون الثاني/ يناير موعدًا للمجموعة الاستشارية، وحين تعثرت المحاولات في تحقيق النتائج الكاملة ـ كما أوضحنا في الفصل السابق ـ وتشكلت المجموعة الاقتصادية الجديدة لتكون "أكثر تفاهمًا"، كان العام قد أوشك أن ينصرم، وأدى التأخر في التوصل إلى اتفاق مع الصندوق إلى تأجيل المجموعة الاستشارية إلى آذار/ مارس، وبعد هبَّة كانون الثاني/ يناير، وإعادة المفاوضات للتدرج في تنفيذ ما كان مطلوبًا، تأجلت المجموعة مرة أخرى إلى نيسان/ أبريل ثم أيار/ مايو. ومفهومٌ أن المفاوضات كانت تتم باستمرار تحت الضغوط المتزايدة: ضغوط الدور السياسي الأمريكي المرتقب، وضغوط الوضع الاقتصادي (وخاصة الديون والمتأخِّرات).
وسبق أن نقلنا عن القيسوني (في بداية الفصل بيان 17 كانون الثاني/ يناير) الخطوات المتتابعة التي كان الصندوق قد أملاها لتحقيق الهدف، عبر توفير السيولة النقدية لسداد المتأخرات، ولتحويل القروض القصيرة الأجل إلى قروض طويلة الأجل. وقد تمت كل الخطوات فعلاً. فقط تأخرت بعض الشيء. ونتيجة لأحداث كانون الثاني/ يناير وما استلزمته من مباحثات مطولة مع الصندوق؛ تغير أيضًا ترتيب المشاهد في السيناريو؛ فقد كان مفروضًا أن تُعلن قرارات الموازنة، ثم يستكمل الاتفاق مع بعثتي الصندوق والبنك في القاهرة، وبعد ذلك يتوجه القيسوني إلى دول الخليج، ثم يختم اتصالاته بزيارة واشنطن. ولكن بعد مباحثات القاهرة مع بعثة الصندوق في أواخر شباط/ فبراير، وبعد مباحثات واشنطن مع البنك الدولي في الفترة نفسها تطلب الأمر أن ينتقل القيسوني مباشرة، وقبل أية زيارات أخرى، إلى مقر القيادة في واشنطن (أول آذار/ مارس)؛ حيث استكمل مباحثاتِه مع كبار المسئولين في الحكومة الأمريكية عن مختلف النواحي المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية، وتم "تبادل الرأي" بإسهاب كما يقول القيسوني، وامتدت المحادثات إلى ويتيفين وكبار المسئولين في الصندوق، وأيضًا مع مكنمارا وكبار معاونيه في البنك الدولي. وبالمناسبة يلاحظ أن المسئول المصري الذي تولى المباحثات التمهيدية مع البنك الدولي لم يكنْ محمدٌ محمود الإمام وزير التخطيط المصري (والذي لم يكن مَرضيًّا عنه)، ولكن تولَّى العملية عبد الرازق عبد المجيد (وكان نائبًا لرئيس هيئة استثمار المال العربي والأجنبي، بدرجة نائب وزير)، وقُبَيل انعقاد المجموعة الاستشارية، كان عبد الرازق عبد المجيد قد حلَّ رسميًّا محل الإمام.
المهم، أسفرت هذه المباحثاتُ خلال ستة أيام، عن توقيع نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية، على خطاب النوايا وقُدِّم إلى الصندوق، وعلى إعلان السياسة وقُدِّم للبنك الدولي. وبعدها أصبح بوسْع القيسوني أن يبدأ الجولة (أو الجولات) في دول الخليج (20 آذار/ مارس). ونعرض نتائج هذه الجهود الآن، كما تبلورت في وثائق رسميَّة، كلها سرية.
ب ـ خطوة خطاب النوايا (النص بالمُلحق التابع للفصل): يحسن أن نلقي الآن نظرة على خطاب النوايا الذي أُلزمت به الحكومة المصرية. وسبق أن ذكرنا أن خطاب النوايا الذي توقعه أية حكومة، وتقدمه إلى مجلس إدارة الصندوق يعتبر نوعًا من الاتفاقية السرية، وتحظر مناقشتها أو الإفصاح عن فحواها، إلا في دائرة ضيقة جدًا من أعلَى مستويات الدولة، وقد حدث هذا بالتالي مع خطاب النوايا الذي وقَّعه عبدُ المنعم القيسوني، فبعض الوزراء لم يطلع على الخطاب، وفي مجلس الشعب، أثار حلمي مراد الموضوع، فقال: "إن صندوق النقد الدولي قدم قرضًا لمصر بناء على خطاب نوايا قُدِّم له من حكومة مصر، وبمحض إرادتها (!) يتضمن اتباع سياسة اقتصادية معينة، وإنني أقول إنه كان من الواجب على الحكومة، أن تُحيط مجلس الشعب علمًا بهذه السياسة".. إذ "أخشى أنه في سبيل الحصول على هذا القرض، نكون قد قََدَّمنا سياسة اقتصادية ترضي صندوق النقد الدولي، كان يجب علينا مناقشتها بالمجلس أولاً؛ حتى تطمئن قلوبنا؛ ذلك لأن التزاماتِنا يجب أن تقوم على أسس نرتَضيها جميعًا؛ لذا أرجو إيداع خطاب النوايا أمانة اللجنة الاقتصادية؛ حتى نطلع عليه" (31).
وواضحٌ من الكلام، أن عضو مجلس الشعب (رغم وزنه الاقتصادي والسياسي) لم يكن على بينة من بروتوكولات الصندوق، ولم يكن على بينة من طبيعة التطورات التي ذوت باستقلالنا الاقتصادي. إلا أن القيسوني رد يومها: "إننا بكل سرور نودِعُ هذا الخطاب أمانةَ المجلس، ولكن الذي أستطيع أن أقوله الآن ليطمئن قلبُنا، هو أننا لم نضعْ في خطاب النوايا أية نقطة لم تناقَش في هذا المجلس". ولم يكن الرد
إلا محاولة لإغلاق الموضوع؛ إذ لم يحدث أن أُودِعَ خطاب النوايا في أمانة المجلس، وحين كشف حلمي مراد هذه الحقيقة بعد عدة أشهر؛ اضطرت الحكومة ـ على ما نعلم ـ إلى إرسال خلاصة خطاب النوايا (ولم ترسل النص الكامل) إلى رئيس المجلس؛ كي يطلع عليها العضو صاحب السؤال بصفة شخصية، وفي مكتب رئيس المجلس. ونفس الأمر تكرر مع جهات أخرى في الدولة كان مفروضًا أن تطلع على نص خطاب النوايا بحكم مسئوليتها. وعلى ذلك،
لم نكن – بدورنا - أسعدَ حظًا، ولم يتحْ لنا إلا الاطلاعُ على خلاصة الخطاب (32). ولكن رغم أن النص الذي نعتمد عليه في عرضنا هنا، قد حُذفت منه بعض النقاط الأكثر خطورة، فإنه يكفي مع ذلك لإعطاء صورة هامة، وهو - على أية حال - نص رسمي، وعلى مستوى عالٍ من السرية، إن الخطاب في جوهره يعترف بسوء الأوضاع، ويطلب المعونة، ويؤكد التزامه ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وضعه الصندوق، وبالجدول الزمني الذي ارتضاه. ولا بد من التذكير هنا بمذكرة بول ديكي (الفصل الثامن) التي فصلت قائمة المطالب الحاسمة والعاجلة التي تقدم بها الصندوق في أواخر 1976.

* ففي مجال سعر الصرف وسياسة التجارة الخارجية:
أوضح خطاب النوايا، أنه تم حصر الصادرات والواردات السلعية التي تتم بالسعر الرسمي في النطاق الذي سبق أن قرره عمليًّا الصندوق. كذلك المتحصلات والمدفوعات غير المنظورة، وأيضًا التزم خطاب النوايا بتعليمات الصندوق فيما يتعلق بالقروض؛ حيث يقتصر التعاملُ بالسعر الرسمي على القروض المقدمة لغير المشروعات والودائع التي تتسلمها الحكومةُ أو البنك المركزي، وحتى لا ينطبق هذا بأثر رجعي؛ أضاف أن سداد الديون السابقة على 1977 يستمر بالسعر الرسمي. والتزم خطاب النوايا بتعديل قانون 43 وفق مطلب الصندوق والمستثمرين، فيما يتعلق بسعر التحويل (هذا قرار لم تكن الحكومة قد أعلنت نيتها في إصداره) وسيطلب من البنوك التجارية أن تكون جميع الحسابات التي تتضمن أصولاً أو خصومًا بالنقد الأجنبي - مُقوَّمة بسعر السوق الموازية، في موعد غايته أول كانون الثاني/ يناير 1978.. (ويعني كل هذا أن الحكومة قد التزمت فعليًّا بإجراء خفض لسعر الجنيه، و"إن تجنبت مظهر الانخفاض الفوري" كما قال ديكي في مذكراته)، وأعلن الخطاب أنه تم تنفيذ فكرة الصندوق في وضع قائمة مفتوحة للسلع التي يمكن عن طريق السوق الموازية، دون أية قيود على الصرف الأجنبي، وبدء بتسعة وعشرين سلعة تزداد بالقدر الذي تسمحُ به إمكانيات النقد الأجنبي، على أن لا ترفع منها أيةُ سلعة سبق إضافتها. مع التوسع في السوق الموازية وتعديل سعرها ثلاث مرات خلال 1976، ومع خفض الهامش بين أسعار الشراء وأسعار البيع، ليس في النية تخفيض الدولار عن 70 قرشًا أو إعادة أية معاملات من السوق الموازية إلى السعر الرسمي (وهذا طبعًا تأكيد بأن طريق الانفتاح اتجاه واحد، ولا يمكن الرجوع فيه، رغم أنه يمكن اقتراض أن بعض الظروف الطارئة قد تتطلب ذلك ولو جزئيًّا).
* أُنهِي العملُ خلال السنوات الثلاث الماضية، باتفاقيات دفع ثنائي مع 15 دولة، 9 منها خلال عام 1976، ومن المتوقع إنهاء العمل بخمس اتفاقيات أخرى مع أعضاء بالصندوق بحلول 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977.
* التحرير الداخلي واللامركزية:
استعرض الخطاب ما تحقق من إلغاء المؤسسات العامة والانتقال تدريجيًّا إلى الإدارة بالأهداف، ويراعَى في ميزانيات الشركات اعتبارًا من عام 1977 تحويل معيار الإدارة بالتدريج من أهداف الإنتاج إلى اعتبارات الربحية، وللشركات الآن حريةُ القيام باستثمارات التجديدات والتطوير، كما أُعطِيت لها سلطة تحديد مستويات الإنتاج والأسعار لكثير من المنتجات. والتزمت الحكومة برفع أسعار المنتجات الصناعية الرئيسَة لتغطي الزيادة في تكاليف إنتاجها؛ بسبب تحويل واردات مستلزمات الإنتاج إلى السوق الموازية، وكذلك بسبب زيادة الفوائد والنفقات الناتجة عن الإجراءات الأخرى. أما عن قطاع الزراعة، فقد التزمت الحكومة برفع أسعار المُنتجين للتناسب مع الأسعار الدولية، وإلى مستويات تضمن حوافزَ كافية للمزارعين.


* السياسة المالية:
* أشار الخطاب إلى ميزانية عام 1977 باعتبارها خطوة أولى في اتجاه التصحيح، ومع ذلك سوف تُتخذ إجراءاتٌ أخرى خلال العام؛ لتزداد تدريجيًّا قوة المركز المالي. ومن المتوقع أن تتم خلال هذا العام الموافقةُ على القانون المعدل لضريبة الدخل، الذي يوحد بصورة جزئية جداولَ ضريبة الدخل، ويحسِّن متحصلات الأرباح الرأسمالية وضريبة الملكية. وقال الخطاب إنه تم اختصار نظام المسحوبات المؤقت الذي تسحب بموجبه الواردات من الجمارك قبل سداد الرسوم؛ تمهيدًا لإلغائه نهائيًّا.
* السياسة النقدية والائتمانيَّة:
* التزمت الحكومةُ بزيادات أخرَى في أسعار الفائدة وصولاً إلى المستويات الدولية.
والتزمت ببرنامج محدد للائتمان لعام 1977، ويتضمن الحد من زيادة الأصول المحلية للجهاز المصرفي (فيما عدا تمويل القطن) والتي بلغت 3958.7 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1976؛ بحيث لا تتجاوز 400 مليون جنيه في 30 حُزيران/ يونيو 1977 و500 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، 600 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977 و700 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978. كذلك فإن صافي المطلوبات من الحكومة التي بلغت 3803.8 مليون جنيه من 31 كانون الأول/ ديسمبر 1976، لن تزيد بأكثر من 225 مليون جنيه في 30 حُزيران/ يونيو 1977 و175 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، و350 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، و400 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978.
وإذا تم الحصول على التمويل الخارجي المتوقع في شكل قروض نقدية للحكومة؛ ستنخفض تبعًا لذلك الحاجة إلى الائتمان المصري. ونظرًا للضغط الموسمي الواضح لاحتياجات تمويل القطن؛ فإنها لن تتجاوز 10 مليون جنيه في 30 حزيران/ يونيو 1977، و30 مليون جنيه في أيلول/ سبتمبر 1977 و200 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، أو 90 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978.
(يلاحظ هنا أيضًا أن الحكومة تلتزم بخطة ائتمانية
لم تُعرض على مجلس الشعب، ورغم الإلحاح في طلبها).

* سياسة الدَّين الخارجي والمتأخِّرات:
التزمت الحكومة بأن يقتصرَ استخدام التسهيلات المصرفية خلال الفترة من أول نيسان/ أبريل إلى 30 حزيران/ يونيو 1977 على 450 مليون دولار، و700 مليون دولار في الفترة المنتهية في 30 أيلول/ سبتمبر 1977 و900 مليون دولار في الفترة المنتهية 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977. (كان مجموع الالتزامات في نفس التاريخ عام 1976 حوالي 1350 مليون دولار). ويرتفع الرقم إلى 1100 مليون دولار تقريبًا مع نهاية آذار/ مارس 1978.
وبشكل عام، التزم خطاب النوايا بألا يزيد الدَّينُ العام (بكافة مكوناته) عن أكثرَ من 1000 مليون دولار في الفترة من 31 كانون الأول/ ديسمبر 1976 إلى 30 حُزيران/ يونيو 1977، و1500 مليون دولار حتى 30 أيلول/ سبتمبر، و2000 مليون دولار حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977 و2500 مليون دولار حتى 31 آذار/ مارس 1978.
ومن الممكن تعديل هذه الحدود العليا وقت المراجعة النصفية (أي المراجعة الرسمية والدورية لتطورات الموقف مع الصندوق كل ستة أشهر) أو قبل ذلك، إذا قُدِّم إلى مصرَ ائتمانٌ إضافي بشروط مرضية.
(هذه المعدلات والحدود لم تعلَن داخل مصر، والأسس التي حسبت وفقًا لها لا نعرفها، وبالتالي يتعذَّر تحليلها ومناقشتها بشكل محدد. ولكن يكفي أن نقول إن تحديد سقف للديون المصرفية بمعرفة الصندوق، مع بقاء السياسات الاقتصادية على حالها، أو مع مزيد من تدهورها على الأصح، يجعل هذا التحديد أداة ضغط إضافية في يد الصندوق؛ لأن السياسات الانفتاحية من شأنها ـ في تلك الفترة ـ استمرار العجز الكبير في ميزان العمليات الجارية، والالتزام في هذه الحالة بالحد من اللجوء إلى التسهيلات المصرفية، يتطلب توفر قروض نقدية ميسرة يملك مفتاحها الصندوق).
وقد التزمت الحكومة بتوصية الصندوق لإنشاء وحدة لتسجيل وتحليل الدين الخارجي بالبنك المركزي، وقالت إنها ستزاول نشاطها بحلول 31 آذار/ مارس 1977. (كان مفروضًا أن تنشأ هذه الوحدة عام 1976 تحت ضغط الصندوق).
وبالنسبة للمتأخرات، التزمت الحكومة بألا تتجاوز 500 مليون دولار خلال الفترة من أول أيار/ مايو إلى 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977، وستكون قد خُفِّضت في نهايتها إلى ما لا يتجاوز 250 مليون دولار. وخلال الفترة من 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 إلى 30 نيسان/ أبريل 1978 لن يُسمح لها أن تتجاوز ما يعادل 250 مليون دولار، على أن تُلغَى تمامًا في نهاية هذه الفترة.
ولا تعتزم الحكومةُ خلال فترة سريان التسهيلات الائتمانية (المُقدَّمة من الصندوق وفقًا لترتيبات المساندة) إدخال أية أنظمة لأسعار الصرف المتعددة، دون موافقة الصندوق، أو تضع قيودًا جديدة، أو تزيد القائم منها فعلاً على المدفوعات والتحويلات الخاصة بالمعاملات الدولية الجارية، أو تعقد اتفاقات دفع ثنائية جديدة مع أعضاء الصندوق، أو تفرض قيودًا جديدة، أو تزيد القائم منها فعلاً على الواردات لأسباب تتعلق بميزان المدفوعات.
(كافة هذه السياسات، ومواعيد تنفيذها باليوم، تعكس صرافة الالتزام، وكل هذه الأمور لم تكن معلنةً، والنقطة الأخيرة تمثل اعترافًا صريحًا بوصاية الصندوق الكاملة على كل ما يتعلق بإدارة التجارة الخارجية وسياسة النقد الأجنبي).
* وأطرف ما في خطابات النوايا، أنها تمعِن في محاولة إخفاء حقيقة أن صندوق النقد الدولي هو صاحب المضمون والصياغة، فكل البنود تنص على أن الحكومة ستفعل كذا وستقرر كيت؛ بحيث تحفظ ماء الوجه أو مظهر السيادة للحكومة صاحبة الخطاب، وبحيث يبدو مجلسُ إدارة الصندوق حين يوافق، أنه يوافق على سياسات تنتوي الحكومة ـ من تلقاء نفسها ـ أن تتخذها.. ولكن التمادي في إخفاء الحقيقة ـ بعد حد معين ـ يصبح مُثيرًا للسخرية؛ فقد طلب من الحكومة المصرية أن تكتب في خطاب النوايا أنها تستحق العقاب من الصندوق إذا أخلت بالتزاماتِها السابقة!
في رسالة بول ديكي، كان الرجل صريحًا في أن الصندوق هو الذي سيبادر إلى منع المعونة، وستتبعه مصادر المعونات في هذا الإجراء (أو هذا العقاب) إذا لم تنفذ الحكومة المصرية تعليماتِه، ولكن في وثيقة رسمية ـ كخطاب النوايا ـ كان لا بد أن يسجل أنه حتى في موضوع العقوبات، فإن الحكومة المصرية هي التي تطلب ذلك، وبمحض إرادتها.
ويقول النص الخاص بذلك: إنه إذا لم يُراعَ خلال فترة سريانُ التسهيلات الائتمانية ما جاء في الفقرات التي أشرت إليها في العرض السابق بالأرقام من (1) إلى (6) "لا يجوز لمصر أن تطلب الشراء بموجب تسهيلات تؤدي إلى زيادة حيازة الصندوق من الجنيهات المصرية عن الشريحة الائتمانية الأولى، إلا بعد التوصل إلى اتفاق مع الصندوق بشأن الظروف التي توجب مثل هذا الشراء". (زيادة حيازة الصندوق من العملة المحلية لبلد ما تعبير عن استخدامها لموارد الصندوق، أي عن موافقتِه على إقراضها).
وينص البند التالي على ضمان استمرار وانتظام الوصاية؛ إذ "تستعرض مصر مع الصندوق في موعد أقصاه 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 التقدم الذي أحرزته في تنفيذ البرنامج، وتتشاور معه خلال فترة سريان التسهيلات، بشأن الإجراءات التي قد تكون ملائمة بناء على طلب مصر
أو طلب مدير الصندوق إذا لم يُلاحظ (إخلالٌ) بالمبادئ الواردة في الفقرة السابقة".

ثم يضيف النص: إنه "أثناء فترة التسهيلات، وعندما تكون حيازة الصندوق من الجنيهات المصرية أعلى من الشريحة الائتمانية الأولى؛ تتشاور مصر مع الصندوق من وقت لآخر، فيما يتعلق بسياسات ميزان مدفوعات مصر".
* * *
العرض السابق للنص الرسمي (المتاح) لخطاب النوايا يعني التالي:
ليس صحيحًا ما صرَّح به القيسوني، من أن كل السياسات الواردة في خطاب النوايا مما سبق إعلانه، وبالتحديد فإن النقاط من (1) إلى (6) التي اعتبر الصندوق أن الإخلال بأية واحدة منها يستوجب العقاب الشديد، لم يحدثْ أن أُعلِنت ونوقشت كما أشرنا أثناء العرض.
ومع ذلك فإن كشف النقاب هنا عن هذا الخطاب بعد عدد من الأعوام، قد يجعل البعض يتساءل: هل يستحق الأمر كل هذا التكتم والإخفاء؟ والتساؤل طبعًا في غير موضعه. وللتوضيح ينبغي أن نذكر أولاً بأن أسرار دولة ما أو أية مؤسسة، لا تقتصر على مجموعة من الأرقام الخام، فأهمُّ من ذلك سر العلاقات المتشابكة بين هذه الأرقام (أو المتغيرات)، وأسلوب تحركها وتفاعلها معًا ـ كنسق ـ حاليًا وفي الفترة المقبلة، ويعني هذا أن الخطط أو السياسات التي تتعامل بهذه الأرقام، هي سر لا يقل في أهميته (بل يزيد) عن سر الأرقام ذاتها. في القطاع العسكري على سبيل المثال، لم يعد عدد الجنود وأنواع التسليح السر الأعظم، ولكن يكمُن السر الأعظم في أساليب التنظيم والتدريب، وفي خطط القتال، وأساليب إدارة العمليات.. إلخ. وفي الجانب الاقتصادي يمكن أن نقول الشيء نفسه.
وبهذا المفهوم يمكن أن نقول إن خطاب النوايا ـ حتى من حيث الأرقام والمعلومات الخام ـ كان يحمل الكثير مما يجهله الاقتصاديون والسياسيون الوطنيون، ويحمل (وهذا الأهم) سياسات مرتبة، كان ممكنًا أن تقاوَم وتُغيَّر لو عرفها المعارضون مسبقًا، وينبغي أن نتذكر هنا أنه حدث خلال الفترة الماضية، أن نفَّذت الحكومة المصرية أغلب ما التزمت به، وبالتالي لم تعُد النوايا الواردة في الخطاب (كأرقام وسياسات) سرًا، ولكنها كانت سرًا مغلقًا في آذار/ مارس 1977. وهذا هو شأن كل الأسرار، فهي أسرار فقط في وقتها.
ولكن أهم سر يحرص الصندوق وأصدقاؤه على إخفائه؛ سواء في خطاب النوايا، أو في غيرها من الوثائق والمراسلات، هو: كيف تُصنع السياساتُ في الدول التابعة؟ ومن صاحب القرار الفعلي؟ لقد أصبح معروفًا في مصر الآن أن الهيئات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد، تلعب دورًا ما في السياسة الاقتصادية؛ من خلال المشاورات التي تتم بين الحين والآخر. ولكن باستثناء القلة التي تولت مسئوليات عالية في القطاع الاقتصادي، لا يوجد من يعرف حقيقة ومدى هذا الدور. وخطاب النوايا وغيره، يكشف جزءًا هامًا من الصورة، إنه يكشف أن القرارات التي تتخذها الحكومة أحيانًا بغتة، والتي تبدو في أحيان أخرى تصرفاتٍ عفوية متناثرة، هي في الحقيقة جزء من خطة متكاملة، موضوعة بإحكام، ومحدد تنفيذ مراحلها باليوم. ويكشف أن الحكومة المصرية لم تعد صانعة السياسة الاقتصادية، ولكنها منفذة للسياسة الاقتصادية التي وضعت في الخارج، ويكشف أنها في تنفيذ هذه الخطة تخضع للمتابعة والتفتيش والعقاب.
هذا هو السر الأعظم الذي تودُّ الهيئات الدولية، وتود الحكومة التابعة، أن تخفيه، ويتطلب الإخفاء أول ما يتطلب، منع تداول الوثائق الفاضحة؛ مثل خطاب النوايا. وينبغي أن نشهد بأن الهيئات الدولية تمكنت بالفعل من أن تقضي حوائجها بالكتمان، نجحت هذه الهيئات ومن يتعاونون معها في مواراة الميكانيزم الحقيقي لاتخاذ القرارات الاقتصادية، والدليل الواضح على النجاح هو أن الغالبية الساحقة من المشتغلين بالسياسة، بل والمقربين من مركز السلطة،
لا يعلمون ما وصلنا إليه من تبعية، وأن هناك الآن سلطة فعلية وسلطة شرعية، كما كان يقال أيام الاستعمار البريطاني. كان ممدوح سالم ـ مثلاً أو القيسوني (وكلاهما مهيب الطلعة) يتكلم بتؤدَّة ووقار، فيتناقش المؤيدون والمعارضون معهما كما لو كان أيهما قد قرر ما يقول. يتحدث القيسوني عن برنامج تحركاته لمحاصرة الأزمة الاقتصادية، فيتصور الجميع أنه صاحب البرنامج، ويتحدث ممدوح سالم عن الدعم، فيتناقش الناس معه حول ما يبقى من الدعم وما يُلغَى، ولا يعلم واحد منهم أنه لا يملك خفض سعر كيلو الشاي قرشًا واحدًا!

* * *
لا ننسى أننا عرضنا ما أسمته الحكومة: "خلاصة خطاب النوايا". ولكن يبدو من صياغة النص الذي عرضناه، أن تعبير خلاصة لا يُقصد منه أن النص عبارة عن مُلخص عام لخطاب النوايا، فالاحتمال الأقرب أن المقصود هو أن النص غير كامل، أي حُذفت منه أجزاء معينة، نتناول ما علمناه عنها في فقرة تالية.
ج ـ خطوة إعلان السياسة: كان خطاب النوايا انتصارًا هامًا لأعداء مصر، وكان في الأساس محددًا لأسلوب نشاطها الاقتصادي. وكان مفروضًا أن تلحق بخطاب النوايا - وعلى ضوئه - وثيقة أخرى مع البنك الدولي يمتد أفقها الزمني إلى مدى أبعدَ، وتعالج هيكل وبنية التنمية المطلوبة، والوثيقة "إعلان سياسة"، مع البنك ـ كما يقول عنوانها ـ هي: استراتيجية التنمية لمصر ـ الإصلاحات الاقتصادية وأهداف النمو (1976 ـ 1980) ـ إعلان سياسة (33).
ولا شك أن فهم الهدف أو النظرة المستقبلية للبنك، يجعلنا أكثر إدراكًا لسياسات "الإصلاح الاقتصادي" التي يتولاها الصندوق، ويباركها البنك باعتبارها الخطوة الأولى الضرورية للتحرك نحو مفاهيمه في التنمية. وقد أوضحنا باستمرار ترابط الجهود بين التوأَمين: الصندوق والبنك. وكما كان الصندوق يتقدم نحو فرض "إصلاحه" خطوة خطوة، فإن البنك كان أيضًا لا يتوقع فرض تصوراته في قفزة واحدة. وقد أشرنا إلى تحفظاته عام 1974 حول ورقة تشرين الأول/ أكتوبر، وانعكاساتها في أساليب التنمية والانفتاح، وقد استطاع البنك منذ ذلك التاريخ أن يحقق نجاحات هامة ـ جنبًا إلى جنب مع الصندوق ـ في تعديل الأوضاع وفق رؤيته ومصالحه. وإذا كان الصندوق قد تمكَّن في خطاب النوايا من انتزاع انتصار هام، فإن البنك الدولي لم يكن أقل نجاحًا في إعلان السياسة.
* سمع الحديث في عام 1974، عن خطة خمسية تبدأ بعد تنفيذ الخطة الانتقالية، وكان وزير التخطيط د. إسماعيل صبري. ثم أعلن عن إطار الخطة الخمسية، وبشكل مبدئي، بمناسبة عرض خطة 1976 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1975) وقدمت هذه على أنها خطة السنة الأولى في الخطة الخمسية 1976 ـ 1980. وكان وزير التخطيط د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن (34). وحين ولِي الوزارةَ د. الإمام، لم تكن الخطة الخمسية قد أُعدَّت، وفي مشروع خطة 1977 أعيد طرح نية إنشاء خطة خمسية، قيل إنها ما زالت تحت الإعداد، والأهداف الرئيسَة (35) لم تكن تختلف تقريبًا عن الإطار الذي سبق أن قدمه إبراهيم حلمي:
فزيادة الإنتاج خلال الخطة تبلغ نحو 55.5 % أي بمعدل سنوي متوسط يصل إلى 9 % كما تبلغ الزيادة المُستهدَفة للناتج المحلي الإجمالي نحو 59.5 %، أي بمعدل 9.7 % (زيادة الإنتاج عند إبراهيم حلمي 56.4 % ـ والناتج المحلي 60.9%). وهذه المعدلات تقرُب من ضعف المعدلات المتحققة خلال السنوات الخمس السابقة على هذه الخطة (70/ 1971 ـ 1975).
قدرت استثمارات الخطةُ الخمسية بنحو 8020 مليون جنيه أي نحو 2.6 مثل حجم الاستثمارات المحققة خلال الفترة 70 ـ 1975 (وكان إجمالي الاستثمار المستهدَف في مشروع إبراهيم حلمي 8000 مليون جنيه).
وقد استهدفت الخطة زيادة الصادرات السلعية بحوالي 131 %، وكانت قد جمدت تقريبًا في السنوات الخمس السابقة على الخطة (70 ـ 1975)، كما استهدفت خفض نسبة الزيادات في الواردات السلعية من 72 % في السنوات الخمس السابقة على الخطة إلى نحو 67 % خلال فترة الخطة ـ والزيادة المستهدفة في فائض ميزان الصادرات والواردات غير المنظورة؛ نتيجة للزيادة الكبيرة في حصيلة قناة السويس وتشغيل خط الأنابيب (سوميد).
زيادة الاستهلاك النهائي بنسبة 37.1 %، أي بمعدل سنوي قدره 6.5 %، الأمر الذي يعني انخفاض نسبة الاستهلاك النهائي إلى الناتج من 93 % في عام 1975 (إبراهيم حلمي كان يقول إنه 102.2%) إلى نحو 80.1 % في عام 1980 (التقدير المقابل لإبراهيم حلمي 76 %).
إيجاد فرص عمالة جديدة تُقدر بنحو 1232 ألف فرصة عمل مع الزيادة في حجم الأجور بنسبة 47% وفي متوسط الأجر السنوي للمشتغل بنحو 28.2 %.. إلخ.
* المهم.. ظل الكلام مكررًا وغير محدد، بل ومُثيرًا للدهشة؛ فخطة 1977 قدمت أيضًا باعتبار أنها خطة السنة الثانية من الخطة الخمسيَّة 76 ـ 1980 التي لم توضع بعدُ! إلا أن المسألة ـ وإن كانت طريفة ـ لا تُعد لُغزًا؛ فالتخطيط لمدى متوسط ـ بقدر معقول من الثقة ـ لم يكن ليتحقق إلا في ضوء الاعتبارات التالية كما قال د. الإمام بحق:
ما تسفر عنه الاتصالات الجاريةُ حاليًا مع المجموعة الاستشارية الدولية والهيئات العربية المالية، والتي سوف تحدد حجم الموارد الأجنبية المُتاحة لاستثمارات الخطة الخمسيَّة.
إن مجموعة الإجراءات المطروحة لتصحيح المسار الاقتصادي، سوف تكون لها آثارها على تحديد المتغيرات الاقتصادية الرئيسَة في الخطة الخمسيَّة"(36).
وانتظار من تسفرُ عنه الاتصالات، مسألةٌ مفهومة في ظروف جعلت الاعتماد على التمويل الخارجي أساسَ الاستثمار، أما حسمُ السياسات فيما يُسمَّى بتصحيح المسار الاقتصادي، فإنه يترتب في الواقع وبالضرورة ـ على العامل الأول، على الاتصالات، فالمُمَوِّلون الخارجيون أصبحوا في وضع من يُحدد السياسات.
وبالفعل، تحقق هذا في إعلان السياسة الذي سجَّل في أول فقرة منه، نقدًا صريحًا لمفاهيم ورقة تشرين الأول/ أكتوبر التي تشبث بها الإمام. "فالتنفيذ البطيء لسياسة الانفتاح الاقتصادي الجديدة، والاستجابة المحلية والخارجية المحددة- بالنسبة لأهدافها المُعلنة ـ هي في الأساس نتيجة الوعي الجزئي بمستلزمات هذه السياسة، حين شرع في إدخالها عام 1973. فقد عُولجت السياسة الاقتصادية الجديدة عمومًا بنظرة ضيقة، باعتبارها دعوة للاستثمار الخاص؛ أجنبي ومحلي؛ للمشاركة بفاعلية أكثر في جهود البلاد للتنمية. وهذه المشاركة كفيلةٌ بتحقيق الانفتاح لقطاع الصناعة المتمتع بالحماية، والذي تسيطر عليه الدولة؛ بهدف رفع مستواه التكنولوجي، واستخدام المزايا النسبيَّة والجغرافية لمصر بالنسبة للموارد البشرية والطبيعية، وقد أعلن عددٌ من الإجراءات التشريعية لهذا الغرض.
إلا أن سياسة الانفتاح ـ إذا نُظِر إليها بمنظور أرحبَ ـ تعكس نقطة تحول أساسية في الإدارة الاقتصادية لمصر،
ولا تكفي معها الإجراءات التشريعية؛ فعدد من التغيرات المؤسسية والتنظيمية، والسلوكية في الواقع، تصبح ضرورية من أجل تحقيق الآمال التي تمثلها "السياسة الاقتصادية الجديدة". وقد سرد (إعلان السياسة) تطورات المرحلة السابقة على الانفتاح (من وجهة نظر الهيئات الخارجية)، وأوضح أنه على ضوء هذه الخلفية، يصبح صعبًا أن نتصور استجابة مؤثرة ومباشرة لسياسة الانفتاح، دون جهود حازمة وموجهة، لتدعيم وإعادة صياغة النظام الاقتصادي.

* * * *
* في السياق الحالي، سنقتصر على إشارة سريعة إلى المفاهيم والسياسات التي أصبحت مسلمات والتزاماتٍ ـ في إعلان السياسة ـ إذ لا يعنينا الإطار المحدد والمعدلات المستهدفة للخطة الخمسية في تلك الوثيقة؛ لأنها تعدلت بعد ذلك على يد الخطة 1978 ـ 1982، وما تلاها. وكان طبَعيًّا أن يتضمَّن إعلان السياسة تأكيدًا لبعض الالتزامات الواردة في خطاب النوايا. وهذه لا داعي لتكرارها.
حدد إعلان السياسة الصعابَ الهيكلية التي تهدِف الخطة الخمسية إلى التغلب عليها بأنها ـ أساسًا ـ العجز في ميزان المدفوعات، وما ترتب عليه من تسهيلات مصرفية ومتأخرات، بالإضافة إلى التخلف في الهياكل الارتكازية الذي يحدُّ من القدرة الاستيعابية للاقتصاد المصري. وهذا التحديد يتفق تمامًا مع تصورات السياسة الأمريكية، والتي عبَّر عنها البنكُ الدولي بصراحة. وترتب على ذلك ـ كما يقول الإعلان ـ أنه "تجري إعادة ترتيب أساسية للأولويات، في نطاق التحضير لخطة السنوات الخمس للتنمية".. و"تتضمن إعادة ترتيب الأولويات، تحويراتٍ كبيرةً في اتجاه وأساليب الإدارة الاقتصادية؛ لتحقيق عدد من الأهداف". وأول الأهداف تحقيق تغيُّر هيكلي في نمط الاستثمارات، وتسترشد الحكومة في ذلك بالسياسات التالية:
تجميع استثمارات الحكومة نحو إنهاء المشروعات التي يجري العملُ بها.
تركيز الاستثمارات العامة في قطاعات محددة، وفي عدد محدد من المشروعات؛ حتى يُسمح للقطاع الخاص بدرجة أعلَى من حرية النشاط.
اهتمام أكبر بقطاع الزراعة مع إعطاء أفضلية للمشروعات ذات العائد السريع، في الأراضي الزراعية القائمة، والاستغلال الاقتصادي للأراضي التي استُصلِحَت فعلاً، بدلاً من المشروعات البعيدة المدَى لمزيد من الاستصلاح.
الاهتمام بتحسين وتوسيع تسهيلات الهياكل الارتكازية.
تقديم التشجيع الضروري للاستثمارات الخاصة (المحلية والأجنبية) والمحافظة على الجو الملائِم للاستثمار.
تدعيم طاقة الإنشاء برفع مستواها التكنولوجي؛ حتى تعجل تنفيذ المشروعات القائمة؛ فطاقة الإنشاء كانت نقطة الاختناق، وخاصة في برنامج تحسين الهياكل الارتكازية، وقد تزيد في تأثيرها عن نُدرة الاعتمادات، (يهدف هذا الكلام إلى فتح قطاع الإنشاءات أمام الاستثمار الأجنبي، بعد أن كان ممنوعًا ـ المؤلِّف).
(أ) تحقيق خطة شاملة للمساعدات الخارجية للتنمية، تحدد الموضع الذي يمكن أن تُستخدَم فيه هذه المساعدةُ بأقصى فاعلية، وكذلك الشكل الزمني للاستخدام المُتسق مع احتياجات مصرَ من النقد الأجنبي، ومع الموارِد المحلية المتاحة (وتضع الخطة طبعًا المؤسساتِ الدولية ذات العلاقة بالجهات المُقدمة للمساعدات، وتلتزم الخطة بالأولويات التي تحددها هذه المؤسسات ـ المؤلف).
وقد حَدد إعلانُ السياسة الهدفَ الثاني، بأنه إعادة صياغة سياسة الأسعار/ الدخول، وتسترشد الحكومة هنا بترشيد الاستهلاك العام والخاص، من خلال تسعير مناسب، وسياسات مالية وسياسات أخرَى، ومن خلال حمايةِ الدخول الأدنَى، بإجراءات أقل تبديدًا من النظام الحالي لدعم الأسعار، وأخيرًا من خلال التسوية التدريجية بين الأسعار المحلية والدولية (باستثناء الأجور) والتعبئة المتسارعة للموارد المحلية؛ من أجل التنمية في إطار من الثبات النقدي.
والهدف الثالث: تحسين ميزان المدفوعات؛ بحيث
لا يتجاوز العجز في الحساب الجاري، قيمةَ السلع الرأسمالية المستوردة عام 1980، ويرتبط هذا بالخفض المستمر في استخدام تسهيلات المُقرضين القصيرة الأجل، وتحسين الشكل الزمني للدَّين الخارجي، ويتطلب هذا برنامجًا حازمًا لإدارة الدَّين تقودُه أعلَى المستويات. (ومفهوم ذلك - كما سيجيء- الموافقةُ على إشراف جهات خارجية على إدارة الدين، وعلى إدارة الاقتصاد القومي بالتالي).

ومن السياسات الضرورية لتحسين ميزان المدفوعات، التوسع في السوق الموازية، ومداومة الحوار والتعاون الاقتصادي مع الأقطار العربية والغربية، والمنظمات الدولية، وينبغي أن تتخذ هذه العملية "طابعًا مؤسسيًّا" (37). (وهذه مسألة هامة جدًّا وخطيرة، وتحققت بشكل جوهري خلال 1977 ـ المؤلف).
* إن الأمر يتطلب برنامجًا يشمل تحسين عجز ميزان المدفوعات حتى 1980 ـ الإصلاح النقدي ـ التوسع في السوق الموازية ـ تحرير عمليات التجارة الخارجية من أية تدخلات إدارية - الاتجاه إلى إنهاء الاستيراد بالتمويل الذاتي- الحد باطراد من اتفاقيات التجارة الثنائية. ولكن "الإنجاز الناجح لبرنامج الإصلاح السابق ذكره في دائرة التجارة الخارجية، يتأثر - إلى حد كبير - بالقدرة على التغلب على القصور الحالي في مواردَ النقد الأجنبي. وينبثق الجانب الأخطرُ من هذا القصور، من تراكُم الخصوم القصيرة الأجل التي كان ينبغي على مصر أن تعتمد عليها أثناء الأعوام الثلاثة الأخيرة".. "وكنتيجة لذلك؛ فإن معدل خدمة الدين لمصر يظل ـ خلال الأعوام القليلة القادمة ـ من بين أعلى المعدلات في العالم". وقدَّر إعلانُ السياسة احتياجاتِ مصر الإجمالية من النقد الأجنبي خلال فترة السنوات 77 إلى 1980 بحوالي 13.1 بليون دولار.
"وعلى ذلك، فإنه برغم الهبوط المُستَهدَف في حساب العجز الجاري لمصر، فإن عاملاً ضاغطًا رئيسًا، يمكن أن يقوض تحقيق هذا الهدف، وهو حجم احتياجات النقد الأجنبي في عام 1977 وحدَه. ويرجع هذا الانتفاخ إلى ثلاثة عناصرَ رئيسة.
أولا: حجم حساب العجز الجاري في 1977 الذي يعكس الحاجة إلى مستوَى أعلى من الواردات، مقارنًا بعام 1976 حين هبطت الواردات الحقيقية بأكثرَ من 25% من الواردات المطلوبة لذلك العام؛ بسبب ندرة النقد الأجنبي، وقد نتج عن هذا، تدهورُ كبيرٌ في توافر مدخلات الإنتاج والسلع الرأسمالية، وكذلك انخفاض في مستوى المخزون من معظم السِّلَع.
ثانيًا: فإن جزءًا هامًا من ودائع السنة الواحدة المودَعة بالبنك المركزي، يُستحَق عام 1977.
ثالثًا: فإن المديونية القصيرة الأجل، ارتفعت بحدة؛ بسبب الانخفاض الحاد في تدفق رأس المال عام 1976، ونتج عن ذلك تراكُم متأخرات يبلغ حوالي 450 مليون دولار (38).
وقد سجل إعلان السياسة على ضوء كل ذلك "أن الخطة الخمسية، تعتمد - إلى حد كبير - على تدفق رأس المال الخارجي. وللحقيقة، سيصبح لازمًا في المراحل الأولى توليدُ جزء كبير من المكون المحلي لإنفاق التنمية عن طريق المساعدة الخارجية، إذا أردنا تجنب معدل غير مقبول من التضخم، ومع استمرار التنمية، ومع بداية ظهور تأثير استراتيجية الخطة التي حددت فيما سبق، سيتحول العبء تدريجيًّا إلى الجهود الخاصة للبلاد. ومن الضروري - على أيَّة حال - التوصلُ إلى التزام مبكر، أو على الأقل إدراك حجم وتكوين المساعدة التي يمكن أن تتوقع مصرُ تسلُّمَها من الأقطار الأخرى والوكالات الدولية، بأقصَى سرعة ممكنة. إن توافر مثل هذا الإدراك، سيُمكِّنُ مصر من التخطيط للمشروعات، وتنفيذ السياسات بدرجة أكثر واقعية (39). (وهذا الأمل كان دائمًا خلف دعوة 1976 من أجل مشروع مارشال. والتي تمخَّضت عن المجموعة الاستشارية).
وبالنسبة لما أُسمِي بآفاق التنمية وأهداف النمو، نُشير إلى ما جاء في إعلان السياسة حول تقييم الإمكانيات المُحتَملة لمصر على النحو التالي:
تملك البلادُ سوقًا محليًّا واسعًا، ومخزونًا من اليد العاملة الماهرة، وأجورًا منخفضة نسبيًّا، وموادَّ خامًا زراعية ومعدنية، وموقعًا جغرافيًّا حاكمًا، يجعلها قاعدة طبيعية للصناعات التي نرغب في تزويد السوق الإقليمي النامي بها. (المقصود أنها تملك مزايا نسبية مشجعة للشركات العابرة الجنسية؛ كي تُستثمَر بها ـ المؤلف).
يُتوقَّع أن يرتفع دخلُ قناة السويس باضطراد، وبمعدل متسارع؛ تبعًا لإتمام برنامج التوسُّع في القناة وطاقتها المتزايدة.
تُقدر الآفاق المتطورة لإنتاج البترول في مصر (بواسطة شركات البترول) بأنها تصل إلى مليون برميل/ يوم مع حلول 1980، ويرتفع هذا كثيرًا عن احتياجات الاستهلاك المحلي، ويولِّد فائضًا كبيرًا للتصدير.
الزيادة الكبيرةُ في مُتحصِّلات السياحة، والتي وصلت إلى 350 مليون دولار، يُتوقع أن ترتفع بحِدَّة؛ نتيجة زيادة الطاقة الفندقية خمسة أضعاف عام 1980.
الإمكانيات الزراعية المحتملة الناتجة عن استخدام الأرض الحالية بشكلٍ أكثرَ كثافة، مع اهتمام أكبرَ بالمحاصيل ذات القيمة العالية، وبالاستغلال الاقتصادي لحوالي مليون آكَر من الأرض المُستَصلحة فِعلا.
التدفُّق المتزايد لتحويلات المصريين العاملين بالأقطار العربية الأكثر ثراءً في المنطقة (600 مليون دولار حاليًا)" (40).
(يُلاحظ أن الآفاق والآمال، ترتبط في الصناعة بالاستثمار الأجنبي في صناعات تصديرية، وفي زيادة إنتاج البترول، وفي الزراعة - بالاستثمار الأجنبيّ لاستغلال الأراضي الجديدة التي أنفقت الدولةُ مئاتِ الملايين من الجنيهات لاستصلاحها واستزراعها، وبنت السد العالي من أجلها،
أو بمجهودات القطاع الخاص المُتناثرة في الأراضي القديمة، والقطاعات الأخرى التي تتعلق بها أقصى الآمال هي: قناة السويس/ السياحة/ تحويلات المصريين العاملين في الخارج في الأقطار النفطيَّة).







آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:40 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

د ـ الخطوة الحاسمة ـ اتفاقيات الخليج: في الطريق إلى المجموعة الاستشارية، كانت الخطوة التالية بعد توقيع خطاب النوايا وإعلان السياسة، التوجه إلى دول الخليج، والعلاقة بين توقيع الحكومة على الوثيقتين، وبين هذا التوجه إلى الخليج، حددتها الأجزاء المحذوفة من خطاب النوايا الذي عرضناه، وهي تتضمَّن ـ أساسًا ـ نقطتين خطيرتين، وكانت النقطتان شرطين أساسيين لنجاح رحلة الخليج، ولإصدار اتفاق المساندة من مجلس إدارة صندوق النقد (41).
* النقطة الأولى التي حُذِفت من خطاب النوايا أشار إليها القيسوني على النحو التالي: "كان اتفاقنا مع الصندوق (أي خطاب النوايا الذي وقعه) لمدة عام، حصلنا بمقتضاه على قرض قيمته نحو 150 مليون دولار، يُسدَّد على خمس سنوات. كما حصلنا منه أيضًا على مبلغ آخر بقدر بنحو 44.4 مليون دولار من صندوق الضمان Trust fund التابع للصندوق، ونرجو أن نعقد مع الصندوق اتفاقًا في العام المُقبل لمدة ثلاثة أعوام، بما يزيد عن ثلاثة أضعاف هذا المبلغ (42) والرجل ـ كالعادة ـ يعرض الحقائق في صياغات مُضللة، فاتفاق ثلاث السنوات - وفق هذه الصياغة- أملٌ تتمنى الحكومة المصرية أن يقبل الصندوق تحقيقَه؛ فتحصُل على أكثر من 600 مليون دولار. وحقيقة الأمر أن الصندوق اشترط لتقرير اتفاق المساندة وتقديم التسهيل الائتماني، أن يكون خطاب النوايا عن العام 77/ 1978 مرتبطًا بالتزام الحكومة المصرية بمواصلة السياسات الرامية إلى إعادة تشكيل البنية الاقتصادية، حتى تمام العملية.
ولم يكتفِ الصندوقُ في هذا المجال ـ بطبيعة الحال ـ بكلام مُبهَم قابل للتأويل، فتَحدَّدَ الإطارُ العام للبرنامج المطلوب، وتحددت معالم جدول زمني للتنفيذ خلال سنوات ثلاث. وتوفيرًا للمرونة؛ ترك لمباحثات عام 1978 أن تصوغ رسميًّا هذا البرنامج في خطاب نوايا جديد، يغطي كل التزامات الفترة الممتدة، مع تحديد أدق لبرنامج السنة الأولى 1978/ 1979. وهذا الموقف من الصندوق مفهومٌ تمامًا؛ ففي مرحلة الهجوم الشامل لفرض الاستسلام الكامل، والتي بدأت عام 1976، وبعد الانتصار الجوهري الذي تبلور في الإجراءات المختلفة، وفي الالتزامات الواردة في خطاب النوايا (77/ 1978) وفي إعلان السياسة، كان طبَعيًّا أن يضمن الصندوق استمرار العملية بلا مراوغاتٍ تستفيد من أية مفاجآت سياسة. ويتدعم هذا الإنجاز باستراتيجية التنمية التي أُلزِمت الحكومةُ بتبنِّيها وفق إعلان السياسة مع البنك الدولي، والذي يغطِّي تقريبًا نفس فترة الاتفاق المُستهدَف مع صندوق النقد.
* قبل تناول النقطة الثانية التي أخفتها الحكومة، نذكر أن انعقاد المجموعة الاستشارية، مفروضٌ أنه خطوة نحو تدبير الاحتياجات التمويلية لخطة التنمية، وبالتالي كان طبَعيًّا أن يقال إن هذه المجموعة لن تنعقد إلا بشرط؛ أن تتم تسوية مشكلة الدين السائر (أي الدين القصير الأجل)، ومشكلة المتأخرات، التي تُمثل إشهار إعسار المدين، وقَضاءً على أهليته في عقد قروض خارجية جديدة. وأوضحنا في الفصل السابع فشلَ محاولات القيادة المصرية للتوصل إلى حل هذه المشكلة، من خلال اتصال مباشر مع الدول النفطية، يهدف إلى تحويل كل رأسمال هيئة الخليج (2000 مليون دولار) إلى قروض نقدية تواجه عجز العمليات الجارية. وترتبت على هذا الفشل كارثةٌ بالغة الخطورة مع بداية 1977، ولا تقارن أبعادُها بالاختناقات الشديدة التي واجهت ميزان المدفوعات المصري في الأعوام السابقة، وزاد من وطأة الكارثة، موضوعُ الودائع التي تدفَّقت من دول الخليج (أثناء 1975 بالذات) وهي ودائع تحت الطلب، واستخدمت المطالبة بسحبها كأداة للضغط الساحق في أواخر 1976 وأوائل 1977. وقد حدث أن توجه القيسوني إلى دول الخليج؛ للتباحث حولَ مشكلتَي الديون القصيرة الأجل والودائع.
بدأت رحلاته إلى الخليج في 20 آذار/مارس. وبعد مباحثات طالت بعضَ الشيء، قال: "إن الله - سبحانه وتعالى- قد وفقنا إلى حل هاتين المشكلتين"؛ إذ قبلت دولُ هيئة الخليج، المطلبَ الذي سبق أن رفضته مِرارًا وبإصرار، "فأقنعنا المسئولين عن الهيئة، بتوجيه رأس المال كله إلى التعاون؛ لمواجهة العجز في الميزان الحسابي". وبالنسبة للودائع، أفهمنا المسئول المصري أنها كانت مشكلة وهمية "فالواقع أنني عندما تكلمت بشأنها؛ سواء مع سمو الأمير فهد ابن عبد العزيز، أو مع الشيخ محمد أبي الخيل وزير المالية السعودي، أو مع سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، أو مع الأخ عبد الرحمن العتيقي وزير مالية الكويت، لم يكنْ هناك أي تردد منهم إطلاقًا في العمل على مساعدتنا، وهناك نقطة يجب أن نذكرها في هذا الصدد؛ لأننا في كثير من الأحيان، ننتقد الإخوة العرب، هي أنه وحينما ذكرت لهم أن هذه الودائع مُستحقة علينا، ونحن لا نقبل أبدًا، ولا من سياستنا أن نؤجِّل سداد ما علينا عُنوة واقتدارًا، وكل ما أريده هو أن أستأذن في تأجيل سداد هذه الودائع، فكان الرد: هل طالبكم أحدٌ بسدادها؟ إذا كنتم لا تستطيعون السداد فأجلوه، فقلت لهم: إننا لن نستطيع أن نسددها هذا العام،
أو العام القادم، أو العام الذي يليه، فقالوا: هل طالبناكم بشيء؟ (كذا)! وما دمنا لم نطالبكم بالسداد؛ فمن الأفضل ألا تتحدثوا في هذا الموضوع. ومن ثم، فنحن لم نتحدث عن هذه الودائع، والإخوة العرب أيضًا فعلوا نفس الشيء" (43).

* كيف تحققت كل هذه المعجزات؟!
يمكن أن نقول - بشكل عام، وعلى ضوء التجارب التي عرضناها - إن توقيع القيسوني على خطاب النوايا وإعلان السياسة، قبيل رحلاته "المُوفَّقة" إلى دول الخليج، كان مدخلاً لنجاح المباحثات. وهذا صحيحٌ؛ فقد استهدف مخطط الإغراق في الديون، خلق وضع ضاغط على الحكومة المصرية؛ كي تتمثل لتعليمات صندوق النقد الدولي. ونذكر أن مذكرة بول ديكي (الفصل الثامن) أوضحت أن الأمر يتطلب عقد صفقة متكاملة: فتتخلَّى حكومةُ مصرَ عن إدارة الاقتصاد القومي، مقابل تخفيف عبء الديون الخارجية. "ودون هذا المنهج، سنُسلم أنفسنا - عمدًا وبلا شك - إلى الإفلاس في 1977"، وقد فرطت الحكومة في استقلالها بالقدر الذي طلبه الصندوق في خطاب النوايا، وبالتالي كان متوقعًا ومفهومًا أن تصدر التعليمات إلى جهات التمويل؛ كي تقدم قدرًا موازيًا من التيسير في أزمة الديون. ولكن ما قبلته الحكومة من نوايا للعام 1977، وما بعده، لم يكن قد تحول بعدُ إلى سياسات منفذة؛ فبالتالي كان الأمر يتطلب أن تظل أداة العقاب مشهرة فوق الرقاب، إلى أن يتم التنفيذ الكامل، ويرتبط بهذا أن يتحول الخضوع الحكومي إلى وضع مؤسسي، بدلاً من أن يكون لحظة ضعف عابرة، أي: تتشكل سلطة (فعلاً وليس مجازًا) فوق الإدارة المحلية، ولها الصلاحيات والقدرة على التقرير، والمتابعة الدقيقة، وتوقيع العقاب المناسب في حالة المخالَفة. وقد أشارت إلى هذا الهدف أيضًا مذكرة ديكي، وتمكَّن الصندوقُ من انتزاع موافقة رسمية من الحكومة على ذلك في عام 1977، ولكن حذفت هذه الفقرة ـ لخطورتها ـ من خطاب النوايا الذي وصل إلى يدنا.
قامت صيغة هذه السلطة، على الأسس نفسها التي وردت بمذكرة ديكي؛ فالقروض النقدية "المُيسَّرة" تديرها جهات عيّنها الصندوقُ (وهي بالتحديد، مؤسسة مورجان ستانلي إنترناشيونال، وبنك تشيز مانهاتن). وهذه الجهات تتولَّى باسم صندوق النقد الصلاحياتِ التنفيذية في التفتيش والمتابعة وتُقدِّم تقاريرها إليه، ولا تفرج عن أية دفعة من القروض "الميسَّرة" إلا بعد موافقة الصندوق. وقد أثبت الصندوق ـ بكل الوضوح ـ تبعية استخدام القروض النقدية (التي تديرها هذه الجهات) لمواصلة الصندوق تقديم تسهيلاته المقررة في اتفاق المساندة، فإذا لاحظ الصندوقُ - من تقارير المتابعة (الصادرة عن المؤسسات التي عينها)، وبعد اتصالاته المباشرة ومباحثاته مع السلطات المحلية - أن هناك خروجًا أو تقاعسًا عن تنفيذ تعليماته؛ يتوقف عن تقديم تسهيلاته الائتمانية، وتتبعه الجهات الأخرى، فيعود الاقتراض المصرفي والاختناق، أو يشل النشاط الاقتصادي المصري الذي تضاعف اعتمادُه على الخارج بعجز مكشوف (نشرح هذه النقطة على نحو أكثرَ تفصيلاً في فقرة تالية).
إلا أن سلطة الصندوق لا تقف ـ في الواقع ـ عند حد الامتناع عن تقديم تسهيلات ائتمانية جديدة؛ فمع إلزام الحكومة بنوايا الصندوق الممتدة لأربع سنوات؛ بدءًا من عام 1977، تم ربط دائرة القروض النقدية المُيَسرة، بحلقة القروض المقدمة من مجموعة البنك الدولي، وبحلقة القروض المقدمة من وكالة التنمية الأمريكية، في سلسلة واحدة تمكن هذه الجهات من إصدار قرار موحد لاسترداد أموالها في أية لحظة، إذا رأى صندوق النقد (ومَن خلفه) أن هناك ضرورة لمثل هذا العقاب، وطبعًا تسلمت هذه الجهات الحقَّ القانوني في بيع كل أصول الدولة المصرية؛ لاسترداد ما لَها من ديون (انظر الفصل الرابع).
وفق هذا الترتيب الذي التزمت به الحكومة المصريةُ ـ في سريَّة مُطلقة ـ كان على رئيس المجموعة الاقتصادية، أن يتجه إلى دول الخليج؛ باعتبارها الطرف الذي كُلِّف بتدبير القسم الأكبر من الاحتياجات التمويلية للصفقة؛ فهي من ناحية صاحبة الودائع، وهي من ناحية أخرَى، مصدر القروض النقدية المطلوبة. وبالفعل بدأت رحلات القيسوني ـ كما قلنا ـ في 20 آذار/ مارس، وأعلن بعد ثلاثة أيام أن دول الخليج قبلت - من حيث المبدأ - تقديمَ قرض نقدي يبلغ حوالي 1500 مليون دولار من خلال هيئة الخليج، وكان هذا مجرد تأكيد على أن تعليمات الصندوق قد صدرت لهذه الدول، فقبلت فكرة تحويل كل رأسمال الهيئة إلى دعم احتياجات ميزان المدفوعات؛ لأن رأسمال الهيئة 2000 مليون دولار، سبق استخدام 250 مليون منها لهذا الغرض بعد أحداث كانون الثاني/ يناير، وكان التفاوض قائمًا على قدم وساق؛ لكي تضمَن الهيئة قرضًا آخر بإدارة ووكالة مجموعة تشيزمانهاتن، قيمته 250 مليون دولار. ولكنْ
لم تكن مهمة المباحثات الحصول على الموافقة المبدئية على أوجه استخدام رأسمال هيئة الخليج، فهذه الموافقة كانت معروفة بالقطع للوفد المصري قبل مغادرته للقاهرة، وكانت المباحثات تهدف ـ في الأساس ـ إلى تضمين اتفاقيات القروض تفاصيلَ ما أجمله صندوق النقد في خطاب النوايا، وخاصة صلاحيات ستانلي مورجان، وتشيزمانهاتن، وكان من حُسن التكتيك أن يكلف "الإخوة" في الخليج بهذه المهمة.

وصحيحٌ أن الإطار العام لهذه الصلاحيات كان محددًا، ولكن يبدو أن المفاوض المصري فوجئ بجسامة ما قُدِّم إليه في هذا الإطار، فطالت المباحثات، واضطر القيسوني ـ في مرحلة من المراحل ـ إلى إرجاء المباحثات للتشاور مع القاهرة، واجتمع بالفعل مع الرئيس السادات، وتشكلت لجنةٌ خماسيةٌ لدراسة قرض هيئة الخليج الكبير وشروطه واستخداماته (44). ولكن كان على القيسوني أن يعود في النهاية إلى الرياض مسرعًا، وكان ممكنًا - بعد ذلك - أن يواصل الجولة في دول الخليج الأخرى؛ لكي تعلن السعودية والكويت الموافقة على تدوير الودائع (5 نيسان/ أبريل)، أي تتأجل المطالبةُ بها دوريًّا كل سنة وحتى 1980، حسب انتظام الحكومة المصرية في تنفيذ التزاماتها الممتدة مع صندوق النقد الدولي (راجع الفصل الثالث).
· إن اتفاقية هيئة الخليج، واتفاقية تشيزمانهاتن، هما نقطة تحول هامة في المسار المصري نحو التبعية الاقتصادية. وأرجو أن يعود القارئ إلى التحليل الذي قدمناه للاتفاقيتَين (الفصل الثالث)، ولكن بوسعنا الآن أن ندرك ـ على نحو أعمقَ ـ خطورة ما سبق أن لاحظناه في ذلك التحليل، فتطور الأحداث يفسر لماذا أصدر رئيس الجمهورية في 6/ 11/ 1976 قانونًا بخصوص قرض تشيزمانهاتن ينص على مجرد قيمة القرض وسعر الفائدة وأجَل السداد، وحين أعلن نص الاتفاق بعد ذلك في مجلس الشعب ثبت أن الاتفاق، لم يوقَّع
إلا في 26/ 4/ 1977. فالمسألة هنا لم تكن مجرد خلاف في المواقف التفاوضية بين تشيزمانهاتن والسلطات المصرية، ولكنْ كان يرتبط أيضًا بحقيقة أن توقيت الاتفاق والتوقيع، كان جزءًا من الخطة العامة التي وضعها الصندوق، فالاتفاق في المرة الأولى كان في إطار إذعان الحكومة لمطالب الصندوق، في مقابل احتواء أزمة الديون، سيتحقق قبل نهاية 1976، وحين ثبت خطأ هذا التقدير، تأجل تدخل تشيزمانهاتن وهيئة الخليج إلى ما بعد انتزاع خطاب النوايا في آذار/ مارس 1977. وبشكل عام بوسعنا الآن أن نفهم الاتفاقيتين على ضوء تشابكهما الفعلي مع الخطوات الأخرى (كخطاب النوايا والمجموعة الاستشارية) بل ومع مجمل التطورات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي أدت إليهما. وبالتأكيد لم يكن ممكنًا أن نتوصل - عند تحليلنا السابق للاتفاقيتين - إلى دور صندوق النقد في التخطيط العام وإحكام الخِناق، فدور الصندوق لم يكن مُجسَّدًا بالحجم الصحيح في النصوص المنشورة للاتفاقيتين. وهذا طَبَعيٌّ وفقًا لمنهجه في العمل السري. وقد سبق أن أشرنا (الفصل الثالث) إلى أن الحكومة ناورت وأخفت عن مجلس الشعب قسمًا هامًا من نصوص اتفاقيتَي هيئة الخليج وتشيزمانهاتن، كما أوضحنا هنا، فإن المقابل لهذا القسم المخفي، قد استُبعد أيضًا مما كشفته الحكومة (أمام دائرة محدودة جدًا) من خطاب النوايا.

لقد حدث بالفعل، أن كلفت هيئة الخليج بتدبير الأموال، ولكن تولي إدارة العملية بنك دولي (تشيزمانهاتن) من ناحية، ومؤسسة ستانلي مورجان إنترناشيونال من ناحية أخرى، تحت قيادة صندوق النقد، وكان مستحيلاً أن تختفي تمامًا معالم هذا التصميم من نصوص الاتفاقيات المنظمة لشروط واستخدامات القروض، فقد نشر مثلاً ضمن نصوص اتفاقية قرض هيئة الخليج الكبير (1475 مليون دولار) أنه "يتوقف التزام الهيئة وفق هذه الاتفاقية على اقتناعها؛ استنادًا إلى المذكرة التفسيرية، وعلى أساس تقييمها بمساعدة صندوق النقد باحتياجات ميزان المدفوعات المصري، والإجراءات التي اتخذتها حكومة مصر لتحقيق توازن ميزان المدفوعات، وإعادة هيكلة دَينها الخارجي الإجمالي، وتعبئة مواردها من النقد الأجنبي، واتباع سياسات اقتصادية سليمة". ومع هذا النص (الذي لا يعبر تمامًا عن حجم وطبيعة دور صندوق النقد)، قالت الاتفاقية إن الهيئة "تقدم القرض عن طريق، إضافة مبالغَ إضافية إلى الحساب الفرعي للمقترض (أي: حكومة مصر) لدى بنك فيدرال ريزرف طبقًا للإجراء الذي اتفق عليه بين الهيئة ومؤسسة مورجان ستانلي الدولية". ولكن حَذفت الحكومةُ من الوثائق المقدمة إلى مجلس الشعب، ومن نصوص الاتفاقيات التي نشرت في الجريدة الرسمية"- كلَّ ما يفصِّلُ الدور المسند إلى مؤسسة مورجان ستانلي هذه، وكذلك كل ما يحدد دور بنك تشيزمانهاتن ليمتد (الذي يتولى إدارة قرض الـ 250 مليون دولار). وإذا كانت الصلاحيات المخولة لهاتين المؤسستين غير معروفة بدقة حتى الآن، فإن القدر المتيقن منه، يؤكد أن لهما وضعًا مؤسسيًّا مُعترفًا به داخل الجهاز المصري، يتابع بشكل مباشر الموازنة العامة والموازنة النقدية. وفي الاجتماع الثاني للمجموعة الاستشارية في باريس (14 ـ 16 حزيران/ يونيو 1978) كان الوفد المصري الرسمي يضم حامد السايح وزير الاقتصاد، وعبد الرازق عبد المجيد وزير التخطيط (على رأس تسعة من كبار المسئولين في القطاع الاقتصادي)، وأحمد هلال وزير الصناعة والبترول (على رأس سبعة من كبار المسئولين في قطاعه)، وإبراهيم شكري وزير الزراعة (على رأس ثلاثة من كبار المسئولين في قطاعه)، ونعيم
أبو طالب وزير النقل والمواصلات (على رأس ثلاثة من كبار المسئولين في قطاعه)، وريتشارد دبس رئيس بعثة ستانلي مورجان (وكان وفد المؤسسة يتألف من دانييل موريس نائبًا للرئيس، ونورنا صاروفيم، وأحمد فودة).. أي حتى شكليات الاستقلال السياسي والاقتصادي، لم تَعُدْ مرَاعاةً. وهذا أيضًا من الأسرار التي لم تعلن داخل مصر(45).

على أيَّة حال، أذعنت الحكومةُ للمطالب المقدمة عن طريق دول الخليج، وقبلت تسليم سلطاتها إلى صندوق النقد (والمؤسسات المعاونة). وعاد نائب رئيس الوزراء المصري من جولاته في الخليج مصرحًا بأنه "عائد من رحلته مشحونًا بطاقة من التفاؤل بالنسبة للإسهام العربي الواسع في التنمية المصرية" (44). ولم يكن التفاؤل بلا أساس؛ فقد أنجز الرجل ما كُلِّف به، وأبلغ صندوق النقد رسميًّا بالتزام الحكومة المصرية بنتائج مباحثاتها في الخليج. ووفقًا للبروتوكول، كان ينبغي أن يعتمد الصندوق هذه النتائج (باعتبارها امتدادًا لالتزامات الحكومة المصرية في خطاب النوايا) قبل قبول الأطراف الأخرى التوقيع على الاتفاقيات مع الحكومة المصرية. وتعبيرًا عن هذا البروتوكول، اعتمد مجلس إدارة الصندوق خطاب النوايا (الموقع في أوائل آذار/ مارس) بعد رحلة القيسوني الناجحة في الخليج، وأعلنت ترتيبات المساندة في 20 نيسان/أبريل، وعلى أثَر هذا وقعت اتفاقية تشيزمانهاتن في 26 نيسان/أبريل، ووقعت بعدها الاتفاقية مع هيئة الخليج في 5 أيار/مايو، ومع الضوء الأخضر الذي أطلقه الصندوق، وصل منير بنجنك (نائبُ رئيسِ البنك الدولي) إلى القاهرة حاملاً رسالة خاصة للرئيس السادات من "روبرت مكنامارا" حول المجموعة الاستشارية، وأعلن أن البنك الدولي أرسل الدعوات إلى الجهات "الصديقة" المشاركة في المجموعة، وأرفق البنكُ مع الدعوة، المذكراتِ المقدَّمة من الحكومة المصرية حول الاقتصاد المصري ومشاكله، وخطوات "إصلاحه"، وما نُفِّذ منها تحت إشراف صندوق النقد، ومع المذكرة تعليق من البنك يشيد بجدية مصر في الإصلاح، ويعبر عن ثقته في المستقبل (46).
بقي أن نشير إلى أن عمليات تحويل الدَّين السائر إلى دين ثابت، لم تقتصرْ على الترتيبات السابقة، كانت أموال دول الخليج المصدر الأول، ولكن كان مطلوبًا أيضًا إعادة جدولة تسهيلات المورِّدين وبعض من قروض الحكومات، وقد تكفَّل صندوق النقد بذلك أيضًا بعد توقيع الحكومة المصرية لخطاب النوايا، ولكن كان على الرئيس السادات أن يذهب بنفسه لإنهاء المهمة أثناء زيارته لفرنسا وألمانيا الاتحادية (أوائل نيسان/ أبريل)، وهو في طريقه إلى مباحثات الولايات المتحدة، التي أسفرت عن زيادة المكون السلعي في القروض الأمريكية لعام 1977.
كذلك ذهب رئيس مجلس الوزراء (ممدوح سالم) إلى إيران للغرض نفسه. ولم تُعلَنْ شروط هذه الصفقات؛ كجزء من سياسة إخفاء الجوهر الخطير لاتفاقيات "التيسير"، ولكن من حقنا أن نفترض أنها أضافت دعمًا لسلطة صندوق النقد.
ونذكر أننا طلبنا من القارئ (الفصل الأول) أن يحتفظ في ذاكرته بتجربة مصر في القرن الماضي، وبعد كل التطورات التي تابعناها منذ 1974، لا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى أي تدخل من جانبنا، لشرح التشابه العجيب بين ما حدث أيام الخديو، وما حدث أيامنا، وكيف استُخدِم الإغراقُ في الديون لتقويض الاستقلال. سنقتصر فقط على التذكير بأنه حدث أيام الخديو أن أدَّت مرحلةُ الإغراق في الديون (وخاصة الدين السائر) دورها المقصود في الإرباك وانتزاع التنازلات المتفرقة، وحين وصل الاختناق إلى الذروة، بدأ التدخل الخارجي مرحلةَ التسلط المنظم والمتزايد لإدارة الاقتصاد القومي باسم احتواء الأزمة وتيسير حلها، وفرضت البعثاتُ الدولية وصايتها على الموارد والإنفاق؛ لضمان حق الدائنين، مقابل تحويل الدين السائر إلى دين ثابت، فائدته أقل وأجله أطول، وتيسير سداد الالتزامات بالنسبة للدين الثابت (وهذا ما يقابل في أيامنا "إعادة جدولة"). وقد أُطلِق على هذه الصفقة أيام الخديو: "قانون التصفية". وهذا بالدقة ما تكرر في آذار/ مارس ـ نيسان/ أبريل 1977.
لقد ورث صندوق النقد الدولي على - مستوى العالم كله- النموذج الأولي الذي مثلته في مصر بعثاتُ كييف وفييه وجوشن وجوبير، أثناء السبعينيات من القرن الماضي. ولاحتواء الدين السائر الجديد (بعد أن أدَّى أهدافه)، تقدم صندوق النقد – كما تقدمت بعثاتُ القرن التاسع عشر - بمشروعاتٍ لتحويل الديون القصيرة الأجل، إلى ديون ذات فائدة أقل، وأجل أطول، وللاتفاق مع أصحاب الديون المتوسطة والطويلة الأجل على تيسيرات في السداد، وكما امتدت وتشعبت مهامُ بعثاتِ القرن التاسع عشر بواسطة الخبراء والمستشارين أصحاب المرتبات العالية، والذين عُيِّنوا في كل المجالات والوزارات، وعلى رأسها وزارات القطاع الاقتصادي، امتدَّت أيضًا وتشعَّبت مهام الهيئات الدولية في أيامنا هذه، وبثت خبراءها ومستشاريها للإشراف على الموازنة العامة والموازنة النقدية، ومجمل النشاط الاقتصادي والتنمية. ويُذكر أن بيت روتشيلد (في قانون التصفية الأول) تولي تمويل عملية تحويل الدين السائر إلى دين ثابت في القرن التاسع عشر، وقد تولَّت المهمة (في قانون التصفية الثاني) هيئةُ الخليج، ولكن يبدو مؤكدًا أن بيت روتشيلد (أو ما يمثله) كان مشاركًا أيضًا هذه المرة من خلال ستانلي مورجان وتشيزمانهاتن (ولا نقول صندوق النقد). ومؤكد بالتالي، أنه لم يعد في مصر سر اقتصادي واحد
لا تعرفه الولايات المتحدة و.. إسرائيل. وقد نُشير في هذا الإطار إلى أن منير بنجنك الذي نظم عقد المجموعة الاستشارية وترأس اجتماعها يهوديٌّ (من أصل تركي). وفضلاً عن دوره الفعّال، فإن موقعه هذا كان رمزًا لطبيعة ما تحقق.

هـ... ثم عُقدت المجموعة الاستشارية: تم لقاء المجموعة الاستشارية الأولى في مقر البنك الدولي في باريس، وحضرته وفود من 25 دولة ومؤسسة دولية هي: البنك الدولي ـ كندا ـ فرنسا ـ ألمانيا الغربية ـ إيران ـ إيطاليا ـ اليابان ـ الكويت ـ هولندا ـ قطر ـ المملكة العربية السعودية ـ دولة الإمارات العربية ـ المملكة المتحدة ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ البنك الأفريقي للتنمية ـ الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ـ الصندوق الخاص للأوبك ـ برنامج الأمم المتحدة للتنمية (47).
وكان مقررًا أن يتم لقاء المجموعة الاستشارية في نيسان/ أبريل 1977، "ثم رُؤي - لعدة أسباب - تأجيلُه لشهر أيار/ مايو". هذا ما قاله نائب رئيس الوزراء المصري، والأسباب العدة التي لم يذكرها؛ هي أن توقيع الحكومة المصرية على صكوك الاستسلام المختلفة، تأخَّر بعض الوقت، وبعد خمسة أيام من توقيع اتفاقية الـ 1475 مليون دولار مع هيئة الخليج، انعقد في 11 و12 أيار/ مايو اجتماع باريس.. هذا الربط لا نضيفه من عندنا، ولكن أعلنه منير بنجنك (نائب رئيس البنك الدولي ورئيس اللقاء) بطريقته الخاصة، فقال في كلمته الافتتاحية (48): إن كافة الأطراف المعنية وصلت إلى أن المساعدات يمكن أن تحول وتُستخدَم بكفاءة أعلى؛ إذا اجتمع كل مقدمِي المساعدة الأساسيين، مع ممثلي الجانب المصري على فترات معقولة؛ لمناقشة إسهاماتهم في تنمية اقتصاد مصر، وحل مشاكلها الاقتصادية؛ ولتأكيد هذا المعنى، "طلبت" الحكومة المصرية من البنك الدولي، أن ينظم مجموعة استشارية، تتم من خلالها هذه المناقشاتُ والإجراءات، "ووافقت" الحكومة المصرية على أنه لا بد من اتخاذ "بعض الإجراءات المعينة في مجال الإدارة الاقتصادية" قبل الاجتماع الأولى للمجموعة، وأعلنت الحكومة "من ناحيتها" أنها ستتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد ـ قبل الاجتماع ـ حول سياسات اقتصادية محددة للأجل القصير، وكذلك أخذت تُعِد إطارًا لاستراتيجية خطةٍ متوسطة الأجل. وفي هذه الأمور، حدث تقدم كبير في الأسابيع الأخيرة، فوقَّعت الحكومةُ خطاب نوايا مع صندوق النقد (4 آذار/ مارس) ـ ووافق مجلس مديري الصندوق، على ترتيب مساندة (21 نيسان/أبريل)" ـ (لاحظ كلمات: طلبت، ووافقت، ومن ناحيتها.. يكاد المريب يقول: خذوني!) وأضاف منير بنجنك أن "الاحتياجات التمويلية لمصر كبيرةٌ، ولكن هذا الدعم المؤقَّت، واستخدامه بكفاءة من قِبَل مصرَ، سيجعل إحداث تحسُّن أساسي في الوضع الاقتصادي أمرًا ممكنًا عام 1980". (لتفسير حكاية عام 1980 ـ عام الرخاء ـ انظر الفصل العاشر).
وقد كان ضروريًّا في عام 1977 تخصيصُ نسبة أكبر من المساعدات النقدية السلعية في حُزمة المساعدات المقدمة ولكن في السنوات القادمة، ستزداد تدريجيًّا نسبةُ مساعدات المشروعات. وقد حدثت تطوراتٌ هامة لتيسير المشكلة العاجلة؛ فأولاً تم التوصل إلى اتفاق أساسي بين مصر وهيئة الخليج، وسنسمعُ من المندوبين الحاضرين هنا عن تفاصيل هذا الاتفاق. وبالإضافة أحدثت الولايات المتحدة بعض التغييرات في ترتيب برنامج مساعداتها؛ بحيث تزيد معدلات استخدام هذه المساعدات، وسيشرح وفد الولايات المتحدة هذه الخطوة. وكل ذلك كان في اتجاه مواجهة الاحتياجات العاجلة في عام 1977. وكان طبَعيًّا أن يختم منيرُ بنجنك كلمته بتذكير الحكومة المصرية بأن "1978 على الناصية، وكل المندوبين الحاضرين هنا، يحتاجون إلى معرفة الحجم المستمر والتركيبة المحددة لاحتياجات مصر".
بعد هذه الكلمة الافتتاحية، تلا منير بنجنك رسالة الرئيس أنور السادات إلى روبرت مكنمارا (رئيس البنك الدولي) ردًّا على رسالة الأخير إلى الرئيس (مع قرار صندوق النقد بترتيبات المساندة) ولإبلاغه عن الاجتماع الوشيك للمجموعة الاستشارية. ولم تكن رسالة الرئيس إجراء في نطاق المجاملات، ولكن في إطار تأكيد الإطار العام للسياسة المصرية وتحالُفاتها الدولية، ولمسارها الاقتصادي كما التزمت به، بلسان المسئول الأول في الدولة. كان نص الرسالة كالتالي (والتشديد على بعض الكلمات مضافٌ من المؤلف):
عزيزي مستر مكنمارا،
لقد رأيت رئيس المجموعة الاستشارية مستر بنجنك، وتلقيت منه معلوماتٍ مفصلة عن خلفية المجموعة، وعن الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه، وأكون سعيدًا إذا نقلتم أطيب تمنياتي في هذه المناسبة إلى أعضاء المجموعة، فكافة المندوبين الذين يلتقون في باريس، يمثلون أقطارًا تُعتبر مصر أقرب أصدقائها، ومنظمات متعددة الأطراف تتمتع بعلاقات ممتازة ومستمرة معها. لقد أبدى الجميع اهتمامهم العظيم بتنمية اقتصاد مصر، على النحو الذي أثبتته - مؤخرًا من جديد - الاتفاقياتُ الأساسية التي صدق عليها، أو التي في طريق الإنهاء.
إننا نرحب بنوعَي الدعم اللذين أُتِيحا لنا: أولاً: مساعدة ميزان المدفوعات، ستُعيننا في التغلب على أكثر الصعاب التي نواجهها استعجالاً، والتي وجدت بلادي والأقطار الشقيقة الأخرى نفسها في داخلها. ثانيًا، نحن نولي - بنفس القدر - اهتمامًا كبيرًا بمساعدات المشاريع والسلع التي تعتبر استثمارًا للمستقبل، وتعين في الإعداد للخطوات الأسرع جدًا في التنمية الاقتصادية التي تهدِف سياستُنا إلى حفزِها. وخلال السنوات القليلة القادمة، ومع تحسُّن الموقف في منطقتنا، يكون طبَعيًّا أن نولي بالتدريج اهتمامًا أكبر بهذا النوع الأخير من التعاون.
لقد راجعت إعلان السياسة الذي قدمه إليكم د. القيسوني نائب رئيس مجلس الوزراء، ونحن نشعر أنه يحدد بوضوح إطار استراتيجية مصر للتنمية، والإصلاحات الاقتصادية، وأهداف النمو عبر فترة خطة الخمس سنوات التي تنتهي 1980.
إن اتفاقيات التعاون والتمويل التي تم التصديقُ عليها، والتي سيتم التباحث بشأنها في المستقبل، تحتل مكانًا هامًا في السياسة الخارجية والاقتصادية لمصر. وإنني أوليها اهتمامًا مباشرًا شخصيًّا. وقد أصدرت التعليمات الضرورية بتقديم تقارير إلى فترات منتظمة، عن التقدم المحقق وعن أية صعاب يواجهها تنفيذ هذه الاتفاقيات.
مع أطيب تمنياتي الشخصية، ومع شكري للعمل المفيد الذي يقوم به البنك الدوليُّ بالتعاون مع حكومتي.
* * *
* بعد تلاوة هذه الوثيقة، طلب رئيس المجموعة الاستشارية (منير بنجنك) من عبد المنعم القيسوني "أن يقدم وجهات نظر الحكومة عن الوضع الاقتصادي الجاري، وأولوياتها الاقتصادية، والسياسات المتبعة للتغلب على مشاكلها القصيرة الأجل، ولتنفيذ استراتيجيتها في التنمية". وكان مطلوبًا ـ في الواقع ـ من قائد المجموعة الاقتصادية في الحكومة المصرية، أن يفضل ما أجمله الرئيس السادات، وبالتالي كان مطلوبًا أن يعلن في حضور كل المندوبين التزام الحكومة المصرية بما سبق أن وُقِّعت عليه في الاتفاقيات المختلفة، وأن يضيف كل ما يؤكد الالتزام، فتقدم ممثل الحكومة المصرية إلى المنصة ليقول:
* كان ضروريًّا أن نكسر الحلقة المفرغة التي بدا أن مصر ستتردَّى فيها، "وكان لا بد من تبني برنامج طموح من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، التي تمكِّن بلادنا من الوقوف على أقدامها بحزم، ومن استخدام كل إمكانياتها على نحو صحيح، ورفع مستوى المعيشة لشعبها، واحترام التزاماتها كلما حل موعد سدادها، واحتلال موقعها الطبيعي في مجتمع الأمم".
* وقد شرعنا في تجهيز البرنامج المطلوب بتصميم حازم، وإصرار شديد. إن حكومتنا وشعبنا يؤيدان بحزم هذا البرامج، ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ومجلس الوزراء، يعطونه الدعم الكامل.. وبعون الله، سنحقق أهدافنا".
* ونحن نعتقد أن كل هذه الأهداف، يمكن أن تحقق حين يسود السلامُ، ونحن نطلب السلام لكل المنطقة، سلامًا مع العدل والكرامة.. لقد أعلنا نوايانا في هذا المجال، وعقدنا العزم على العمل مع المجتمع الدولي باتجاه هذا المقصد، وينبغي الإشارةُ إلى أنه في كافة الخطوات التي اتخذناها منذ بداية عام 1977 كان رئيس الجمهورية يعطي وقتًا كافيًا لمناقشة المشاكل الاقتصادية، ولتصميم السياسات الاقتصادية، ولمتابعة تنفيذها، رغم العبء الثقيل الذي يتحمله في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية. وهو يعطي أيضًا قسمًا كبيرًا من وقته في محاولة التوصل إلى سلام عادل وكريم؛ حتى يمكِّن بلاده من توجيه نسبة كبيرة من مواردها للتنمية الاقتصادية".
* ومن الضروري أن نوضِّح سياساتنا واتجاه خطونا، (في العشرين عامًا الأخيرة أو ما يقرب من ذلك (أي بدءًا من 1957)، وخاصة منذ التأميمات الشاملة في عام 1961، تبنينا سياسة للإدارة المركزية، ولنظام الحزب الواحد، ومجموعة من الإجراءات الاشتراكية التي تصادمت في بعض الأحيان مع معتقداتِنا وتقاليدنا العريقة. إن تاريخنا وتقاليدنا تشير إلى أننا في الأساس شعب متدين (وفي الحقيقة كانت منطقتنا مهد الأديان الرئيسَة). لقد اعتمد اقتصادنا - لفترة طويلة - على نهر النيل، واستلزم ذلك إدارة الدولة، وتدخلها في الري وتوزيع المياه، وفي الصرف.. إلخ. ولكن بجانب الأنشطة الحكومية، ازدهر القطاع الخاص بشكل عام"... "لقد آمنا بعمق بضرورة المزيج الملائم بين الأنشطة الحكومية والأنشطة الخاصة. وهذه هي أكثر السياسات قبولاً لدى شعبنا، وهذه هي السياسة التي نتبناها، إننا نؤمن بكرامة الإنسان، وبحريته في اختيار دينه ومُعتقداته ومهنته".
* وفي المجال الاقتصادي يمكن تلخيص هذه السياسة على النحو التالي:
ينبغي أن تكون الأنشطة الرئيسَة للقطاع العام في مجال الهياكل الارتكازية، فينبغي أن تتولى الحكومة أمرَ الطرق، النقل، المواصلات، مياه الشرب، الكهرباء، الري، إلى جانب الصحة والخدمات التعليمية، وتقديم الإسكان الشعبي الرخيص.
ينبغي أن يتولَّى القطاع الخاص الهيكلي الذي يقوم على هذه الهياكل الارتكازية في الزراعة والصناعية والتجارة، بالإضافة إلى المهن المتنوعة؛ فالقطاع الخاص يملك القدرة الخلاقة، وحافز الربح، وإمكانياته الفذَّة.
ومع ذلك، فإن التزاوج بين القطاع العام والقطاع الخاص في مجالات معينة من هذه الأنشطة، ليس مستبعدًا، وقد يحتفظ القطاع العام بمِلكيته الحالية لمشروعات معينة، مع إمكانية بيع جزء من حقوقه إلى العاملين في المشروع، ولكن يجب أن تكون إقامة المشروعات الجديدة مسئولية القطاع الخاص في الأساس.
وحتى انعقاد المجموعة الاستشارية، لم تكن الحكومة قد انتهت بعدُ من إقرار القانون، الذي يمنح المستثمر المصري مزايا قانون استثمار المال العربي والأجنبي، ولم تكن الحكومة قد انتهت بعدُ من تعديل قانون 43 على النحو الذي يطلبه المستثمرون الأجانب؛ ولذا تطَلَّب الأمرُ تأكيدًا خاصًا على التزام الحكومة في هذين الموضوعين؛ "فقد أعلنا نيَّتنا الصارمة بالتوسع الملموس في القطاع الخاص المصري، ومشروع القانون الذي يعطي كل التشجيع الضروري، قُدِّم بالفعل إلى البرلمان، وكذلك تم تشجيع الاستثمار العربي والأجنبي، الذي بدأ من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي، ومشروع القانون الجديد الذي أزاح المعوقات المختلفة لهذا الاستثمار، وعامله بأفضل سعر للصرف، هو بالفعل في المرحلة النهائية من المناقشة في البرلمان، وتمت الموافقة عليه من كل اللجان البرلمانية المعنية"، "وقد تمت الموازنة على إقامة سُلطة عُليا تملك الصلاحيات الضرورية للتغلب على الروتين، والموافقة على الاستثمارات، والحد بشكل جذري من كل السيطرة والتدخلات البيروقراطية (...) وقد قررنا تغيير القوانين الخاصة بالبحث عن المعادن؛ حتى نشجع عمليات بحث سريعة ومربحة من خلال مشروعات مشتركة بين القطاع العام والشركات العربية والأجنبية" (49).
* * *
لا شك أن رسالة الرئيس، وخطاب نائب رئيس مجلس الوزراء، أبهجا الحاضرين، والفقرات الكثيرة التي أسقطناها من خطاب القيسوني كانت تكرر التزام الحكومة بكل ما سبق أن سجلناه عن اتفاقياتها مع الجهات المختلفة؛ إذ رأينا أن نقتصر على الالتزامات الجديدة، وعلى تبيان اللهجة العامة، وحتى تلك الفترة كان يصعب الحديث بهذه اللهجة داخل مصر، ويتعذر الإفصاحُ عن كل النوايا التي صرّحت بها الحكومة في الاجتماع.
* * *
* وكان على ممثلي الجانب الآخر أن يتكلموا، فقد تلا رئيس الوفد الأمريكي نص الخطاب الذي أرسله وزير الخارجية (فانس) الذي "أشاد بالسياسة السليمة المعتدلة التي تتبعها مصر سياسيًّا" (42). وبعد القيسوني قدم ممثل صندوق النقد الدولي (جنتر) تقييمًا لموقف الحكومة المصرية. قال الرجل إنه ـ التزامًا بمبدأ المَيْزة النسبية ـ سيركز على مجموعة الأمور الاقتصادية والتمويلية التي يهتم بها الصندوق في المقام الأول، "والتي يملك المتحدثُ بعض معلومات عنها" (أرأيت التواضع؟!). وصرح جنتر بأن "مهمة الصندوق مساعدة مصر في صياغة سياساتها، وبواسطة توفير جزء من التمويل الضروري". ولحسن الحظ حدث حلٌّ لمشكلة تمويل العجز في ميزان المدفوعات قُبَيل اجتماع المجموعة الاستشارية؛ نتيجة لترتيب المساندة من صندوق النقد، وللاتفاق مع هيئة الخليج، وكان برنامج المساندة لعام واحد خطوة هامة نحو إصلاح السياسة، ولكن ـ كما أشار د. القيسوني ـ فإن الحكومة تنتوي إعداد برنامج مناسب (يُنفَّذ في أعقاب البرنامج الأول)، لقاء ترتيب ممتد للتسهيلات. وهذا البرنامج يغطي فترة سنتين أو ثلاث، ومن شأنه أن يزيد إمكانيات التمويل من الصندوق، وإذا تحققت السياسات التي يتوقعها الصندوق؛ سيختفي عجزُ المدفوعات، ويتوطد إطار التنمية الاقتصادية.
وقد أوضح جنتر أن رضاءه عمَّا تحقق، لا ينفي أن النوايا التي لا زال مطلوبًا من الحكومة أن تعلنها رسميًّا، وبشكل متكامل لا زالت كثيرة، وإطار هذه النوايا ـ كما جاء على لسان جنتر ـ لم يخرج عمَّا أعلنت الحكومة نيتها بخصوصه بعد ذلك، في خطاب النوايا الذي وقعه ممدوح سالم (أيار/ مايو 1978) وقد ذكّر ممثل الصندوق الحكومة المِصرية ـ كما فعل ممثل البنك الدولي ـ بأنها تحتاج إلى تمويل أجنبي ميسر بكمية كبيرة، ولكن تقدير الاحتياجات والالتزامات "يتوقف على السرعة التي يمكن لمصر أن تُنفذ بها تعديل سياساتها"... وإذا "كان متوقعًا أن تقل – بحدة - حاجةُ مصر إلى تمويل ميزان مدفوعاتها عبْر عدد من السنوات التالية، فإن هذه الاحتياجات يُتوقَّع أن تكون كبيرة عام 1978" (50).
وتكلم عن البنك الدولي وليم هامفري، فاستعرض اطراد الزيادة في قروض البنك الموقعة مع مصر، وقال إنها "تعكس حكمنا بأن مصر تبدأ في اتخاذ الإجراءات المطلوبة لحل مشاكلها الاقتصادية الصعبة، ولإقامة أهليتها للاقتراض على أساس أصلب.. وإذا تواصلت التطورات في الاقتصاد المصري في نفس المسار الذي نُوقش في هذا الاجتماع، فإننا نأمُل أن نزيد دعمنا في المستقبل كلما صار الاقتصاد أكثر قوة وتحملاً لحجم أكبر من الإقراض ذي الشروط الأشد.. وبالإضافة إلى جهودنا في الإقراض، فإننا نخطط للاستمرار في مناقشاتنا مع السلطات المصرية ـ ودائمًا بالتشاور المباشر مع صندوق النقد ـ حول السياسات والتطورات الاقتصادية الشاملة، وسنواصل أيضًا حوارنا حول القضايا القطاعية الهامة" (51).
وقد وجه أعضاء الوفود عديدًا من الأسئلة إلى الوفد المصري، وأحاطت الأسئلة والاستفسارات بكافة القضايا، بدءًا من خطة التنمية وأولوياتها وموعد الانتهاء منها، إلى سياسة القروض، وقروض المشروعات، وأسباب التأخر في استخدامها، وانتهاءً بتنظيم الأسرة والتعليم، وأكدت الوفودُ المشتركة على ضرورة دعم القطاع الخاص وتقديم تسهيلات موردين، عن طريق ترتيبات تجارية لمنح هذا القطاع ميزات تفضيلية، وأثارت الوفود أنه لا ينبغي أن يُسمح للقطاع العام بالتدخل الكبير في تحديد دور القطاع الخاص، وأبدت بعض الدول رغبتها في التعاون مع الحكومة المصرية في تنشيط القطاع الخاص.. إلخ.
وقال القيسوني إنه يسعده أن يحيط "مجلس الشعب الموقَّر بأن الروح التي سادت اجتماعات المجموعة الاستشارية؛ مثل تلك التي سادت الاجتماعات التي سبقتها في الدول العربية الشقيقة، وفي الولايات المتحدة، والدول الأخرى التي زُرناها خلال الشهور الأربعة الأخيرة، كانت روح مودة وصداقة واحترام". ولكنَّ بعض المراقبين، وعددًا ممن حضروا الاجتماعات، لم يلمَس هذهِ الروح على ما يبدو، وعبَّر باسمهم لطفي عبد العظيم (رئيس تحرير الأهرام الاقتصادي) حين كتب أنه "واضح للأسف الشديد لكل مراقب للأحوال الاقتصادية، أننا نمر بحالة يمكن لنا أن نطلق عليها ـ دون مبالغة ـ أنها حالة ذعر اقتراضي (...) بل إن الدراسات التي ينطلق منها تحركنا الاقتصادي، يبدو أنها تصور أزمة مصر الاقتصادية، على أنها أزمة سيولة عارضة لا غير. (....) ومن ثم، فلا داعي للدهشة عندما يقف المسئولون المصريون في باريس، ليقدموا كشف حساب للسيد منير بنجنك نائب رئيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وعندما يقوم أعضاء المجموعة الاستشارية بامتحان المسئولين المصريين فيما يتعلق بسياسات تنظيم الأسرة والتعليم، والأجور وتنظيم القوَى العاملة وسياسة إنتاج الأغذية، والمواد الأولية اللازمة للزراعة، كما ناقشوا المسئولين في (تصورهم) لكيفية تغلب الحكومة المصرية على مشكلة عدم سرعة استخدام المساعدات والقروض المقدمة لها، وفي موقف الحكومة من القطاع الخاص.. إلخ (52)" هذا الوصف أكدَّه بصراحة بعضُ من حضر المجموعة الاستشارية الأولى، وقالوا إن الأسئلة التي انهالت عليهم، ممن يفهم ومن لا يفهم، جعلتهم يشعرون أنهم بالفعل أمام امتحان مهين (53).
وماذا بعد نجاح الوزراء في الامتحان؟ ماذا بعد ثبوت أن ترويض الدولة المصرية قد أتى فعلُه؟ لم يكن مقررًا ـ كما قلنا ـ أن يلتزم الحاضرون بأي شيء محدد قبل مصاعب السنوات القادمة، وحسب تعبير القيسوني، فإن "الوفد المصري قد ركز في البيانات التي ألقاها، وفي مناقشاته مع الوفود، على أن المعونات التي تطلبها مصر ليست لسنة واحدة فقط، بل ستستمر لمدة أربع سنوات.... ولهذا فإن مهمة الوفد من أجل إقناع الوفود المشتركة، كانت أصعبَ كثيرًا مما لو كانت المساعدة مطلوبة لمرة واحدة". ولكن
لم تكن المسألة تتعلق بالإقناع؛ إذ لم يكن واردًا أصلاً تقرير برنامج منتظم لتدفق "المعونات" في السنوات التالية، كان الهدف معاينة نتائج "المعونات" التي قدمت في السنوات السابقة، وتقديم التهنئة لصندوق النقد وللبنك الدولي على نجاحهما الباهر.


(4) تحركات وتوضيحات بمناسبة المجموعة الاستشارية:
أ ـ بعثة موللر:
في مواجهة الغزو الاقتصادي الخارجي أثناء القرن التاسع عشر، حاول الخديو أن يلعب على التناقض بين القوَّتين العُظميين في ذلك الزمان: إنجلترا وفرنسا. وفي عصرنا، حرصت الولايات المتحدة أن تبعد عن الميدان كل القوَى الأخرى، من أجل مزيد من إضعاف الموقف المصري في مواجهة الغزو الجديد. ولم يقتصر مخطط الحكومة الأمريكية على إبعاد الاتحاد السوفييتي، ولكن شمل أيضًا أوروبا الغربية بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية المتميزة، قبل تطورات الشرق الأوسط. واحتكار الولايات المتحدة لمفتاح الحرب والسلام في المنطقة مسألة مفهومة وواضحة ـ كخط عام ـ ولكننا نشير في السياق الحالي إلى الموقف الحاسم من بعثة موللر، وتقريرها الشهير، بمناسبة ما ذكرناه عن الخطوات المختلفة التي أدَّت إلى المجموعة الاستشارية.
فمع انتفاضة 18 كانون الثاني/ يناير 1977، قبلت دول الخليج والجهات الأخرى مطلب الحكومة المصرية، بالاحتكام إلى خبراء غربيين حول المستقبل المرشح للاقتصاد المصري، وحول السياسات التي يصرّ عليها صندوق النقد الدولي. وبالفعل صدر في 18 كانون الثاني/ يناير بيانٌ من حكومة ألمانيا الغربية، وبموافقة الرئيس السادات ينص على التالي: "بِناءً على طلب رئيس جمهورية مصر العربية، عبر المستشار الاتحادي لجمهورية ألمانيا الاتحادية عن استعداده لإرسال الوزير الاتحادي السابق بروفيسور د. أليكس موللر؛ كمستشار شخصي للرئيس المصري أنور السادات؛ تنفيذًا لاتفاق التعاون الفني بين الحكومتين في 27 حُزيران/ يونيو 1973". وتحددت مهمة موللر ـ بشكل أساسي ـ في تقرير يُرفع إلى الرئيس، واستعان الرجل بفريق من المعهد الألماني للتنمية (برلين) (54). وكان متوقعًا أن تستغرق المهمة عامًا كاملاً، ولكن اقترح موللر ـ نتيجة لظروف أحداث كانون الثاني/ يناير ـ أن ينتهي من إعداد تقريره في أيلول/ سبتمبر، وفرغ منه فعلاً في 30 حزيران/ يونيو، بفضل "التعاون النموذجي مع السلطات الحكومية المصرية، ولجنة المجتمعات الأوروبية Commission of the European communities وبفضل النصائح المُقدَّمة من الخبراء البارزين في المجالات المتخصصة". كما كتب موللر، "وقد أمضيت مع د. تاك بضعةَ أيام في واشنطن أثناء شهر نيسان/ أبريل لإجراء مباحثات تتعلق بمصر مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إنها خبرة واسعة، وثروة من المعلومات، ونهج من انفتاح العقل نادرُ الوجود، وقد أعطانا ذلك معونة أساسية على طول الطريق، وكان من الحماقة ألا يُستفاد من الآراء الخبيرة بالمصالح والاهتمامات المصرية المتوافرة في هاتين المؤسستين، فدُون هذه المساعدة، لا يستطيع أي فريق أن يجد ويجمع كل علاقات التشابك، والحقائق والأسباب للصعاب القائمة، بطريقة تسمح باستخدامها بوعي كامل "ولكن بعد هذا التصريح الخطير، بأن أكمل المعلومات والتحليلات حول الاقتصاد المصري لا تتوافر إلا في واشنطن، كتب موللر أنه "إذا كانت بعضُ النقاط الواردة في التقرير، والتي تبدو في حاسمة، لا تعكس آراء أولئك الذين عاونونا ـ وينطبق هذا على كل واحد منهم ـ فإنني أرجو أن يكون في ذهنكم (الحديث موجه إلى الرئيس السادات) أن الرأي الذي يكوَّنُه المرءُ لنفسه، ينبغي أن يكون العامل الوحيد الذي يحدد فهمه للوضع الاقتصادي والمالي المصري، والاقتراحات المشتقة منه". وهذه الفقرة عبرت ـ بأقل قدر من الدبلوماسية ـ عن الخلاف الكبير بين نظرة البعثة الأوروبية، ونظر الولايات المتحدة والهيئات الدولية الخاضعة لهيمنتها. ولكن مع النفوذ الأمريكي الطاغي، وبعد التطورات المتلاحقة والحاسمة من كانون الثاني/ يناير إلى أيار/ مايو، كان لا بد من وأْد تقرير موللر (الصادر في آخر حزيران/ يونيو) فور ولادته، فمنع من التداول (حتى في الدوائر المسئولة الضيقة)، ومنع استخدامه في المباحثات والمحاورات الاقتصادية في الداخل والخارج، بل وعبر الرئيس عن نقد علني لبعض محتوياته في اليوم التالي لتسلمه.
عالج التقرير عددًا كبيرًا من القضايا (55)، وبالتأكيد تمثل المعلومات والتحليلات الواردة فيه مرجعًا رئيسًا لأي باحث في الاقتصاد المصري، ولكن المتوافر لدينا فقط، هو عرض مختصر للنتائج الأساسية التي توصل إليها التقرير، بقلم رئيس البعثة: موللر (56)، وهذا العرض يكفي -على أيَّة حال- لتبين النظرة المتميزة من أوروبا الغربية.
من البداية لا تخفي البعثةُ تحيزاتها السياسية؛ "فالتنمية الاقتصادية لمصر ـ كما يقول موللر ـ لا يمكن أن تُحَقَّق إلا إذا كان هناك تقسيم للعمل، وتعاون مع باقي العالم، وبالتحديد الأقطار العربية، وأوروبا الغربية، والولايات المتحدة". وواضح هنا أن استبعاد الدول الاشتراكية لا يمكن أن يكون قائمًا على أسس اقتصادية محايدة، ولاحظ أيضًا الترتيب الوارد للعلاقات الدولية المقترحة (داخل إطار التحالف الغربي) والذي يضع أوروبا الغربية قبل الولايات المتحدة.
كذلك، لم تخفِ البعثةُ تحيزها الصريح لمفهوم الانفتاح، "إن سياستكم للانفتاح التي أعلنتموها حين تسلمتم مسئولية بلادكم، كانت قادرة على إدخال تغير اقتصادي واجتماعي، سيضع اقتصاد مصر على أساس جديد خلال بضع سنوات، وكنتيجة لهذه السياسة؛ تولدت قوة دفع في بعض قطاعات الاقتصاد المصري، وهذا يبرر ـ في تقديري ـ الأملَ بأن مصر ستكون قادرة على اللحاق بالأقطار الأكثر تطورًا، وستدعم استقلالها الاقتصادي واعتمادها على النفس. والهدف من هذا التقرير هو معاونتها عبر الطريق المختار، وإزالة العقبات التي لا زالت تخل باستمرار وتوازن التنمية"... و"في المدَى القصير والمتوسط، سيكون الدعم السياسي والمالي المقدم من الأقطار الأخرى ذا أهمية بالغة ـ حسب ما جاء في التقرير ـ من أجل تنفيذ السياسة المصرية الجديدة؛ لأنه يمكن أن يوفر لمصر فرصة الوصول إلى النمو الاقتصادي القادر على التواصل ذاتيًّا، بعد عبور مثل هذه المرحلة من التدعيم".
ومطلوب من الحكومة المصرية أن تحسن التخطيط والكفاءة التنظيمية للإدارة، ولا بد من إصلاح الأوضاع المالية؛ إذ أن الاستخدام الكفء للمساعدات الخارجية، لا يقل أهمية عن تقديم هذه المساعدات. ونقد موللر في هذا الاتجاه المساعدات (القروض) الموجهة للاستهلاك أو للمشروعات التي لا تستجيب للأحوال والإمكانيات القائمة في مصر.
ومن أجل إعادة التكامل بين الاقتصاد المصري ونُسُق العلاقات الاقتصادية الدولية ـ وللبدء في عملية إقامة توازن بين حركة التجارة وحركة المدفوعات ـ ولإزالة عدم اليقين الكامن حول الإجراءات المُحتمَلة بخفض سعر الصرف،
أو للإلغاء من جانب واحد لالتزامات خدمة الدين بواسطة الحكومة المصرية، اقترح التقريرُ إلغاء التقسيم الثلاثي في سعر الصرف (السعر التشجيعي ـ والسعر السائد في السوق الحرة ـ والسعر الرسمي) وينبغي أن يحل محل ذلك وباضطراد سعر موحَّد واقعي، وعبر موللر أيضًا عن اعتقاده بأن استعادة التكامل مع الاقتصاد العالمي باضطراد، تستوجب رغبة متزايدة للتعاون بين مصرَ وصندوق النقد العربي. وللأسف لم تتسعْ رسالة موللر للإفصاح عن تصوره الخاص بمراحل توحيد سعر الصرف عند مستوى أدنى، وعن اختلافات هذه المراحل، عن مقترحات وممارسات صندوق النقد الدولي، وكذلك يلفت النظر الدور الهام المرشح لصندوق النقد العربي، الذي كان قد بدأ بالكاد اجتماعاتِه في نيسان/أبريل 1977، رغم أن قدرته الفعلية على المساعدة تبدو محدودة، ولكن قد يعكس ذلك تطبعًا إلى دور أكثر استقلالاً للمال النفطي عن السيطرة الأمريكية، ويتيح لأوروبا الغربية منفذًا، ويلاحَظُ أن ألمانيا الغربية كانت قد أرسلت في الفترة نفسها مستشارًا اقتصاديًّا خاصًا للملك خالد.

وبالنسبة للتوصيات الخاصة باستراتيجية التنمية، قال موللر إنها "بُنيت على أساس الظروف الخاصة بالبلاد، وقد يشير ذلك إلى أنه في كافة المسائل المتعلقة بالترتيبات الاقتصادية للتنمية، ينبغي الأخذ بمنهج براجماتي، وفي القطاعات المتنوعة للاقتصاد ينبغي اختيار تشكيلة الأدوات الموجهة التي تبشر بأقصى نجاح قبل الأهداف الموضوعة في هذه المرحلة الحرِجة من تعديل الوجهة. إن تشكيلة الأدوات الموجَّهة، والأدوات الحافزة، ستختلفُ وفقًا للقطاع، ولفرع الصناعة المعنية، وستكون أيضًا عُرضة للتغير عبر الزمن. إن سياسة التنمية المصرية ينبغي – إذًا - أن تكون متمايزة إلى حد بعيد". وهذا المفهوم في قضايا محددة، ولكن
لا ننسَى طبعًا أن السياسات المختارة وفق منهج براجماتي تظل مربوطة ـ عند موللر ـ بأهداف تلتزم بها؛ سواء في العلاقات الدولية، أو في التنمية المنفتحة.

في قطاع الصناعة: "يركز في السياسة الصناعية الحالية على دعم فروع الصناعة القائمة والتوسع فيها، وعلى الزيادة في متحصلات النقد الأجنبي في أقصر وقت ممكن. وهذا النسق من الأهداف ينبغي أن يتسع ليشمل:
استراتيجية التوسع المطرد في قطاع السلع الرأسمالية المهمل حتى الآن، والذي لا يمكن دونه الوصول إلى مستوى أعلى من التصنيع (وهذه إضافة هامة، تختلف عن التوصيات والممارسات التقليدية للبنك الدولي وغيره).
الاستمرار في استراتيجية إحلال الواردات، مع الزيادة المتوالية في قدرة الصناعة المصرية على المنافسة الدولية من خلال إدخال مناهج الإنتاج القائمة على الربح وتطبيق التكنولوجيا الحديثة.
مراجعة مفهوم مصر للمناطق الحرة بما يمكن من اتخاذ إجراءات تقلل ـ في الأجل القصير ـ التدفقات الخارجية من حصيلة مصر من النقد الأجنبي التي ترتبط بمنطقة التجارة الحرة، وبما يؤكد (في الأجل الطويل) صياغة تصور مقنع لتنمية مناطق التجارة الحرة الصناعية (وهذه النقطة
لم تتعرض لها بالنقد تقاريرُ البنك الدولي).

استراتيجية للتوسع في العمالة الصناعية، وهي تتطلب بالضرورة البدء بتشجيع الحِرَف والصناعات الصغيرة.
وفي قطاع الزراعة، تقدمت البعثة الأوروبية أيضًا بتصورات معقولة؛ إذ استخدمت بلا تحيزات سياسية واجتماعية مشوهة، فالتخصيصات الاستثمارية لهذا القطاع ينبغي أن تزيد، وينبغي أن تكون الأولوية لاستخدام الأرض القديمة على نحو أكفأ، ويتطلب ذلك إدارةً حازمة للمساحة المزروعة، ولمنع تفتت الأرض الزراعية من خلال الوراثة (وهذه النقطة الأخيرة لم تتناولها تقارير البنك الدولي على أهميتها، ولكن هذا الالتفات إلى شرط منع التفتت، يمكن أن تُفسده الأفكار المسبقة والتحيزات الأيديولوجية، عند اقتراح السياسات الملائمة لهدف منع التفت) ولا نعرف للأسف طبيعة السياسات التي اقترحتها بعثةُ موللر في هذا المجال، ولكنها سجلت خلافًا آخر مع آراء البنك الدولي حول استصلاح الأراضي؛ فقد رفضت أن تكون الأولوية لاستصلاح أراضٍ جديدة، وهذا لا خلاف فيه، ولكنها رفضت معالجة الاستصلاح والأرض القديمة كبديلين (كما يفعل البنك الدولي) ولكن كاتجاهين متكاملين.
وبالنسبة لخفض الدعم للمواد الغذائية الرئيسَة سجلت البعثة الأوروبية أهم خلافاتها مع صندوق الدولي حول التكتيكات المقترحة؛ فقالت إن هذا الخفض "يمكن فقط أن يتخذ بحذر، وفي خطوات صغيرة؛ حيث إن هذا الدعم يمثل أهم أداة اجتماعية سياسية تملكها الحكومة المصرية الآن". بل أشارت البعثة إلى أن "إنفاق الموازنة العامة، الموجَّه للدعم سيرتفع جزئيًّا بخفض قدر من دعم المدخلات، وفي الوقت نفسه، يمكن التخلص من بعض المبالغات في نسق الدعم. والقضاء النهائي على دعم الغذاء يشترط ـ مقدمًا ـ اقتصادًا ناميًا، وقدرة للإدارة على تطوير سياسة اجتماعية متمايزة، موجهة إلى المجموعات المتنوعة المحدودة الدخل، ولكن طالما أن الاقتصاد راكدٌ، والإنفاق على الغذاء يمثل الجانب الأعظم من الإنفاق الاستهلاكي للمجموعات المنخفضة الدخل، سيظل الدعم ضمانًا ضد الجوع والقلاقِل الاجتماعية".
وقد ركز التقريرُ على أهمية تطوير الهياكل الارتكازية (كالبنك الدولي) لجذب المستثمرين، وإنجاح سياسة الانفتاح. وفي الإسكان أضاف اهتمامًا خاصًا بإقامة مساكن شعبية لمجموعات السكان الأكثر فقرًا.
"فقط بنمو الاقتصاد، يمكن خلق الظروف المطلوبة لحل المشاكل الاجتماعية للبلاد. ومن ناحية أخرى، تتطلب التنمية الاقتصادية جوًا من السلم الاجتماعي. وإذا تُرك تسيير النشاط الاقتصادي للسوق، في مجرى سياسة الانفتاح، فإن المكونات الاجتماعية السياسية للسياسة الاقتصادية لا بد أن تتدعم، وينطبق هذا على وجه الخصوص على:
- تغطية الاحتياجات الأساسية للمجموعات المنخفضة الدخل من السكان بأسعار مقبولة (الغذاء، الإسكان، الملبس، الصحة).
- تحسين وضع العِمالة.
- مشاركة أكبر من المؤسسات التعددية (النقابات، والجمعيات المهنية) في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمصر.
- تطويع التأمينات الاجتماعية والرفاهَة الاجتماعية وفق هيكل المجتمع الذي يزداد تمايزًا؛ نتيجة سياسة الانفتاح".
اهتمامنا بعرض رؤية بعثة موللر وتوصياتها، يهدِف ـ ضمن ما يهدف ـ إلى تأكيد أن تعليمات صندوق النقد والبنك الدولي، لا تصدر عن نظريات علمية مقدسة (لمن لا زال محتاجًا إلى تأكيد)، وإنما تتشكل وفقًا للأهداف الاستراتيجية؛ فالخلاف بين توجه موللر وتوجه الهيئات الدولية، ليس خلافًا فنيًّا في الأساس، وإنما خلافٌ سياسي؛ فأوروبا الغربية (كاليابان) مصلحتها أوضح في تحقيق تسوية شاملة مقبولة من كل الأطراف العربية الرئيسَة، وخاصة من الأطراف العربية التي يُقال عنها: "معتدلة"، واعتمادها الرئيسي على النفط العربي، يجعلها أكثر حرصًا على استقرار المنطقة، وأقل ميلاً لركوب المخاطر فيها. ويرتبط بذلك تقديرُ أوروبا الغربية واهتمامها (آنذاك) بالدور المُحتمل للرئيس السادات في التوصل إلى تسوية مقبولة من الأطراف العربية "المعتدلة"، ومُتسقة مع المصالح الغربية الاستراتيجية من المنظور الأوروبي، ودراسة موللر عبرت في الجانب الاقتصادي عن السياسات الملائمة لهذا التصور، فاختلفت عن السياسات الاقتصادية المقترحة من الولايات المتحدة وتوابعها. ولم يخفِ موللر هذه الحقيقة، فكتب: إن "مصر تلعب دورًا مركزيًّا في صراع الشرق الأدنَى، إن هذا البلد ـ مع رئيسه السادات ـ يبغي المعاونة في إقامة حالة من السلام، تكون مقبولة من الجميع، وهي لذلك تحتاج إلى الترتيب الاقتصادي والمالي والنقدي، الذي تسعَى جاهدة إلى تحقيقه، والرغبة في تقديم إسهام معين من أجل الغايات المُستهدَفة كان الحافز ـ غير السهل بالتأكيد ـ خلف عملِنا".
إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تحدثا كثيرًا في نموذجِهما ـ للانفتاح ـ عن ترشيد الأداء الاقتصادي، وعن حرصهما على الاستقرار الاجتماعي، ولكن ليس بالإلحاح
أو بالمضمون الذي سجله موللر في نموذجه للانفتاح. فموللر عبَّر ـ بوضوح ـ عن حرصه على ارتباط مصر بالسوق الغربية، وما يستتبعه من تحرير للأسعار المحلية من سيطرة الدولة، أقل جدًّا من حرصه على استمرار دعم السلع والخدمات الضرورية لمجموعات السكان الأكثر فقرًا، ولو أدى ذلك إلى زيادة أعباء الموازنة العامة (مع توحيد سعر الصرف). بل إن منطق موللر يؤدي إلى استمرار تحكم الدولة في الأسعار لأجل طويل، والحقيقة أنه لم يستخدم الأسعار أبدًا كمَعطِيّ مفروض على الإدارة المصرية، ولكن باعتبارها متغيرات في قبضة الحكومة، تستخدمها لأسباب اجتماعية أو تنموية. وقد يمثل هذا موقفًا خاصًا لموللر (وفي الحقيقة هناك تشابهٌ كبيرٌ بين توجهه العام وبين توجه ميردال)، ولكن الطبيعة الخاصة للبعثة، والمناصب الرسمية التي تقلَّدها موللر في بلده، تجعلنا نرجِّحُ أن اعتبارات السياسة العامة، كانت الموجه الأول لتحليلاته واقتراحاته. ووفقًا لهذا الموجه كان الاستقرار الداخلي في مصر ـ بدورها المرشح في استقرار المنطقة ـ مسألة تعلو في أهميتها على أي اعتبار آخر، "وسيظل الدعم ـ كما قال ـ ضمانًا ضد الجوع والقلاقل الاجتماعية". وفي مقابل ذلك وضعت الولايات المتحدة تبعية الأسعار المحلية للأسعار العالمية (أي تحرير الأسعار المحلية من تحكم الدولة) في الموضع الأول من الاهتمام والتركيز؛ لأن جدولها الزمني لتحرير الأسعار يرتبط بالجدول الزمني للتحرك من أجل تسويتها لصراع الشرق الأوسط، وتحرير الأسعار من تحكم الدولة أداة هامة في تطبيع العلاقات المستهدَف. ومن هذا المنظور كانت الولايات المتحدة على استعداد لقبول بعض المخاطر تجفل منها أوروبا الغربية. وقد لاحظنا أيضًا أن موللر أبدَى خوفًا من أن تؤدِّي أزمة الديون إلى قيام الحكومة المصرية بإلغاء من جانب واحد لالتزامات خدمة الدين، وهذا الموقف يشيرُ على التخوف من أن يؤدي الضغط والاستفزاز المتصاعد إلى احتمال أن تعود الدولة المصرية إلى السياسات المستقلة الراديكالية. وفي المقابل، نعلم أن الولايات المتحدة وضعت هدف تحقيق السيطرة الكاملة ـ عبر تصعيد أزمة الديون ـ فوق أيَّة مخاطر مُحتملة (وبالتأكيد كانت المخاطر محسوبة، وبناء على معلوماتها وتقديراتها السياسية) ـ وأخيرًا لاحظنا أن موللر وجه نقدًا واضحًا إلى تجربة
بور سعيد الحالية باعتبارها استنزافًا لموارد النقد الأجنبي، وفي وقت تزداد فيه خطورة الدين الخارجي، وأيضًا باعتبارها مدخلاً للتوتر الاجتماعي. وموللر كان محكومًا ـ في هذا النقد ـ بالنظرية نفسها العامة التي تعزف عن ركوب المخاطر، وتضع الأولوية للاستقرار الداخلي، والحد من السياسات التي تساعد على انتكاس تجربة السادات في الانفتاح والتبعية للغرب، ولكن كانت بور سعيد ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ حاجزًا من المصالح والبشر ضد تجدد القتال؛ ولذا خلت تقاريرُ صندوق النقد والبنك الدولي من أي نقد لقُرحة بور سعيد، رغم كثرة الكلام عن ترشيد الأداء الاقتصادي، بل إن من حقنا أن نُوقِن بأن الولايات المتحدة كانت سعيدة بالأثر السلبي لبور سعيد على ميزان المدفوعات؛ لعلاقة ذلك بتكثيف الضغوط من خلال أزمة الديون وبالتالي كانت الولايات المتحدة (لظروفها ومنظورها وحساباتها) أكثر استعدادًا ـ في هذه النقطة أيضًا ـ لركوب مخاطرة محسوبة، ولا شك أن إسرائيل كانت تركِّب كل هذه المواقف.

على أيَّة حال، رغم تسارع موللر في إعداد تقريره (من كانون الأول/ ديسمبر إلى أيلول/ سبتمبر إلى حُزيران/ يونيو) كانت القيادة المصرية أسبق منه، كانت المجموعة الاستشارية قد انعقدت وانفضت، وأثبتت الولايات المتحدة (ومن معها) أن حساباتهم حول قدرة السلطة المصرية على المقاومة كانت صحيحة.
ب ـ احتمال عودة الأزمة:
بعد اعتماد "قانون التصفية الثانية" في لقاء المجموعة الاستشارية، تصور الكثيرون ـ نتيجة الضجة الإعلامية ـ أن أزمة ميزان المدفوعات والديون الخارجية، حلَّت على نحو حاسم. ونذكر أن القيسوني غضِب واحتدَّ حين قال حلمي مراد في مجلس الشعب: إنه لا يرجو أن يكون واضحًا؛ حتى لا يعيش الناس في أمَانٍ غير حقيقية، أن الجهود التي بذلت حتى الآن، كانت لمجرد إحلال دين طويل الأجل، محل دين قصير الأجل (43).
غضب القيسوني يومها، رغم أن الكلام مجرد وصف صحيح، ورغم أنه أيضًا وصفٌ غير كامل؛ فبعيدًا عن الشروط المُهدَرة للاستقلال، كانت التسويات،
أو كان ضمان صندوق النقد للتسويات، لا يغطي إلا فترة ترتيبات المساندة التي تنتهي في آذار/ مارس 1978. أي
لم يسفر "قانون التصفية" عن ترتيبات تضمن انتظام تمويل العجز المكشوف في ميزان المدفوعات بعد آذار/ مارس 1978، بدلاً من العودة بتوسع إلى القروض المصرفية؛ ولذا حذر منير بنجنك (في اجتماعات المجموعة الاستشارية) من أن "عام 1978 على الناصية"؛ أي من احتمال تجدد الأزمة، إذا لم تحصل مصر ـ مرة أخرى ـ على "تمويل أجنبي ميسر بكمية كبيرة".

وكان التحذير موجهًا للحكومة المصرية في المقام الأول. ومفهوم الآن ـ على ضوء ما عرضناه ـ أن الصندوق مستعد لمد فترة ضمانه لتشمل باقي 1978 وما بعدها، في حالة ربط ترتيبات مساندة ببرنامج الثلاث سنوات، تنفذه الحكومة تحت إشرافه وسيف عقوباته. وكل هذا كان مجهولاً؛ ولذا فوجئ الكافة حين صرح القيسوني (ولم يكن قد مر شهر على غضبته السابقة) بأن خطر الديون المصرفية والمتأخرات، يهدد الاقتصاد المصري مرة أخرى.
سُئل: لقد تصور البعض أن الأزمة مضت وولّت، وأنه بعد توفير احتياجات هذه السنة من النقد الأجنبي؛ نتيجة للقروض التي تم الحصول عليها، لم تعد هناك مُشكلة. فأجاب: هذا تصور خاطئ. القروض لا تحل المشكلة. إنما تساعد على حلها. وماذا عن السنين المقبلة؟ هل تضمن أن تتوافر لنا القروض التي توافرت لنا هذه السنة؟ إن الذين يتصورون أننا اجتزنا مشكلتنا الاقتصادية بواسطة هذه القروض، يخطئون. إن هذه القروض تساعدنا على تجنب حالة الاختناق التي كانت تهددنا في 1977، ولكنها لا تحل أزمتنا، ولا تُنهي مشكلتنا.
سُئل: هل زال شبح الديون القصيرة الأجل الآن، بعد استخدام قروض هيئة الخليج في تسديد الجزء الأكبر منها؟ أجاب القيسوني: لا، الشبحُ لا يزال قائمًا، والسبب الاتجاه المتزايد نحو الاستهلاك، والسلع الاستهلاكية تُمَوَّل عادة بمثل هذه القروض (57).
كان الكلام مفاجئًا، وحتى في إطار ما ذكرناه، يحتاج تفسيرًا؛ لأن تاريخ الإدلاء بالتصريح: حزيران/ يونيو 1977، أي أثناء فترة ترتيبات المساندة المقدمة من صندوق النقد. ولكن هذا ـ بالتحديد ـ هو التفسير؛ إذ حدث أن مولت الحكومةُ المصرية بعض وارداتها السلعية (سلع تموينية أساسًا) من قرض هيئة الخليج دون إذنٍ من "السلطة الجديدة"، فعُوقبت على الفور بوقف حقها في السحب على القرض؛ حتى تنتهي تسوية المشكلة مع صندوق النقد، وفي الأثناء لم يكن هناك مفر من العودة للتسهيلات المصرفية، وعودة المتأخرات(58)، وكان هذا أول استعراض عضلات للسلطة الجديدة.
على أيَّة حال، أدرك الجميع بعد تصريح القيسوني أن التسوية (بعيدًا عن قسوة الشروط) هشة جدًا، وتنذر بعودة الاختناق في أيَّة لحظة. ويزيد الإحساس بهذا الخطر لدى من يعلم حجم الفجوة المتوقعة في ميزان المدفوعات، في السنوات التي لم تشملها بعد أية ترتيبات. وكمعلومات وأرقام محددة، فإن احتياجات النقد الأجنبي خلال 1977 كانت بالفعل كبيرة بدرجة استثنائية، وقد تضافرت الجهود منذ بداية الانفتاح؛ لكي تتحقق هذه النتيجة؛ بحيث أصبح عام 1977 منذرًا بكارثة محققة ـ كما قالت مذكرة ديكي؛ إذ تراكمت الخصوم القصيرة الأجل عند نهاية 1976، رغم التزام الحكومة بخفض استخدامها للتسهيلات الائتمانية في تلك السنة إلى 1400 مليون دولار (بعد أن كان المستوى عام 1975 حوالي 1800 مليون دولار ـ انظر الفصل الثامن). ورغم خفض الاستيراد (عشوائيًّا) بأكثر من 25 % من الواردات المستهدَفة، والسبب ـ وسط السياسات السائدة ـ كان الهبوط الحاد والمتعمد في التدفقات الرأسمالية (أي في "المساعدات")، فوصلت المتأخرات إلى حوالي 450 مليون دولار في آخر 1976، وأصبح إجمالي الخصوم القصيرة الأجل المورثة إلى عام 1977 (الديون المصرفية بآجال أقل من سنة + تسهيلات الموردين قصيرة الأجل + متأخرات الفوائد والأقساط المستحقة للديون المتوسطة والطويلة الأجل) حوالي 1350 مليون دولار.. إذا أمكن تأجيلُ أو إعادة جدولة 1135 مليون دولار ودائع يحل أجلها عام 1977 (863 مليون للكويت + 250 مليون للسعودية + 22 مليون لليبيا) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، قالت الهيئات الدولية للسلطات المحلية: إنها ينبغي أن تسمح بزيادة الاستيراد خلال عام 1977 إلى مستوى يعلو ما تحقق في العام السابق، (ويتضمن هذا تقدير العجز في ميزان العمليات الجارية
بـ 1850 مليون دولار)، وكانت الحجةُ أن الهبوط الاضطراري الذي تحقق في ذلك العام، أدَّى إلى نقص المتوفر من مدخلات الإنتاج والسلع الرأسمالية، بالإضافة إلى انخفاض مستوى المخزون من معظم السلع، ولا بد من تعويض هذا كله خلال 1977.

على هذا النحو تمت تقديرات احتياجات مصر من النقد الأجنبي في مباحثات قانون التصفية عام 1977. وبإضافة التزامات الديون المدنية للدول الاشتراكية كان الإجمالي حوالي 4.7 بليون دولار. وفي مقابل هذه الاحتياجات كانت القروض المتعاقد عليها فعلاً للمشروعات حوالي 2100 مليون دولار، وللسلع 600 مليون دولار، والتمويل النقدي الذي أمكن تدبيره كان حوالي 500 مليون دولار، والمبالغ المُتفَق عليها وفق قرارات مؤتمر الخرطوم حوالي 155 مليون دولار. وقدرت الهيئات الدوليةُ أن خط الإمداد هذا، يمكن أن يُستخدم منه 1475 مليون دولار فقط. وإذا أضيفت تقديراتُ المنح الخاصة (75 مليون دولار)، والاستثمار الأجنبي الخاص (100 مليون دولار)، ومستويات الاستخدام العادي لتسهيلات الموردين (315 مليون دولار) تصل الموارد المتاحةُ من النقد الأجنبي إلى 1965 مليون دولار. ويصبحُ عرض النقد الأجنبي أقل بالتالي من الطلب بحوالي 2.7 بليون دولار خلال عام 1977. وحول تدبير هذا العجز دارت المباحثات. كان رأي الهيئات الدولية أن خَفْض إجمالي الاقتراض الخارجي في ذلك العام ـ باحتياجاته المُلحة وغير العادية ـ لا يمكن تحقيقُه إلا بقدر ضئيل، وبالتالي، فإن التحسُّن المستهدَف في الموقف، يكون في مجال هيكل الديون بتمويل الخصوم القصيرة الأجل القائمة، وتقليل الاعتماد على التسهيلات الائتمانية المصرفية. والتحرُّك في هذا الاتجاه، يبدأ بتأجيل سداد الودائع، فتنكَمِش الفجوة التمويلية إلى 1.6 بليون دولار، واقترحت لمواجهتها حزمة من القروض الجديدة "الميسرة"، تعتمد أساسًا على قدر كبير من القروض النقدية (هيئة الخليج) (59).
في إطار هذه التقديرات تحددت معالم وشروط الصفقة الممتدة، أو فرض الاستسلام في مقابل أن يصدر صندوق النقد تعليماته للجهات المعنية بإطفاء حريق 1977. وقد تغيرت تفاصيلُ هذه التقديرات في مصادرَ أخرى، ولكن ظلت الصورةُ العامة حتى عام 1980 في الإطار التالي (جدول رقم 1).






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:42 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

جدول (1)
احتياجات مصر من النقد الأجنبي 1977 ـ 1980 (بالمليون دولار الأمريكي ـ بالأسعار الجارية)

موازنة
مستهدف
المجموع
1977
1978
1979
1980
العجز في الحساب الجاري (بالأسعار الثابتة 1975)
العجز في الحساب الجاري
(بالأسعار الجارية) +
استهلاك الديون الطويلة والمتوسطة الأجل
خفض الديون القصيرة الأجل
ودائع السنة الواحدة
الالتزامات الأخرى **
1.931

2.158
0.840
0.710
1.450
0.195
1.625

1.961
0.625
ـ
0.325
0.125
1.205

1.627
0.675
ـ
0.030
0.108
0.895

1.317
0.780
ـ
0.085
0.080
5.656

7.063
2.920
0.710
1.890
0.508
الاحتياجات الإجمالية
5.353
3.036
2.440
2.262
13.091

* بسبب تغيُّرات الأسعار، لا يعكس حساب الصادرات والواردات من السلع والخدمات تقديرًا صحيحًا لاحتياجات مصر من النقد الأجنبي. وتقدير العجز (بالأسعار الجارية) تم باستخدام أرقام البنك الدولي القياسية للسلع الداخلة في الصادرات والواردات.
* * لا تدخل فيها الالتزامات الناشئة عن الديون العسكرية.

ونخلُص من أرقام الجدول السابق، إلى أن احتياجات النقد الأجنبي أثناء الفترة 77 ـ 1980 كانت تصل إلى 13.1 بليون دولار، وإذا رتبت معالجة خاصة لحالة 1977، يظل العجز، للأعوام 78 ـ 1980 يبلغ 7.7 بليون دولار. ويبلغ 3 بليون دولار لعام 1978 وحده، و2.6 بليون كمتوسط سنوي خلال الفترة. ومع استبعاد القروض والمعونات المرتبط عليها فعلاً، يكون صافي العجز السنوي الواجب تغطيته ـ في المتوسط ـ حوالي 1.2 بليون دولار. ووفقًا لفروض البنك الدولي ـ في تلك الفترة حول قدرة السلطات المصرية على استخدام الأنواع المختلفة من القروض (قروض مشروعات ـ قروض سلعية ـ قروض غذائية ـ قروض نقدية) قدرت الهيئات الدولية أن الارتباطات التي تحتاج إليها الحكومة المصرية من القروض الخارجية خلال الفترة من 78 ـ 1980 ولمواجهة العجز الصافي المقدر
بـ 1.2 بليون دولار، تتطلب توفير توليفة من أنواع القروض المختلِفة مجموعها 2.5 بليون دولار سنويًّا. ويعنينا هنا أن متوسط العجز الصافي (1.2 بليون) يمثل الفجوة المنذرة دومًا ـ في ظل الظروف السائدة ـ بعودة الديون المصرفية (59). ولم تتضمن اتفاقياتُ 1977 ترتيباتِ محددة لسد هذه الفجوة، ولا ننسى طبعًا أن اتفاق تأجيل سحب الودائع (الذي تقرر عام 1977) يقضي بأن يكون التأجيل لسنة واحدة قابلة للتجديد حتى عام 1980، ويمكن بالتالي أن يضاف عبئُها إلى أية سنة خلال الفترة (78 ـ 1980) إذا دعت الضرورة، أي إذا لم تلتزم الحكومة المصرية بتنفيذ البرنامج الممتد، الذي يضعه لها صندوقُ النقد.

ورحم الله محمد رشدي الذي علَّق على قرارات البعثات الدولية (بعثة كييف وفييه وبعثة جوشن وجوبير) في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر؛ لاحتواء الديون الخارجية وتيسيرها، قال الرجل إن الإجراءات "لم تكن بقصد الإصلاح، بقدر ما كانت بهدف تثبيت أقدام التدخل الأجنبي، وبالتالي كان علاجُها لبعض الأحوال مُسَكِّنًا أكثر منه حاسمًا، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة الأحوال سوءًا" (راجع الفصل الأول).
ج ـ تعديل قانون الاستثمار:
لإحداث التشوهات المطلوبة والمتكاملة في البنية الاقتصادية؛ كان مفروضًا أن تمتد التزامات الحكومة إلى جبهة الاستثمار الخاص (الأجنبي والمصري). وتعبيرًا عن التضامن بين الفِرق المتحالفة في الهجوم: دولاً عربية وغربية، ومؤسسات دولية، ومؤسسات خاصة، كان خطاب النوايا ينصّ في بنوده على المبادئ الأساسية لاستراتيجية التنمية، تاركًا التفاصيل للبنك الدولي، وكان إعلان السياسة في المقابل ينص على المبادئ الأساسية لبرنامج التثبيت، تاركًا التفاصيل للبنك الدولي، وكان إعلان السياسة في المقابل ينص على المبادئ الأساسية لبرنامج التثبيت تاركًا التفاصيل لصندوق النقد، وأيضًا كان خطاب النوايا وإعلان السياسة ينصان على المبادئ الأساسية للتعامل مع مؤسسات الإقراض "المُيسَّر" تاركين التفاصيل للاتفاقيات الموقعة مع هذه الجهات، والاتفاقيات تنص على ضرورة الالتزام بتعليمات صندوق النقد، وكذلك ارتبط خطابُ النوايا وإعلان السياسية والاتفاقيات ـ بدرجات مختلفة ـ بالمبادئ الأساسية للتعامل مع المستثمرين تاركين التفاصيل لقانون الاستثمار(60).
نعلم أن صدر القانون رقم 65 لسنة 1971 ـ بعد حركة 15 أيار/ مايو ـ ولكن مع إعلان التوجه العام إلى الانفتاح، كان لا بد من قانون آخر لاستثمار المال العربي والأجنبي، فصدر القانون 43 لسنة 74 كأول علامة بارزة من علامات الطريق الجديد، ولكن منذ ذلك التاريخ مرت مياه كثيرة، وأصبح مفروضًا أن تُصاغ العلاقة مع المستثمرين على نحو يتلاءم مع ما آل إليه الحال. كان القانون 43 محلاً لانتقادات عنيفة من القوى الوطنية المستنيرة (راجع الفصل السادس)، ولكل ظل يحمل بقايا تشبث بمعاني السيادة والاستقلال، (واسمها في القاموس المعاصر "انغلاق"). وكان لا بد من إزالة هذه البقايا، والتزمت الحكومةُ بتحقيق ذلك، قبل انعقاد المجموعة الاستشارية (11 أيار/ مايو) وبالفعل أحال مجلس الشعب في جلسة 25 نيسان/ أبريل مشروع القانون الذي قدمته الحكومة (بتعديل بعض أحكام نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة الصادر بالقانون 43) على لجنة مشتركة من اللجنة الاقتصادية ومكتبَي اللجنة التشريعية ولجنة الخطة والموازنة، لنظره على وجه الاستعجال، وإعداد تقريرها عنه. ولم تقصِّر اللجنة المشتركة، فعقدت اجتماعين فقط يومي 26 و 27 نيسان/ أبريل، ثم عقد مكتب اللجنة اجتماعًا يوم 28، وصدر التقرير في اليوم نفسه. والحقيقة أن الحكومة أذعنت في مشروع قانونها للمطالب الجوهرية للمستثمرين، ولكنَّ اللجنة زايدت على الحكومة بطريقة مشبوهة، ووصلت بالتنازلات المقدَّمة للمستثمرين إلى مستوى يخرج عن أي معقول، ورأت أن الأمر يتطلب إلغاء القانون رقم 43 (وليس مجرد تعديله) وكذلك القانون 86 لسنة 1974 (الخاص بتقرير بعض الإعفاءات الضريبية للمشروعات المصرية المنشأة في إطار خطة التنمية)، وإصدار تشريع قانون جديد يُسمَّى قانون الاستثمار،
ولم يوقف هذه الفكرة إلا "أن القانون 43 لسنة 1974 له دلالة دولية؛ لذلك رأينا أنه ليس من المُستحسَن إلغاؤه بهذا الشكل؛ لارتباطه بنظام الاستثمار في مصر، وفي الوقت نفسه، وجدنا أنه لو ألغينا القانون 86 لسنة 1974 ـ رغم أنه وُلد ميتًا ـ فسيكون له بعض التأثير السياسي" (61). وأصدق ما قيل في وصف مشروع القانون بعد تعديلات اللجنة، جاء على لسان من يعتبر نفسه زعيم اليمين؛ فقد قال "إنَّ هذا المشروع بقانون قد استجاب في الواقع لكل التعديلات التي طالب بها كافةُ المستثمرين؛ الأجانب منهم
أو المصريين" (62). لم يترك شيئًا في نفس أيٍّ منهم،
إلا وحققه!

وكان طبَعيًّا أن تقدم اللجنةُ مشروعها بتبريرات لا تعرف الخجل، فسجلت في تقريرها حول ما أسمته (فلسفة التعديل): "إن حل المشاكل الاقتصادية والسياسية لمصر وأيضًا للدول جميعها حتى الغنية والقوية منها، وبصرف النظر عن انتمائها الفكري والمذهبي، لم يعد يتحقق بالمقام الأول بالسياسات والخطط الاقتصادية، ولكنه يتحقق بالانفتاح الخارجي، وتنمية التبادل والتعاون الدولي من خلال العلاقات الثنائية والجماعية بين الدول، ومن خلال المنظمات الدولية العالمية والإقليمية، ويؤيد ذلك سياسة الوفاق التي تقررت في مؤتمر هلسنكي في أوائل عام 1975، والحوار العربي الأوروبي، وقيام مجموعة الدول النامية المعروفة بالدول
الـ 77 في إطار منظمة الأمم المتحدة، والتي بلغ عددها الآن حوالي مائة دولة" (63).

أليس مذهلاً كل هذا الجهل في فقرة واحدة من وثيقة رسمية مصرية؟! هل كل دول العالم، وعلى اختلاف انتماءاتها، توقفت عن رسم سياسات، واكتفت بانتظار الفرج والرواج إلى جانب بابها المفتوح؟ وإذا جاز أن هذا الكلام يصف حالنا أو مأساتنا، فهل يحق للسادة أعضاء اللجنة المشتركة أن يسقطوا خيبتنا على العالم كله؟! وما دخل هلسنكي والحوار ومجموعة الـ 77 دولة في كل هذه الهلوسة؟
على أيَّة حال، أخطأ أعضاء اللجنة حين تصوروا أن مزيدًا من السوقية أمام مجلس الشعب، يمكن أن يرجِّح كِفَّتهم، فقد قال أحدهم: "لا يصح أن ندخل في تفاصيلَ قانونية وتتحدث عن ضياع أموال الدولة ومواردها (....) إن المال حولنا يسيل، والفائض كل عام في الدول العربية يبلغ 50 ألف مليون دولار، ولا نستطيع أن نجذب ألف مليون من هذا المبلغ لمصر (...) إن البلد في حاجة – إذًا - إلى مثل هذا القانون (....) وأرجو من السادة الأعضاء أن يوافقوا على هذا المشروع بقانون، على وجه الاستعجال؛ لأن المجموعة الاستشارية تجتمع اليوم في باريس لدعم الاقتصاد المصري. والدكتور القيسوني والدكتور حامد السايح موجودان حاليًا في باريس، والجميع في انتظار هذا القانون، ووكالات الأنباء تنتظر موافقة مجلسنا على هذا المشروع بقانون؛ لأنه سيحقق تمويل الخطة بمبلغ يصل إلى نحو 7000 مليون دولار في الفترة حتى عام 1980" (62). وقال مقرر اللجنة إنه لا داعي للخوف بعد أن زالت عنا عقدةُ النقص بعد انتصار أكتوبر وبعد أن أصبح "بمقدورنا أن نتكلم مع كل من له قوةٌ وحولٌ في هذا العالم، من مركز قوة مماثل، بل أحسسنا أنا لسنا ضعافًا في عالم تأكله الذئاب" (64).
وقال رئيس اللجنة: "الانفتاح الاقتصادي واقع لا جدال فيه، ولو كرِه الكافرون.. وكل يرى هذا المسار بقدر ما فتح الله عليه" (61) (فتح الله على رئيس اللجنة بأن عين مديرًا في بنك انفتاحي بِمرتب عظيم).
إن وثيقتي "تيسير الدَّين الخارجي" أو "قانون التصفية الثاني": تشيزمانهاتن ـ هيئة الخليج، ومشروع قانون الاستثمار، هي الوثائق التي عُرضت على مجلس الشعب. وثائق الاستسلام الأخرى ـ والأكثر خطورة ـ لم تعرضْ. وقد نجح التحايل في إمرار "قانون التصفية الثاني" ولكن بالنسبة لوثيقة مشروع القانون الخاص بالاستثمار، لم يكن المعارضة منحصرة في ممثليها التقليديين، ولكنْ شملت كل الشخصيات المستنيرة ذات الانتماء الوطني، وأعطى رئيس المجلس سيد مرعي الكلمة لجمال العطيفي؛ كي يبدأ النقاش (وكان من العناصر الحكومية البارزة) فكشف ذلك عن مساندة قطاع هام من الدولة لوقف التعديلات الإضافية التي أدخلتها اللجنة على مشروع القانون، بل وللحد مما جاء في المشروع الأصلي المُقدَّم من الحكومة؛ توسعت كلمة العطيفي في نقدها، وبدت حادة ـ بمقاييس هذه الأيام ـ رغم أنها كانت في إطار أن مصر لا ينبغي أن تكون أكثر تساهلاً في حقوقها من سنغافورة وإندونيسيا والفلبين وتايلاند، وما أشبه!
المهم، كانت المعركة حادة، وما جرَى تحت قبة المجلس كان هناك ما يسانده خلف الكواليس، فقد تأخَّر عرض مشروع القانون على المجلس، رغم استعجال الحكومة والهيئات الدولية لسرعة إقراره قبل انعقاد المجموعة الاستشارية. فلم تبدأ المناقشة العامة إلا في 10 أيار/ مايو، وبينما مر قانون 43 في مجلس الشعب عام 1974 في جلسة واحدة، تواصلت المناقشات الصاخبة لتعديل القانون حتى 16 أيار/ مايو 1977، وعبر ثماني جلسات طويلة. ويشهد لسيد مرعي أنه استخدم كل قدراتِه وصلاحياته؛ لكي لا يهبط القانون عن الحد الأدنى المعقول، وأوضح منذ البداية "أن هذا المشرع بقانون، لا بد أن يأخذ حقه من الدراسة التفصيلية الهادئة؛ لأنه جزء من سياسة الانفتاح التي يكثر عنها القيل والقال"، بل قال سيد مرعي إنَّ كلام خالد مُحيي الدين
وأبي العز الحريري (من ممثلي حزب التجمُّع) عن الانفتاح، هو نفس كلام الرئيس أنور السادات" وقد آن الأوان لهذا المجلس أن يتكلم عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، بمناسبة نظره لهذا المشروع بقانون، بتعديل بعض مواد قانون استثمار المالي العربي والأجنبي (…..) وأرجو من الصحافة أن تعطينا وقتًا كافيًا؛ لكي نشرح سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تتعرض للهجوم، والتي يُهاجَم النظامُ الحاكم بسببها، ويهاجم السيد الرئيسُ محمد أنور السادات ظلمًا وعدوانًا في هذه النقطة" (65).

لقد استطردنا في الإشارة إلى كلمة سيد مرعي؛ لأن انفعال اللحظة، انتزع من المسئول المصري اعترافًا بطبيعة الجو السياسي العام، وإشادتنا بموقف سيد مرعي من مشروع القانون، لا تمتد طبعًا إلى تصديقه حين يندهش من الهجوم الظالم على مُجمل السياسات الاقتصادية.
ننتقل بعد هذا إلى جوهر الموضوع، فنُلخِّص نقاط المعارضة لمشروع القانون كالتالي.
* المجالات الجديدة: وفقًا لقانون 43 كانت هناك مجالات ستة تستفيد بنظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة (مادة 3)، وأضافت الحكومةُ في تعديلاتها هذه المجالات:
- نشاط التعمير في المناطق الخارجة عن الرقعة الزراعية ونطاق المدن الحالية.
- نشاط بيوت الخبرة والمكاتب الفنية والاستشارية، إذا كان يتعلق بأيٍّ من المجالات المُشار إليها، ويوافق عليه مجلس إدارة الهيئة.
- مكاتب التمثيل الإقليمي التي تمثل شركة أو أكثر في عدد من الدول من بينها جمهورية مصر العربية.
- أعمال المقاولات.
- شركات التأمين متى كانت في صورة مشروعات مشتركة مع رأسمال على مملوك لمصريين لا تقل نسبته في جميع الأحوال عن 51 % ويكون لها الحق في التعامل في كافة أنواع التأمين، وبشرط أن تكون بالعملة الأجنبية.
- شركات التأمين التي تقوم بعمليات بالعُملة المحلية متى كانت في صورة شركات مساهمة أو جمعيات تعاونية مملوكة بالكامل لمصريين.
وكانت الحكومةُ ـ في الحقيقة ـ قد فَتحت في موضع آخر، منفذًا خلفيًّا يعيد حق تملك الأرض الزراعية للأجانب؛ إذ أُضيف للمادة 12 أنه لا تسري أحكام "القانون رقم 15 لسنة 1963 بعدم جواز تملك غير المصريين للأراضي الزراعية والصحراوية، على الأراضي والعقارات التي تمثل جزءًا متكاملاً من الأصول الرأسمالية للمشروعات التي تُقرُّها الهيئةُ".
إلا أن النقاط من 8 إلى 12 تعرضت لنيران الهجوم الحامية، وكذلك الإضافة للمادة 12 (66)، فلم تجد إضافة اللجنة لشركات التأمين من يدافع عنها، وكذلك إضافة الأراضي الزراعية. وبالنسبة لمجالات المقاولات وبيوت الخبرة ومكاتب التمثيل، كانت الحجة الرئيسية للدفاع عنها هو أن المبدأ سبق إقراره في قطاع التعمير؛ حيث نصَّت المادة (5) من القانون 62 لسنة 1974 (بشأن بعض الأحكام الخاصة بالتعمير) على أن "تتمتع شركات المقاولات الأجنبية، أو البيوت الاستشارية الأجنبية العاملة في مشروعات التعمير، بالإعفاءات الضريبية المقررة لرأس المال الأجنبي، بمقتضى قانون استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة"، ثم صدر القانون 113 لسنة 1975 بتعديل القانون 62، فنص في المادة الأولى منه على أنه يُضاف إلى المادة التي أشرنا إليها "وتتمتع بذات الإعفاءات المنصوص عليها في الفقرة السابقة، العملياتُ التي تقوم بها شركات أو بيوت أجنبية، في المشروعات التي يكون فيها التعاون من مقتضيات التعمير، ويصدر بتحديدها قرارٌ من وزير الإسكان والتعمير".
والحقيقة أن قطاع التعمير ـ بقيادة عثمان أحمد عثمان، وبمباركة الجهات الخارجية ـ أصاب، كما أسلفنا، عديدًا من العصافير بحجر واحد (راجع الفصل السادس) وإصابة قانون الاستثمار؛ استنادًا إلى ما تم في قطاع التعمير، كانت عصفورًا آخر، ولكنَّ المعارضين تشبثوا بموقفهم، وقالوا إن "أعمال المقاولات الواردة في قانون التعمير، هي أعمال خاصة بشئون التعمير ولظروف معينة، ولقد انتهى أمرُها. أما نشاط المقاولات الوارد في قانون استثمار المال العربي والأجنبي، فهو نشاط دائم ومطلق" (67).
أما بيوت الخبرة ومكاتب التمثيل، فلم يقف إلى جوار اللجنة المشتركة في الدفاع عن وجودها وامتيازاتها، إلا فكري مكرم عبيد (وكان من أقطاب حزب اليمين قبل الانتقال إلى منصب الأمين العام للحزب الوطني)، وحاول الرجلُ أن يبعد الشبهات الطبيعية التي تحيط بمثل هذا الموقف، فقال: "أرجو ألا يُفهم من كلامي أن لي صلة
أو ارتباطًا بنشاط هذه المكاتب". وبالفعل، فإن ارتباطاتِ الرجل معروفةٌ، وهو لم يستطع - بطبيعة الحال - أن يقول أي كلام مقنع أكثر من أن "هذه المكاتب تمثل شركات عالمية، وهي كثيرة جدًا.. فكيف تمنع مثل هذا النشاط المفيد للاقتصاد المصري؟ خاصة وأن الفلسفة التي بُني عليها هذا القانون هي التيسير وليست التعسير" (61) (!) وأضاف رئيس اللجنة المشتركة إن "النقطة التي أُثيرت بشأن عدم قيام هذه المكاتب بعمل إنتاجي، مردودٌ عليها بأن هذه المكاتب مولدة للنشاط الإنتاجي"(68) (ولا ندري كيف؟!). ومع ذلك؛ فالمعارضة كانت معتدلة في موقفها، فهي لم تكن ضد قيام هذه المكاتب من حيث المبدأ؛ "إذ لم يدُر بخَلَد أحد من السادة الأعضاء ـ كما قال العطيفي ـ الوقوف في وجه مكاتب التمثيل الأجنبي، وكان هدفي من التعديل، ألا تتمتع بالإعفاءات والمزايا المنصوص عليها في قانون استثمار المال العربي والأجنبي" (68)؛ أسوة بالتوكيلات التجارية التي أصبحت مقتصرة على المصريين (وفقًا للقانون 93 لسنة 1974 والصادر بناء على إلحاح رجال الأعمال المصريين) والتي لا تتمتع بأي إعفاء من الضرائب.

وقد أسفرت الموقعةُ لتحديد مجالات الاستثمار الجديدة عن حل وسط، يقترب أكثر من موقف المعارضين؛ فالصيغة النهائية التي صدر بها القانون، حُددت المجالاتُ الجديدة (المضافة إلى ما ورد في القانون 43) وحددت شروطها على النحو التالي:
1. نشاط التعمير في المناطق الخارجة عن الرُّقعة الزراعية، ونطاق المدن الحالية (بقيت على حالها).
2. نشاط المقاولات الذي تقوم به شركاتُ مساهمة
لا تقل مشاركةُ رأس المال المصري فيها عن 50 بالمائة.

3. نشاط بيوت الخبرة الفنية المتخذة شكل شركة مساهمة، بالمشاركة مع بيوت الخبرة الأجنبية العالمية، إذا كان يتعلق بأي من المشروعات الداخلة في المجالات المشار إليها، والتي تعتبر هذه الخبرة من مُقتضياته، وبشرط موافقة مجلس إدارة الهيئة في كل حالة على حِدة، على أن يُمسَك لكل عملية حساب خاص؛ وفقًا للنظام الذي يقرره وزير الاقتصاد، ويوافق عليه مجلس إدارة الهيئة.
وحذفت كل الفقرة المضافة إلى المادة 12، الخاصة بملكية الأراضي الزراعية والصحراوية والعقارات المبنية والأراضي الفضاء.
وبالتأكيد، كان تمكُّن مجلس الشعب من حذف الأراضي الزراعية، إنجازًا محمودًا. كذلك كان حذف مكاتب تمثيل الشركات الأجنبية مكسبًا إيجابيًّا، وبكل المقاييس، لم يكن مفهومًا لماذا تتمتع مثلُ هذه المكاتب بإعفاءات وامتيازات قانون الاستثمار. أيضًا كان إبعاد التأمين عن شركات التأمين الأجنبية أمرًا مهمًّا، ويحسُن أن نُشير ـ في هذه المناسبة ـ إلى مثال من الأدوات التي تستخدمها الجهات الخارجيةُ لفتح الأبواب، وللتأثير على المناقشات والقرارات؛ فقد تصدى علي عزت عبد الباري (وكان رئيسًا للهيئة المصرية العامة للتأمين) لمحاولة إدخال شركات التأمين الأجنبية، وفي المناقشات السابقة على عرض مشروع القانون، تمكن من إقناع اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب بموقفه، ثم كشف الرجل أنه تلقَّى ـ على إثر ذلك ـ عرضًا من شركة تأمين أجنبية؛ كي يعمل بها بمرتب يصل إلى خمسة أضعاف ما يتقاضاه في منصبه كرئيس لهيئة التأمين الوطنية (69).
على أيَّة حال، حدث بالنسبة لمجال التأمين بالذات، أن انفتحت ثغرة في اللائحة التنفيذية للقانون المُعدَّل، ومن هذه الثغرة تأسست شركة تأمين مصرية أمريكية للعمل في المناطق الحرة، ومفروضٌ أن تمتد أعمالها إلى المصريين العاملين في الخارج؛ للتأمين بالنقد الأجنبي.
وحدث أيضًا ـ رغم كل المعارضة ـ أن جاء الزمن الذي فتح فيه الباب أمام شركات مقاولات أجنبية، للقيام بعمليات داخل مصر، وتستهلك النقد الأجنبي، في وقت تصدِّرُ فيه مصر خبرة البناء، وعمال الإنشاء (بمئات الآلاف) إلى أسواق خارجية!
مع ذلك، كان فرض عدد من الضوابط على مجالات الاستثمار، يمثل الإنجاز الأساسي للمعارضين ضد "الانفتاح بلا أية حدود". ولكن هذه الجبهة لم تكن في الحقيقة مكمنَ التنازلات الأخطر، وللحقيقة أيضًا، فإن المجالات المفتوحة للاستثمار الأجنبي، ودون تعديل القانون 43، كانت واسعة بما فيه الكفاية؛ ففي البند (1) من المادة (3) ـ من ذلك القانون ـ كان النص يفتح "التصنيع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وغيرها من المجالات "وكانت عبارة "غيرها من المجالات" تسمح بأي تفسير، وقد تأسست بالفعل شركة المقاولات المصرية الإيرانية، وفق هذه العبارة، قبل تعديل القانون والسماح - بصراحة - بمشاركة رأس المال الأجنبي في قطاع المقاولات. إلا أن الشكوَى الحقيقية للمستثمرين الأجانب، تركزت على معايير الأفضلية في قبول المشروعات داخل المجالات المفتوحة؛ إذ نص القانون 43 مثلاً على حوافز للمشروعات ذات الأهمية الخاصة، وللمشروعات التي لا تشكل عبئًا على ميزان المدفوعات، وتبلور ذلك في حق تحويل الأرباح؛ إذ قصرت المادة 22 حق تحويل الأرباح بالكامل على:
المشروع الذي يحقق اكتفاءًا ذاتيًا من حيث احتياجاته من النقد الأجنبي، وتغطي حصيلة ما يحققه من صادرات منظورة أو غير منظورة جميعَ عناصر احتياجاته، من استيراد آلات ومعدات، ومستلزمات إنتاج ومواد، ومن سداد للقروض الخارجية وفوائدها، يسمح بتحويل صافي الأرباح السنوية للمال المستثمر في حدود رصيد حصيلة صادرات المشروع.
بالنسبة للمشروعات الأساسية ذات الأهمية الرئيسية للاقتصاد القومي، والتي لا تكون موجهة للتصدير، يسمح بتحويل صافي الأرباح السنوية للمال المستثمر بالكامل.
وقد عدّل البند (1) بحيث لم يعد تحويل الأرباح "في حدود رصيد صادرات المشروع"، ولكن في "حدود الرصيد الدائن لحساب العملة الأجنبية المرخص به".


أما البند (2) فقد تحول إلى:
1. بالنسبة للمشروعات التي لا تكون موجهة أساسًا للتصدير، والتي تحد من حاجة البلاد إلى الاستيراد، يسمح بتحويل صافي أرباحها كلها أو بعضها، بأي سعر مُعلن للنقد الأجنبي؛ وفقًا لما تقرره الهيئة، وطبقًا للقواعد النقدية السارية.
وبهذا تحقق مطلب المستثمرين، في أن يتسع حافز تصدير كل الأرباح (ودون حد أقصى) لمشروعات إحلال الواردات، التي تشمل في أغلبها مشروعات غير أساسية يركز عليها المستثمرون الأجانب لعائدها السريع، أو مشروعات يمكن إقامتها بالإمكانيات المحلية. ولم تعد القدرة التصديرية (التي تعكس مزايا تكنولوجية وإدارية) محددًا أساسيًّا لتحويل صافي الأرباح بالكامل، طالما أن المشروعات قادرةٌ على توفير النقد الأجنبي اللازم لتحويل أرباحها عن غير طريق التصدير ـ أي طالما أن رصيدها الدائن بالعملة الأجنبية يسمح بذلك ـ سواء من حصيلة المبيعات بالنقد الأجنبي في الأسواق المحلية، أو بشراء العملات الأجنبية عن طريق البنوك من أصحاب الحسابات الحرة، أو بشراء العملات الأجنبية من موارد السوق الموازية للنقد (مادة 14). وتُغني هذه الوسائل البديلة عن التصدير لتوفير النقد الأجنبي، منافسة حادة لأوجه الطلب الأخرى على العرض المحدود من النقد الأجنبي المتوفر في السوق المصري، ولن تُحسَم هذه المنافسة وفق رؤية وطنية للأولويات الصحيحة، إذا وضعنا في اعتبارنا سيطرة البنوك الأجنبية (التي تتعامل معها هذه المشروعات) على حصة متزايدة من موارد النقد الأجنبي، تملك وحدها تعيين أوجه استخدامها... وقد نص على أن استخدام المشروعات لموارد السوق الموازية يخضع لموافقة مجلس إدارة الهيئة وفي حدود هذه الموافقة (مادة 30 من اللائحة التنفيذية للقانون)، إلا أن أولوية "التيسير للمستثمرين"، والضغوط الخارجية، ستدفع الهيئة دومًا إلى الأريحية. وكان من الأريحية، وتمشيًّا مع المنطق الجديد حذف بند 4 (م ـ 22) بأن "لا تلتزم الدولة بتحويل عائد الاستثمار بالنسبة للمال المستثمر الذي تقل قيمته الكلية عن 50 ألف جنيه"، وكان النص يهدف طبعًا إلى تشجيع المشروعات الكبيرة. وأيضًا ارتفع المسموح بتحويله من صافي العائد بالنسبة للمساكن التي تدفع أجرتها بالعملة المحلية إلى نسبة 8 % سنويًّا من المال المستثمر بدلاً من 6%.
كان القانون 43 يُستثنَي المشروعات الأجنبية من أحكام القوانين والقرارات المنظمة للاستيراد "دون التزام من جانب الحكومة، بتوفير النقد الأجنبي اللازم لعمليات الاستيراد، خارج الحسابات المصرفية المذكورة في المادة السابقة" (أي: المادة 14). ولكن هذه المادة توسعت كما أشرنا؛ بحيث
لم يعد الجانب الدائن في الحسابات المصرفية للمشروعات مقصورًا على صادراتها المنظورة وغير المنظورة، أو الأموال المحولة من الخارج بالعملات الحرة، وإنما أُضيف إلى موارد النقد الأجنبي ما تستطيع أن تعتصره هذه المشروعات من داخل مصر، ويعني ذلك توسع دائرة الاستيراد المرسل بلا ضوابط من خلال الشركات الأجنبية. وأضيف إلى هذا "السماح للمشروعات المُشار إليها، بأن تصدر منتجاتها بالذات أو بالواسطة دون ترخيص، وبغير حاجة لقيدها في سجل المُصدرين". وفشلت محاولات المعارضين لتقييد هذه الحرية، ولو بمجرد إخطار الهيئة العامة للاستثمار قبل التصدير؛ لكي يكون لدى الدولة تصورٌ عن موارد النقد الأجنبي المتوقعة، أو للتنسيق بين التصدير واحتياجات الاستهلاك المحلي (70).

وكان لا بد من تأمين طرق الانسحاب أمام المستثمرين الأجانب وقتما يريدون، والقانون 43 حقق ذلك في المادة (21) بالسماح بإعادة تصدير رأس المال المستثمر عينًا بموافقة الهيئة (وظل هذا بلاد تعديل) أو بتحويله نقدًا إلى الخارج على خمسة أقساط سنوية متساوية، فألغَى التعديل شرط التساوي في الأقساط، وكان ممكنًا أن يُستثنَى من شرط الأقساط الخمسة ـ أصلاً ـ) إذا كان المستثمر قد تصرف فيه "في رأسماله" مقابل نقد أجنبي حر تم تحويله إلى جمهورية مصر العربية".
لكنْ تمشيًّا مع منطق التعديلات؛ أصبح الاستثناء ممكنًا أيضًا (أي تحول الأموال دفعة واحدة) إذا أمكن للمستثمر أن يحصل على النقد الأجنبي اللازم من داخل مصر، أي "إذا كان رصيد المستثمر بالنقد الأجنبي في الحساب المشار إليه في المادة 14 يسمح بهذا التحويل، أو إذا كان قد تصرَّف فيه مقابل نقد أجنبي حر". وكان الاستثناء من شرط الأقساط الخمسة يتطلب في القانون 43 موافقة الهيئة على هذا التصرف، فاكتفى التعديل بمجرد إخطار الهيئة،
ولم تنفعْ في المناقشة حجة أن استئذان الهيئة وموافقتها ضرورية، على الأقل حتى لا يحل محل المستثمر الأصلي، مستثمرٌ آخر من دولة معادية (71). ومن أجل مزيد من التيسير؛ أضاف التعديل في كل الأحوال حقَّ "بيع الأسهم المقومة بعملة أجنبية حرة في البورصات المصرية، بنقد أجنبي حر، وفي هذه الحالة يحول ناتج البيع لحساب البائع إلى الخارج" ومسألة تشجيع وتطوير سوق الأوراق المالية كانت موضع إلحاح ودراسات الجهات الخارجية والمصرية المعنية منذ 1974، وهذا السوق ـ وبالنقد الأجنبي ـ من أسرع وأكفأ قنوات تحويل الأموال إلى الخارج عند الحاجة. ومعروف أن القانون المصري لا يُجيز تداول حصص التأسيس والأسهم، قبل مرور سنتين على قيام الشركة، ولكن أجاز هذا بالنسبة للشركات المستفيدة من القانون إذا وافقت الهيئة (مادة 12).

وأخيرًا، كانت هناك طريقة انسحاب المستثمر الأجنبي بتصفية المشروع، والقانون 43 كان يضع بعض الضوابط على تحويل المستثمر لأمواله على هذا السبيل ـ لمنع التلاعب ـ فوضع حدًا أقصَى "لا يجاوز القيمة المسجل بها المال المُستثْمَر عند وروده، مضافًا إليها نسبة يحددها مجلس إدارة الهيئة، مقابل الارتفاع الذي يكون قد طرأ على قيمة المال المستثمر"، ولكن جاء التعديل مُلغيًا لأية معاييرَ محددة، "يكون تحويل المال المستثمر في حدود قيمة الاستثمار عند التصفية، أو التصرف فيه بحسب الأحوال".. وبالكاد تمكَّنت المعارضةُ في مجلس الشعب، من إضافة "على أن تعتمد الهيئة نتيجة التصفية" إلى آخر الفقرة.
وبالنسبة لإعفاء المشروعات من تطبيق قوانين الدولة، حدث توسُّع كبيرٌ في دائرة الإعفاء التي نص عليها قانون 43. وتعرضت هذه النقطة لانتقادات حادة من المعارضين، ولكن بقدر محدود من النتائج (72)، أهمها إسقاط النص المُقترح من الحكومة بإطلاق يد المشروعات في تشغيل العمال ساعات إضافية، دون تصريح من مكتب العمل، (وهو أمر يتعارض مع الحقوق التي كسبها العمال المصريون منذ أوائل الخمسينيات).
وكذلك تمكن المجلس من خفض نِسبة إعفاء الأرباح الموزعة من ضريبة الإيراد العام إلى 5 % من القيمة الأصلية لحصة الممول في رأس المال للمشروع، وذلك بعد انقضاء فترة الإعفاء من كل الضرائب، لمدة خمس سنوات (أو ثماني أو خمس عشر سنة، حسب الحالة) اعتبارًا من أول سنة تالية لبداية الإنتاج، أو مزاولة النشاط. وبهذا تكون النسبة (5 %) قد ظلت عند المستوى المقرر في قانون 43، وكانت الحكومة قد اقترحت رفع هذه النسبة إلى 10 %، وكان هذا يعني أن المشروع الذي يبلغ رأسماله مليون جنيه ويربح مائة ألف جنيه سنويًّا، يصبح معفيًّا من الضرائب طول فترة اشتغال المشروع؛ لأن المائة ألف جنيه تمثل 10% من رأسمال المشروع.
ولكن ظلت باقي التساهلات والاستثناءات سارية، وظلت كل مادة من قانون الاستثمار (من المادة ـ 1 ـ إلى المادة 22 ـ) تهدي للمستثمرين استثناء أو أكثر من القوانين العامة للبلاد، و"الغريب في أمر هذه الاستثناءات ـ كما كتب محمد علي رفعت ـ أن الذين صاغوا القانون في سنة 1974، والذين صاغوا ما أُدخل على مواده من تعديلات في سنة 1977، لم يفطنوا جميعًا لعواقب تطبيقه، تلك العواقب التي ظهرت بواكيرُها فيما تعانيه المشروعات الوطنية القائمة وغير المنتفعة (بالاستثناءات) من ضيق ومعاناة (...) مع أنها أولَى بالرعاية؛ لسابق فضلها في الأداء، ولمعاناتها الطويلة؛ ولأنها لو تُركت وشأنها؛ لانهارت دعائمها"، وهذا الانهيار "تترتب عليه خسائرُ لن تعوضها المكاسب المرتقبة من إقامة المشروعات المنتفعة". والتمييز في المعاملة الاقتصادية، يستحدث الثنائية الاقتصادية، ومثل هذا التمييز كان دائمًا الأداة التي يلجأ إليها المستعمرون "لإقامة قطاعات أو مشروعات اقتصادية يختصون أنفسهم بملكيتها وإدارتها، ويتركون للمواطنين المستضعفين القطاعاتِ التقليدية المتخلفة (...) وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر؛ فلا بد من ذكر ما عانته مصر على مدَى الأجيال في ظل نظام الامتيازات الأجنبية من سيطرة رأس المال الأجنبي على اقتصادياتها (....) وإذا كان إغفال العواقب التي تعززها الاستثناءات سالفة الذكر عند تطبيقها، أمرًا مُستغربًا؛ فالأغرب منه أن يدعي مدعٍ أن القانون الجامع لتلك الاستثناءات، إنما هو تجسيدٌ لسياسة عامة تقررها الدولة. أمِن المعقول أن تكون مجموعة استثناءات خاصة من قوانينَ عامة، تجسيدًا لسياسة عامة؟ أو مكونة لها" (73).
إلا أن اللجنةُ المشتركة أصرَّتْ أيضًا على إضافة فقرة إلى (المادة 6) وتتعلَّق بامتداد كل الامتيازات الجوهرية التي تتمتع بها رءوس الأموال الأجنبية؛ لكي تغطي أيضًا المشروعات المصرية الخالصة(74) وعلى رأسها الإعفاءات الضريبية، شاملة الإعفاء الدائم للأرباح، بنسبة 5 % من رأس المال المُستثمَر، من ضريبة الإيراد العام (المادة 17) وكانت الحجة الديماغوجية المقدمة، أنه لا بد من مساواة المصري مع الأجنبي، وأي وطني عاقل كان يرفض هذا المنطق؛ فالرأسمالي العجوز عضو مجلس الشعب سيد جلال قال: "إنني مندهش من الكلام الذي يقال، من أنه يجب عدم إيجاد تفرقة بين المستثمر الأجنبي والمستثمر المصري، فلا بد من التفرقة بين الاثنين؛ لأن المصري يستثمر في بلده ووطنه الذي يدين له بكل شيء، ووضعه يختلف عن الأجنبي الذي يأتي إلينا بهدف الربح (...) إنني أتساءل عن الأسباب التي تدعونا إلى إعطاء مثل هذا الإعفاء للممول المصري، بعد أن أعفيناه من كافة أنواع الضرائب والرسوم، لمدد تتراوح ما بين 5 سنوات و 15 سنة؛ وفقًا لطبيعة كل مشروع. كما أتساءل عن الأسباب التي تدعونا للاستمرار في إعفاء الممول المصري، رغم أنه يقيم في مصر ويستظل بظلها، وينعم بخيراتها، ويعيش آمنًا في ظل قواتها المُسلَّحة ورجال الأمن فيها، ويتمتع ابنه بالتعليم المجاني، ويتمتع هو بالعلاج المجاني أيضًا، لماذا – إذًا - نعفيه من الضريبة بنسبة 10 % من رأس المال؟ هل يعتبر هذا بمثابة معاش إضافي للممول؟ إنني لا أجد أي مبرر لإعفاء الممول المصري بنسبة 10 % من القيمة الأصلية لحصته، ثم كيف نقرر بأن يظل هذا الإعفاء مستمرًا إلى ما لا نهاية؟ إننا إذا كنا نعفي المستثمر الأجنبي من الضرائب؛ فهذا لأننا لا نطلب منه أن يسهم في الأعباء العامة للدولة، أمَّا المواطن المصري، فلماذا نعفيه من أداء الضريبة المُستحقَّة عليه؟ إنني أرجو من الإخوة الزملاء، عدم الموافقة على هذا الإعفاء"(75).
ولكن الإخوة الزملاء لم يستجيبوا للرجاء، رغم مساندة رئيس المجلس للاتجاه المعارض، فحين طُرِحَ الأمر للتصويت وقال سيد مرعي: "الموافق من حضراتكم على مساواة رأس المال المصري برأس المال الأجنبي في الاستفادة من حكم المادة (17)، يتفضل برفع يده"، رفعت الأغلبية يدها، وسط التصفيق الحاد، وحين تساءل رئيس المجلس: "وهل يكون الإعفاء مطلقًا دون تحديد مدة؟ أو يحدد بخمس سنوات أو ثماني سنوات؟" (76) لم يجد من يعبَأ بالإجابة أو التعليق.
المناقشات التي أشرنا إليها بما عدلته وبما لم تعدله، عكست إدراكًا ناميًا وصحيحًا، لحقيقة أن الدولة تمنح المستثمرين الأجانب والمصريين تسهيلاتٍ شاذة، ولم تميز في ذلك بين المشروعات الهامة وغير الهامة، وتتأكد خطورة ذلك، حين نتذكر اتساع القطاع الذي يشمله هذا القانون، في ظل استراتيجية تنمية، التزمت بها الحكومةُ، وتعلن أن المشروعات الجديدة ـ خارج الهياكل الارتكازية ـ سيقوم بها القطاع الخاص الأجنبي والمصري، وبالتالي يكون المستهدَف إعفاء كل المنجز خلال الخطة الخمسية (أو في كل السنوات التالية) من أي تخطيط أو ضوابطَ من قِبَل الدولة، وأيضًا لن تحقق الدولة أية زيادة في موارد الميزانية العامة من خلال المشروعات الإنتاجية أو الخدمية الجديدة، وتصل الأرباح والعوائد المصدرة بالنقد الأجنبي، إلى أرقام مزعجة، إذا نجحت السياسات في اجتذاب رءوس أموال أجنبية في مشروعات كثيرة تافهة، تتمتع بكل هذه الإعفاءات.
ولكن في إطار هذه الصورة العامة، فات الجميع (قصدًا أو سهوًا) رصد ثلاثة جوانبَ في تعديلات القانون، ترتبط بمجمل التحوُّرات المستهدفة في البنية الاقتصادية لتكريس التبعية:
الجانب الأول والأخطر بسعر الصرف؛ ففي الهجوم الشامل والمشترك من كافة الممولين الأجانب (دول عربية وغربية، ومؤسسات دولية، ومؤسسات خاصة) كان هناك اللقاء حول خفض سعر الصرف خفضًا شديدًا، وكانت إجراءات "ونوايا" الحكومة في الوثائق السابقة، تتجه إلى الخضوع لهذا المطلب، فحققت خطوة أساسية في هذا الاتجاه للتوسع الكبير في التعامل على أساس السعر التشجيعي، في التصدير والاستيراد والقروض.. إلخ، والتزمت بأن يكون كل الاستيراد بالسعر التشجيعي بدءًا من أول كانون الثاني/ يناير 1979، وكان لا بد أن يستكمل ذلك بتعديل سعر الصرف الذي يُعامل به المالُ المستثمر؛ كي يصبح هدف خفض سعر الصرف أمرًا واقعًا وكاملاً، وقد تعهدت الحكومة أمام كل الجهات الخارجية بأن تحقق من خلال تعديل القانون 43 هذه الخطوة. وجمال العطيفي (القريب من الصورة) كان مدركًا للموضوع، إلى حد أنه اعتبر ـ وبحق ـ أن موضوع سعر الصرف هو جوهر التعديلات المطلوبة لقانون الاستثمار
"إلا أن الإضافات والتعديلات التي رأت اللجنة إدخالها تجاوزت ما سبق أن طالبنا به". ولكنه عرض القضية على أساس أنه "كان من المتصور، والمفروض أن يتضمن مشروع القانون المعروض بوضوح وجلاء هذا الوعد،
ألا وهو تحديد سعر الصرف الذي يتم به تحويل العملة وإنهاء الخلاف القائم حوله". وأضاف أن الحكومة سبق أن وعدت بتحقيق ذلك على لسان رئيس مجلس الوزراء عند عرضه لبيان الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر 1975، وأن لجنة الرد على بيان الحكومة (وكانت برئاسته) أثارت بدورها مسألة "تحديد سعر واحد (التشجيعي أو الرسمي) يتم على أساسه استجلاب رأس المال الأجنبي، وتحويل الأرباح". ولا أعتقد أن ضعف الذاكرة يفسر خطأ العُطيفي هنا في سرد الوقائع، ولكن كان الرجل يدرك خطورة كشف هذه النقطة، واستحالة تعديلها، فحاول أن يتجاوزها؛ ليواجه ما هو ممكن.

كان القانون 43 ينص في الفقرة الأولى من المادة (2) على أن: يُعتَبر مالاً مستثمرًا في تطبيق أحكام هذا القانون، النقدُ الأجنبي الحر، المُحوَّل لجمهورية مصر العربية بالسعر الرسمي، عن طريق أحد البنوك المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها ـ وفي الوقت نفسه كانت الفقرة الأولى من المادة 21 تنص على "يكون تحويل المال المستثمر إلى الخارج على خمسة أقساط سنوية متساوية، وبذات العملة الوارد بها وبسعر الصرف المعمول به وقت التحويل"؛ ولذا سجلت المذكرة الإيضاحية التي قدمتها الحكومة لمشروع القانون المُعدَّل ما يلي:
أ- إن التفاوت في معاملة رأس المال العربي والأجنبي بأسعار صرف مختلفة، بالنسبة لدخوله وخروجه، أمرٌ يتنافَى مع العدالة في المعاملة، التي تقتضي توحيد السعر في الحالتين، كما أن عبارة (سعر الصرف المعمول به وقت التحويل) عبارة غير محددة التعريف، وتُجيز عدة تفسيرات متناقضة".
وبالفعل كانت هذه العبارة غير محددة، وقد تصور البعض في البداية، أنها تعني السعر التشجيعي، وحينئذٍ، تكون الحالة أن المستثمر يجلب أموالاً تحدد قيمتها بالسعر الرسمي، أي تعادل قيمتها بكمية من الجنيهات المصرية، تقل عن حالة تقييم النقد الأجنبي بالسعر التشجيعي. عند تصدير المستثمر لأرباحه بالسعر التشجيعي يحول المستثمر كل مائة جنيه يربحها مثلاً باعتبارها 146 دولار فقط، في حين أنه يحول أمواله باعتبارها 250 دولار إذا حول أمواله للخارج بالسعر الرسمي؛ أي بنفس سعر دخوله للبلاد. إلا أن الحكومة أعلنت منذ مناقشات مشروع القانون 42 لعام 1974 أن رأس المال سيعامل معاملة موحدة عند قدومه وعند خروجه؛ فطالما أنه عُومِل بالسعر الرسمي عند مجيئه؛ ستعامل تحويلاتُه للخارج بالسعر نفسه. وقد طبق هذا فعلاً خلال لممارسة العملية؛ ولذا فإن إزالة اللبس في الصياغة تعتبر في هذا السياق مجرد تدقيق وتحصيل حاصل، وهنا يأتي خطأ العطيفي؛ لأن بيان الحكومة عام 1975 (الذي أشار إليه) كان في اتجاه إزالة اللبس وتأكيد توحيد المعاملة بنص صريح على أساس السعر الرسمي، ورد لجنة مجلس الشعب في ذلك الوقت كان في اتجاه أنه لا داعي للتعديل؛ لأن التعامل مع المال الأجنبي المستثمر (دخولاً وخروجًا) بالسعر الرسمي مسألة مضمونة ومفهومة، وبمعنى آخر كان المطروح عام 1975 تأكيد مبدأ التعامل بسعر واحد مع المال المستثمر، ولم يكن مطروحًا يومها أي تساؤل، حول ما إذا كان هذا السعر الواحد هو السعر الرسمي أو السعر التشجيعي ـ كما قال العُطيفي؛ لأن المسئولين كانوا ـ ولا زالوا حتى ذلك الوقت ـ في الموقف الذي يستطيعون فيه معارضة خفض سعر الجنيه، ولكن الموقف في منتصف 1977 اختلف، ولم تكن القضية المطروحة توحيد سعر التعامل، ولكن تغيير سعر التعامل، وبررت الحكومة موقفها في المذكرة الإيضاحية على النحو التالي:
ب- "إنَّ توحيد سعر الصرف في المعاملات الاستثمارية ـ دخولاً وخروجًا ـ بالسعر التشجيعي، يتمشَّى مع السياسة الاقتصادية العامة للدولة التي تستهدف إصلاح المسار الاقتصادي، وترشيد المعاملات الخارجية وفق سعر للصرف يتمشَّى مع حقيقة المتغيرات الاقتصادية، ويؤدِّي إلى توازن ميزان المدفوعات المصري خلال بِضع سنوات".
" جـ ـ إن توحيد السعر على أساس السعر الرسمي، ليس في صالح الاقتصاد القومي؛ إذ يأتي رأسُ المال الأجنبي عادة في صورة آلات ومعدات، من العسير تقييم أسعارها الحقيقية؛ نظرًا لتفاوت المواصفات، وتباين الأسعار في الأسواق الدولية، وبالتالي قد تشجع المستثمرين على تضخيم قيمتها؛ لتعويض الفرق بين السعر الرسمي والسعر التشجيعي، (وهذا الوضع لا يغيره كثيرًا استخدامُ السعر التشجيعي ـ المؤلف)، كما أن خروج رأس المال وأرباحه بالسعر الرسمي، يضر بمصالح مصرَ؛ إذ إن الأرباح تتولد في مجتمع يتمتع بمستوى أجور منخفض نسبيًّا؛ (نظرًا لقيام الحكومة بإعانة تكلفة المعيشة لبعض السلع الرئيسية) بينما يتمتع المستثمر بالسوق المصرية الضخمة، ومجالات تسويق إنتاجه بأسعار مرتفعة؛ نظرًا لنُدرة السلع المُتاحة، وبالتالي ليس في صالح الاقتصاد القومي أن يسمح للمستثمر بتحويل أرباحه على أساس 38 قرشًا عن كل دولار (بالسعر الرسمي) بل يتعين أن نطالبه بالسعر التشجيعي؛ أي نحو 70 قرشًا عن كل دولار".
والبند (ج) إشارة نفهمها لارتباط التغيير في سعر الصرف في قانون الاستثمار، بمُجمل التغييرات المُملاة في البنية والسياسات الاقتصادية، وعلى رأسها خفض سعر الصرف الرسمي. ولكن البند (ب) يقدم استخدام السعر التشجيعي، كما لو كان إجراء يتطلبه الصالح الوطني، وعلى حساب الأرباح التي يحصلها المستثمرون الأجانب. وواقع الحال، أن المستثمرين الأجانب هم الذين ألحُّوا لفرض هذا التعديل والحكومة المصرية هي التي حاولت أن تعترض لأطول فترة ممكنة. والأسباب واضحة:
فتحرير سعر الصرف وهيكل الأسعار المحلية من قبضة الدولة، أداة أساسية لربط الاقتصاد القومي باقتصاديات الدول الغربية بشروط الأخيرة، والنجاح في ذلك، شرطٌ استراتيجي لإعداد المسرح لقيام الشركات العابرة للجنسية بدورها؛ تجارة واستثمارًا. وكل هذا مُهِم جدًّا لإسرائيل.
وبالإضافة إلى ضمان انتظام الأداء العام وفق المطلوب، فإن المصالح المحددة للمستثمر الأجنبي لا تُضار على الإطلاق بتصدير ربحه بسعر 70 قرشًا للدولار، بدلاً من السعر الرسمي (على عكس ما ادَّعت الحكومةُ) طالما أن حصته في رأس المال قُوِّمت أيضًا بالسعر نفسه التشجيعي.
لنفرض مثلاً أن حصة مستثمر أجنبي في مشروع مشترك تبلغ 100 ألف دولار، فإذا قومت بالسعر الرسمي؛ تكون مساوية لـ 40 ألف جنيه، وإذا كان رأس مال المشروع 100 ألف جنيه، تصبح حصة الشريك الأجنبي 40 % من رأس المال، وإذا حقق المشروع معدلاً من الربح 10 % أي 10 آلاف جنيه، يكون نصيب الشريك الأجنبي حسب حصته في رأس المال 4 آلاف جنيه، تساوي عند تصديرها بالسعر الرسمي 10 آلاف دولار.
وإذا قومت نفس حصة المستثمر الأجنبي (100 ألف دولار بالسعر التشجيعي)، ترتفع قيمتها بالجنيه المصري إلى حوالي 71 ألف جنيه، إذا شارك بها في مشروع بالحجم نفسه (رأسماله 100 ألف جنيه) تقفز نسبة الشريك الأجنبي إلى 71 % من رأس المال، وإذا كانت أرباح المشروع أيضًا 10 آلاف جنيه، فإن نصيب الشريك الأجنبي حسب حصته الجديدة في رأس المال 7100 جنيه، تساوي عند تصديرها بالسعر التشجيعي 10 آلاف دولار.
وبعد "الاطمئنان" على نصيب المستثمر الأجنبي من الأرباح، ينبغي أن نلحظ من كلامنا السابق، أن الشريك الأجنبي أصبح بوسعه ـ بعد السعر التشجيعي ـ أن يملك نسبة أكبر من رأس مال الشركة، وبحكم قبضته الإدارية بالتالي، بكمية محدودة من النقد الأجنبي المحول. وإحكام السيطرة الإدارية، يدعم الروابط التكنولوجية والاقتصادية بين المشروع المحلي وفروع الشركة الأم، ومن خلال هذه وتلك، يتزايد نزيف التحويلات للخارج، من خلال توريد السلع الوسيطة عبر القنوات الخاصة للشركة العابرة للجنسية، بأسعار مُغالَى فيها، ولِقاء براءات الاختراعات والعلامات التجارية، وأيضًا لتحويل المرتبات العالية للخبراء ورجال الإدارة.. بالإضافة على الربح الرسمي.
وتكنيك السيطرة على المشروعات، بحفنة دولارات، يعني التحكم في كمية مدخرات مصرية كبيرة بحفنة دولارات ترد من الخارج. وتبدأ هذه العملية عند تأسيس المشروع المشترك، ولكن أثناء التنفيذ، وبعد التشغيل، قد يلجأ المشروع إلى الاقتراض لتغطية التوسع في إنفاقه الاستثماري، وكان قانون 43 يشجع على ذلك لاجتذاب مزيد من النقد الأجنبي من المصادر الخارجية؛ ولذا نص على إعفاء "الفوائد المُستحقة على القروض الخارجية ـ ولو اتخذت شكل فوائدَ ـ التي يعقدها المشروع من جميع الضرائب والرسوم، ويسري ذلك الإعفاء على فوائد القروض الخارجية التي يمول بها الجانب المصري نصيبه في المشروع" (المادة 18) ولكن مع التعديلات المُدخلة حذفت كِلمة "الخارجية"، وأصبح الإعفاء بالنسبة للقروض "التي يعقدها المشروع بالنقد الأجنبي" (أي يشمل الإعفاء ما يقترضه المشروع من مصادر الإقراض داخل مصر)، ويسري الإعفاء أيضًا بالنسبة للقروض التي يمول بها الجانب المصري نصيبه في المشروع (أي القروض التي يحصل عليها من داخل مصر أيضًا بالعملة المحلية). ويعني هذا أن المستثمر الأجنبي بحِفنة دولارات (بُولِغ في قيمتها) سيطر على مواردَ محلية كبيرة، ثم توسع بعد ذلك في المشروع، أو في دائرة سيطرته على مواردَ منتزعة من السوق المصري، وزاد بالتالي من حجم أرباحه، بنفس حفنة الدولارات التي جاء بها (77).
من أجل كل هذا، كان منطقيًّا تمامًا أن يصر المستثمرون على معاملة أموالهم بالسعر التشجيعي. إلا أن قضية السعر التشجيعي، رغم خطورتها هنا، ومع ارتباطها بسياسة الخفض المتعسِّف لسعر الصرف، مرت في غفلة غريبة من المعارضين، تمامًا كما مرت بِبساطة مسألةُ التوسع في الاستيراد بالسعر التشجيعي، أو بسعر السوق الموازية.
ننتقل بعد هذا إلى الجانبين الآخرين، وهما على أهميتهما، لن يحتاجا إلى شرح طويل. الجانب الثاني يتعلق بقطاعات المقاولات، فقد تعرض فتح هذا المجال أمام الاستثمار الأجنبي لمعارضة شديدة، نجحت في النص على بعض الضوابط، ولكن اقتصر هجومُ المعارضة، على حجة أن القطاع مصدر لأرباح وتحايلات غير عادية، وبتعبير محمود القاضي: "المقاولات وما أدراك ما المقاولات!" والحجةُ الأخرَى كانت أن الخبرة المصرية الهائلة في قطاع المقاولات لا تحتاج إلى أي مدد خارجي، ولا شك أن الحجتين مُهمتان، وفي الصميم، وتكفيان لإغلاق الباب أمام المستثمرين الأجانب، ولكن تظل الحجة الأهم ـ والتي
لم يسلط عليها الضوء ـ إن قطاع الإنشاء يتحكم في التنفيذ العيني للخطة، كتحكُّم الجهاز المصرفي في التنفيذ المالي، وكما كان اختراق الأجانب للقطاع المصرفي ضربةً كبرى للاستقلال الاقتصادي، أو للقدرة على تنفيذ قرارات مستقلة في مجال التنمية والإدارة الاقتصادية، كان اختراق الأجانب لقطاع المقاولات ضربة مشابهة بنفس المعايير، وكان مكسبًا هامًا، استهدفه الأعداء من تعديل قانون 43.

الجانب الثالث خاص بقضايا العمالة؛ فالمعارضون ركزوا على الجوانب الإنسانية والاجتماعية بالمعنى الضيق، ولكن غابت النظرة إلى اقتصاديات الماكرو، وغاب أيضًا مفهوم الاستقلال الاقتصادي. وحين نوقِش الموضوع بنظرة ضيقة؛ مرَّ تعديل المادة 11 ببساطة، وتقضي باستثناء مشروعات الاستثمار الأجنبي من حكم المادة 21 من قانون العمل (91 لسنة 1959) الذي يُلزم المشروعاتِ بتعيين العمال والسائقين والعمال المتدرجين؛ بناء على ترشيح مكاتب العمل، ويعني هذا أنه لا ضرورة لأولوية تشغيل العاطلين، وإباحة نقل العمالة من موقع إلى آخر بلا ضابط، وكان يكفي للموافقة على هذا المبدأ، أن يقال: وما المانع "إذا كانت شروط العمل أفضل". وقد أشير في المناقشة إلى الوجه الخطير لهذا المبدأ، فقيل: "إن المشروع الاستثماري قد يكون في حاجة إلى كفاءات عُمَّالية، وقد تكون هذه الكفاءات موجودة في الحكومة أو في شركاتٍ أخرى، وليس لهؤلاء حق الحصول على كعب العمل؛ لأنهم ليسوا عاطلين، وبالتالي لن تستطيع تلك الشركة أو غيرها الحصول على هذه الكفاءات اللازمة لنجاح المشروع" (78). وهذا الموقف ـ بلا سياسات مضادة مناسبة ـ هو تقنين لسياسة استنزاف العمالة الفنية من القطاع العام. ومعروفٌ أن القانون 43 كان قد أعفى شركاتِ الاستثمار الأجنبي من نظم ولوائح القطاع العام (حتى لو كان الشريك شركة من القطاع العام) ونصَّت التعديلات على استثناء "العاملين وأعضاء مجالس الإدارة في تلك الشركات من أحكام القانون 113 لسنة 1961 ـ بعدم جواز زيادة ما يتقاضاه رئيسُ أو عضو مجلس الإدارة
أو العضو المنتدَب عن خمسة آلاف جنيه". وكان هذا النص في ـ غيبة سياسات مضادة مناسبة - تقنينًا لاستنزاف الإدارات العليا والخبرات البشرية الثمينة، التي تربَّت على القطاع العام، وتقنين المفارقات في هيكل الأجور والمرتبات، وما يترتب عليها من هجرة المهارات البشرية لمواقع العمل في القطاع العام، تؤدي إلى تخريب جسيم لإنتاجية القطاع العام ـ بمفهومه ودوره حتى الآن ـ (وهذا هدف استراتيجي للقوى الخارجية) وهذه الهجرة تؤدي أيضًا إلى خسارة الاقتصاد القومي للإضافات المُستهدفة من الاستثمار الأجنبي في صورة توسيع وتنويع لرصيد المهارات البشرية التي تمتلكها. وهذا الموقف يسهم، مع السياسات الأخرى، في تيسير أن يكون القطاع الخاضع للسيطرة الأجنبية قائدًا للاقتصاد القومي، وبديلاً ـ وليس إضافة ـ للقطاع العام(79).

ثانيًا ـ ما بعد المجموعة الاستشارية الأولى:
(1) التوجه إلى القدس (إعلان الاستسلام في جبهة الصراع الرئيسي):
إذا عندنا بعد ذلك إلى التحرك السياسي في جبهة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، نجد أن مرحلة جس النبض والمباحثات الاستطلاعية للحل الشامل الذي بشَّر به كارتر، كانت قد وصلت عمليًا ـ في أيار/ مايو ـ إلى مزيد من تحسين الموقف التفاوضي لإسرائيل، بفضل الضغط الأمريكي المنظم على الأطراف المعنية.
فقد تم بالفعل إرجاءُ مؤتمر جنيف، وانتزعت من الجانب المصري موافقة مبدئية على إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل قبل (أو دون) التزام من إسرائيل بالانسحاب من كل الجبهات. وبدأ التراجع حول مبدأ تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني في التسوية، من خلال البحث عن البدائل المحتملة لأشكال مشاركة الفلسطينيين في مؤتمر جنيف (الذي لم ينعقد أبدًا)، والتي وصلت إلى حد أن يمثل الشعب الفلسطيني أستاذٌ أمريكي من أصول فلسطينية. وارتبط كل ذلك ـ داخل مصر ـ مع النجاح الأمريكي ـ الإسرائيلي في السيطرة على إدارة الاقتصاد المصري (المجموعة الاستشارية 12 أيار/ مايو)، وواكب هذا أيضًا ازدياد التدهور في علاقات القوى العسكرية بين مصر وإسرائيل.
وعلى المستوى العربي نذكر أن أزمة لبنان ظلت نزيفًا مستمرًا لقدرات سوريا، والاتصالات العلنية والسرية للولايات المتحدة، أسهمت في إعادة التوتر إلى الجبهة المصرية السورية ـ بعد محاولات رأب الصدع في نهاية 1976، وأوائل 1977. ولم يقتصر التوتر على العلاقات المصرية مع سوريا وليبيا، ولكن أدَّى الدور السعودي في قانون التصفية، إلى تكثيف الإحساس الطبيعي بالإهانة والمرارة التي تجرعها السياسيون والفنيون والبيروقراطيون المساهمون في اتصالات تلك الفترة واتفاقياتها، أضيفت إلى المرارة التي سبق أن ترسبت ـ منذ الانفتاح ـ على أصعِدة مختلفة، ونشأ عن كل ذلك توتر مكتوم.
وعلى المستوى الدولي أسفرت تحركات كارتر ـ عن تصاعد العداء مع الاتحاد السوفييتي، فتجاوزت المواجهة حدود الحملة السياسة الإعلامية، بل وحدود مصر؛ لكي تصل إلى مواجهات ساخنة وبالسلاح في أكثر من موقع في أفريقيا، وتدعم المحور المصري ـ السوداني في هذا الإطار. وكان لقاء السادات ـ نميري (19 أيار/ مايو) تنسيقًا وتتويجًا لذلك.
وحين أعلن ذلك، كان باقيًا ـ في قائمة مباحثات كارتر ـ اللقاءات مع الأمير فهد. وفي يوم اللقاء (23 أيار/ مايو) نشر في صحف القاهرة أن الرئيس السادات تلقَّى رسالة من كارتر، تؤكد التزام الولايات المتحدة بموقفها من تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وبضرورة عقد مؤتمر جنيف هذا العام بغض النظر عن أية تغييرات في قيادة إسرائيل. ولكن المواقف العملية لم تثبت جدية هذا الكلام، وأكدت ذلك نتائجُ مباحثات فهد ـ كارتر؛ إذ سبقت اللقاء توقُّعات بأن تقدم الحكومة الأمريكية إلى الأمير السعودي ما لم تقدمه للآخرين؛ تدعيمًا لدور السعودية في المنطقة العربية. كان متوقعًا أن يحصل فهد على التزام أمريكي محدد بمواجهة الصلف الإسرائيلي؛ وصولاً إلى تسوية شاملة مقبولة عربيًّا (من الأطراف "المعتدلة" على الأقل). ولكن خابت هذه الآمال، بل قيل أيامها إن كارتر ركز على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية، أكثر من تركيزه على قضية الشرق الأوسط. ويبدو أن شعور القاهرة بالإحباط كان على علاقة بتصريح الفريق أول الجمسي (نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية آنذاك)، فقد أكد (25 أيار/ مايو) أنه "ليست هناك حشود عسكرية على حدود مصر الغربية، وليست هناك أية نوايا عدوانية نحو الشعب الليبي الشقيق"، ولا نعتقد ـ في سياق الأحداث ـ أن التصريح كان بغرض التمويه، فأغلب الظن أنه كان رسالة امتعاض، وإبلاغًا علنيًا عن تحلل القيادة المصرية من مُهمة أُسندت إليها.
وعبرت القيادة المصرية عن نفس مضمون الرسالة، حين أعلن بيان من القاهرة وموسكو (يوم تكليف مناحيم بيجن بتشكيل الحكومة الجديدة ـ أي 7 حزيران/ يونيو) عن زيارة رسمية لإسماعيل فهمي (نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية) للاتحاد السوفييت، وقيل: إن المباحثات تشمل الموقف الدولي بكل تصوراته، والموقف في الشرق الأوسط، وقيام الدولتين العظميين بالدعوة لعقد مؤتمر جنيف، بمشاركة الفلسطينيين، والعلاقات الثنائية بين البلدين بجوانبها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقيل إن جدول الأعمال يتضمن أيضًا بحث الوضع في القارة الأفريقية. وتمت المباحثات في يومي 9 و10 حزيران/ يونيو، وأكد البيان المشترك اهتمام الطرفين باتخاذ الإجراءات الهادفة إلى التغلب على الصعوبات القائمة في العلاقات بين البلدين؛ لتطوير التعاون المصري السوفيتي في مختلف المجالات لصالح الشعبين. وقد أُحيطت زيارة إسماعيل فهمي بتغطية إعلامية واسعة، ونُقل عن الجرائد أيامها أنه كلف بفتح صفحة جديدة، وأن المباحثات ـ بهذا المعيار ـ حققت أهدافها، بما في ذلك موضوع السلاح؛ ولذا فوجئ وزير الخارجية تمامًا حين هاجم الرئيس الاتحاد السوفيتي في خطاب عام ـ بعد عودة فهمي مباشرة ـ ومستندًا إلى فشله في مهمته. ولكن من حقنا أن نفترض هنا أن التغير المفاجئ كان نتيجة اتصالات سرية (لا يعلم بها وزير الخارجية). ويبدو أن الاتصالات أنذرت، وطلبت وقف الاتصال مع السوفييت، ويبدو أنها وعدت في الوقت نفسه بتجدد التحرك الأمريكي النشِط، أو باستمرار قوة الدفع من أجل التسوية الشاملة. ويُرجِّح هذا التصور أن الفترة التي تلت ذلك كانت تحضيرًا بالفعل لجولة قام بها فانس.
وفي انتظار فانس، وإعدادًا لجولته؛ تصاعدت الاشتباكات في جنوب لبنان، وأعلنت حكومة بيجين بدء تنفيذ مخططها لإقامة تسع وعشرين مستوطنة جديدة، ضمن برنامج ليكود لإنشاء 120 مستوطنة في الأراضي العربية المحتلة، ومن هذا المنطلق تقابل كارتر مع بيجن (19 تموز/ يوليو).
وعلى الجانب المصري، في المقابل، كان أهم إسهام قُدِّم إعدادًا لجولة فانس، اختراق القوات المصرية للحدود الليبية (21ـ 23 تموز/ يوليو)، وفي الأثناء قصف الطيران المصري "محطة رادار كبيرة جدًا، تبيَّن فيما بعد أنها قاعدة سوفيتية محصنة، تعمل أجهزتها على نطاق واسع من شرق البحر الأبيض حتى غربه، ويصل مداها إلى عمق أوروبا"(80).والمصادر الأخرى لها رواية مختلفة؛ فهي تؤكد أن القيادة المصرية ـ وهذا منطقي ـ كانت تعلم مسبقًا بحقيقة المحطة، وأن ضربها بالتالي كان مقصودًا، تقول "تايم" مثلاً إن السادات "أزعجه بشكل خاص، أن الروس يقيمون ـ في مطارات ليبية تجهيزات إلكترونية معقدة للتصنت (…) فأرسل قوات جوية مصرية لسحق هذه القواعد" (81). وليس هناك ما يُثبت صحة أي من الروايتين لتبرير العدوان. ولكنَّ هذا الزعم - على أيَّة حال - عن تحطيم هذه التجهيزات السوفيتية، لا يدخل في إطار الأمن المصري، بقدر ما يدخل في إطار أمن حِلف الأطلنطي والأسطول السادس الذي يحمِي إسرائيل.
ومن جانب كارتر، باعت الإدارة الأمريكية وعودًا كثيرة علنية؛ تمهيدًا لزيارة فانس، فتكررت تصريحات الرئيس الأمريكي، بأن مهمة وزير خارجيته مناقضةٌ تمامًا لمهام الخطوة خطوة، وأنها مهمة تقرب من الحل الشامل، وفي حديثه إلى التليفزيون الأمريكي (30 تموز/ يوليو) قال كارتر: "إن الهدف من جولة فانس، هو إيجاد إطار يمكِّن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، من توجيه الدعوة لاستئناف مؤتمر جنيف في الخريف القادم" (82). وذاع في تلك الفترة، أن مؤتمر جنيف سينعقد فعلاً ـ بموافقة الأطراف المختلفة ـ في تشرين الأول/ أكتوبر. وحسب المفهوم الأمريكي التقليدي لمؤتمر جنيف (كمكان لتوقيع الاتفاقات وليس لمناقشتها)، وحسبما قيل في الاتصالات التمهيدية السرية؛ كان منطقيًّا أن يتوقع ـ أنصار السلام الأمريكي ـ أن يحمل فانس في جولته النية الكافية والصلاحيات، لتحقيق تقارب جوهري في مواقف الطرفين؛ العربي والإسرائيلي، وبالتحديد بالضغط على إسرائيل.
بدأت جولة فانس (1 ـ 11 آب/ أغسطس) بمباحثاته مع السادات في الإسكندرية، ووفقًا لما نُشر، فإن المقترحات المصرية كانت في إطار الصفقة التي أصبحت تَلقى قبولاً من كل الأطراف العربية المعنية، وتضمنت قبولاً لإقامة علاقات وفق نص يقول: "إنهاء حالة الحرب، هي الخطوة الوحيدة التي تعقب الانسحاب، على أن يتم بعد ذلك اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى عودة العلاقات الطبيعية، بشرط تنفيذ كل ما ورد في قرار مجلس الأمن". وقيل إن فانس قدَّم مشروعًا مضادًا، كانت أهم بنوده: وجوب التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية حول الحدود التي قد تنسحب إليها إسرائيل ـ ضرورة التمثيل الفلسطيني في مؤتمر جنيف، على أن يتم ذلك بعد أن تعلن المنظمة اعترافها بإسرائيل ـ عودة العلاقات الطبيعية بين العرب وإسرائيل فورًا، وبمجرد الاتفاق على ذلك، وأن تقوم العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الجانبين ـ إجراء استفتاء بين سكان الضفة الغربية لتحديد مستقبلهم.
وأعلن أيامها أن الجانب المصري اعترض على المشروع الأمريكي، وقال: إنه لا يتفق مع تصريحات كارتر والالتزامات الأمريكية السابقة (83). وبالفعل كان المشروع الأمريكي حريصًا على تسجيل النقطة التي انتزعها من القيادة المصرية (العلاقات الطبيعية)، وأراد أن ينتزع أيضًا اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وفي المقابل ترك قضية الانسحاب للمفاوضة بين الأطراف دون أي التزام أمريكي.
ومع ذلك، فإن إسرائيل كانت ترفض من البداية أية مناقشة من هذا القَبيل، وأعلنوا أنه إذا جاء فانس بأفكار حول جوهر المشكلة، فسوف يحظَى بالاستماع له دون شك، إلا أن هذه الأفكار لن تناقش معه، فإسرائيل ترى أن مهمة وزير الخارجية الأمريكي، يجب أن تقتصر على إزالة العوائق التي تحول دون عقد مؤتمر جنيف، والمفاوضات الحقيقية حول النزاع لا يمكن أن تجري إلا بين إسرائيلَ والعرب. وهذه المفاوضات - كما أوضحت المصادر الإسرائيلية بصراحة-تستبعد الفلسطينيين بالضرورة، حتى لو قبلت المنظمةُ القرارَ رقم 242 دون أي تعديل، وحتى إذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل، فإن إسرائيل لا يمكن أن توافق على اشتراكهم في مباحثات جنيف. وأعلن موشِي ديان بعد المُباحثات: "إن إسرائيل ترغبُ في التفاوض مع كل دولة عربية على حِدة؛ ولذلك فهي ترفض التفاوض مع وفد عربي واحد. وإسرائيل ترفض العودة إلى حدود ما قبل حُزيران/ يونيو 1967، وهي تذهب إلى جنيفَ على أساس أن كل شيء مطروح للمفاوضة، ولكن من منطلق عدم الانسحاب من الضفة
أو قطاع غزة، فإسرائيل لا تريد دولةَ فلسطينية في هذه المناطق، ولن تقبل وجود قوات أجنبية بها، حتى ولو كانت أردنيَّة" أما عن العلاقات مع أمريكا، فقد قال ديان: "سنشعر بالسعادة إذا حظينا بالتأييد الأمريكي لكل مواقفنا. ولكن إذا
لم نحصل على هذا التأييد، فإننا سنقاتل للدفاع عن مواقفنا، وإذا كانت هناك خلافاتٌ مع الأمريكيين؛ فإننا سنتولَّى أمورنا بأنفسنا" (84).

كان هذا ما عاد به فانس من مباحثاته في إسرائيل (9 آب/ أغسطس). وبالتأكيد، فإن استخدام ديان لِكلمة "سنقاتل" كان مقصودًا؛ فإسرائيل - كما نشرت واشنجتن بوست أيامها- أصبحت تملك من القوة العسكرية، ما يشجعها على شن حرب تستمر لعدة أسابيعَ، دون حاجة إلى مساعدات، وهي ليست قلقة الآن على أمنها لسنوات طويلة مُقبلة، وهناك ثلاثة بلايين من المساعدات العسكرية في الطريق إليها. وسوف تتسلم إسرائيل من السلاح الأمريكي، ما قيمته عشرة بلايين دولار مع نهاية العقد (84).
وقد أوضح فانس أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وبدا من تصريحات السادات في تلك الفترة، أنه كان يتوقع رحلات مكوكية على طريقة كيسنجر، ولكن ثبت أن هذا الجهد لم يكن في نية (أو قدرة) الإدارة الأمريكية، فعادت فكرة لجان العمل والاتصالات التي يقودها فانس لاستمرار قوة الدفع، وقيل إنها ستنشط أثناء تواجد وزراء خارجية دول المنطقة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر. ويبدو أن كارتر حاول أن يظهر ـ أمام الجانب العربي ـ بأنه لا زال قادرًا على عمل شيء؛ إذ عبرت الحكومة الأمريكية (16 آب/ أغسطس) ـ بعد عودة فانس ـ عن اعتراضها على قرار إقامة ثلاث مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وعلى تطبيق القوانين الإسرائيلية في المناطق المحتلة (الضفة والقطاع) وردت الحكومة الإسرائيلية بتصعيد الاشتباكات في جنوب لبنان، ثم أعلنت وزارة الدفاع بدء تنفيذ خطة الحكومة لتطبيق القوانين الإسرائيلية (9 آب/ أغسطس)، وأعلنت الحكومة (10 آب/ أغسطس) مشروعًا لإقامة 6 مستوطنات جديدة. وفي هذا الإطار تأتي أهمية الاتصال الآخر بين مصر وإسرائيل عبر تشاوشيسكو، فقد توجَّه بيجن إلى بوخارست (25 آب/ أغسطس) لإجراءات مباحثات حول تطورات أزمة الشرق الأوسط، حسبما أُذيع رسميًّا.
مهدت إسرائيل – إذًا - لاتصالات كارتر وفانس في أيلول/ سبتمبر، بالتوسُّع في إجراءاتِها لفرض الأمر الواقع في المناطق المُحتلة، "وتصادف" أيضًا أن سبق الاتصالات مباشرة انفجار الاتهامات حول بيرت لانس باستغلال منصبه السابق كمدير لبنك جورجيا، في الحصول على امتيازات غير قانونية. ولانس كان مديرًا للميزانية في الحكومة الأمريكية، وصديقًا قريبًا من كارتر. وقالت قياسات الرأي العام في ذلك الوقت، إن هذا الاتهام كان من عوامل هبوط شعبية كارتر.
وصل ديان (وزير الخارجية الإسرائيلي) إلى نيويورك (18 أيلول/ سبتمبر)، ويقال إنه توقف أثناء رحلته؛ لإجراء مباحثات سرية مع مسئولين مصريين، وحدث - على أيَّة حال - أن أعلن البيت الأبيض أن مشروع السلام الإسرائيلي الذي حمله ديان، لم يحسمْ القضايا الأساسية في النزاع العربي الإسرائيلي، وتوالت التصريحات الأمريكية حول ضرورة مشاركة الفلسطينيين. وحول شروط إشراك منظمة التحرير. ولكن ظلت الإدارة الأمريكية تبدو في منظر العاجز تمامًا عن أي تحرك إيجابي.
دـ ويقول الرئيس السادات هنا، إنه تلقَّى في هذه الفترة (أواخر أيلول/ سبتمبر) رسالة شخصية بخط كارتر، حملها مبعوث خاص، ويُضيف أنه كتب بدوره ردًّا على الرسالة بخط يده، وجاء في الرد أن الموقف يحتاج نوعًا من التحرك الجريء (85). وليس معروفًا طبعًا ما جاء في رسالة كارتر البالغة السرية، ولكن ما قيل عن رد السادات عليها، بالإضافة إلى هذا السياق من التطورات، يجعلنا نتصور أن رسالة كارتر عبَّرت عن فشله في التأثير على إسرائيلَ، وقد يرتبط بذلك إبلاغ السادات بمضمون البيان المشترك لجروميكو ـ فانس الذي صدر فجأة في أول تشرين الأول/ أكتوبر كأساس لدعوة مؤتمر جنيف. كان البيان مجرد تسجيل للنصوص الواردة في قرار مجلس الأمن (242)، بما في ذلك تعبير الانسحاب من "أراضٍ" بدلاً من "الأراضي"، ومع إضافة نص "الحقوق المشروعة للفلسطينيين".
فكرة البيان، قُوبلت باعتراض صريْح من القيادات المصرية، ونعتقد أن منطق الاعتراض، يقوم على أن هذا التحرك هو بمثابة إنذار رسمي، بأن الإدارة الأمريكية ستنفض يدَها عن المشكلة، وتوقف جهودها تمامًا؛ إذ لا يعقل أن تكون الولايات المتحدة قد غيرت فجأة مخططها الاستراتيجي، الذي يتضمن إبعاد الاتحاد السوفيتي عن المنطقة. وبالتالي لا يمكن أن يعني هذا التحرك الأمريكي السوفيتي المشترك، توجَّهًا جادًا نحو مؤتمر للتسوية، وإنما تجميدًا للقضية. وقد يقال للقيادة المصرية إن التلويح باتفاق أمريكي سوفيتي محتملٌ يمكن أن يكون أداة ضغط على إسرائيلَ كي تعتدل. ولكن الخبرة السابقة بقدرة القيادة الأمريكية على الضغط، لم تكن ترجِّح مثل هذا التفسير. وقد نفترض أيضًا أن الاتصالات السريَّة مع إسرائيل أسهمت في إبعاد القيادة المصرية عن الموافقة على هذه الخطوة.
على أيَّة حال، إذا كانت القيادة المصرية قد عبَّرت عن عدم ارتياح، فإن القيادة الإسرائيلية أعلنتها حربًا. وحساباتها مفهومة؛ فأيًّا كانت الفاعلية المتوقعة لمؤتمر جنيف، يظل التحول عن المسار الذي قبلته القيادة المصرية (99 % من ورق اللعب في يد أمريكا) انحرافًا عن الوضع الأمثل بالنسبة لها، فاحتكار الولايات المتحدة للعملية أعطى إسرائيل ـ بحكم السيطرة الصهيونية داخل المؤسسات الأمريكية ـ ضمانًا كبيرًا بالتحكم في الموقف وفي تحريكه وفقًا لشروطها. وبالتأكيد كانت التقديرات لكل نتائج الخطوة خطوة، ولنتائج الاتصالات الخاصة، توحي باقتراب وقوع الفريسة في فخ الحل المنفرد، ففيم التحول إلى صيغة أخرى تدخل أطرافًا دولية أخرى، وأقطارًا عربية أخرى؟ إن تجميد العملية في جنيف جائز، ولكن سيطرتها غير مضمونة - بالقدر نفسه على سبيل القطع - ولا شك أن إسرائيل أدركت أيضًا احتمال أنَّ الحركة الأمريكية أداةٌ إنذار لها، ولكن كان هذا سببًا إضافيًّا لقرار إسرائيلَ لخوض اختبار القوَى، والذي انتهى بتأديب قاسٍ لكارتر. وتفاصيل الضغط وأعمال الابتزاز التي استخدمتها الصهيونية في هذه المعركة الفاصلة، لم تكشفْ ولم تُعرَف، ولكن كان ملموسًا أنها محمومة وضارية، وبعد أقل من أسبوع، وبعد "جلسة من المساومة المريرة مع موشي ديان، انهار كارتر، وأعلن أن الاتفاق الأمريكي ـ السوفيتي أن يكون أساسًا لمؤتمر جنيف" (86).
بعد هذا الانكسار المُهين، أصبح السائدُ في دوائر البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، اتجاه العودة إلى الخطوة خطوة، وهذه تعني بالضرورة ـ وبالمنطق الإسرائيلي ـ أن يبدأ التحرُّك مع مصر. وسواء أبلغ السادات بذلك رسميًّا أو لم يبلغْ، فإنه بالقطع قد فهم ذلك. وهكذا توقفت تمامًا قوة الدفع الأمريكية نحو تسوية شاملة، وسط توسع نشِط في إنشاء المستوطنات (حسب البيانات الإسرائيلية في ذلك الوقت صار العدد 19 مستعمرة في سيناء ـ 51 في الضفة الغربية ـ 26 في الجولان).
وأخطر من كل ذلك، كانت الأنباء التي تسربها إسرائيل، تقضي بأنها تستعد لضربة إجهاض ضد القوات المسلحة المصرية، مستفيدة من فجوة التسليح التي اتسعت بشكل خطير بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وبعد التطورات السياسية التي أوقفت الإمدادات السوفيتية. ويبدو أن إسرائيل لم تكتفِ بالإنباء عن النوايا، ولكنْ تعمَّدت أيضًا أن تُظهر دلائلَ عملية على صحة ما تذيعه، وقد اعترف السادات بذلك حين أشار إلى مناورة الجيش الإسرائيلي الضخمة في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر. صحيح أن الرئيس السادات قال إن القوات المسلحة المصرية ردت بمناورة على نفس المستوى والنطاق (87)، ولكن بالتأكيد تعلم كل الأطراف أن احتمال تجدد القتال على الجبهة المصرية كان ضغطًا شديدًا على أعصاب كل من يعنيهم الأمر، وكل من يعلمون حقيقة الأوضاع التي وصلنا إليها (88).
وقد نفترض أن اتصالات تتعلق بهذا الإنذار؛ قد تمت بين القاهرة وواشنطن على أعلى مستوى (وهذا افتراض منطقي تمامًا). وقد نفترض أيضًا، أن الإدارة الأمريكية لم تقدم ضمانًا مناسبًا للأمن المصري، وحينئذ يكون الضغط على الأعصاب ساحقًا.






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:44 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

هـ ـ ومع بقاء كل شيء على حاله؛ يكون الطريق الوحيد للخروج من المأزق (ودعك من محاولة تحريك الموقف) متجهًا إلى القدس. ومع الاتصالات السرية المتصورة ـ على مستويات مختلفة ـ كان الأمر يتطلب إعدادًا نهائيًّا على المستوى الأعلى، فكانت المباحثات المُغلقة مع تشاوشيسكو (29 تشرين الأول/ أكتوبر). وحسب رواية الرئيس السادات، فإن تشاوشيسكو طمأنه إلى قدرة بيجن على اتخاذ قرارات صعبة، ويبدو هذا معقولاً، ولكن لا يتصور أن اللقاء المغلق، اقتصرت مُحتوياته على هذه الجملة المفيدة؛ فأغلب الظن أن تشاوشيسكو نقل إلى الرئيس السادات كلامًا أكثر تحديدًا حول نوايا إسرائيل (الكاذبة طبعًا) في حالة قبول السادات لزيارة القدس، وهذا منطقي؛ فمثل هذه الزيارة يحسُن لإتمامها استخدامُ الجَزَرة إلى جانب العصا. ونشير هنا إلى حقيقة أن القيادة الإسرائيلية كانت تنتهز كل فرصة متاحة، للتلميح بأن الاتصال المباشر بين أطراف الصراع، وخاصة مصر وإسرائيل ـ ودون الولايات المتحدة ـ هو الطريق الأقصر لحل المشاكل، وستبدي إسرائيل في هذه الحالة مرونة كبيرة، والكتّاب القريبون من القيادة الإسرائيلية تعهدوا دائمًا إذاعة هذا التصور (89). ولا شك أن القيادة الإسرائيلية استخدمت أيضًا كل فنون المناورة؛ لتأكيد هذا التصور في ذهن السادات قبل رحلة القدس.
* هل كان قرار السادات مفاجأة لواشنطن؟ لقد أبدت الولايات المتحدة إشارات عديدة توحي بذلك، لكن يبدو لنا ـ رغم غياب المعلومات المؤكدة ـ أن تصديق ما تدعيه الولايات المتحدة، يعتبر سذاجة بالغة؛ فالولايات المتحدة أرادت أن تبدو بهذا المظهر؛ خوفًا من ردود الفعل العربية، وأرادت أن تبتعد قليلاً عن بؤرة الحدث؛ كي تملك هامشًا للمناورة، يمكِّنها من احتواء معارضة أصدقائها في المنطقة؛ خدمة للمخطط العام. وأيًّا كان الأمر، فإن مجمل التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية (التي استخدمت إمكانيات الولايات المتحدة في إحداثها) هو الذي جعل هذه المأساة ضرورة.
في شباط/ فبراير 1977، كان السادات يقول في حديث لتايم إنه لا يمكن أن يجتمع مع أي قائد إسرائيلي، طالما أن جنديًّا إسرائيليًّا في أرضه، وفي نيسان/ أبريل 1977، قال السادات لمِحطة "آي بي سي" الأمريكية: إن "مصر ترفض أيَّة اجتماعات ثنائية مع إسرائيل، وترفض التفاوض المباشر"(84)، ولكن تايم كانت محقةً تمامًا، حين ذكرت أن كارتر وفانس وأعضاء الحكومة الأمريكية، أسهموا مساهمة كبيرة في خلق الجو الذي جعل اجتماع السادات وبيجن ممكنًا(90). وأيضًا كان كيسنجر محقًا، حين خاف أن ينسَى الناسُ فضله السابق، فكتب أنه "سيكون مبررًا أن يشعر الأمريكيون - في كل اتجاه وحزب – بالزهو، إذا نجحت العملية الجارية الآن، حتى إذا صادفتها بعض الإحباطات العارضة؛ لقد أقمنا توازنًا عسكريًّا أغلق طريق الحل العسكري (في وجه العرب طبعًا!)، وساعدت أمتنا - التي اكتسبت ثقة الجانبين - في تشكيل عملية تفاوضية بلغت قمتها في الاقتحام الذي مثلته رحلةُ السادات التاريخية" (91).
إن السادات لم يبادر ـ من موقع الاختيار ـ إلى رحلة القدس، ولكنه قبل النتيجة التي كان حتمًا أن تترتب على مجمل سياساته. ومن واقع المأزق وانعدام البدائل، ذهب إلى إسرائيل. وكما قال كيسنجر، فإن "انعدام البدائل يُجلي البصيرة بشكل مدهش"، وانعدام البدائل أصبح يعني أنه
"لا بديل لمفاوضات السادات ـ بيجن؛ فجنيف ـ كساحة تفاوضية ـ مات" (91).

* * *
وـ كانت زيارة القدس نقطة التحول والانكسار الخطير في الحركة العربية، وكل ما جاء بعد الزيارة ـ من لقاءات ومباحثات واتفاقات ـ كان تداعيًّا ضروريًّا، مع ثبات الظروف والسياسات المحيطة، أو لنقل (من أجل الدقة) مع مزيد من تطور الظروف والسياسات على نحو ملائم.
كان عام 1977 ـ إذن ـ عامًا أسودَ في التاريخ المصري (والعربي). في عام 1977 حقق الهجوم الصهيوني/الأمريكي جوهرَ أهدافه الاستراتيجية "بالنسبة لمصر"، وبكل النتائج الخطيرة التي تنشأ عن ذلك في أنحاء الأمة العربية.
انهارت رسميًّا إرادةُ القتال والمقاومة، وأصبح الأعداء في موقع السيطرة على القرار المصري ـ وقد أشرنا في فصول الكتاب ـ إلى أن فِرَق الأعداء هاجمت مختلف الجبهات (جبهة العلاقات الدولية ـ جبهة الصراع المصري الإسرائيلي ـ جبهة التضامن العربي ـ جبهة المؤسسات السياسية والعسكرية ـ جبهة السياسات والبنية الاقتصادية والاجتماعية ـ الجبهة الإعلامية والثقافية). ونشهد أن التخطيط كان محكمًا، والتحرك على مختلف الجهات كان متناسقًا؛ من أجل إحداث تغيير إجمالي جذري يتلاءم مع الهدف الاستراتيجي (إخضاع الإرادة المصرية للسيطرة الصهيونية ـ الأمريكية). ولا يعني ذلك أن التقدم في كل الجبهات كان يتم بوتيرة واحدة؛ فلأسباب عديدة كانت الفِرَق المهاجمة تتقدم بمعدلات متفاوتة، ولكن دون أن تفقد ـ في كل الأحوال ـ ترابطها ورؤيتها الموحَّدة.
في الجبهة الاقتصادية ـ التي ركزنا دراستنا عليها ـ حقق المهاجمون انتصارَهم الحاسم في أيار/ مايو، واحتفل بالنصر في لقاء المجموعة الاستشارية (أيار/ مايو 1977)، وبعد ستة أشهر تحقق الانتصار الأكبر في رحلة القدس (تشرين الثاني/ نوفمبر 1977)، وكان الانتصار الأخير مرتبطًا عضويًّا بنجاح الهجوم في الجبهة الاقتصادية، وفي غيرها من الجبهات. وقد ذكرنا أن كل ما تلا رحلةَ القدس كان تداعيًا ضروريًّا، وكان عمليات مطاردة لجيوب المقاومة مضمونة النتائج، وكذلك كان الحال بعد المجموعة الاستشارية.
ولا يملك المرءُ إلا أن يلحظ أن عام 1980، الذي حدده صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية (على وجه التقريب)؛ لإنهاء مهمتهم في "إصلاح المسار الاقتصادي"، انكشف الآن ـ وبعد تطورات ومباحثات تبدو منفصلة ـ باعتباره أيضًا العام الذي يبدأ فيه ما أُسمِي "بالعلاقات الطبيعية" مع إسرائيل. هل يمكن أن يكون هذا مجرد صدفة؟ إن المتابع للتطورات، يلحظ أيضًا أن ما يتم إنجازه في الجبهة الاقتصادية حتى عام 1980 (وفي غيرها من الجبهات طبعًا)، يحقق هدف أن تنشأ العلاقات التجارية والاقتصادية ـ بدءًا من عام 1980 ـ بالشروط الإسرائيلية، (ويمكن أن نصل إلى النتيجة نفسها ـ بدرجة أو أخرى ـ في الجبهات المختلفة). إنها – إذًا – مرحلةٌ تُسلم إلى مرحلة.
والتخطيط كان شاملا ومُحكمًا ومتشابكًا، وقد نُضيف ـ في الاتجاه نفسه ـ أنه ثبت بعد فترة، أن مهام فترة الانتقال (في الجبهة الاقتصادية وفي غيرها) قد تحتاج أجلاً يتجاوز ما كان مُقدَّرًا؛ إذ تعثر تنفيذ بعض البنود في الوقت المحدد لها ورغم النجاح العام في تحقيق جوهر المطلوب، بدا أن استكمال بعض النتائج، واستقرار مجمل ما أنجز، بالإضافة إلى المهام الجديدة التي يمثلها ربط مصر وإسرائيلَ بعلاقات مباشرة.. بدا أن كل هذا يتطلب عامين أو ثلاثة، بعد عام 1980. ويُلاحظ أن اتفاقية كامب دافيد، والمعاهدة المصرية الإسرائيلية بعدها، نصت على استمرار قوات الاحتلال في سيناء (شرق خط العريش رأس محمد) بعد (تطبيع العلاقات) عام 1980، ولفترة تتراوح ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام، يحدد تاريخها في المفاوضات.
(2) صندوق النقد يغضبُ ثم يتساهل:
أ- بعد اجتماع المجموعة الاستشارية؛ بكل ما مثلته، ساد الارتياح لدى المؤسسات التي حققت سيطرتها، فنشرت مثلاً مجلة تشيزمانهاتن: إن "التقديرات تشير إلى أن وضع الاقتصاد المصري أصبح يدعو للتفاؤل بدرجة كبيرة خلال عام 1977؛ نتيجة لزيادة حجم المساعدات الخارجية، بالإضافة إلى الإجراءات التي اتخذتها - وتتخذها – الحكومة، والتي تهدِف إلى تخفيض عجز الميزانية وتنمية المدخرات المحلية؛ وذلك عن طريق تخفيض الدعم، وترشيد استخدامه، ورفع أسعار الفائدة على الودائع المصرفية. وهذا من شأنه أن يؤدي في النهاية ـ مع زيادة توافر النقد الأجنبي ـ إلى زيادة التكوين الرأسمالي خلال عامي 1977، 1978... وأصبح من الممكن الآن، تخفيضُ الطاقات العاطلة في الصناعات التحويلية إلى حد كبير؛ بسبب زيادة إمكانيات توفير النقد الأجنبي اللازم لشراء مستلزمات الإنتاج والمعدات الرأسمالية من الخارج. هذا فضلاً عن القرارات التي تتخذ الآن لدعم إدارة المشروعات التي قاست كثيرًا من مركزية اتخاذ القرارات" (92).. إلخ كهذا تم ترويج التفاؤل. ويُلاحظ أن تشيزمانهاتن (والجهات المشابهة) كان يوجه الحديث إلى الدوائر الغربية؛ ولذا كان مفهوم التفاؤل وأساسه- بعد المجموعة الاستشارية - أن الحكومة المصرية وقعت في قبضة صندوق النقد، والتزمت بالتعليمات. وبالفعل سارت الأمور (بعد أيار/ مايو) على نحو أرضَى الصندوق (ومن معه) إلى حد كبير. وأبرز النتائج التي أرضت الصندوق كانت في القطاع الخارجي؛ "فقد حققت مصر تقدمًا ملموسًا نحو سعر للصرف أكثر واقعية، ونحو اعتماد أقلَّ على قيود التجارة والمدفوعات" (93).
وكان الصندوق يشيرُ في التقييم إلى مجمل الإجراءات التي حمل الحكومة المصرية، على اتخاذها منذ بداية الانفتاح، وإلى الإجراءات المنفذة ـ بشكل خاص ـ وفق الموازنة المعدلة عام 1977، وما تلا ذلك في خطاب النوايا وترتيب المساندة؛ إذ أصبحت كل الصادرات بسعر السوق الموازية، وكذلك الواردات (باستثناء سبعة بنود أساسية)، وكذلك كل التعاملات غير المنظورة (باستثناء قليلة). والاستثمارات الأجنبية المباشرة أصبحت تعامل أيضًا بسعر السوق الموازية (بعد تعديل القانون أثناء العام). وكذلك تذاكر الطائرات.
والتقييم الإيجابي للصندوق (لتصفية الضوابط على التجارة والمدفوعات) كان يشير إلى التيسيرات المتزايدة للمصدرين من خلال السوق الموازية، وإلى فوضَى الاستيراد الممول من حصيلة النقد الأجنبي لدى العاملين في الخارج. ولكن في عام 1977 قلَّ إحكامُ الضوابط أيضًا على إجراءات الاستيراد على الموازنة النقدية، وأهمُّ من ذلك، قيام قائمة للاستيراد بتراخيصَ عامةٍ مفتوحة، وخفضت الحكومة في بداية 1977 عدد اتفاقيات الدفع الثنائية مع الدول الأعضاء في الصندوق إلى 10 (ليس من بينها أي طرف هام). وفي الوقت نفسه، انخفض حجم التعامل - إلى حد كبير - في إطار الاتفاقيات الثنائية مع غير أعضاء الصندوق؛ (أي: الدول الاشتراكية). وكان مفروضًا ـ وفق ترتيب المساندة ـ أن الحكومة المصرية ملتزمة بإنهاء خمسِ اتفاقياتٍ أخرى مع الدول أعضاء الصندوق، وبالفعل بدأت السلطات في هذا الاتجاه قُبَيل آخر العام. وقد ارتبطت كل هذه التطورات بتصفية المتأخرات التي تراكمت على نحو خطير في أوائل العام (قبل توقيع خطاب النوايا)، (أي: قبل اعتماد "قانون التصفية"). فتمت تصفية المتأخرات في آب/ أغسطس 1977، وعملت الجهات الخارجية على أن تكون القروض الإضافية المتعاقَد عليها خلال العام، ذات آجال طويلة أو متوسطة.
ب ـ كان من حق الصندوق – إذًا - أن يطمئنَّ إلى إنجازاته في القطاع الخارجي؛ فقد حقق برنامجه لعام 1977 بالكامل، والإنجازات لهذا القطاع فتحت الطريق تمامًا؛ لكي يفرض سياساته في مجال الأسعار المحلية، ولا يعني ذلك أن الأهداف النهائية للصندوق في القطاع الخارجي قد تحققت؛ فهناك مزيد من المطالبات، ولكنها كانت نتائجَ منطقية وتحسيناتٍ مضمونًا تنفيذُها، ومُمكنٌ أيضًا إبداء المرونة بشأنها. فعلى ضوء ما تحقق، طالبت بعثةُ الصندوق بإنهاء التعدد في سعر الصرف "لقد حثت البعثةُ السلطات على مواصلة التقدم في إصلاح النظام (نظام الصرف)؛ لتحسين الكفاءة، ولإثبات التزامها بتجنب القيود الإدارية في مواجهة ضغوط ميزان المدفوعات التي قد تظهر في المستقبل.. ومع التسليم بأهمية سياسية سعر الصرف كمؤشر على التزام مصر بالإصلاح الاقتصادي، فإن توحيد سوقَي الصرف: الموازية والرسمية ينبغي أن ينفذ بأقصى سرعة ممكنة، وقد يكون ذلك (لأسباب إدارية) في بداية عام الميزانية القادم، أول كانون الثاني/ يناير 1978" (94). وقد عبرت بعثةُ الصندوق عن ارتياحها لاستمرار سعر الصرف في السوق الموازية عند المستوى الذي كان قائمًا وهذا المستوى كان المرشح طبعًا للسعر الموحد (جنيه واحد = 1.41 دولار مقابل جنيه واحد = 2.56 دولار في حالة السعر الرسمي). وبالتالي بدا أن الحكومة لم تحدث مزيدًا من الخفض في قيمة الجنيه خلال 1977، والحقيقة أن الصندوق كان قد طالب السلطات المحلية في مناسبات سابقة بخفض سعر الجنيه في السوق الموازية "ليعكس التفاوت في معدلات التضخم بين مصر وشركائها الأساسيين في التجارة". ولكن حدث في عام 1977 أن انخفض سعر الصرف فعليًّا دون إعلان، فمع ارتباط الجنيه المصري بالدولار، انخفض سعر الجنيه أتوماتيكيًّا في مواجهة عملات الدول التي تتاجر معها مصر أساسًا، مع انخفاض سعر الدولار في ذلك العام. وحرصت بعثةُ الصندوق، على تسجيل أن ارتباط الجنيه بالدولار، هو في حالة هبوط سعر الأخير فقط، ولكن "إذا توقف الهبوطُ في سعر الدولار، أو تغير اتجاه السعر؛ فإن استمرار الضغوط التضخميَّة في مصر، قد يتطلب مراجعة لسعر الصرف"(94). إلا أن الصندوق لم يكن يهدف في تبسيط نظام الصرف، وتوحيد سعر الصرف، مجرَّدَ تعديل العلاقة بين السوق الموازية والسوق الرسمية فقط، ولكن أيضًا العلاقة بين السوق الموازية والسوق السوداء (أو الحرة). وقد وافقت السلطاتُ على مطالب الصندوق بشأن العلاقة الأخيرة، بتوسيع قائمة التراخيص المفتوحة، وبخفضِ الفارق بين أسعار الشراء وأسعار البيع في السوق الموازية إلى 1 % بدلاً من 2 % لمنافسة شروط العمل في السوق الحُرَّة. ولكن بالنسبة لإنهاء السعر الرسمي تمامًا، أو الخفض الكامل لسعر الجنيه، رأت السلطات المصرية أن الإسراع في هذا الاتجاه يُحدث آثارًا سلبية على الموازنة العامة (على عكس رأي بعثة الصندوق)، وتعذر الوصول إلى اتفاق حول هذا الموضوع" (95). وإبداءً للمرونة؛ وافق الصندوقُ بعد ذلك على تأجيل تنفيذ رأيه حتى بداية عام 1979.
ج ـ ولكن في القطاع الداخلي، واجه برنامج الصندوق عقباتٍ أكبرَ نسبيًّا، وشعر الناس بمظاهر هذه الأزمة، دون أن يدركوا حقيقة ما يجري. فكما ذكرنا، كان هناك تجهيل كامل بطبيعة الشروط التي تضمنتها الاتفاقياتُ العلنية والسرية، وتكفلت الضجةُ الإعلامية والتصريحات الرسمية ببيع الاتفاقات، بتجهيل المتخصصين والرأي العام، بحقيقة أنه حتى في الجانب المالي للتسوية، لم تُقدِّم القروض والتيسيرات حلاً جذريًّا. وبيان القيسوني (28 أيار/ مايو) كان نموذجًا مكثفًا لفن الخداع والتضليل؛ ولذا كان حديثه (بعد شهر واحد من هذا البيان) حول احتمال عودة كابوس الاختناق بالديون مفاجئًا تمامًا، ونضيف الآن أنَّ الرجل نفسه كان قد قال (في بيان 28 أيار/ مايو) إنه "تم ضغط العجز (في الموازنة العامة) ضغطًا كبيرًا، وإنه إذا كنا لم ننجح في تحقيق التوازن المطلوب، فقد اقتربنا منه إلى حد كبير". وفي حديثه التالي الشهير، فاجأ الجميعَ أيضًا، بأنه اكتشف حدوث "تجاوزاتٍ في اتفاق العام الماضي، من جانب بعض الجهات، وبعض شركات القطاع العام، بلغت نحو 400 مليون جنيه، وقامت هذه الجهاتُ والشركات بالاقتراض من البنوك المحلية، ولم تسدد ما اقترضته؛ إما لعدم توافر الاعتمادات اللازمة عندها، وإما لعدم قدرتها على السداد بسبب الخسائر التي تصيبها؛ لذلك أصبح لزامًا على الحكومة، أنْ تدبِّرَ هذا المبلغ، وأن ترده إلى البنوك، ومعنى هذا - ببساطة - المزيدُ من العجز في الميزانية العامة. وبالإضافة إلى هذا الوضع الجديد الذي تبيَّن بعد إعداد الميزانية وإقرارها، اتضح أن وزارة المالية قامت في العام الماضي، باقتراض 300 مليون جنيه، هي قيمة الرقم الذي تم اقتراضه في العام الماضي، خصمًا من إيرادات هذه السنة.. والشيء الغريب أن بعض الوزارات لا تكف عن طلب اعتمادات إضافية جديدة؛ إمَّا لتنفيذ مشروعات لم ترد في الخطة، وإمَّا للاتفاق على بنود جديدة لم ترد في الميزانية (96).
* ألقى القيسوني هذه القنبلة في وجه الحكومة، وسافر إلى الخارج، وقيل إنه قدم استقالته. وقد تحدث في الفترة نفسها، وبالاتجاه نفسه، وزير المالية (صلاح حامد) وأوضح أن التجاوزات في الإنفاق على المشروعات الاستثمارية (التي أشار إليها القيسوني) والتي تضمَّنت مشروعاتٍ غير مُدرجة في الخطة أو الميزانية العامة، بلغت حوالي 400 مليون جنيه (97). ويعني كل ذلك أن عجز الموازنة العامة الذي كان مقدرًا ـ في بداية العام ـ بحوالي 400 مليون جنيه، ارتفع فعليًّا إلى ما يقرب من 1500 مليون جنيه. وهذه النتيجة "لا بد أن تثير القلق كما قال القيسوني؛ فاستمرار عجز الميزانية وزيادته، معناه ازدياد التضخم".
وقال وزير المالية: إن الاتفاق على مشروعات غير مُدرجة بالخطة أو الميزانية التي سبق لمجلس الشعب إقرارُها أو حتى تجاوز الاعتمادات، دون عرضها مُسبَّقًا على مجلس الشعب، يُعَدُّ مخالفةً دستورية. وأنا أعتبرُ الجهاتِ التي ارتكبت ذلك، مسئولةً عن هذه المخالفة الدستورية".
* كانت هذه التصريحاتُ مفاجأة، وحار المراقبون في تفسيرها؛ فقيل إنها تعكس خلافًا حادًا داخل الحكومة، (وبالتحديد بين القيسوني وممدوح سالم)، وقيل: إنها تعكس أيضًا هبوطًا عامًا وشديدًا في كفاءة الجهاز الحكومي، وقدرته على التحرك المُنسَّق والمنضبط، وفي قدرته على إمداد القيادات المسئولة بالمعلومات الصحيحة في الوقت المناسب. وكل هذا كان صحيحًا. ولكن أهم من كل ذلك ـ وهو ما لم يُذكرْ في حينه ـ أن فترة الإدلاء بهذه التصريحات (أوائل تموز/ يوليو) هي فترة الإعداد لميزانية العام المقبل (1978)، وتسبقها محادثاتٌ مع بعثة صندوق النقد الدولي، ومتابعة الصندوق المنتظمة (عبر مندوبه المقيم، وعبر الخبراء العاملين معه) كشفت أثناء المباحثات قصة هذه التجاوزات في الميزانية العامة (وفي نواحٍ أخرَى)، وهذا الانحراف عما التزمت به مصر في خطاب النوايا وترتيب المساندة، كان سببًا في مواجهة ساخنة مع المسئولين في القطاع الاقتصادي، وطالب الصندوق بسرعة إدخال التعديلات الفنية والإدارية اللازمة لأحكام متابعة الموازنة العامة، وركَّز على سرعة تحريك (أو رفع) الأسعار، مُستخدمًا ـ كالعادة ـ عجز الموازنة المتزايد كمبرر، ومُستندًا إلى ما التزمت به الحكومة في خطاب النوايا، ولوَّح بالعقاب في حالة المخالفة. وتشمل إجراءاتُ رفع الأسعار خفضَ الدعم من ناحية، ورفع أسعار مُنتجات القطاع الصناعي (أو تحريكها حسب تعبير الصندوق) من ناحية أخرى؛ فالحكومة نفذت التزامها بتحويل المدخلات المستوردة لصناعات القطاع العام، إلى سعر السوق الموازية عبر ثلاث مراحلَ (في شِباط/ فبراير ونيسان/ أبريل 1976 وفي آذار/ مارس 1977). وبالتالي زادت نقطة هذه الواردات بالعملة المحلية بحوالي 80 % وصاحبت ذلك زيادة موازية في التعريفة الجمركية، مع زيادة أيضًا في الأسعار العالمية، وفي أسعار المستلزمات المحلية (نتيجة سياسات الانفتاح). وكل ذلك أدَّى إلى ارتفاع النفقات الإجمالية لإنتاج القطاع العام الصناعي بحوالي 250 مليون جنيه سنويًّا، وحسب الاتفاق مع الصندوق كان لا بد أن ينعكس ذلك في أسعار البيع للمستهلك.
* وبالفعل بدأت السلطاتُ تحركًا نشطًا لإرضاء الصندوق، فتوالت الاجتماعات، وتتابع النشر، حول موضوع إلغاء
(أو ترشيد) الدعم. في آب/ أغسطس، نُشر عن اجتماع برئاسة ممدوح سالم لدراسة زيادة الدخول الصغيرة، مقابل إلغاء الدعم عن بعض السلع (98). بعدها بأسبوع نُشر عن تصوُّر وزير التخطيط، حول ما أسماه: "العَقد الاجتماعي الجديد"، وهذا التصور المتضمن في خطته الخمسية 1978 ـ 1982، قيل: إنه نوقِش في اجتماع مجلس الوزراء حتى ساعة مبكرة من الصباح، وكان عبارة عن مطالبة بإلغاء الدعم بأكمله مقابل زيادات في أجور ودخول الطبقات الكادحة (99). ونشر القيسوني (بعد عدوله عن الاستقالة) ثلاثَ مقالات حول الموضوع (100). وقيل في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر: إن مجلس الوزراء درس موضوع الدعم، وقرر طرح كل البدائل على الرأي العام، وأنه في كل الأحوال لا بد من الالتزام بعدم مسّ رغيف العيش والسلع الشعبية الأساسية (100). وبالفعل نُشِر عن اجتماع اللجنة الاقتصادية لحزب مصر العربي الاشتراكي، على أساس "أن قرار إلغاء الدعم أو الإبقاء عليه، ليس قرار الحزب أو قرار الحكومة، ولكنْ هناك حقائقٌ هامة، لا بد أن تتعرف عليها الجماهيرُ" (101).... إلخ.

وسط كل ذلك، بدأت الحكومةُ ترفع أسعار المنتجات الصناعية للقطاع العام، والصندوق كان قد وافق ـ من البداية ـ على مبدأ التدرج (ولذا وافق على إنشاء صندوق موازنة الأسعار)، ولكنه كان ساخطًا جدًا على درجة البطء في تدرج الحكومة. وفي المباحثات قرب نهاية العام (24 تشرين الأول/ أكتوبر ـ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977) سجلت بعثة الصندوق أنه "لم تتحقق إلا خطوات ضئيلة لزيادة أسعار البيع المحلية للسلع المصنوعة. ولا يتوقع أن تصل في مجموعها إلى أكثر من 50 مليون جنيه في السنة. ويضاف إلى ذلك أن الزيادة في سعر المنسوجات القطنية عالية الرتبة لم تطبق بعد، وكان مفروضًا أن تحدث حين أُزيح دعم هذه الأصناف (الذي يبلغ 56 مليون جنيه) مِن ميزانية عام 1977. وقد عبرت البعثةُ عن اهتمامها بأمر هذا التخلف في التنفيذ، وأكدت للسلطات أهميةَ التحرك نحو هيكل سعري لإنتاج القطاع العام، يعكس تمامًا تكاليف الإنتاج، بالإضافة إلى عائد معقول على رأس المال.. وقد سجلت السلطات المصرية أنها لم تتحول عن التزامها بالترشيد الموضوعي لهيكل الأسعار المحلية، ويخفض الدعم غير المباشر، ولكن قالت إنه كان ضروريًّا في الوضع السياسي الحالي أن يتم التوجه بحذر، كأن الأمر يتطلب وقتًا كافيًا لتوعية الرأي العام بالعبء الحقيقي للدعم، وبالحاجة إلى التحرك نحو هيكل أكثر واقعية للأسعار. وقد تحقق ذلك الآن، وأصبح المسرح معدًا لإجراءات أكثر اتساعًا في نطاق ميزانية 1978، وأشارت السلطات إلى نيتها في تطبيق زيادات كبيرة في أسعار القطاع العام. وركزت البعثة على أن الزيادة في الأسعار الرسمية هي مجرد جزء من الهدف، الذي هو تحقيق هيكل من الأسعار النسبية يعكس بشكل صحيح ـ وعلى أساس متواصل ـ تكاليف الإنتاج والحاجة لعائد مناسب على رأس المال" (102).
زـ ولكن يلاحظ أنَّ تقرير بعثة الصندوق عن مباحثاتها الدورية في آخر 1977 كان يعكس جوًا عامًا، يختلف عن تقرير الأعوام السابقة؛ فموقف البعثة كان يعبِّر عن ثقة في النفس أعلى، كانت محادثات الأعوام الماضية تواجه مقاومة غير منظمة في كل الجبهات من الجانب المصري. ولكن بعد الأوضاع المؤسسية الجديدة، وبعد ما نُفِّذَ من التعليمات، كانت مهمة البعثة ـ كما يبدو من تقريرها ـ أسهل كثيرًا، وبعد الانتصارات المحققة في القطاع الخارجي (وخاصة في مجال سعر الصرف)، ومع السياسات الأخرى التي فرضتها في القطاع الخارجي، أصبح هدف تحرير الأسعار المحلية من سيطرة الدولة، في متناول اليد. فعمليًّا ضاقت دائرة الأسعار التي تتحكم فيها الدولة، فأصبحت في نطاق أسعار بعض الحاصلات الزراعية، وقسم من منتجات القطاع العام الصناعي. وسياسة إطلاق الأسعار؛ لكي يحددها السوق المشوه والتابع، تشمل المنتجات الزراعية والصناعية معًا. ولكن التركيز الخاص لصندوق النقد على منتجات القطاع العام الصناعي يرتبط بالتقييم الاستراتيجي الصحيح للوظيفة القائمة والمحتملة للقطاع العام، ويرتبط بالتالي بخطة نسف التماسك المؤسسي لهذا القطاع، ولوظيفته المتميزة. وقد أنشأ الصندوق - عبْر سنوات نشاطه - كل الوقائع التي من شأنها إجبار الحكومة على تحقيق مطلبه في هذه الدائرة المُحَدَّدة.
* فالسلطات المحلية أذعنت للتعليمات والسياسات التي أدت إلى ارتفاع أسعار المدخلات المستوردة والمحلية، وثبات أسعار المنتجات - بعد ذلك - يعني خسائرَ محققة لعدد من الشركات، ويعني انخفاضًا شديدًا في الفائض الإجمالي الذي يولده القطاع العام. وهذه النتيجة لا تتسق طبعًا مع الدور المتوقع من شركات القطاع العام، كوحدات اقتصادية تسهم في تمويل الاستثمار والموازنة العامة. واستمرار مشاكل السيولة أو العجز عن الإحلال والتحديد والتوسع، لا يمكن أن يُحَلَّ - حلاً دائمًا - بالاقتراض من بنوك القطاع العام، أو باعتمادات من الموازنة العامة؛ فبالنسبة للبنوك ـ يؤدي التوسعُ في الاقتراض المصرفي، مع رفع تكلفته (أي: رفع سعر الفائدة؛ بِناءً على تعليمات الصندوق)، ومع استمرار مشكلة السيولة، إلى عجز الشركات عن السداد، وهذا إرهاقٌ للمركز المالي لهذه البنوك، ومزيدٌ من إضعاف قدرتها على الصمود والمنافسة أمام البنوك الأجنبية ـ وعلى كلٍّ، فقد تكفَّلت تعليماتُ الصندوق بوضع سقف على اقتراض شركات القطاع العام من البنوك التجارية؛ بحجة زيادة موارد الائتمان للقطاع الخاص. وبالنسبة لتمويل هذه الشركات من الموازنة العامة ـ كحَلٍّ دائم ـ فإن هذا أيضًا أمرٌ غير طبيعي؛ فالموازنة العامة تشكو من عجز رهيب، والمفروض أن تُسهم شركات القطاع العام في سد جزء من هذا العجز. وفي ظل المعطيات الحالية، لا يعني تمويل شركات القطاع العام من الموازنة العامة، إلا تزايدَ حجم العجز، الذي يُلجِئ الحكومة إلى زيادة اعتمادها على الاقتراض المصرفي، وبالتالي فإن احتمال تمويل الخزانة لشركات القطاع العام لتوفير السيولة والاستثمارات لا يختلف في نتيجته عن التجاء هذه الشركات مباشرة إلى البنوك ـ وعلى كل أيضًا، فإن الصندوق تكفل بوضع سقف على العجز المسموح به في الموازنة العامة، وسقف على التجائها إلى البنوك، وحين تجاوزته الحكومة لتمويل شركات القطاع العام، زمجر الصندوق وسانده القيسوني. كذلك تابع صندوق النقد انتظامَ الحكومة في تحصيل الضرائب والرسوم الجمركية المستحقة، على شركات القطاع العام؛ حتى لا يكون التهرب في هذا المجال منفذًا لتخفيف الأعباء التي أصبحت تتحملها. أمام هذا الحصار، كيف يمكن لشركات القطاع العام أن تحتفظ بثبات أسعارها؟ إن الضغوط من كل ناحية، لا بد أن تؤدي إلى انفجار القيود على أسعارها إذا أريد لهذا القطاع ألا يختنق. إن التحكم في أسعار الشركات الصناعية، كان له منطق في إطار نسق متكامل من الأسعار المستقلة، ومع انهيار هذا النسق، ومع إذعان الحكومة لنسق الأسعار الذي رفع أسعار مدخلات الإنتاج، كان صندوق النقد واثقًا من استحالة الاستمرار في تثبيت أسعار القطاع العام.
لقد تعلَّم الصندوق من تجربة كانون الثاني/ يناير 1977 أن يبدأ بما يسميه: الدعمَ غير المباشر، ويَنْفُذَ منه إلى ما يسميه بالدعم المباشر. وكان يربط بين مطلبه لإلغاء الدعم، وبين ضرورة إنهاء أو خفض العجز في الموازنة العامة. وقد وأوضحنا منذ البداية (الفصل السادس) أن إصرار الحكومة على مواصلة دعمها للأسعار، مع عجزها عن زيادة إيراداتها الحقيقية، هو موقف غير متسق، ويحمل بالضرورة عوامل هزيمته.
ويُلاحظ أن المباحثات مع صندوق النقد ـ في السنوات المختلفة ـ لم تبحث بجدية إمكانية زيادة الإيرادات الحقيقية، أو وقف الاستنزاف في أوجه الإنفاق المختلفة. ولا نُشير هنا إلى إجراءات راديكالية لزيادة إيرادات الخِزانة، ولكنْ نقصدُ جدية في الأداء، في إطار ما يسمونه: انفتاحًا. وأعتقد أن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، تُشير إلى ذلك بإلحاح (103)، وهذا الترشيد يؤدي إلى تضييق فجوة العجز في الموازنة العامة بنسبة كبيرة، ولا نعتقد أن تجاهل هذه النصيحة البدَهية من طرفي المباحثات: ممثلو الحكومة المصرية ـ وبعثة صندوق النقد، كان على سبيل السهو؛ فبالنسبة للحكومة يقول الجهاز المركزي للمحاسبات: "إنه
لا يؤخذ ببعض مقترحاته إلا بعد وقت طويل من إثارتها، هذا فضلاً عن عدم الاستجابة لبعض آراء الجهاز في تفسير بعض نصوص القوانين السارية على الرغم من سلامة تلك الآراء، بل وصدور فتاوَى من مجلس الدولة تأييدًا لها، الأمر الذي يساهم في ضياع مبالغَ على الخزانة العامة، على مدَى عدة سنوات". والجهاز دبلوماسي جدًا في هذه العبارات؛ إذ يبدو من تقاريره المختلفة، أن كافة مُقترَحاتِه الأساسية لم يؤخذ بها أبدًا من كافة الجهات. وقد اضطر جهازُ المحاسبات إلى تسليط الضوء على ما أسماه: "ظاهرة استشرت بالنسبة لأجهزة الدولة وهي ظاهرة الإسراف في المال العام.. في أجهزة تدخل في موازنة الحكومة المركزية، أو في غيرها من الموازنات الأخرى؛ وذلك بهدف "اتخاذ قرارات شاملة على مستوى الدولة، يتحقق من خلالها الحدُّ من هذه الظاهرة؛ حفاظًا على المال العام" (104).

ولكن هذه القرارات لم تصدر أبدًا، وموقف الحكومة يفسره عجزٌ واضح عن مواجهة التحلل المفزع في الجهاز الإداري، وانحطاط كفاءته ـ في سني الانفتاح ـ ويرتبط بذلك ويغذيه انتشارُ الفساد على مختلف مستويات الجهاز، والفساد يؤدي إلى انعدام حد أدنَى من التمايز الضروري بين الجهاز الإداري والمصالح الخاصة للأفراد والمجموعات، وبالتالي عجز الجهاز الإداري عن ترشيد الأداء (الذي يرتكِن في المقام الأول ـ إلى معاييرَ موضوعيةٍ). ونشاط الجهاز الإداري، على أساس من تبادل المصالح بين أفراده، وبين القادرين من خارجه، يعني أن ضياع الإيرادات المُستحقة مسألة مدبرةٌ، والإسراف في المال العام أمرٌ حتمي (ولو كره الجهاز المركزي للمحاسبات). والوزراء ـ على قمة الجهاز الإداري ـ يشترك بعضهم في أُخطَبوط المصالح هذا،
أو يهرب من مواجهته، وفي الحالين، يصبح مفهومًا ألا يثير الجانبُ المصري معالجةَ العجز في الموازنة العامة عن هذا الطريق.

وبالنسبة لصندوق النقد، يبدو أنه تجاهل هذا الطريق الإصلاحي من منظور آخر، فحين يكون تبديد الإيرادات والإسراف في الإنفاق مُعطَى؛ يكون الطريقُ الوحيد لإصلاح عجز الموازنة، في ظل الإنفاق العسكري المرتفع، هو بالفعل إلغاء بند الدعم. إن بقاء الفساد وانحطاط الكفاءة يدعم – إذًا- الموقفَ التفاوضيَّ للصندوق في قضية تحرير الأسعار من سيطرة الدولة، وهي مسألة محوريَّة في استراتيجية التبعية للسوق الغربية، وهي تمنع أيضًا إمكانية فرض عوائقَ محتملة في وجه التعامل الاقتصادي مع إسرائيل. وقد نضيف إلى هذا الصندوق كان يعلم أن حلفاءه يشاركون في إفساد الجهاز الإداري على نحو "مفيد". ولا يتعارضُ هذا الكلام مع حقيقة أن المباحثات مع الصندوق بدأت في الفترة الأخيرة تهتم ـ بشكل متزايد ـ بمسألة إحكام التحصيل الضريبي، وإنهاء المتأخرات المُستحقة للدولة، بل وبتعديل النظام الضريبي وترشيد الإعفاءات الجمركية (103)، باسم زيادة الإيرادات وتحقيق العدالة الاجتماعية، ونتوقع أن يزيد اهتمام الصندوق بجوانب الترشيد هذه بعد انتهاء مرحلة الهدم، وبدء مرحلة التركيز على دعم العلاقات الجديدة، ومحاولاته للترشيد ستواجه بمصاعب ومقاومة من القوَى التي سبق أن أطلقها ودعمها، ولكن حتى كتابة هذه السطور تظل ملاحظاتنا ـ على كل حال ـ صحيحة، يظل صحيحًا أن الصندوق لم يركز بشكل عام على سد الثغرات التي يعرفها جيدًا؛ (لأنه يتابع تقارير الأجهزة الرقابية أكثر من أية جهة أخرى في مصر)، وكأن التركيز والضغط باتجاه الدعم أساسًا.
المهم، مع استبعاد هذا البديل لإلغاء الدعم، وبالتراضي بين الطرفين (الخارجي والداخلي)، وصل الصندوق إلى محاصرة مسألة الأسعار عام 1977 بشكل مُحكم. وهذه الثقة بالنفس مكَّنته من أن يلعب بأعصاب هادئة. فالضغوط الساحقة التي مورست في بداية العام، الحِدَّة والإنذارات في المراجعة النصفية، تحولت في الثلث الأخير من عام 1977 إلى إبداء بعض من المرونة، وانعكس هذا في اتصالات ومباحثات آخر العام، وعبر القيسوني عن ذلك فقال: إن "الجو الذي عملت فيه هذا الشهر مختلف كل الاختلاف عن جو آذار/ مارس الماضي"(105)."لقد ابتلع الصندوقُ تباطؤ الحكومة في موضوع الأسعار المحليَّة خلال عام 1977، وقبلُ باعتماد إجراءات بديلة للاحتفاظ بعجز الموازنة قريبًا من السقف الذي عيَّنه، وبالتالي للحد من لجوء الحكومة إلى الاقتراض المصرفي لسد العجز، وأسهم الصندوق (والجهات المعاونة) في تقديم بعض البدائل المحققة لهذا الهدف؛ فالعجز الإجمالي للموازنة بدا للبعثة أنه لن يزيد عن المستهدف في بداية العام إلا بحوالي 300 مليون جنيه (رغم المفاجآت التي انكشفت أثناء العام)؛ نتيجة الجهد الكبير في تحصيل الأرباح والضرائب المستحقة على شركات القطاع العام في الوقت المحدد لها، وكان مستهدفًا في بداية العام أن تُستخدَم التسهيلاتُ المصرفية لتمويل العجز في حدود 400 مليون جنيه تقريبًا. ووفقًا لترتيبات المساندة (التي حددها الصندوق)، كان مطلوبًا أن تتخذ إجراءات إضافية أثناء العام؛ بحيث ينخفض سقف التسهيلات المصرفية إلى 350 مليون جنيه، ومع تجاوز الاقتراض الخارجي لما كان مُقدَّرًا(107)، تدخل عامل هام آخر؛ هو "الاستلام غير المتوقع لمِنَح تبلغ 48 مليون جنيه، وفقًا لاتفاق الرباط"، وأدى كل ذلك إلى احتواء الضغوط، ولم يتجاوز اقتراضُ الحكومة من الجهاز المصرفي الحدَّ الذي قدَّرته السلطاتُ في بداية العام، بأكثر من 75 مليون جنيه، أو لم يتجاوز السقف المحدد في ترتيبات المساندة بأكثر من 125 مليون جنيه (107).
وأعتقد أن من حقنا أن نفترض أن زيادة القروض الخارجية، لم تكن بعيدة عن وساطة الصندوق، وأن المنح العربية كانت "مفاجأة" سارة للجانب المصري، ولكن لم تكن مفاجأة للحكومة الأمريكية، وفي كل الأحوال، ينبغي أن نلاحظ أن كل التعديلات والتطورات التي لحقت بالموازنة، تمت في سرية تامة.
مجلس الوزراء (خارج القطاع الاقتصادي) لا يدري شيئًا، ومجلس الشعب ولجانه المتخصصة، في جهل مطبِق، ورئيس مجلس الشعب (سيد مرعي) رغم صلاته القوية بالسلطة، كان بعيدًا أيضًا عن حقيقة ما يجري، عن حقيقة الوضع الاقتصادي والسياسات المالية والنقدية، تمامًا كما كان الحال في بداية العام، حين عُرضت موازنة 1977 التي أثارت المعارضة الجماهيرية الواسعة. وكان استمرار هذا التجهيل، بل وتزايده، تأكيدًا متزايدًا بأن صندوق النقد (ومن معه) أصبحوا مركز السلطة الفعلية في إدارة الاقتصاد القومي (108).
ويحسن ـ قبل الانتقال من هذه النقطة ـ أن نضيف تفسيرًا آخر للمرونة التي أبداها صندوق النقد في تلك الفترة، إن الثقة بالنفس كانت تفسيرًا أساسيًّا لإمكان المرونة، ولكنها لا تصلح وحدها سببًا أو تفسيرًا لقبول الصندوق ـ وبهدوء ـ لإعادة جدولة برنامجه، ولبحثه المخلص عن بدائلَ لتقليل العجز في الموازنة العامة. ويبدو أن التفسير يتعلق بنشاط التحركات السياسية في تلك الفترة، للتوصل إلى تسوية أمريكية (مع جولة فانس وبعدها)، والخوف من تكرار أحداث كانون الثاني/ يناير في هذه الظروف، مسألة مفهومة.
إلا أن بعثة صندوق النقد لم تتخلَّ – طبعًا - عن أهدافها، وكان طَبَعيًّا أن تحرص ـ في مباحثات آخر العام ـ على تأكيد أن الإجراءات المتخذة خلال عام 1977 ذات طبيعة استثنائية، والانتقال الجاد إلى قضية الأسعار المحلية (ما يسمَّى بالدعم المباشر وغير المباشر)، أي إلى الجبهة التي
لم تستسلم تمامًا بعدُ، ينبغي أن يبدأ. ورغم المرونة التي أبدتها البعثة في المباحثات، كتبت في مشروع القرار الذي قدمته إلى المجلس التنفيذي، أن التقدم في هذه الجهة ضرورة، وأن "الإجراءات الضرورية ينبغي أن تُتخذ
بلا إبطاء".

وفي العادة، يعتمد المجلس التنفيذي مشروعَ القرار المقدم من البعثة، أو يعتمده بتعديلات ثانوية، ولكن في ذلك العام، لم تكن تعديلات المجلس التنفيذي في الفقرة الأساسية من مشروع القرار ثانوية. جاء في الفقرة الثانية من مشروع القرار (كما اقترحته بعثةُ الصندوق إلى مصر): "أن الصندوق يتوقع من السلطات أن تتخذ إجراءاتٍ واسعة لتطبيق الأهداف السِّعرية، والمتعلقة بالموازنة الواردة في البرنامج الاقتصادي المدعم بترتيب المساندة، ويلاحظ الصندوق أن السلطات المصرية لم تتحولْ عن التزامها بهذه الأهداف، ويعتبر أنه مفيد جدًا للاقتصاد المصري، أن تُتخذ الإجراءاتُ الضرورية بلا إبطاء" (109).
ولكنْ حدث أن غيَّر المجلسُ التنفيذي هذه الصياغة، وأصبح نص الفقرة المقابلة في القرار المتخذ في 3 شباط/ فبراير 1978 على النحو التالي: "يلاحظ الصندوق أن السلطات المصرية لم تتحول عن التزامها نحو الأهداف السعرية، والمتعلقة بالموازنة الواردة في البرنامج الاقتصادي المدعم بترتيب المساندة، في إطار إعادة تشكيل البنية عبر عدة سنوات.
ويلاحظ الصندوقُ بارتياح، القرارَ الأخير للسلطات المصرية بتوسيع صلاحيات شركات القطاع العام، في تحديد الأسعار وفق النفقات الحقيقية، ويلاحظ نيتُها في اتخاذ مزيد من الإجراءات في هذا الاتجاه في المستقبل القريب" (110).
هنا أيضًا لم يكن تعديل القرار نَحو مزيد من التيسير، ونحو مزيد من التدرج مجرد اطمئنان من الصندوق إلى أنه أصبح مالكًا لزمام العملية، ولكن حدث في الفترة بين نهاية مباحثات البعثة في القاهرة (6 تشرين الثاني/ نوفمبر) وبين إصدار القرار في واشنطن (3 شباط/ فبراير) أن قام الرئيس السادات بزيارة القدس (9 تشرين الثاني/ نوفمبر) ومع كل الضجة وردود الأفعال المتباينة (دوليًّا وعربيًّا ومحليًّا) التي أحدثتها الزيارة، ومع وعود الرجاء التي نشرت داخل مصر، كان مفهومًا أن يتعاون صندوق النقد مع الحكومة المصرية، ويتوقف عن الإلحاح على رفع الأسعار فورًا وبالجملة. وكان طَبَعيًّا أن تتضافر القيادة العليا للبنك الدولي مع المجلس التنفيذي للصندوق، وعبَّر عن ذلك مكنمارا (رئيس البنك) عند حضوره إلى القاهرة (وفي شباط/ فبراير أيضًا) بعد زيارة القدس. كان مجرد حضوره في ذلك الوقت مظاهرة تأييد. ولكنه انتهز الفرصة ليعبر عن ارتياحه إلى ما تحقق من تحولات في بنية وإدارة الاقتصاد المصري خلال السنوات الأربع التي انقضت منذ زيارته الأولى. أشاد الرجل بالخطة الخمسية التي وضعت تحت إشراف البنك، وأشاد بما حققه الصندوق؛ لقد تحقق ترشيدٌ كبيرٌ للأسعار، فتدعم موقفُ النقد الأجنبي بتوسيع السوق الموازية. لقد حدث تحسن درامي في الصورة الإجمالية للديون، وترتَّبَ على ذلك زيادةٌ حادة في الاستثمار العام والخاص، وزيادة في متحصِّلات النقد الأجنبي.
وكرر مكنمارا الأكذوبة الكبرى حول معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، فقال إنها "تسارعت حتى وصلت في العام الماضي إلى 9 %". قال مكنمارا ذلك، رغم أن هذا "العام الماضي" بالذات أي 1976، لم يشهد هذا المعدل وفق أي تقرير. المهم، كان الرجل في الجو الذي يجعله يقول أحلى الكلام. إنه ـ كالصندوق ـ لم يكن مكتفيًا طبعًا بما تحقق، وكانت له انتقاداته، ولكنه أجَّل الانتقاد، وأشار إلى المطالبات برفق: "فلِكي تستغل الإمكانيات الاقتصادية لمصر بطريقة رشيدة وديناميكية، لا تستطيع مصر أن تتوقف على الطريق الذي بدأته. يجب أن تستمر في طريق الإصلاح الاقتصادي وتقدم الحوافز الصحيحة إلى مُنتجيها في الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى، وخاصة في القطاعات التي يمكنها أن تنتج الصادرات. الأسعار والتعريفات التي لن تشجع الإنتاج، قد يلزم إعادةُ النظر فيها. إن الإجراء الذي اتخذته مصر بتبنِّي سعر صرف واقعي، لقسم كبير من تجارتها، أدَّى إلى نتائجَ طيبة بمعيار تحويلات العاملين المصريين في الخارج. وزيادة القدرة التنافسية لعدد من المنتجات المصرية؛ بحيث يكون مؤسفًا ألا يحدث استمرار في هذا الطريق".. وكالعادة لوح مكنمارا "بالجَزَرة" فقال: "إنه متأكد من زيادة احتمالات الاستثمار، في حالة الاستمرار في السياسات التي بدأت فعلاً بنجاح ملحوظ، وسيؤدي هذا إلى إسهام مالي من البنك الدولي، يزيد عمَّا كان عليه الحال في الماضي، وأعتقد أنَّ هذا لا بد أن ينطبق على مصادر التمويل الخارجي الأخرى" (111).
هكذا حث مكنمارا السلطات المحلية على مواصلة الطريق في عام 1978، ولم تكن اللهجة الودودُ التي صاغ بها المطالبَ، هي كل ما أبداه من مرونة؛ فقد تعاطف ـ على ما قيل ـ مع موقف الصندوق، في تمديد آجال التنفيذ لبرنامجه، وكانت الحكومة قد التزمت بالفعل أمام الصندوق بأن تبدأ التحرك في العام الجديد (1978) وفق المراحل الجديدة التي حددها.

(3) الطريق إلى المجموعة الاستشارية الثانية:
في بيان رئيسِ مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة: بدأ التمهيدُ لرفع الأسعار، بأن امتنع البرنامجُ عن أي التزام صريح حول قضية الدعم، ودار الحديثُ حول "ضغط العجز في الميزانية العامة للدولة؛ وذلك حتى يتم القضاء على العجز في الموازنة العامة، وامتصاص القوة الشرائيَّة الزائدة". وفي البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1978، تجنبت الحكومةُ أن تصرح بالتزامها بقرار صندوق النقد حول الدعم وتعديلات الأسعار. ولكن شرح البيانُ مأزق الميزانية العامة على النحو الذي يجعل خفض الدعم نتيجة حتمية (112)، وواقع الحال، أن مشروع الموازنة تضمن فعلاً المرحلة الأولى من رفع الأسعار، حسب التدرج الذي أقره صندوق النقد. والمرحلة الأولى كانت تركز على أن تعكس أسعار القطاع العام ـ وفق خطوات مُتفق عليها ـ أثر استيراد مستلزمات إنتاجية بسعر السوق الموازية، وكذلك أثر ارتفاع أسعار مستلزماته من السوق المحلية، والتي تم رفع بعضها بتدبير تحت اسم إلغاء الدعم غير المباشر. وعلى هذا أبقى مشروع الموازنة على اعتمادات تبلغ 464.3 مليون جنيه للدعم المباشر، وأضيف إليها 168.3 مليون جنيه للتخفيف من أثر فروق سعر الصرف. ولكنَّ التخفيف لم يكن يعني ـ كالعادة ـ إلغاء الأثر، وبالتالي توالي صدور القرارات المفضية إلى رفع الأسعار (قبل عرض الميزانية وبعدها). وقد علمنا من تقرير لصندوق النقد أنه حدث خلال عام 1978 أن انخفضت نسبةُ الإنتاج الخاضع للسيطرة المركزية على الأسعار من حوالي 45 في المائة إلى حوالي 35 في المائة (في إطار الشركات التابعة لوزارة الصناعة) نتيجة لرفع 31 مجموعة من السلع من قائمة المواد المسيطر على أسعارها. والزيادات السعرية المنفذة عام 1977، وفي أوائل 1978 نفذت إلى المستهلك النهائي معظم زيادات التكلفة الناشئة عن تحويل مدخلات الإنتاج المستوردة إلى سعر السوق الموازية، خلال عامي 1976، 1977 (113). وقد صدرت في شهر آذار/ مارس بالذات مجموعة من القرارات المعبرة عن هذا الاتجاه، ولم يكن معروفًا في ذلك الوقت (وحتى الآن) أن هناك جدول زمني معين، ولكن شعر الجميع بالنتائج؛ ولذا علت صيحات المعارضة والاستنكار، وتكثفت في النصف الثاني من شهر آذار/ مارس على هيئة أعداد غير مسبوقة من طلبات المناقشة والأسئلة وطلبات الإحاطة في مجلس الشعب (3 طلبات مناقشة و46 سؤالاً، و18 طلب إحاطة). اشترك في هذه الحملة أعضاء من كل الاتجاهات، ولم يتخلف أنصار الحكومة. وكان على الحكومة أن تراجع موقفها بعد هذه المواجهة والتي عكست سخطًا شعبيًا منذرًا، وسط تعثر للمباحثات المصرية الإسرائيلية، وتهاوٍ للآمال الكاذبة حول رخاء السلام، فدافع وزير التموين والتجارة ووزير الصناعة عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة دفاعًا متهالكًا. وأقفل باب المناقشة بتعسف (114)، وتوقفت الحكومة بعد إجراءات آذار/ مارس عن رفع الأسعار مرة أخرى، متخلية عن التزامها أمام صندوق النقد، فاستقال عبد المنعم القيسوني احتجاجًا ـ للمرة الثالثة ـ وقُبلت الاستقالةُ هذه المرة.
خطاب النوايا لثلاث سنوات: و... بدأت المباحثات مع بعثة الصندوق في ـ أيار/ مايو 1978 ـ حول ما سبق أن التزمت به الحكومة، أي حول مراحل البرنامج التي تحقق كل أهداف الصندوق. البرنامج يمتد أجله لثلاث سنوات، تنتهي في حزيران/ يونيو 1981. وبنود البرنامج ومراحله يحددها صندوق النقد بطبيعة الحال، وتنفذها الحكومة تحت إشرافه. استمرت المباحثات 15 يومًا، انتهت إلى "إنفاق وجهات النظر" كما قيل في المؤتمر الصحفي، وكانت هذه أول مرة يُعقد فيها مؤتمر صحفي بعد مباحثات مع الصندوق. وكالعادة لم تعلن للرأي العام إلا أكاذيبَ، فرئيس الوفد المفاوض المصري (حامد السايح) قال إن: "دعم السلع الأساسية سيستمر كما هو، والاتفاق مع الصندوق
لا يعني المساس بدعم هذه السلع.. وأوضحت المناقشات أن نقل مجموعات السلع إلى الأسعار التشجيعية، يجب ألا يمسَّ أسعار البيع للجمهور، أي أن النتيجة النهائية لن تؤدي - في ظل ما اتفق عليه - إلى زيادة حقيقية في أسعار هذه السلع؛ لأن الزيادة سيتحملها صندوق موازنة الأسعار".. أما عبد الشكور شعلان (مدير عمليات الصندوق في الشرق الأوسط) فأكّد "أن الصندوق لا يفرض أية شروط" (115).

وحقيقة الأمر ندركها من خطاب النوايا الذي حدده الصندوق في هذه المباحثات، ووقعه رئيس مجلس الوزراء حين ذاك (ممدوح سالم)، ونكتفي هنا بعرض خلاصة وافية لما جاء به (116).
1 ـ برنامج الثلاث سنوات:
(أ) الإصلاحات الهيكلية:
نقد الخطاب "تشوهات" التكلفة/ السعر؛ ففي القطاع الصناعي نتجت التشوهات الهيكلية عن السياسات الحاكمة لأسعار الناتج في شركات القطاع العام. حتى وقت قريب، كانت موافقة مجلس الوزراء مطلوبة لتغيير الأسعار بالنسبة لقائمة تشمل 88 مجموعة من السلع، تغطي ما يقرب من ثلثي الناتج للقطاع العام الصناعي، وزيادة التكلفة في القطاع العام الاقتصادي الناشئة عن تحويل المدخلات المستوردة من سعر الصرف الرسمي إلى سعر السوق الموازية، ولم تنعكس إلا بدرجة محدودة في أسعار البيع المحلية، وقد بدأت عملية إصلاح هذا الوضع؛ سواء بتعديل الأسعار المسيطر عليها بحيث تعكس تكلفة الإنتاج على نحو أفضل، أو تخويل مجالس إدارة الشركات سلطة تحديد الأسعار لعدد أكبر من السلع، وستستمر عمليةُ ترشيدِ الأسعار أثناء فترة البرنامج بهدف وضع عمليات شركات القطاع العام على أساس تِجاري سليم. وسيمكِّن الأداءُ المالي المُحسَّن للقطاع العام الاقتصادي، من إسهامه بشكل ملائم في تمويل برنامجه الاستثماري وأعمال الحكومة.
وبالنسبة للزراعة، تعتقد أنها تملك إمكانيات كبيرة لمزيد من التنمية، ونحن ننوي أن نشجع تخصيص الموارد في هذا الاتجاه. سنستمر في إعطاء أولوية لاستثمارات الهياكل الارتكازية؛ لتحسين تسهيلات الري والصرف، وسنرتفع بمستوى خدمات التوسع الزراعي. وسنراجع سياساتِ التسعير الزراعي؛ بهدف خفض تشوهات التكلفة/ السعر، وزيادة حوافز الإنتاج.
ونحن مهتمون بالتكلفة المتزايدة للدعم، ويتزايد هذا العبء جدًا إذا حسبت السلع المدعمة المستوردة بسعر السوق الموازية الأكثر واقعية. وفي مواجهة أية تطورات رئيسَةٍ مفاجئة في الأسعار العالمية، ينبغي أن يزيد إنفاق الدعم بمعدل أقل جدًا من إنفاق الحكومة الإجمالي في كل سنة من سنوات البرنامج.
للتغلب على الاختلالات في مجال التعليم، بدأنا إعادة توجيه الأولويات التعليمية والتدريبية، وسنعطي اهتمامًا أكبر بالتدريب المهني. وشركات القطاع العام الآن حرة في اتخاذ قراراتِها في التعيين. وسيكون ممكنًا أيضًا إعطاء استقلالية أكبر للمصالح الحكومية في هذا الاتجاه. وفي الوقت نفسه ننوي أن نسمح بمرونة أكبر في الأجور داخل القطاع العام.
(ب) السياسة المالية:
نيتنا في تقليل الاختلال المالي في الأجل المتوسط، يمثل عنصرًا أساسيًّا في برنامج الإصلاح، وسنحقق هذا بتحسين الوضع التمويلي للمشروعات المملوكة ملكية عامة، وبتوسيع القاعدة الضريبية، وبتحسين إدارة الضريبة، وبالحد من المصروفات الأقل ضرورة، وتحسين التحكم في الإنفاق، وتطوير الإحصاءات المالية. وقد طلبنا مساعدة فنية خارجية من أجل تطوير الإدارة الضريبيَّة. وسنراجع أسعار الخدمات المقدمة الحكومة والقطاع العام؛ بهدف أن تعكس تكلفة هذه الخدمات. وننوي أن تكون نتيجة هذه الإجراءات احتواء العجز الكلي للحكومة في حوالي 2.3 بليون جنيه طوال فترة البرنامج ـ أي في نفس المستوى لعام 1978، وبالتالي سينخفض العجز من حوالي 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1978 إلى 16 % عام 1981. ومع الزيادة المتوقعة في التمويل الخارجي وفي الاقتراض غير المصرفي، يستهدف أن ينخفض اللجوء إلى التمويل المصرفي من حوالي 665 مليون جنيه عام 1978 إلى حوالي 440 مليون جنيه عام 1981.






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:45 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

(ج) السياسات النقدية والائتمانيَّة:
سيخفض معدلُ خلق الائتمان، والبرنامج الائتماني حتى 30 حُزيران/ يونيو 1979 (كما جاء في البرنامج المفصَّل للسنة الأولى من برنامج الثلاث سنوات) يتسق مع الخفض في معدل الزيادة في عرض النقود إلى مستوَى غير تضخُّمي في عام 1981. وقبل نهاية كل سنة من البرنامج، سنعمد ـ بالتشاور مع الصندوق ـ على وضع خطوط من جهة الائتمان خلال فترة الاثني عشر شهرًا التالية، تتسق مع التقدُّم المطرد نحو هذا الهدف. وستبدأ عملية التدرج في إدخال زيادات مناسبة في أسعار الفائدة، وسنعمد إلى مشاورة الصندوق قبل نهاية كل سنة من البرنامج حول أي التعديلات الجديدة يكون مناسبًا.

(د) نظام الصرف والدين الخارجي:
مع أول كانون الثاني/ يناير 1979 سنكون قد انتهينا من عملية تحويل المبادلات إلى سعر السوق الموازية، وفيما يتبقى من فترة البرنامج ننوي اتباع سياسات ينتج عنها توسع تدريجي في السوق الموازية؛ بحيث تستوعب المبادلات التي تحدث عادة في السوق الحرة (دون تحويل عملة).
وسنواصل أيضًا عملية تحرير طريق السوق الموازية للواردات والمبادلات غير المنظورة. وبالتحديد ستتوسع في نظام التراخيص المفتوحة المنشأ عام 1977 بأقصى سرعة، وفي نهاية عام 1980 سيغطي كل السلع باستثناء عدد قليل. وبمجرد إدخال سلع في نظام التراخيص المفتوحة يمتنع إخراجها مرة أخرى، إلا أنه يمكن في بعض الأحيان توجيه المستوردين إلى مصادر عرض محددة؛ حتى يمكن استخدام المساعدة السلعية المقيدة بتلك المصادر استخدامًا كاملاً. وهدفنا في نهاية فترة البرنامج أن تتم كل المدفوعات الجارية في سوق واحدة، ويتحرر نظام الصرف من كل التقييدات ما عدا ما قد يكون ضروريًّا للتحكم في حركات رأس المال. وستنتهي أثناء السنوات الثلاث كل الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأعضاء في الصندوق، ونتوقع أيضًا إنهاء بعض الاتفاقيات الباقية مع الدول غير الأعضاء في الصندوق.
بالنسبة لسعر الصرف سنهتدي بالتطورات المتعلقة بالصادرات ذات الحساسية السعرية، وبالاتجاهات السعرية النسبية في مصر والخارج، وبحركات سعر السوق الحرة، وستشمل كل متابعة للبرنامج مشاورات مع الصندوق حول سياسة سعر الصرف.
وتهدف في السنوات الثلاث القادمة أن نعتمد إلى أقصى حد على مساعدات تنمية طويلة الأجل إلى جانب استخدام حظر للتسهيلات العادية للتجارة والموردين، وقد تستخدم التسهيلات المتوسطة الأجل بتوسع أكثر وكانت لا تمثل أهمية إلى حد ما في الماضي، ومع الزيادة في استقلالية القطاع العام الاقتصادي أصبح ضروريًّا أن تسجل لدى البنك المركزي كل تسهيلات الموردين الجديدة والقروض الخارجية الأخرى الممنوحة للقطاع العام والتي تصل آجالها الأصلية إلى سنة أو أكثر.
وبالنسبة التسهيلات الائتمانية من المراسلين، نطور الآن سياسة تسمح لكل مستورد أن يقرر بالارتباط مع بنكه التجاري، إذا ما كان يستخدم أو لا مثلاً هذه التسهيلات عبر السوق الموازية. وعلى ذلك لن يكون هناك إلزام على المستوردين ـ وفق السياسة الجديدة ـ لاستخدام مثل هذه التسهيلات، ربما باستثناء حالة الواردات من السلع الأساسية.
ثم التخلص من كل المتأخرات عام 1977، وبعض المتأخرات الصغيرة عادت إلى الظهور حديثًا، ولكن صُفِّيت الآن، وأثناء فترة البرنامج، سيحتفظ بكل مدفوعاتنا الدولية، ضمن العمليات الجارية. وبالإضافة لن تدخل الحكومة أية ممارسات لأسعار الصرف المتعددة، دون موافقة الصندوق، ولن تدخل ضوابطُ جديدة، أو تزيد من الضوابط الحالية على المدفوعات والتحويلات للمبادلات الدولية الجارية،
أو تدخل في أية اتفاقيات دفع ثنائية جديدة مع أعضاء الصندوق، أو تستحدث ضوابط جديدة، أو تزيد ضوابط قائمة على الواردات لأسباب تتعلق بميزان المدفوعات.

2 ـ سياسات للعام الأول من البرنامج:
ننوي أن نتحرك بحسم في الاثني عشر شهرًا القادمة في اتجاه تنفيذ البرنامج الذي وضعناه في الفترات السابقة.. من أجل تيسير تحقيق أهدافنا فيما يتعلق بأسعار القطاع العام، استبعدنا 30 مجموعة من السلع تغطي حوالي 10 % من إنتاج شركات القطاع العام الخاضعة لإشراف وزارة الصناعة من السيطرة المركزية على الأسعار، وخفضت بذلك نسبة الإنتاج الخاضع لمثل هذه السيطرة من 46 % إلى 36 %. وقد أصدرنا تعليمات محددة إلى مجالس إدارات الشركات المنتجة بأن تعدل الأسعار؛ بحيث تغطي تكاليف الإنتاج، ولكن ليس إلى مستوى يتجاوز أسعار الواردات المنافسة. وننوي أن نواصل إنهاء المركزية في سلطة التسعير؛ بغرض تقليل نطاق القائمة التي سبق ذكرها؛ بحيث تقتصر على بعض سلع قليلة، تتطلب أهميتها الاجتماعية استمرار السيطرة على الأسعار. وبالإضافة إلى هذا، فإن نيتنا تتجه إلى أنه، بمجرد استبعاد سلعة من السيطرة المركزية على الأسعار؛ لن تكون معرضة إلى مثل هذه السيطرة في المستقبل. إن تعديلات الأسعار في العام الماضي، وقد نفذ معظمها في أوائل 1978، أدت إلى زيادة الدخل الصافي للقطاع العام بحوالي 200 مليون جنيه على الأقل (على أساس سنوي)، وستتم عمليات ترشيد إضافية للأسعار، تكفي لزيادة الفائض الإجمالي العامل للقطاع العام بحوالي 150 مليون جنيه على الأقل (على أساس سنوي) وذلك في نهاية أيلول/ سبتمبر 1979، وستتم الإجراءات الخاصة بحوالي 75 مليون جنيه على الأقل، من هذا المبلغ، في نهاية حُزيران/ يونيو 1979.
أثناء الاثني عشر شهرًا المُقبلة، سنُعد الأساس أيضًا للإصلاحات الهيكلية الأخرى، التي ننوي إدخالها خلال فترة البرنامج. ستتم مراجعة كاملة لسياسات التسعير الزراعي؛ بحيث يمكن اتخاذ إجراءات لتحسين حوافز الإنتاج بدءًا من السنة الزراعية 79 ـ 1980، وسنراجع الوسائل التي يمكن بواسطتها إصلاح نظام الدعم بما يتمشَّى مع أهدافنا الاجتماعية، وبغرض البدء في إدخال تغييرات النصف الأول من 1979. وبالنسبة للإنفاق الاستثماري، فقد أعطينا فعلاً أولوية لاستكمال المشروعات الجارية، وبالنسبة لعام 1978 سيكون 85 % من الاعتمادات في الميزانية موجهًا لاستكمال المشروعات التي بدأت في أعوام سابقة، أو تجديد المصانع والتجهيزات القائمة.
وبالنسبة لسياسة الضرائب، سنقدم مشروعًا لإصلاح التعريفة الجمركية إلى مجلس الشعب في بداية دور انعقاد تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، وسيطبق الإصلاح بمجرد إصدار التشريع. وعن إدارة الضرائب؛ فقد اتخذنا إجراءات لتقليل الفاقد في الدخل الناشئ عن نظام السماح المؤقت، الذي يسمح في ظله للواردات أن تدخل البلاد قبل استيفاء الضريبة، ونحن نواصل جهودنا للقضاء على المتأخرات في تحصيل الضرائب بشكل عام.
أفصحت الحكومةُ - بعد ذلك - عن نيتها في إصلاح الميزانية (من الناحية الفنية). ولكن الإصلاحات الهيكلية، والإجراءات المالية المحددة التي ننوي تنفيذها، لن تؤثر في الوضع المالي إلا في عام 1979 وما بعده. وبالنسبة لميزانية 1978، لن يكون بوسعنا أن نشرع في إجراءات جديدة، رغم آمالنا السابقة.
العجز الإجمالي عام 1978 يستهدف أن يكون حوالي 1.9 بليون جنيه، أو 0.5 بليون جنيه فوق المقدر لعام 1977. نتوقع تمويل جزء من هذا العجز باقتراض خارجي أكبر، يتعلق ببرنامج الاستثمار، وبالتالي يبدو أنه لا يمكن تجنب الزيادة في التمويل المصرفي، ويتوقع أن يصل إلى 665 مليون جنيه عام 1978، واستمرار الاتجاهات المالية الحالية قد يؤدِّي إلى عجز ممول مصرفيًّا في حدود 1050 مليون جنيه عام 1979، ونحن ندرك أنه ينبغي تمويل نسبة أكبر من الزيادة في الإنفاق دون اللجوء إلى الاقتراض المصرفي، وعلى ذلك سنقلل اللجوء إلى التمويل المصرفي بحوالي 200 مليون جنيه على الأقل في عام 1979؛ بحيث لا يتجاوز هذا التمويل المصرفي 850 مليون جنيه. وسيتحقق 100 مليون جنيه على الأقل من هذا التحسن بواسطة إجراءات تتعلق بالإيراد أو الإنفاق؛ بحيث لا يتجاوز العجز الإجمالي 2250 مليون جنيه. وسنتشاور مع الصندوق عند متابعة البرنامج التي تنتهي في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، حول ملاءمة الإجراءات التي ينبغي أن تتضمنها الميزانيةُ من أجل تحقيق الأهداف المالية المَبنيَّة عليه.
وبالنسبة للسياسة النقدية والائتمانية، تضمنت النوايا رفع سعر الفائدة، مرة في 17 حزيران/ يونيو 1978، ومرة في أول كانون الثاني/ يناير 1979، وحددت النوايا سقفًا محددًا على توسع صافي الأصول المحلية للجهاز المصرفي، وسقفًا فرعيًّا على الزيادة في صافي التسهيلات المصرفية إلى القطاع العام. (الحكومة المركزية والمحليات، السلطات العامة وشركات القطاع العام شاملة شركات تجارة القطن). وقد صمم برنامجنا للائتمان بهدف توفير احتياجات القطاع العام، المتسقة مع السياسات المالية وغير المالية للقطاع العام المحددة أعلاه. وفي الوقت نفسه وبالتالي لن يزيد الائتمان المصرفي للقطاع العام بأكثر من 10 %؛ ويزيد الائتمان المصرفي للقطاع الخاص بنسبة 95 % إن الحدود المفروضة على توسع صافي الأصول المحلية للجهاز المصرفي، وعلى الزيادة في صافي التسهيلات المصرفية للقطاع العام: نفترض أن القطاع العام غير المالي سيتلقَّى 50 مليون دولار على هيئة منح بالنقد الأجنبي، أو استخدامات لقروض نقدية أجنبية أثناء كل ربع من أرباع السنة.
كما ذكرنا سابقًا، فإننا ننوي إكمال عملية تحويل المعاملات إلى سعر السوق الموازية في أول كانون الثاني/ يناير 1979. في 10 حزيران/ يونيو 1978 حولت واردات الشاي وزيت الطعام إلى سعر السوق الموازية، وكذلك كل ما تبقَّى من المعاملات الجارية غير المنظورة. وقد بدأنا كل الخطوات الضرورية لتوحيد سعري السوق الرسمية الموازية على كل المعاملات والحسابات، مع استثناء مؤقت يتعلق باتفاقيات الدفع الثنائية مع البلاد غير الأعضاء في الصندوق، ويتعلق بتصفية الموازين المرتبطة بالاتفاقيات الثنائية التي ستنتهي رسميًّا قبل أول كانون الثاني/ يناير 1979.
وارتباطًا بهدفنا في تحرير الطريق إلى السوق للواردات، فإن نظام التراخيص المفتوحة، الذي يمكن بمقتضاه استيراد سلع مُعينة من خلال السوق الموازية بلا قيود، سيجري توسيعه بسرعة. حين نشرت القائمة الأولى للسلع الداخلة في نظام التراخيص المفتوحة، في نيسان/ أبريل 1977، كانت تعطي موادَّ قيمتُها حوالي 125 مليون دولار (محسوبة بالواردات الفعلية الإجمالية من هذه السلع). في فترة مبكرة من العام 1978 أضفنا موادَّ جديدة قيمتها ـ 250 مليون دولار يتألف معظمُها من آلات وقطع غيار. في 10 حزيران/ يونيو 1978 وسَّعنا القائمة مرة أخرى بإضافة مواد قيمتها 125 مليون دولار. ولكي يكون هذا النظام فعَّالاً، فإن تخصيصات المستوردين من ميزانية النقد الأجنبي للسلع الداخلة في القائمة تم استبعادها، وجَّه المستوردون إلى أنهم يستطيعون الآن استيراد سلع القائمة بِحُرية تامة وبلا قيود. في أول كانون الثاني/ يناير 1979، سنضيف موادَّ جديدة؛ حتى تزيد من شمول القائمة بحيث تغطي على الأقل 15 % من مجمل الواردات، وفي أول كانون الثاني/ يناير 1980 ستغطي القائمة 40 % من مجمل الواردات على الأقل.
بعد ذلك التزمت الحكومة بإنهاء ما بقي من اتفاقيات الدفع الثنائية، مع أعضاء الصندوق (8 منها عند بداية 1978)، وفق مواعيد محددة؛ بحيث ينتهي آخرها في نهاية 1980. وعينت سقوفًا للاقتراض المتوسط الأجل، وللاقتراض المصرفي خلال العام.
وبالنسبة للعلاقات المؤسسية والعقوبات: جاء في خطاب النوايا، أنَّه في أية فترة من الترتيب الممتد، يتم فيها تجاوز اقتراض الحكومة من الجهاز المصرفي المُتفق عليه، أو يتم تجاوز الحدود المتفق عليها في الاقتراض الخارجي القصير الأجل، والمتوسط الأجل، أو لم يتم فيها التفاهم، أو لم يراعَ، حول سياسات سعر الصرف، وحول السياسات التي تسمح بتحقيق أهداف الموازنة كما حددت في الخطاب، أو توقف عن تنفيذ النوايا الخاصة (باحتساب المدفوعات الدولية في الحسابات الجارية، ومنع تعدد أسعار الصرف.. إلى آخره). أو لم يتم توحيد سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية بعد أول كانون الثاني/ يناير 1979، لن تطلب مصرُ أيَّةَ مشتريات وفق الترتيب الممتد، إلا بعد التوصل إلى تفاهم مع الصندوق، فيما يتعلَّق بالظروف التي يمكن أن تتم في ظلها مثلُ هذه المشتريات.
في أية فترة من الترتيب الممتد بعد 30 حُزيران/ يونيو 1979، وبعد 30 حُزيران/ يونيو 1980، لا يتم التوصل أثناءها إلى التفاهم (أو لم يراع التفاهم) حول الفقرات المحددة للأداء في العامين الثاني والثالث على التوالي، لن تطلب مصر مشتريات وفق الترتيب المُمتد، إلا بعد التوصل إلى تفاهم مع الصندوق، فيما يتعلق بالظروف التي يمكن في ظلها أن تتم مثل هذه المُشترَيات.
تعتقد الحكومة المصريةُ أن السياسات المحددة في هذا الخطاب مناسبة لتحقيق الأهداف الواردة في برنامجها، ولكنها ستتخذ أيَّة إجراءات إضافية قد تصبح ملائمة لهذا الغرض. وستتابع مصر دوريًّا مع المدير التنفيذي، التقدَّمَ الحادث في تطبيق البرنامج. ولن تتأخر المتابعةُ الأولى عن 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978. وبالإضافة ستتشاور مصر مع الصندوق قبل أول تموز/ يوليو 1979 وأول تموز/ يوليو 1980، وستصل إلى تفاهم مع الصندوق حول نوايا السياسة، وحول الفقرات المحددة للأداء، والمُتعلقة بتطبيق السياسات لكل فقرة اثني عشر شهرًا تالية. وأثناء الترتيب المُمتد، ستتشاور مصر مع الصندوق حول تبني أي إجراء، قد يكون ملائمًا؛ سواء بمبادرة مصر، أو كلما يطلب المديرُ التنفيذي المشاورة؛ بسبب أن أيًّا من المعايير الواردة في الفقرتين السابقتين لم يراعَ، أو لأنه يرى أن المشاورة حول البرنامج مطلوبة. وبالإضافة، فإنه بعد فترة الترتيب الممتد، وطوال فترة سداد قرض هذا الترتيب الممتد، ستتشاور مصر من وقت لآخر فيما يتعلق بسياسات ميزان مدفوعاتها، بمبادرة من مصر أو بناء على طلب من المدير التنفيذي.
ولا نعتقد أننا نحتاج ـ على ضوء كل عرضنا السابق في هذا الكتاب ـ إلى تحليل (117). نُضيف فقط أن مجلس مديري الصندوق ـ كالعادة ـ أعلن بعد اعتماد خطاب النوايا، ترتيبات المساندة الممتدة، أي ترتيبات ربط شرائح التسهيلات الائتمانية التي يقدمها الصندوق خلال الفترة، بمراحل تنفيذ البرنامج الوارد في خطاب النوايا. وكان الترتيب يقضي بأن يتم سحب الشريحة الأولى (120 مليون دولار) حتى نهاية 1978، والشريحة الثانية (180 مليون دولار) خلال النصف الأول من عام 1979، والشريحة الثالثة (210 مليون دولار) خلال عام 1979/ 1980 والشريحة الأخيرة (210 مليون دولار) خلال عام 1980/ 1981. ولمزيد من إحكام الرقابة، تنقسم كل شريحة من هذه الشرائح إلى دفعات ترتبط بتنفيذ التزامات معينة خلال أشهر محددة من السنة، وعلى ذلك تمثلت الخطوة الأولى في عملية تنفيذ الاتفاق في سحب مصر 90 مليون دولار (من شريحة السنة الأولى، بعد إعلان الصندوق لترتيبات المساندة، وكان مفروضًا سحب الدُّفعة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر. وكما نعلم، يعني إيقاف الصندوق وقف السحب في أية لحظة توقف مصادر الإقراض الأخرى، وزمجرة أصحاب الديون.
ج ـ انعقاد المجموعة الاستشارية: كما في العام 1977، كان انعقاد المجموعة الاستشارية في عام 1978 يعني أن المخططات المعادية للاستقلال المصري قطعت شوطًا ناجحًا، وأن المجموعة تجتمع لتعتمد النتائج. نذكر أن البنك الدولي لم يدعُ المجموعة الاستشارية الأولى إلا بعد توقيع القيسوني ـ ممثلاً للحكومة المصرية ـ خطاب النوايا وما ارتبط به من اتفاقات تكميلية. والأمر نفسه حدث في المجموعة الاستشارية الثانية. خطاب النوايا وقعه ممدوح سالم ـ ممثلاً عن الحكومة المصرية (10 حُزيران/ يونيو) والتقت المجموعة في مقر البنك الدولي في باريس (14/ 16 حزيران/ يونيو). ولكن تظل المجموعة الاستشارية الأولى تحتل موقعها الخاص في التاريخ؛ لأنها عبرت عن الانكسار الحاسم باتجاه التبعية الاقتصادية، وسبقتها وأحاطت بها كل الضغوط الساحقة التي أفضت إلى هذه النتيجة. والمجموعة الاستشارية الثانية مثلت ـ في الإعداد الهادئ لها، وفي جدول أعمالها مرحلة جديدة مختلفة. إن جدول الأعمال، والمطلوب إنجازه في هذه المرحلة، مُهم وكبير (على نحو ما بيّنا مثلاً في خطاب النوايا الممتد)، ومطلوب أن يتم التركيز على إعادة البناء وفق الشروط الجديدة.. ولكن رغم كل هذا، كان الانتهاء من عملية الترويض العنيفة، ختامًا لفترة الأحداث المُثيرة التي مثلتها المجموعة الاستشارية الأولى. وقد عبر البيان الصادر في نهاية اجتماع 1978 عن طبيعة التغير في المهام، بطريقته الخاصة، فقال إنه "بعد أن خفت الأزمة العاجلة في النقد الأجنبي التي شغلت معظم انتباه مصر وأصدقائها أثناء 1977، فإن موضوع البحث في الاجتماع الحالي هو أن الوقت قد حان لتركيز الانتباه على المشاكل الأكثر عمقًا للإصلاح البنيوي؛ بهدف تحقيق التغير الاقتصادي والمؤسسي المطلوب" (118).
وعبَّر عن نفس المعنى مندوب الولايات المتحدة في اليوم الأول للاجتماع، فقال: "إن الحكومة المصرية قد بدأت سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الصعبة، وإن كانت ضروريَّة، وقد وضعت هذه الأسس اللازمة لصياغة تغييرات بُنيوية أساسية في كل الاقتصاد من أوله إلى آخره" (119). أمّا رئيس الوفد المصري (حامد السايح) فقد عبر عن مفهوم القيادة المصرية للمجموعة الاستشارية ولمجمل التحرك المطلوب في المرحلة الجديدة، حين قال إنه "ليس هناك من يدرك قيمة التلازم الإيجابي بين السلام والتنمية الاقتصادية والاستقرار، أكثر من الرئيس السادات، وتعاوننا يمكن أن يكون أداة فعالة في تحقيق كل الأهداف الثلاثة الهامة". وفي السياق الذي نعرفه، فإن مفهوم السلام يعني طريق القدس، والتنمية الاقتصادية تعني قبول وصاية البنك الدولي، والاستقرار يعني قبول وصاية صندوق النقد. وبكلام السايح، فإن "حكومتي تقدر تقديرًا عاليًا النجدة المستمرة، والاهتمام، والمساعدة المقدمة من البنك الدولي (في الجوانب الاقتصادية وتحديد المشروعات إلى جانب التمويل).. وبموازاة هذا الدعم من البنك الدولي، فإن صندوق النقد لم يتوقف دقيقة عن إبداء اهتمامه، بكل الوسائل، حول التطورات النقدية والمالية في مصر". (وشرح السايح كيف وافقت مصر على بنود برنامج الاستقرار، كما حددها الصندوق، في خطابي النوايا الأول والثاني).
وقال إنه "من الواضح - على أيَّة حال - أن تطبيق هذه الإجراءات يَحتاجُ دعمًا خارجيًّا، وقد تمت دراسة هذه الاحتياجات دراسة شاملة بالاشتراك مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وسوف تستكمل وتُفصَّل على يد ممثليهما الممتازين" (120).
  • وقد تكفَّل جوزيف هويلر مُمثل الولايات المتحدة، بتوضيح المفاهيم والعلاقات، في الاتجاه نفسه، فأكد في البداية تضامنَ الأشقاء: "فنحن نودُّ أن نسجل موافقتنا العامة على بيان البنك الدولي هذا الصباح. ونقدر - تقديرًا خاصًا - بيان صندوق النقد هذا الصباح، ونرجو أن نؤكِّد على الاهتمام الذي توليه للبرنامج الذي ينبغي أن ينفذ في إطار اتفاق السنوات الثلاث الذي تمت صياغتُه أخيرًا بين صندوق النقد والسلطات المصرية". بعد هذا الإعلان، حرص ممثل الولايات المتحدة (كما في اجتماع المجموعة الاستشارية الأولى) على إبراز الصفة السياسية للوجود الأمريكي في المجموعة الاستشارية، بل والصفة السياسية للاجتماع ككل، فتلا رسالة من وزير الخارجية الأمريكي (فانس) إلى رئيس الوفد المصري، يحثه فيها على الإسراع في "الإصلاح" الاقتصادي. ومجرد أنَّ يتحدث وزيرُ الخارجية الأمريكي عن الإصلاح الاقتصادي، يكفي لتأكيد إبرازه للعلاقة بين التحرك في المجالين، ولكن ممثل الولايات المتحدة في الاجتماع، أصرَّ - مع ذلك - على وضع النقط على الحروف، فقال: "إن مصر اتخذت خلال هذا العام السابق خطواتٍ غير عادية وجريئة. إن الرئيس السادات يستحق التقدير والإعجاب الدائمَين منا جميعًا؛ بسبب مبادرته الشجاعة التي كهربت عالمًا يسعى للسلام في الشرق الأوسط.. إن المُبادرات التي قام بها قادةُ مصر في المجال السياسي الدولي، وفي التوجه نحو حل المشاكل الاقتصادية المحلية.. تستحق دعمنا المستمر" (119).
ولكن هذا الحديث عن "الدعم المستمر"، لم يكن يعني التزامًا مستقرًا ومحددًا، فصيغة المجموعة الاستشارية بحكم تعريفها، تنفي هذا الالتزام المحدد والمستقر لعدد من السنوات، ولكن طموح القيادة المصرية إلى جزرة "الكونسورتيوم"، "ومشروع كارتر"، كان يتطلب مزيدًا من التنازلات؛ فعلى جبهة الصراع المصري الإسرائيلي، لم نوقع اتفاقية سلام بعدُ، وبعد توقيع الاتفاقية يظل باقيًا أن تنفذَ، وفي الأثناء، يكون الصندوقُ قد حقق ترتيب المساندة الممتد لسنوات ثلاثة، ويكون البنك قد عمق إنجازاته في إعادة تشكيل هيكل التنمية. على أيَّة حال ـ كان المجتمعون في باريس متفائلين بالمستقبل ـ وعن حق ـ ولم تتقاعسْ الدولُ الخليجية بالمناسبة عن الحضور، رغم معارضتها المعلنة لزيارة القدس، ولا يُحتَج هنا بأن مستوى التمثيل لهذه الدول هبط عن مستوى تمثيلها في اجتماع 1977، فهذا هو حال الدول والمؤسسات المشاركة كلها، فاجتماع 1978 كان هامًا، وكان متفائِلاً، ولكن ـ كما قلنا ـ لم يكنْ مُثيرًا! لم يكن نقطة تحول تاريخية. وقد أعلنت هيئةُ الخليج للتنمية في مصر في الاجتماع عن استمرارها في دعم الاقتصاد المصري، ونُشر أيامها أنَّه ينتظر أن تقدم السعودية قروضًا لمصر خلال عام 1978 تتراوح بين 600 و700 مليون دولار (121).
وجديرٌ بالملاحظة أن تصرُّف السعودية وهيئة الخليج، جاء بعد زيارة القدس، ولكنْ أهم من ذلك أنه جاء بعد خطاب النوايا. أما قبل الاتفاق مع الصندوق (وقبل رحلة القدس بالتالي)، فكان وزيرا المالية في السعودية والكويت يؤكدان (حتى أواخر نيسان/ أبريل) للصحف المصرية بأن "الهيئة ليست على استعداد لزيادة رأس مالها لإعادة إقراضه لمصر نقدًا أو لتمويل استيراد السلع؛ سواء كانت سلعًا استثمارية أو سلعًا غذائية، بعد أن استخدمت مصر في العام الماضي معظم رأسمال الهيئة في سداد ديونها القصيرة الأجل، وفي استيراد هذه الأنواع من السلع" وصحيح أن الهيئة لم تزد رأسمالها، ولكنها استمرت في الإقراض لاستيراد سلع إنتاجية، وقد رفض الوزيران في حديثهما تقديم التزام واضح بالنسبة لتأجيل سحب الودائع، ولكن حدث أيضًا أن تجدد إيداعها دون أية مشكلة.. بعد خطاب النوايا (123).
(4) نحو كامب ديفيد:
إذا امتدت متابعتُنا للتطورات حتى آخر العام (1978)، سنلحظ أن صندوق النقد أبدَى ارتياحًا شديدًا لتوالي انتصاراته في القطاع الخارجي؛ حيث تحقق كل برنامجه المستهدف. فقائمة التراخيص المفتوحة اتسعت دائرة سلعَها ثلاث مرات أثناء عام 1978 وأوائل 1979؛ بحيث أصبحت تغطي حوالي 15 في المائة من الواردات الإجمالية. وتواصل إلغاء اتفاقيات الدفع الثنائية كما كان مستهدفًا. وتم، وهذا هو الأهم، توحيد سعر الصرف الرسمي مع السعر التشجيعي (عند مستوَى الأخير).
ولكن في السياسات المالية والنقدية، سجَّلت بعثةُ صندوق النقد (في تقريرها عن مباحثاتها الدورية 23 تشرين الثاني/ نوفمبر ـ 4 كانون الأول/ ديسمبر 1978) أن "التقدم في الدائرة المالية أثناء عام 1978 كان أبطأ من المُستهدَف، وبالنسبة للإنفاق الحكومي، لم تكن التطورات مُتسقة مع أهداف البرنامج"... "ولقد مثلت التطورات المالية لعام 1978 نكسة بالنسبة لأهداف الحكومة المالية للأجل المتوسط".. "وعلى ذلك، تركزت المناقشات على مدَى الإجراءات التي ستكون مطلوبة لإعادة الموازنة (عام 1979) إلى خط الأهداف المقررة. وقد عبَّرت البعثة عن اهتمامها بالعواقب التضخمية للتطورات المالية الحديثة والقادمة، ومع الاعتراف بأهمية المنهج التدريجي للإصلاح المالي، أكدت أنه في ظروف مصر، تكون تكلفة الإبطاء باهظة بدرجة غير عادية، فالهيكل المالي لمصر معرض للتدهور على نحو خاص؛ نتيجة التضخم الصاعد. ويرجع ذلك في الأساس إلى سياسة تثبيت الأسعار لدائرة واسعة من السلع والخدمات في وقت تزداد فيه تكاليف تدبيرها أو تكاليف إنتاجها. وسواء مولت (هذه السياسة) بعدم مباشر أو غير مباشر، فإن التضخم ينحو إلى زيادة عبء الموازن الناشئ عن مثل هذه السياسة، زيادة حقيقية؛ حيث إن الفجوة بين أسعار البيع الثابتة، وبين تكاليف الإنتاج والاستيراد، ستنمو بالمعنى النسبي والمطلق. وبما أن الدعم المباشر وحده وصل إلى 16 في المائة من الإنفاق الحكومي في العام 1978، فإن مجال التدهور في هذا الحساب كبير" (124). (يلاحظ أن هذا الرقم يكون أعلى جدًا إذا قيمت السلع المستوردة المُدعمة بسعر السوق الموازية. وحدث هذا في عام 1979، فقفز عجز الميزانية العامة ـ بعد توحيد سعر الصرف ـ إلى 2074 مليون جنيه) (125).
إن الصندوق هنا يستثمر بقوة نتائجَ انتصاراته السابقة، وخاصة في القطاع الخارجي، فمع تسليم الحكومة بخفض سعر الجنيه إلى المعدلات البالغة الهبوط التي فرضها الصندوق، أصبح الاستمرار في تثبيت الأسعار مسألة مستحيلة بالفعل، خاصة إذا كانت السياسات الأخرى تحول دون زيادة موارد الخزانة زيادة حقيقية. الصندوق محق في أن ينذر الحكومة بأن تكلفة الإبطاء في رفع الأسعار بالذات، تكون باهظة وغير عادية في الظروف التي آلت إليها مصر، ولكنْ أوضحت السلطات أنها لم تتمكن خلال عام 1978 من تنفيذ التزاماتها بالنسبة للأسعار، وبالنسبة لزيادات الأجور؛ بسبب الظروف السياسية التي تمر بها مصر (126). وكان المقصود الظروف التي سبقت وتلت كامب ديفيد، وهي ظروف تطلبت استقرارًا سياسيًّا وإشاعة للتفاؤل حول نتائج الحل المنفرد.
ويبدو أن القيادة السياسية كانت قد تلقت وعودًا بمساعدات اقتصادية كبيرة في حالة توقيع الاتفاقية لقاء دورها في استقرار المنطقة داخل الإطار الأمريكي، ووفق شروطه؛ إذ لا نعتقد أن الرئيس تحدث عن مشروع كارتر ـ بعد كامب ديفيد ـ من فراغ. قال إنه "مشروع على غرار مشروع مارشال وسيحقق المعجزات مثل ما فعله مشروع مارشال في ألمانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية". وحدد السادات الأرقام، فقال إن "مشروع كارتر يتضمن مبالغ تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر ألف مليون دولار لمدة خمس سنوات لتحقيق الرخاء في مصر والتغلب على المشكلات الاقتصادية" (127). ويلاحظ أن نفس هذا الرقم أعلنته دوائر أمريكية وصهيونية قبل تصريحات السادات؛ فقد دعا السناتور هنري جاسكون الولايات المتحدة إلى عرض برنامج تقدم خلاله المعونة الأمريكية على أساس المشاركة الكاملة بين إسرائيلَ ومصر، على أن تحتفظَ الولايات المتحدة بحق سحب هذه المعونة، إذا لم تستمر الجهود من أجل السلام. وقد أذيع في اليوم نفسه، عن دعوة واسعة النطاق في إسرائيل، حول مشروع الاستثمارات الأجنبية الحكومية الخاصة بالمنطقة، على غرار مشروع مارشال يتضمن إنشاء صندوق برأسمال 15 بليون دولار سنويًّا، ولمدة عشر سنوات، تساهم فيه الولايات المتحدة ودول السوق الأوروبية وأُستراليا وكندا والدول الإسكندِنافية، وآخر لرأس المال الخاص برأسمال قدره 30 بليون دولار سنويًّا يقوم على أساس تجاري وبضمانات حكومية، ويساهم اليهود بثلث رأسماله.
في الفترة نفسها، اقترح السناتور فرانك تشيرش على الحكومة الأمريكية مشروعًا في الاتجاه نفسه؛ لتقدم "معونات هائلة" تكون حافزًا لإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط، وتجعل من يعمل ضده يدفع ثمن ذلك". وقد تبلورت هذه المقترحات وغيرها في مشروع محدد، تقدم به السناتور جاكسون مع أربعة آخرين من أعضاء مجلس الشيوخ، ويدعو لعمل "خطة مارشال" تقوم الولايات المتحدة فيها بدور "الشريك الاقتصادي الكامل" مع مصر وإسرائيلَ والدول الراغبة في العيش بسلام في المنقطة؛ تأكيدًا لدورها في صيغة السلام المحققة (128).
في هذا الجو من "التفاؤل" تحدث الرئيس السادات بدوره عن مشروع مارشال، واللمسة التي أضافها أنه أسماه "مشروع كارتر".. ويبدو أن هذه الآمال خلَّفت تصورًا باحتمال أن تمثل المساعدات السخيَّة موردًا مستقرًا، يمكِّن المجتمع أن يعيش (لفترة ما) عند مستوى يتجاوز موارده الذاتية؛ أُسوةً بالمعاملة التي تتمتع بها إسرائيلُ. وهذا يمكن الخزانة من مواجهة العجز الكبير في الميزانية العامة، دون اللجوء إلى المصارف على مستوًى واسع.
وبالتأكيد كانت بعثة الصندوق لا تغفل عن هذه الظروف السياسية وما صاحبها من آمال، ولكنها لم تهضِمْ - مع ذلك- حالة النكوص الكامل للسلطات المحلية (بحجة الظروف السياسية) عن اتخاذ أية إجراءات تحسن صورة الميزانية العامة، وتتسق مع نتائج توحيد سعر الصرف. وكان واضحًا لبعثة الصندوق، أن الأوضاع السائدة، لا بد وأن تؤدي في نهاية 1978 إلى انهيار السقف العام المفروض على الزيادة في صافي الأصول المحلية؛ فالتجاء الحكومة إلى الجهاز المصرفي، كان متوقعًا أن يتجاوز المستهدف، ورغم إقامة حدود على الإقراض المصرفي لشركات القطاع العام، أدى التأخر في تطبيق التعديلات السعرية، إلى التساهل في الالتزام بهذه الحدود، وبالتالي تم تجاوز السقف المفروض على صافي الائتمان المصرفي في القطاع العام بهامش واسع(129).
في حدود التخصص وتوزيع الأدوار، لم يكن على بعثة الصندوق، إلا أن تتمسك بتنفيذ البرنامج وفق الجدول الزمني المرتبط بترتيب المساندة؛ ولذا سجلت في تقييم البعثة للموقف "إن أحرج مهمة تواجه السلطات هي تحسين الوضع المالي (...) ولتجنب صعوبات أكثر خطورة في المستقبل، ينبغي أن يتسارع تنفيذ الإصلاحات المالية الضرورية، في جانب الدخل، التحرك مطلوب في مجالات التسعير في مشروعات القطاع العام، والإصلاح الضريبي (...) وفي جانب الإنفاق، نعتقد السلطات أنه لا بد من ترشيد برنامج الدعم المباشر بحصر توجهها إلى المجموعات الأقل دخلاً، وبإلغاء الدعم على المواد الاستهلاكية الأقل ضرورة. والبعثة توافق على هذه الآراء، وتحث على تطبيق هذه الإصلاحات بأقصى سرعة ممكنة (...) وزيادات الأجور والمهايا بالحجم الممنوح في عام 1978، لا تتسق مع الأهداف المالية للأجل المتوسط، وتحتاج أن تُخفف في 1979".
إلا أنَّ البعثة تدرك مع ذلك حدودها، وتعلم أن التطورات السياسية، قد تدعو الولايات المتحدة إلى التدخل لإعداد ترتيبات استثنائية تؤجل بعض الإجراءات المطلوبة المالية والنقدية في إطار استراتيجية الصندوق المتفق عليها؛ ولذا تجنبت البعثة ما فعلته في العام السابق، فلم تضمن كل تقييماتها ـ كالعادة ـ في مشروع القرار المقدم للمجلس التنفيذي للموافقة. اكتفت بفقرة لا تُثير مشكلة، تنص على أن "الصندوق يرحب بالتقدم الذي أحرزته مصر نحو توحيد نظامها للصرف، وفي تحرير نظام مدفوعاتها. ويدعم الصندوق نية السلطات نحو مزيد من خفض الاعتماد على قيود الصرف، ولإنهاء اتفاقيات الدفع الثنائية المتبقية في أقرب وقت ممكن... إلخ". وترك مشروع القرار المجالات الحرجة مفتوحة؛ لكي تُصاغ الفقرات المتعلقة بها على ضوء التصالات على مستوى أعلى، وقد أشار إلى ذلك "تقييم البعثة"؛ حيث جاء في ختام التقييم، وبعد عرض وجهة نظر البعثة، أن "المديرين التنفيذيين قد يودون مناقشة بعض المواضيع التالية:
- أهمية الإجراءات اللازمة لتحسين التوازن المالي، على سبيل المثال: ترشيد الدعم، الإصلاح الضريبي، السيطرة على الإنفاق.
- الدور المركزي لسياسات التسعير والإدارة في مشروعات القطاع العام، من أجل إمكانيات النمو للاقتصاد في الأجل الأطول.
- الفرصة التي يتيحها التحسن في صورة ميزان المدفوعات من أجل مزيد من تحرير وترشيد القطاع الخارجي".
ولكن بعد كل ما تحقق ـ سياسيًّا واقتصاديًّا ـ لم يكن فشل السلطات في الالتزام بالجدول الزمني يثير قلقًا شديدًا عند القيادات المعنية في الخارج. صحيح أن انتقادهم لكفاءة المسئولين المحليين تزايد. ولكنَّ الانتصاراتِ المحققة في المجالات الحاكمة (سياسيًا واقتصاديًا) كانت تُبيح تدخل الولايات المتحدة من أجل بعض التساهل، ولكنها حرصت في الوقت نفسه، على تبديد الأوهام حول حدود المعاملة الخاصة التي تتوقعها القيادة المصرية، وبالتالي حول التدفقات الميسرة المنتظمة، وأوضحت الولايات المتحدةُ أن أي تدفقات، تظل كالعادة، مرتبطة بمواصلة الانصياع لتعليمات صندوق النقد. والتساهل عند الولايات المتحدة لا يصل - بأيَّة حال - إلى ما يشبه التوقف عن تنفيذ المخطط. وعلى هذا، قرر المجلس التنفيذي لصندوق النقد، على ضوء تقرير البعثة، وبعد اتصالات مباشرة مع السلطات المصرية (والأمريكية طبعًا)، تأجيل سحب الدفعة الثانية من الشريحة الأولى، على أساس أن تعود بعثة الصندوق للتشاور مع السلطات المصرية في يناير 1979. ثم تأجَّل الموعد إلى منتصف فبراير (130)، وفي الأثناء أوضح المقرضون الآخرون (وعلى رأسهم الولايات المتحدة) الوقوفَ إلى جانب الصندوق (انظر الفصل العاشر).
وهذا الموقف كان طبعيًّا أن يؤدي إلى وقف الكلام عن مشروع كارتر، وانتقل التوجهُ المصري إلى مؤتمر الدول الصناعية الغربية في طوكيو. ويبدو أن القيادة المصرية تصورت أنها يمكن أن تقوم بحركة التفاف حول موقف الولايات المتحدة وصندوق النقد، ولكنْ كان طبعيًّا أن يخيب المسعى، وعلقت فاينشيال تايمز على الدراسة والمطالبات التي تقدمت بها الحكومة المصرية إلى رؤساء الدول المجتمعين في هذا المؤتمر، فقالت إن "أحد المشاكل الأساسية يتمثل في أن السيد/ السادات لا يهتم كثيرًا بأمور الاقتصاد، فهو ينحو إلى المبالغة في تسييس أغلب المسائل الاقتصادية الأساسية. وما حدث في قمة طوكيو كان حالة نموذجية لذلك. فبعد معاهدة السلام مع إسرائيلَ، شعر السادات ـ وله بعض العذر ـ أن مصر تستحق مكافأة مالية، خاصة بعد أن هددته المقاطعة العربية، وعلى ذلك بدأت وزارتا الاقتصاد والتعاون الاقتصادي (في الربيع) في إعداد ورقة لتقديمها إلى المشاركين في طوكيو، عنوانها (إعلان حول السياسة وحول الاحتياجات من المساعدة الخارجية)، وتمخض ذلك عن وثيقة متسرعة هوجاء، مليئة بالإحصاءات غير المتسقة وبالنتائج الاقتصادية المشكوك فيها، والوزراء يطلقون على الوثيقة الآن بلهجة اعتذارية أنها ورقة عمل. ولكن يضاف أيضًا إلى ذلك، أنه كان اجتراء من مصر وإفراطًا في الدلال، أن تصورت أن مؤتمر القمة سيجد وقتًا لمناقشة محنتها"... بهذا المستوى المهين كان التعليق على المطالبات التي رفعتها القيادة المصرية (بعد كل ما فعلته) إلى مؤتمر قادة الغرب، رغم أن المبالغ المطلوبة كانت في إطار ما يبدو أنها وعدت به (أي حوالي 18.5 مليون دولار لسنوات الخطة الخمسية)، ورغم أن مطالباتها بالقروض كانت مشفوعة بإعلان أنها جادة في "إصلاح مسارها الاقتصادي". وانتهى الأمر ـ كما قالت فاينانشيال تايمز ـ إلى "أن الرئيس كارتر فتح الموضوع في اتصالات ثنائية مع كل رئيس دولة على حِدة" (131).
وفي الوقت نفسه، توالت تصريحات المسئولين الأمريكيين عن برامج المعونة إلى الصحافة المصرية، وكانت التصريحات تسعى إلى تأكيد أنَّ الولايات المتحدة قدمت الكثير خلال السنوات الماضية، وأنها تلتزم بتقديم مساعدات أخرى، ولكن دون أن تتحمل وحدها مسئولية توفير القروض الميسرة. كما يمكن أن يُفهم من اسم مشروع كارتر، بل أبدى المسئولون الأمريكيون أنهم لم يسمعوا بهذا المشروع، إلا من الرئيس السادات؛ فحين سُئل دونالد براون (رئيس هيئة التنمية الأمريكية) عن الموضوع، قالم: "إن الرئيس أنور السادات تكلم عن مشروع كارتر، ونحن نعتقد أن الرئيس يقترح تقوية وزيادة الاستثمارات في مصر؛ سواء العامة أو الخاصة، من كل الدول التي تساعد مصر".
وهكذا لم يكن مشروع مارشال (أو كارتر) الأمريكي عام 1978، أسعد حظًا من مشروع مارشال العربي عام 1976. ومع ذلك فإن مشروع مارشال العربي لم يكن سرابًا كله، صحيح أن الأموال لم تنهمر كما تصور البعض، ولكن تدفق قدر محسوب من القروض، وكل مخطط استراتيجي، وكذلك الحال مع القروض الغربية في المرحلة الجديدة. الحلم المبدد هو انتظام الأموال الوفيرة الميسرة "لتحقيق الرخاء والتغلب على المشكلات الاقتصادية"، والقدر المتوقع هو قروض تسرع في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية وفق احتياجات "السلام"، أي وفق الاستمرار في نفس المخطط الاستراتيجي بقيادة وكالة التنمية وصندوق النقد والبنك الدولي. وحتى كتابة هذه السطور، لم تتحقق رغبة السلطات المصرية في إعلان التزامات محددة من جهات الإقراض الخارجي لعدد من السنوات (صيغة الكونسورتيوم). وحسب كلمات براون فإن "أمريكا للبنك الدولي (أي لا جديد)، وعن طريقها ستتجمع كل المساعدات، وسيستمر تقديمها إلى مصر عن طريق اتفاقيات ثنائية أو متعددة (أي من الهيئات الدولية) وليس عن طريق خطة شاملة" (132).
بعد المجموعة الاستشارية الأولى تمت رحلة القدس، وبعد المجموعة الاستشارية الثانية وقعت اتفاقية كامب ديفيد. مثل الحدثان في عام 1977 إنهاء لمرحلة، ومثلت المجموعة الاستشارية الثانية في عام 1978 تركيزًا على بناء المرحلة الجديدة بعد إزاحة العقبات، وكذلك كانت اتفاقية كامب ديفيد، ومن بعدها المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
د ـ وفي ختام هذا الفصل نعرض ـ في عُجالة ـ بعض التصورات والتعميمات ـ حول تطورات الصراع العربي الإسرائيلي ـ لم نتابعُ الخطوات المُحددة إلى كامب ديفيد:
إن النفوذ الصهيوني داخل السلطة الأمريكية لا يستند فقط إلى قوة مجموعات الضغط الصهيونية، وقدرتها على الابتزاز وإنشاء شبكة من التحالفات، فكل هذا التحرك يستمد مشروعيته السياسية ـ في التحليل النهائي ـ من خلال التوحد مع الحسابات السياسية لأكثر القوَى عدوانية في المؤسسات الأمريكية، وبالتحديد فإن القوى الصهيونية كانت دائمًا ضد الانفراج الدولي (أو الوفاق)، وحاولت دائمًا أن توسع وتعمل دائرة من ترتبط حساباتهم باتجاه سياسي مشابه داخل الولايات المتحدة. وهذا الموقف متسق تمامًا مع أهداف ومصالح الاستراتيجية الصهيونية. فالانفراج الدولي إذا تدعم بمصالحَ اقتصادية متينة ومتبادلة، وإذا ترجم في اتفاقات سياسية لتقسيم مناطق نفوذ (أي عودة إلى منطق اتفاقات يالطا وبوتسدام في ظل توازن قوَى جديد)، وإذا ترجم أيضًا في ترتيبات لحل المنازعات الدولية؛ نصبح بصدد نظام دولي محكوم، أي في ظل سلام أمريكي ـ سوفيتي مفروض على الكرة الأرضية. وهذا الوضع من شأنه أن يضيق المناورة أمام الأطراف الدولية الأخرى، ويسهل فرض سياسات مُشتركة على هذه الأطراف، ويصعب مبادراتِها لتحسين موقفها النسبي، بالاستفادة من تناقضات الدولتين الأعظم. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن كل أصحاب التطلع إلى دور أكبرَ في العلاقات الدولية، يسعون بأشكال مختلفة، ولأهداف متباينة، لمنع الانفراج الدولي من الوصول إلى هذه النتيجة، بل ويسعى بعضها بتخطيط وإصرار ـ إلى تأزيم العلاقات بين طرفي الوفاق، وتصعيد التوتر والمخاطر في مناطق العالم المختلفة. والمؤسسة الصهيونية ضمن هذا البعض (وأيضًا الصين)، فالمؤسسة الصهيونية واعية تمامًا بحقيقة أنه كلما تنامت العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ اتسع التناقض بين ما يمكن أن تمليه الحسابات الاستراتيجية المرتبطة بهذه العلاقات الخاصة، وبين الحسابات الاستراتيجية للصهيونية، وبالتالي يتضمَّن الوفاق ـ من هذه الناحية ـ تراجعًا في قدرة المؤسسة الصهيونية على استخدام سلطة وإمكانيات الولايات المتحدة في اتجاه يدعم مسيرتها الخاصة. وإعاقة الوفاق (أو نسقه إن أمكن) يتحقق داخل الولايات المتحدة طبيعة الدور الأمريكي في العلاقات الدولية، ترتبط مباشرة ومنطقيًّا، بالموقف في منطقتنا. فمُناهِضو الوفاق مع قبول المخاطر المحسوبة المترتبة على فرض كل شروط التبعية على المنطقة العربية، بما في ذلك فرض التوسع الصهيوني، وإغداق المساعدات العسكرية والاقتصادية على إسرائيلَ.
ولا يؤدِّي هذا الطرح ـ بمفهوم المخالفة البسيط ـ إلى استنتاج أن الانفراج، في حدِّه الأقصى، هو بالتالي اختيارنا الأمثل وبالضرورة. فإذا افترضنا أننا أيضًا ـ كأمة عربيةـ أصحاب مشروع حضاري تنموي مستقل (أي أننا مشروع قوة كبرَى في العلاقات الدولية)، وإذا افترضنا حالة تصميم واعٍ وحاسم على التنفيذ، فإن نتائج الانفراج ـ في حدِّه الأقصى ـ لا تناسبُنا نحن أيضًا، ولكن ستختلف حساباتنا بالقطع ـ في إطار هذا الموقف ـ وستختلف تحالُفاتُنا ومناوراتنا عن حسابات وتحالفات ومناورات المشروع المزاحم داخل منطقتنا (المشروع الصهيوني).. هذا التصور العربي (من منظور راديكالي) لا يعني أننا بصدد حرب بالسلاح متصلة، ولا يعني تجاهل حزمة الأدوات المتكاملة التي لا يمثل السلاح إلا جانبًا منها، ولا يعني أن مفهوم المراحل في الصراع المتشعب الممتد غير جائز، إنه يعني فقط أن التحرك الاستراتيجي وفْق هذا التصور نسقٌ متكامل، تتخذ فيه كل الأدوات والمفاهيم مضامينَ وأدوارًا مناسبةً، وأحسب أنه تكفي هذه الإشارة إلى إطار بحث مطلوب؛ لأن مهمتنا لا تمتد في السياق الحالي، إلى اقتحام مثل هذا البحث.
وبالتأكيد، فإن التحرك العربي خلال السنوات الماضية، كان بعيدًا عن مباحث هذا التصور الراديكالي، وعن مخاطر ممارسته. إرادة القتال العنيف - وفْق هذا التصور الاستراتيجي (لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية) - لم تحكمْ تصرفنا. وفي المقابل تحركت المؤسسة الصهيونية بإصرار للتأثير على مُجمل العلاقات الدولية (من خلال الولايات المتحدة أساسًا) على نحو يدعم موقعها في إسرائيلَ، ومع ذلك كان متصورًا، في إطار الأوضاع القائمة على الجانب العربي، ومع حصر المطالب العربية (استراتيجيًّا وليس مرحليًّا) في استرداد الأراضي المحتلة في حزيران/ يونيو 1967، كان متصورًا أن التوصل إلى الهدف الموضوع ممكنٌ.
إن الصهيونية ـ وفْق مخططها الاستراتيجي ـ
لم تتردد أمام اختيار التوحُّد شبه الكامل مع السياسة الأمريكية (دون أن تفقد هُويتها المميزة)، واستعانت بذلك في إزاحة الاتحاد السوفيتي من المنطقة (بكل ما يترتب على ذلك من تهديد للوفاق الدولي، قَبلته السلطةُ الأمريكية). وفي ظل المعطيات القائمة في الأقطار العربية، كان مطلوبًا ـ في المقابل ـ مجرد استفادة مما كان محققًا في العلاقات الدولية (أي لم يكن مطلوبًا أن ندخل تعديلات جوهرية في صيغة هذه العلاقات). ما كان مُحققًا في العلاقات الدولية، ومُنعكسًا في المنطقة، كان يسمح بمشاركة القوَّتين الأعظم في التوصل إلى التسوية، وما كان مُحققًا في العلاقات الدولية كان يسمح في الوقت نفسه ـ بهامش واسع نسبيًّا حركة الجانب العربي؛ فصيغة التسوية (في إطار التنافس المحكوم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) كانت ستعكس بالضرورة توازن القوى بين الأطراف المحلية، وتوازن القوى بين القوتين الأعظم داخل المنطقة، ورغبةُ كل طرف منهما في تحسين موقفه على حساب الطرف الآخر، وفي مواجهة الحرص الإسرائيلي على احتكار الدعم الأمريكي في المنطقة (الذي يرتبط بخط استراتيجي متكامل) كان مطلوبًا مجرد جذب الاهتمام الأمريكي إلى الحد الذي يكفي لترجيح المطالب العربية المُلخصة في استرداد الأراضي المحتلة عام 1967. وجذب الاهتمام لم يكن مطلوبًا فقط، ولكن كان ممكنًا أيضًا في ظل تغير محسوس في توازن القوَى العسكري بين القوات المسلحة العربية، والقوات المسلحة الإسرائيلية، وفي ظل الإمكانيات الفعلية لتحرك عربي محدود ضد المصالح الأمريكية، وفي ظل وجود سوفيتي ينذر الولايات المتحدة باحتمالات مقلقة. وكل هذه المتغيرات وفرتها حرب تشرين الأول/ أكتوبر الخالدة فعلاً، وكان ممكنًا ـ في ظل هذه المتغيرات ـ تعميق التناقض بين السلطة الأمريكية والسلطة الصهيونية.

ويبدو أن الإدارة الأمريكية في فترة نيكسون (وهي فترة تصاعد الوفاق) أحاطت بالتناقُض الكامن بين استمرار صيغة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية المقروضة منذ 1967، وبين منطق الوفاق. فالعناد الإسرائيلي يدفع أطرافًا عربية مُختلفة إلى تكثيف تعاونها مع السوفييت، وبالتالي يزيد نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة. واستمرار إسرائيل في احتلال الأراضي قد يدفع السوفيت إلى التورط في مساندة جادة لأعمال عسكرية عربية، وهذا يهدد أسس الوفاق، ويهدد توازنات القوَى الدولية المقبولة أمريكيًّا. ونعتقد أن الإدارة الأمريكية صارحت القيادة الإسرائيلية بكل ذلك، دون أن تتلقَّى ردًّا إيجابيًا. كانت إسرائيل تدرك ـ بقرون استشعارها ـ أن تصاعد الوفاق، وتوحده شيئًا فشيئًا مع مفاهيم الأمن القومي الأمريكي والمصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، يعني إضعاف قوَى التشدد التي تتحالف معها، ولكن ظلت تأمل في نجاح هجماتها المضادة، وظلت محتمية بمقولة إن مخاطر القتال أو التحرك العربي ضد المصالح الأمريكية، هو احتمال لا يمكن أن يتحول إلى فعل، وبالتالي يمكن استمرار الأمر الواقع (احتلال كل أراضي 1967) دون مخاطر حقيقة، وبالتالي لا تعارض بين مصالح إسرائيل في استمرار احتلال الأراضي، وبين مصالح الولايات المتحدة في استقرار المنطقة. وإدارة نيكسون ـ فيما يبدو ـ ظلت ترفض هذا التصور، دون أن تتمكن عمليًّا من فرض رأيها. وقد لاحظنا من متابعة ما عرفناه من أحداث، قُبيل حرب تشرين الأول/ أكتوبر وأثناءها وبعدها - شواهدَ تؤيِّد هذا التحليل (راجع الفصل السادس)، وهذا التحليل يتضمن اعتمادًا على نتائج القوة العربية وتعاونها مع السوفيت، من أجل تعميق التناقض المُحتَمل بين أمريكا وإسرائيل، ومن أجل حفز الولايات المتحدة على التحرك.
ولكن يبدو لنا أن استراتيجية القيادة المصرية (99 % من ورق اللعب في يد الولايات المتحدة) قامت على تقديرات خاطئة أو مُجتزأة في الإطار الذي طرحناه، واعتمدت في هذه التقديرات، على اتصالات سرية ووعود في فترة نيكسون. وقد بدأ في إطار ذلك تحرك الولايات المتحدة (وعلى رأسه كيسنجر بدوره المشبوه)، ولكن كافة التطورات والتورطات التي تلت ذلك، أعادت كل عناصر القوة الفعلية في الموقف العربي إلى موقعها السابق؛ كاحتمالات نظرية يمكن استبعادها، بعد أن برزت في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 باعتبارها خطرًا محسوسًا، وهذه النتيجة وحدها كان من شأنها دعم موقف مجموعات الضغط الصهيوني داخل الولايات المتحدة (بعد أن زعزعته حرب تشرين الأول/ أكتوبر)، وأضيف إلى هذا انقلاب وُترجيت، وأثر كل ذلك على سياسة الولايات المتحدة قبل الوِفاق، وأغرب ما في هذا السياق تمثل في تدافع القيادة المصرية في أداء اللعبة الإسرائيلية؛ فالقيادة المصرية تنافست مع إسرائيل في تأزيم العلاقات السوفيتية الأمريكية، وفي حفز الولايات المتحدة على تصعيد التوترات الملتهبة في أفريقيا والعالم العربي وآسيا، وهذا التنافس يمكن طبعًا أن يحقق للقيادة المصرية كسبًا تكتيكيًّا محدودًا داخل المؤسسات الأمريكية، ولكنه في إطار المخطط الاستراتيجي لإضعاف الوفاق (أو نسفه إن أمكن) يكون لصالح انفراد الولايات المتحدة (وإسرائيل من الباطن) بمنطقتنا، وقد انعكس ذلك على صيغة التسوية المحققة.
في هذا الإطار كان حتمًا أن تفشل وتستحق محاولات كارتر لزحزحة إسرائيل عن مواقفها، إلى الحد الذي استهدفته إدارة كارتر. وفي هذا الإطار من توقف الدور الأمريكي، ومن الضغوط العسكرية والاقتصادية (مع التمويه والغواية)، توجه السادات إلى القدس للتفاهم مباشرة مع قادة إسرائيل، ودون وسيط أمريكي، وقد نفترض هنا أن القيادة المصرية ظلت تراهن على التناقض الإسرائيلي ـ الأمريكي، ولكن بدلاً من التركيز على الولايات المتحدة لخلق هذا التناقض، انتقلت إلى التركيز على إسرائيل للوصول إلى النتيجة نفسها، ونفترض هنا أيضًا أن إسرائيل لا بد أوحت بما يُغري على ذلك، وقد أعلن السادات بعد رحلة القدس: "سوف يلمس الجميع أبعادَ هذا التغيير في الأسابيع القليلة المقبلة" (133). وترتبط بهذا المسعَى، المبادرةُ السريعة إلى الدعوة لمؤتمر القاهرة (في 26/11 أي بعد خمسة أيام من عودته من القدس). ونَشرت نيويورك تايمز أيامها، أن السادات رفض طلب الرئيس الأمريكي بعدم الإعلان في خطابه أمام مجلس الشعب عن هذه الدعوة. وعبَّر جوزيف كرافت (واشنطن بوست) عن رأي عدد من المعلقين في تلك الفترة، عندما كتب أن "التحول الدبلوماسي المفاجئ في دبلوماسية الشرق الأوسط مؤخرًا، سيعمل على إضعاف الدور الأمريكي في المنطقة، وأن الحكومة الأمريكية تزحف لكي تعود إلى اللعبة" وروَّجت وجهة النظر هذه، لفكرة أن السادات كان يعتمد - من قبلُ - على الولايات المتحدة لحمل إسرائيل على قبول شروطه، ولكنه يقول الآن إن علَى مصر أن تقوم باتصال مباشر مع إسرائيلَ أيضًا (134).
وكما كان حتمًا ـ في ظل مجمل التطورات الحادثة ـ فشل محاولة تعميق التناقض من خلال جذب الولايات المتحدة وإبعادها عن إسرائيل، كان حتمًا – أيضًا - أن تفشل المحاولة من خلال جذب إسرائيل وإبعادها عن الولايات المتحدة؛ فإسرائيل أوعَى من أن تقع في هذا الخطأ الاستراتيجي. لقد لوحت بهذه "الجزرة" قبل زيارة القدس، وبعد تحقيق الغرض، عادت إلى تأكيد تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، مدعَّمة بما حققته من نصر تاريخي، أثبت أن عنصر الزمن كان لصالحها، وأثبت أن موقفها التفاوضي المتشدد كان يستند إلى حسابات واقعية. فزادت بالتالي سطوتها في المؤسسات الأمريكية. لقد أثارت رحلة السادات إلى القدس ضجةً هائلة، وترحيبًا ضخمًا في الدول الغربية (على مستوى رسمي وشعبي). وأجهزةُ الإعلام (الخاضعة للنفوذ الصهيوني) أسهمت إسهامًا كبيرًا في هذه الضجة. ولكن ينبغي أن نفرِّق هنا بين احتفاء بعض القوَى المتطلعة إلى قدر معقول من الاستقرار في الشرق الأوسط، يضمن انتظام حصولها على النفط، ويبعدها عن مخاطر المصادمات الدولية العنيفة، وبين احتفاء القوَى الصهيونية الراديكالية التي أمسكت منذ اللحظة الأولى جوهر هذا الحدث التاريخي، وأنه يعني اعترافًا مُعلَنًا من طرف القيادة المصرية بحقيقة توازن القوَى، وبحقيقة أن تل أبيب أصبحت مع واشنطن مفتاحًا أساسيًّا لأية تسوية. وكان منطقيًّا أن تلعب القيادةُ الصهيونية على عامل الزمن؛ لكي يتبخر ما تولَّد عن الزيارة من ضجة وآمال، ويبدأ البحث على أساس الوقائع الفعلية التي أدت إلى رحلة القدس، وتكثفت بعد هذه الزيارة. فالرحلة حطمت الحاجز النفسي كما يقول السادات، أي نالت من الشعور بالعداء والمرارة، وإرادة النضال في أكبر قطر عربي، بينما الأرض لا زالت مُحتَلَّة. وحطمت مع ذلك أي حد من حدود الالتزام بالتحرك العربي المشترك. وبعد كل ما أُثير حول الرحلة، لم يعُد سهلاً على السادات أن يتراجع، مهما صادف من عقبات، وكان طبَعيًّا أن ينعكس كل ذلك في المباحثات وفي الابتزاز؛ فمسألة أن الاعتراف وتطبيع العلاقات تأتي قبل الانسحاب، أصبحت تحصيل حاصل بعد الزيارة، وفي خطابه العلني فِي القدس، أسقط السادات التزامه بمنظمة التحرير الفلسطينية. ولكنْ، لم تكن هذه التنازلات تكفي للتعبير عما قدرته إسرائيل مناسبًا، لما آل إليه توازن القوى؛ فاستمرت مع لعبة الزمن، واثقة من هبوط المفاوض المصري إلى المستوى الذي عينته، مُستعينة بقدرتها على جذب الولايات المتحدة لدعم مواقفها الأساسية(135).
اضطرت القاهرة إلى تأجيل المؤتمر الذي دعت إليه، وحين انعقد (14/ 12) كانت إسرائيل والولايات المتحدة قد فرضتا أن يكون التمثيل على أدنَى مستوى، وأعلنت إسرائيلُ أن مهمة وفدها فنية، إلا إذا طُرحت فكرة التسوية المنفردة، وفي 24 كانون الثاني/ يناير انعقد لِقاء الإسماعيلية بقيادة بيجن والسادات، ووضح في اللقاء أن إسرائيل
لم تعدل شيئًا في برنامجها بَعد "المُبادرة". كانت نصوص المشروع الذي تقدَّم به بيجِن في الإسماعيلية تناول في جزئها الأول مستقبل "يهودا والسامرا" وقطاع غزة واقترح تشكيل حكم ذاتي إداري يشترك فيه الفلسطينيون العرب. والجزء الثاني، كان حول التسوية مع مصرَ، وذكر بيجِن المطالب التالية:

- إن تجرد مناطق معينة من سيناء من السلاح،
ولا يجتاز الجيش المصري الممرات، كما يستمرُ سريان اتفاق خفض القوات على المنطقة المحصورة بين الممرات وقناة السويس.

- أن تبقى المستوطنات الإسرائيلية في أماكنها وفي وضعها القائم، وتكون مرتبطة بالإدارة والقضاء الإسرائيليين، وتقوم بالدفاع عنها قواتٌ إسرائيلية.
- أن تحدد فترة انتقالية لعدد من السنين، يرابط خلالها جيشُ الدفاع الإسرائيلي وسط سيناء، مع إبقاء مطارات وأجهزة إنذار إسرائيلية لحين انتهاء هذه الفترة الانتقالية والانسحاب للحدود الدولية.
- ضمان حرية الملاحة في مضايق نيران، وتعترف الدولتان في إعلان خاص بأن هذه المضايق هي ممر مائي دولي يجب أن يكون مفتوحًا للملاحة لأية سفينة، وتحت أي علم ـ سواء بواسطة قوة تابعة للأمم المتحدة لا يمكن سحبها إلا بموافقة الدولتين، وبِناء على قرار بالإجماع لمجلس الأمن، أو بواسطة دوريات عسكرية مصرية إسرائيلية مشتركة (136).
هذا الطرح هو ما قدمته إسرائيل في إطار توازن القوَى كما تصورته، وهو يعني بوضوح حلاً منفصلاً مع مصر. ويبدو أن القيادة المصرية كانت قد تصورت أن الضجة التي أحدثتها زيارة القدس غيرت توازن القوَى، وأعطت قوة دفع تمكنها من التشبث بمدخل أشمل للتسوية، وفي كل الأحوال كان مفهومًا بين القوَى السياسية في مصر، على كل المستويات، وبكل المقاييس - مخاطرُ التورط في حل منفصل، ولكنَّ الأمر الذي أحدث زلزالاً، هو أن بيجين
لم يكتفِ أيامها باقتراح حل مصري إسرائيلي، فحتى بالنسبة لمصر، أصرَّ على أن تكون السيادة المصرية على سيناء شكلية، بل وأصر على بقاء المستوطنات، ولكن أيضًا مقلقًا؛ فالفخ الذي وقعت فيه القيادة المصرية سيرغمُها قطعًا على قبول جوهر ما تقصده إسرائيل، وقد احتفظت إسرائيل بورقة واحدة كانت على استعداد للتنازل عنها في اللحظة المناسبة لإنهاء الصفقة.

بعد فشل مباحثات الإسماعيلية، وصل كارتر إلى أسوان (4 كانون الثاني/ يناير)، وبعد مباحثاته عادت اجتماعات اللجنة العسكرية في القاهرة، واللجنة السياسية في القدس، وفشلت الأخيرة (وبحضور فانس) في مجرد إعداد جدول أعمال، وطلب السادات من الوفد المصري أن يعود إلى القاهرة (18 كانون الثاني/ يناير)، فوجهت الدعوة إليه لزيارة واشنطن، "ونجح كارتر ـ أثناء الزيارة ـ في الحصول على وعد من الرئيس السادات بالعمل على استئناف المفاوضات مع البعد عن التحولات المفاجئة، وعن الدبلوماسية العلنية"، وفي الوقت نفسه، حوى البيان الصادر عن البيت الأبيض حول الزيارة، نصًّا على أنه لا يمكن تحقيق السلام العادل والدائم، دون حل المشكلة الفلسطينية، وكذلك على أن التسوية يجب أن تُبنَى على "أساس جميع مبادئ القرار رقم 242 بما فيها انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ محتلة عام 1967"، وينطبق هذا على جميع جبهات الصراع، كذلك أعلنت الولايات المتحدة عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة (137). وطبعًا نص البيان الأمريكي ـ في المقابل ـ على التزام الولايات المتحدة التاريخي بأمن إسرائيل إلى جانب تأكيده الأهمية استئناف المفاوضات وإقرار السلام الشامل وإقامة العلاقات الطبيعية.
وتعبيرًا عن الموقف الأمريكي، وتجنبًا "للدبلوماسية العلنية"؛ بعثت الولايات المتحدة بوسيط يحافظ على قوة الدفع، ويعمل على تقريب وجهات النظر، وتعبيرًا عن عدم الجدية؛ كان الوسيط الأمريكي، ألفريد أثرتون الموظف في الخارجية الأمريكية. وبالتالي كانت الرحلات المكوكية مجرد مزيد من كسب الوقت للمفاوض الإسرائيلي، ومزيد من ترويض المفاوض المصري؛ لكي ينكمش إلى المقاس المطلوب.
وأثبتت الولايات المتحدة مرة أخرى ـ رغبتها وقدرتها المحدودتين في الابتعاد عن الخط الإسرائيلي في مؤتمر ليدز بحضور وزارة الخارجية للولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، فغامر السادات بمحاولة اللعب على التناقضات في قلب إسرائيل مباشرة، وتمثل ذلك في اتصالاته مع شيمون بيريز (مستعينًا بالدولية الاشتراكية) ثم عيزرا فايتسمان (138)، وكان كل ذلك مواصلة لقوة الدفع نحو ما أرادته إسرائيل بالضبط: الحل المنفرد.
وـ و... في آخر المطاف، وصل السادات (5 أيلول/ سبتمبر) إلى كامب دافيد محاصرًا من كل جانب، والسرية التي فُرضت على مباحثات كامب دافيد، تثبت تمامًا أن كل ما يقال عن قدرة الصحافة وأجهزة الإعلام في الدول الغربية، كلام مبالغٌ فيه جدًا، وتثبت أن أغلب ما يصلنا من معلومات هو فقط ما تسمح بإذاعته مراكز السلطة الحقيقية في تلك الدول. ولكن بعيدًا عن تفاصيل المساومات والضغوط العنيفة التي تعرض لها المفاوض المصري (التي لا نعرفها ولا تهمنا كثيرًا في إطار تحليلنا العام)، فإن الحصاد المؤكد، هو أنه قَبِل النتائج المنطقية لمجمل سياساته، أي قبل جوهر العرض الذي قدمه بيجِن في مباحثات الإسماعيلية. لم يكن الأمر سهلاً؛ ولذا طالت المباحثات، وقال بيجِن يوم توقيع الاتفاقية ـ بسخرية واضحة ـ إن "المباحثات واجهت لحظات صعبة، بل حدث كالمعتاد أن ألمح شخصٌ ما، إلى أنه ربما يرغب في أن يحزم أمتعته ويعود إلى دياره" (139). ولكن ما كان ممكنًا أن يعود الرجل بعد كل ما فعل صفرَ اليدين، وما كان معقولاً أن تترك القيادة الإسرائيلية فرصة الحل المنفرد مع أكبر دولة عربية ـ مقابلَ سيناء تفلت من يدها (وهي تدرك أنه يصعُب أن تحصل على أكثر من ذلك عمليًّا، في وجود الدور الأمريكي الذي لا يمكن أن تُلغي وزنه تمامًا في التسوية)، ويمكن أن نتصور أسباب تقلصات كامب ديفيد، والتي بلغت الذروة بإعلان الرئيس السادات لنيته في العودة، على ضوء ما تسرب على لسان السادات نفسه؛ فقد اعترف بأنه قرر صبيحة يوم الجمعة (15 أيلول/ سبتمبر) أن يترك المؤتمر، ولكن أسرع كارتر إلى زيارته، وبعد رُبع ساعة، كان الرئيس كارتر، قد أقنعه بالعدول عن ترك المفاوضات، ومن ثم كانت بداية جديدة، وتكثفت الجهود والاتصالات، وتواصلت حتى آخر لحظة قبل توقيع الاتفاق، وقد رفض السادات ـ بالرغم من إلحاح رؤساء التحرير الأمريكيين ـ أن يفصح عن الوسائل التي لجأ إليها كارتر لإقناعه بالعدول عن ترك المؤتمر، ورفض الإفصاح عن موضوع الأزمة(140)، ولكن أشار إلى ذلك في مناسبة لاحقة، حين قال إنه "يجب أن نسجل أن مستر بيجِن أبدَى في آخر ساعات مؤتمر كامب دافيد تفهُّمًا صحيحًا لموضوع المستوطنات"(141). ويمكن أن نتصور على ضوء ذلك أن بيجِن استبقَى في يده، حتى آخر لحظة ورقة المستوطنات، بل ولعب بها إلى الحد الذي أوصل المؤتمر على حافة الانهيار. ولا يبدو أنه أسقطها بعد ذلك ـ في مقابل إسقاط مصر لمبدأ التسوية العربية الشاملة، فأغلب الظن أن الجانب المصري تنازل في مرحلة مبكرة من المباحثات عن هذا المبدأ مقابل عودة السيادة المصرية الناقصة على سيناء.
وبشكل عام، أعتقد أن عِزرا فايتسمان عبَّر ـ إلى حد كبير ـ عن الحسابات الإسرائيلية لما بعد كامب دافيد، حين قال إنه "يتعين الحفاظ على جيش قوي؛ حتى يصبح طريق السلام بلا عودة، ويجب القول أيضًا بأننا إذا نجحنا في إقامة علاقات مع مصر خالية من التوتر، وإقامة روابط اقتصادية وسياحية، مع حرية المرور، فإن ذلك يعادل تمامًا السيطرة على الأراضي اللازمة للدفاع عن أنفسنا" (142). فقط ينبغي أن نفهم الكلمات بمعناها الصحيح؛ فالاحتفاظ بجيش إسرائيلي قوي (مُدعَّم بأسلحة نووية) لضمان الأمن، يتضمن في المقابل وبالضرورة الاحتفاظ بجيش مصري ضعيف. وقد تحقق ذلك (اختلال التوازن العسكري) كأمر واقع خلال السنوات التالية، كان منطقيًّا أن تطلب إسرائيل تضمين الاتفاقيات شروطًا قاطعة، وملزمة، تتعلق بحجم وتسليح القوات المسلحة المصرية (143)، ولا ينبغي أن ننسَى أن هذه النقطة المحورية كانت نصًّا فُرض دائمًا على مصر بعد كل هزيمة كبرى. حدث هذا في اتفاقية 1841 التي كسرت تجربة محمد علي، وحدث هذا بعد كارثة الديون وانكسار الثورة العرابية (أي بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1882).
وبالنسبة للعلاقات الخالية من التوتر، ينبغي أن تُفهم على أنها تعني محاولة إقامة محور ثابت، بديلاً عن المحور الإسرائيلي الإيراني، والروابط الاقتصادية والسياحية، هي ضمان استمرار هيكل مشوه وتابع للاقتصاد المصري. والأمن الإسرائيلي لا يعتمد ـ في التحليل الأخير ـ على مجرد مناطق منزوعة السلاح؛ فأساس الاطمئنان الاستراتيجي لإسرائيل (بالنسبة لمستقبل هيمنتها، وليس لأمنها فقط)، يقوم على عزل مصرَ عن الأمة العربية، وعلى أن تكون مصر ضعيفةً عسكريًّا، ومُشوَّهة، وتابعة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. ويبدو أن المستقبل، سيكشف عن تنازلات عديدة تمت في هذا الاتجاه ـ دون أن تعلن ـ مقابل السيادة الناقصة على سيناء وإخلاء المستوطنات. وما أُعلِن على مراحلَ بالنسبة لترتيبات البترول، ثم مياه النيل، والمشروعات المشتركة في سيناء، أمثلة على هذا التصور.
ز ـ بقيت - بعد كامب دافيد - محاولاتٌ من القيادة المصرية لتحسين موقفها، فتوالت التصريحات حول ضرورة الربط بين مراحل انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، وبين مراحل المشروع المهلهل للحكم الذاتي. أيضًا توالت التصريحات حول أن الاتفاق المصري ـ الإسرائيلي لا يأتي قبل التزامات مصر العربية. ولكنْ مع مزيد من تدهور ميزان القوى، لم يكن ممكنًا انتزاع مكاسبَ جديدة، ومع التطورات الدرامية في إيران؛ أصبح التوصل السريع إلى عقد معاهدة، مسألةً بالغة الإلحاح في استراتيجية الولايات المتحدة، وانعكس ذلك أيامها في رحلة براون (وزير الدفاع الأمريكي) ليطرح "فكرة إقامة حلف غير رسمي، يضم كلاً من مصر والسعودية والأردن والسودان وإمارات الخليج وإسرائيل". وكان هذا في إطار ما أُسمِي في بعض الصحف الإسرائيلية: "الخط الأمريكي الجديد الذي كشف الأمريكيون أنفسهم عنه". ويتميز هذا الخط الجديد ـ "ربط الجانب الأمريكي بين محادثات السلام الإسرائيلية ـ المصرية، وبين إقامة جهاز دفاع استراتيجي جديد في الشرق الأوسط" (144). وقد نجحت إسرائيل في توظيف المأزق الأمريكي لتحقيق شروطها كاملة، فجاءت المعاهدةُ ـ بتدخُّل مباشر من كارتر ـ مطابقة هذه الشروط (145)، وتبخرت التصريحات والاعتراضات المصرية، وانحصرت المشاكل في مضمون "تطبيع العلاقات".
* * *
و.. إذا أردنا في النهاية بلورة الاحتمالات المختلفة التي شهدتها منطقتنا، في إطار الصراع العربي الإسرائيلي على ضوء المسيرة التي حاولنا أن نتابعها، نقول الآتي:
- كان هناك مشروع لفرض السلام الإسرائيلي، بعد هزيمة 1967، أوقفه الصمود العربي، والرفض الإيجابي للهزيمة العسكرية، الذي بلغ ذروته في حرب 1973.
- ـ مشروع السلام الأمريكي - السوفيتي (أو السوفييتي- الأمريكي) بمشاركة الأطراف المحلية القادرة. كان هذا المشروع احتمالاً ممكنًا بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر، أجهضته الولايات المتحدة وإسرائيل والقيادة المصرية، مع أطراف عربية أخرَى.
- مشروع السلام الأمريكي. وقد فهم أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر، وفي الفترة التالية لها، أن التحرُّك الأمريكي يستهدف هذا الحل، ولكل مجمل التطورات، وعلى رأسها الدور الصهيوني، أسقط هذه الصيغة.
- السلام الأمريكي - الإسرائيلي، وهو ما كرسته معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (وملاحقها المنشورة وغير المنشورة)، التي وقعها كارتر مع رئيس مصر وإسرائيل. هذه الصيغة لم تستقر بعدُ، ويحاول طرفاها فرض مضمونها الأساسي على كل الأمة العربية، وعلى المجتمع الدولي.
وعنوان كل مشروع من المشروعات الأربعة السابقة يقصد تحديد القوة أو القوَى التي تملك قرار الحرب والسلم في المنطقة. وتملك بالتالي نوع الاستقرار المحقق. ويُستنتج من هذا، أن كل احتمال من هذه البدائل يتضمن تشكيلات بنيوية مناسبة (سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية). وبمقياس الأرض، وهو - بعدُ - هام في الصراع العربي الإسرائيلي (حيث إننا في مواجهة مشروع توسعي استيطاني)، يبدو أن البديل الأول كان يستهدف الاحتفاظ بكل الأراضي التي استولى عليها عام 1967، وفرض تسوية ـ مع الزمن ـ على أساس هذا الأمر الواقع، ونعتقد أن المشروع الثاني كان من شأنه استرداد كل الأراضي التي احتُلَّت عام 1967 (على الأقل). والمشروع الثالث كان يَعِد بعمليات انسحاب جوهرية من أراضي 1967، والمشروع الأخير لم يكن قادرًا على انتزاع شيء أكثرَ من سيناء، وبالكاد.







آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:51 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

هوامِش الفصل التاسِع
(1) في الهيئة البرلمانية لحزب مصر عرضت الحكومة قضية التوسع في الاستيراد بالسعر التشجيعي. صرَّحت بأنه سيتم تحويل استيراد سِلَع قيمتها 400 مليون جنيه إلى السوق الموازية. وتجنبت الكلامَ حول خفض الدعم، فمر الموضوع دون أن يدرك الأعضاء أن قرار التوسع في الاستيراد بالسعر التشجيعي يتضمن أيضًا رفع الأسعار، وساعد في التضليل أن ممثلي الحكومة صرحوا بأنه ستُتخذ إجراءاتٌ تضمَن عدم ارتفاع الأسعار بعد الاستيراد بالسعر التشجيعي (كيف؟) يبدو أنه كان متصورًا، أن أعضاء المجلس لن ينتبِهوا إلى أن بيان وزير المالية في اليوم التالي، يحتوي جديدًا (خفضًا مباشرًا في اعتمادات الدعم. انظر: "الهيئة البرلمانية لحزب مصر تبحث الإجراءات المالية الجديدة"، الأهرام، (15/ 1/ 1977). تجنبت الحكومة بعد ذلك ـ كما سيجيء في المتن ـ إثارة موضوع التوسع في السوق الموازية.
(2) د. عبد المنعم القيسوني، مضبطة الجلسة 16 (17/ 1/ 1977)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(3) كالعادة، لا يدقق كثيرًا في صياغة البيانات الرسمية، فقال:
د. صلاح حامد مثلاً إنه "في ضوء الموارد المحدودة، وحدة مشكلة التنمية الاقتصادية، وجدت الدولة نفسها، في الماضي (يقصد قبل 1974) مضطرة إلى إحكام الرقابة على حركة النشاط الاقتصادي، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات الخارجية، وكان تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية للبلاد ضرورةً استدعتها المصلحةُ القومية العليا؛ لتحسين اقتصاديات البلاد ضد التيارات الخارجية في وقت تَضنَّ به الموارد الاقتصادية عن مقابلة الاحتياجات المتزايدة، مع النمو السريع لسكان هذا الوطن، ومع عدو متربص بنا.. يتحيَّن الفرص لضربنا واستنزاف مواردنا".. هذا الكلام العظيم الذي يُدين كل مفاهيم الانفتاح قاله وزير المالية بقصد الدفاع عن الانفتاح، وكمدخل لعرض السياسات المالية المطلوبة من أجل مزيد من الانفتاح! انظر د. محمود صلاح الدين حامد، البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1977، (وزارة المالية بجمهورية مصر العربية، 1977).

(4) نظرًا لارتباط تخفيض الدعم في ذلك العام، بتحرك جماهيري تاريخي؛ لا نرى بأسًا من تسجيل ما نُشر أيامها وأحدث التحرك. كان التخفيض على النحو التالي (بالمليون جنيه).
* في هيئة السلع التموينية:
ـ 9.3 إعفاء الهيئة من الفوائد المستحقة عن الإعانة/ ـ 20.0 رفع الدعم عن السمسم والحلاوة الطحينية، والطحينة البيضاء والفاصوليا واللحوم المذبوحة، وصابون التواليت، الذي صدرت به قرارات خلال 1976/ ـ 37.5 انخفاض الأسعار العالمية للسلع التي تستوردها الهيئة/ ـ 54.6 خفض في أسعار القمح من 70 ج للطن إلى 50 ج للطن/ ـ 42.4 لإلغاء دعم الدقيق الفاخر/ ـ 24.1 لإلغاء دعم الأرز/ ـ 5.1 لزيادة أسعار السكر الحر، بمقدار 10 مليم عن كل كيلو سكر ناعم ومبلور، 20 مليم عن كل كيلو من السكر الماكينة/ ـ 0.7 لإلغاء دعم الشاي/ ـ 18.4 رفع الدعم عن الشحوم الحيوانية؛ ليباع بسعر التكلفة، وكذا رفع الدعم عن الصودا الكاوية وزيت رجيع الكون، المُستخدم في صناعة الصابون/ + 5.7 زيادة دعم الشحوم الغذائية؛ نتيجة الاستيراد بالسعر التشجيعي/ ـ 6 زيادة مبيعات الأرز المُعبأ، ورفع سعر البيع للأرز النتورال والمخصص، بمقدار قرش عن كل كيلو/ + 6.8 زيادة؛ نتيجة ارتفاع سعر شراء الطن للأرز الشعير بمبلغ 10 ج للطن؛ تنفيذًا لقرار رئيس مجلس الوزراء/ إجمالي الخفض = ـ 205.6 مليون جنيه.
دعم الغزل والنسيج:
  • ـ 52.9 منها ـ 56.4 لإلغاء الدعم على الأقطان الخام المستخدمة في إنتاج الأقمشة والغزل، فيما عدا الأقطان المستخدمة في الأقمشة الشعبية + 3.5 نتيجة زيادة استهلاك المغازل المحلية للأقطان الخام.
صندوق موازنة الحاصلات الزراعية:
  • ـ 23.9 لخفض أسعار الأسمدة عالميًّا، وانخفاض الكميات المستوردة؛ نتيجة لزيادة الإنتاج المحلي.



الهيئة العامة للبترول:
  • ـ 2.8 أصلها خفض قدره ـ 5.1 لإلغاء نصف دعم البوتاجاز، وتسعير الأنبوبة بمبلغ 95 قرشًا، + 2.3 لزيادة الاستهلاك وارتفاع أسعار البوتاجاز عالميًّا.
هيئة الائتمان الزراعي وبنوك التسليف:
+ 1. 3 لمواجهة الارتفاع في أسعار الفائدة إلى 7 %.
هيئة النقل العام بالقاهرة:
  • ـ 0.1 لزيادة الإيرادات بمبلغ 2.1 مقابل 2 زيادة في أعباء الأجور والمستلزمات.
هيئة نقل الركاب بالإسكندرية:
  • + 1.1 زيادة في أعباء الأجور والمستلزمات.
ورق الصحف:
  • + 1.0 طبقًا للمستحق لدور الصحف، على أساس الأسعار الرسمية. + 4.5 نتيجة لقرار اللجنة العُليا للتخطيط (3/ 1/ 1977) بشأن استيراد ورق الصحف بالأسعار التشجيعية مع تحميل الدعم بالفرق بين السعر الرسمي والسعر التشجيعي.
الهيئة العامة لتعاونيات البناء:
  • + 0.1 نتيجة الزيادة لحجم الإقراض للإسكان. راجع البيان المالي، المرجع السابق.
(5) القيسوني يتكلم بعد العاصفة: "قدمت استقالتي؛ حتى لا أُحرِج الحكومة والحزب، لا يمكن أن يبدأ الإصلاح الاقتصادي، قبل موازنة الميزانية"، حديث إلى سعيد سنبل، أخبار اليوم، (22/ 1/ 1977).
(6) "بيان السيد/ رئيس مجلس الوزراء ردًّا على طلبات الإحاطة التي تَقدَّم بها بعضُ أعضاء مجلس الشعب من حزب مصر"، مضبطة الجلسة 17 (29/ 1/ 1977) الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب. ومن الطريف أن الحكومة قبل أحداث يناير، وفي اجتماعها مع الهيئة البرلمانية لحزب مصر لعرض مشروع الميزانية، ركزت على موضوع التوسع في الاستيراد بالسعر التشجيعي، (على أساس أنه قد يكون أقل إثارة؛ بسبب عدم انكشاف آثاره أمام الكثيرين) وتجاهلت الحديث عن موضوع الدعم، ومن هنا كانت مفاجأة الأعضاء، حين عرضت الموازنة في الجلسة العامة لمجلس الشعب، انظر الأهرام عدد (17 يناير 1977). وبعد أحداث كانون الثاني/ يناير أصبح التركيز على الحديث على قرارات الدعم بعد أن تم سحبُها، وأخفت الحكومةُ حكاية السعر التشجيعي.
(7) كانت الاستجوابات المقدمة إلى رئيس مجلس الوزراء كالتالي: 1 ـ استجواب من د. محمود القاضي (مستقل) بشأن قرارات رفع أسعار بعض السلع مخالفة ما التزمت به الحكومة في بيانها الذي وافق عليه المجلس، وعن التزام الحكومة النظرَ في أمر لجان تقدير إيجارات المساكن؛ مما ينتج عنه ارتفاع إيجاراتها. 2 ـ استجواب من محمد أحمد عبد الشافي (حزب الأحرار الاشتراكيين) بشأن ما اتخذته الحكومةُ من إجراءات اقتصادية، زادت بمُقتضاها المعاناة على تحالف قوَى الشعب، مما يضرُّ بالنظام. 3ـ استجواب من كمال الدين حسين (مستقل) بشأن قرارات رفع أسعار بعض السلع، دون الرجوع إلى مجلس الشعب وأخذ موافقته عليها طبقًا للمادة 115 من الدستور. 4 ـ استجواب من ممتاز نصار (مستقل) بشأن القرارات الاقتصادية التي نفذتها الحكومة قبل عرضها على مجلس الشعب؛ مما ترتب عليه إثارة الجماهير وتخريب بعض المرافق. 5 ـ استجواب من أحمد ناصر (مستقل) عن الأحداث الأخيرة وسياسة الحكومة الاقتصادية وتصرفاتها لمعالجة الموقف، وما سقط من ضحايا؛ قتلى وجرحى. 6ـ استجوابات من د. محمد حلمي مراد (اقتصادي مستقل) بشأن قرارات رفع أسعار بعض السلع، ووضعها موضع التنفيذ قبل عرضها على مجلس الشعب مما أثار تذمر الشعب، ومعالجة الموقف من ناحية الأمن بطريقة غير موفَّقة. 7 ـ استجواب من فاروق متولي (مستقل ناصري) عن استخدام قوات الشرطة للذخيرة الحية في أول مواجهة لها مع المتظاهرين، دون التدرج في استخدام وسائل التفريق الأخرَى؛ مما ترتب عليه إصابة وقتل عدد من أفراد الشعب الأبرياء. 8ـ استجواب من عادل عيد (مستقل إخواني) عن سلامة قرارات رفع الأسعار، وزيادة الرسوم ومدى مشروعية إصدار تلك القرارات قبل الرجوع إلى مجلس الشعب ـ مضبطة الجلسة 17 (المرجع السابق) ـ
لم يقدر لهذه الاستجوابات أن تناقَش أبدًا.

(8) "تقرير لجنة الخطة والموازنة عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1977"، مضبطة الجلسة 26 (22/ 2/ 1977)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(9) كشف عن هذه الحقيقة خطاب النوايا الذي لم تطلع على نصه إلا دائرةٌ محدودة جدًا من كبار المسئولين، لا تشمل كل الوزراء. وإلى جانب إخفاء الطابع المؤقت لصندوق موازنة الأسعار، علق القيسوني بأن الزيادة السعرية المترتبة على الـ 200 مليون جنيه في حدود 2/ 31 % (على أساس أن الناتج المحلي المستهدَف 600 مليون جنيه)، وأنها بالتالي زيادة بسيطة، المغالطة هنا أنه قاسَ أثر الزيادة السعرية بنسبتها إلى إجمالي الناتج المحلي، وينبغي - إلى جانب ذلك- حسابُ أثر زيادة أسعار المستلزمات المستوردة بالسعر التشجيعي بالنسبة للسلع المختلفة المنتجة محليًّا، وسيتضح في هذه الحالة أن الزيادة في أسعار هذه السلع وصلت إلى 10 ـ 15 %، وكثير منها سلع ضرورية لاستهلاك القطاعات الفقيرة. ومع ذلك فإن قضية سعر الصرف لا تقاس أصلاً بهذه العلاقة المباشرة والبسيطة، برفع بعض الأسعار المحلية، فقضية سعر الصرف جزء من سياسة متكاملة، تهدف إلى تصفية حق الدولة في إنشاء هيكل مستقل للأسعار، وتتضمن هذه السياسة ـ في جملتها ـ بالتالي تصفية قدرة الدولة على التحكم في معدلات التضخم المحلية، وتوزيعها على الفئات الاجتماعية المختلفة. ونجاح الصندوق في جبهة سعر الصرف كان مدخلاً وسندًا هامًا، لمحاولاته في فرض باقي السياسات المطلوبة.
(10) بيان القيسوني، (28/ 5/ 1977)، مرجع سابق.
(11) انظر الجريدة الرسميَّة، (3/ 2/ 1977)، العدد 5 "تابع".
(12) د. عبد المنعم القيسوني: "حديث في باب اقتصاديات"، المصور، (11/ 2/ 1977).
(13) "باب اقتصاديات"، المصور، (21/ 1/ 1977).
(14) لم يتضحْ هذا الكلام في البيانات العلنية أمام مجلس الشعب، ولكن انظر خطاب النوايا.
(15) كانت هذه الإشاعات في بعض الدوائر العليا، وكانت نوعًا من الرسالة إلى من يعنيهم الأمرُ في الخارج. وفي نفس الوقت كان كثيرٌ من تعليقات الصحف يَتهم الشيوعيين بتدبير الأحداث، وحين تحدث ممدوح سالم في مجلس الشعب (29 كانون الثاني/ يناير). ركز أيضًا على التآمر اليساري الموجه من الخارج، والمستهدف وثوبُ المتآمرين إلى الحكم عن طريق العنف. وقد علقت الطليعة (في عددها الأخير ـ شباط/ فبراير 1977) على هذا الخط. انظر العدد الأخير من مجلة الطليعة (فبراير 1977): لطفي الخولي، "جماهير يناير بين الحكومة واليسار"/ أبو سيف يوسف،... "ولكن هل تعلمون شيئًا؟"/ محمد سيد أحمد، "علاج أحداث يناير بمنهج التدبير التآمري!"/ عادل حسين، "من المسئول؟ ومن يتحمل عبء الأزمة؟" وجاء في مقال الكاتب الأخير "نكتب هذا المقال والبعض يلخص أحداث يناير الرهيبة والتاريخية، كما سبق أن لخص في السابق كل إضراب في مصنع أو أي مظاهرة أو مسيرة، بأنها مجرد مؤامرة شيوعية تنفذ مُخططًا خارجيًّا. ونحن نحسن الظن بمن يروِّج لهذا الكلام؛ بمعنى أننا نتصور أنه يدرك قصور أو كذب مثل هذا التحليل، ولكنه يروج الكذب والتضليل عامدًا وفق حسابات ومصالح. فالمسئولون عن السياسة القائمة ـ وخاصة بعد أحداث ينايرـ يسعون إلى إبعاد الأنظار عن السبب الحقيقي خلف التحرك الجماهيري، والذي يتمثل في نتائج سياستهم، إنهم يبحثون عن سبب يبعدهم عن دائرة المحاسبة والمُساءلة. ومن ناحية أخرى، فإن الإلحاح على "المؤامرة الشيوعية التخريبية" يمكن أن يخلق أو يعمِّق التناقضات بين القوَى الوطنية التي تعارض سياسة الحكومة، وكذلك فإن شبح الشيوعية قد يدفع الدول النفطية المحافظة إلى مد يد المعونة، فقد تنهال علينا الأموال إذا أُدخل في رَوع دول النفط المحافظة أن الشيوعية على الأبواب. أعتقد أن هذه العوامل خلف الدعاية المحمومة التي تنتشر هذه الأيام، ولكن الأمر يتحول إلى كارثة مُحققة
لو صدَّق أصحابُ الأكذوبة أنفسهم، وانصرفوا عن بحث الأسباب الحقيقية خلف الأحداث". ولكن رغم ذلك ظلت الإشاعات، وبعض الشواهد القوية، تدل بعض (الدوائر العليا) على أن الرئيسَ السادات ينتوي إحداث تعديل في السياسة والوزارة. وكان سيد مرعي ومصطفَى خليل ـ على سبيل المثال ـ من المفاجئين بما جاء في خطاب 4 فبراير.
ولم يعلما أن الرئيس غير اتجاهه في اللحظة الأخيرة عقب تلقيه لرسالة عاجلة حملها إليه ممدوح سالم وإسماعيل فهمي.

(16) حديث إلى واشنطن بوست، نقلاً عن الأهرام، (2/ 1/ 1977).
(17) الأهرام، (15/ 1/ 1977).
(18) "المؤتمر الصحفي بعد مُحادثات الرئيس السادات، وسيروس فانِس"، الأهرام، (18/ 2/ 1977).
(19) "حديث إلى التليفزيون الأمريكي" نقلاً عن الأهرام، (28/ 2/ 1977).
(20) "حديث السادات إلى ممثلي الصحافة في مطار القاهرة"، الأهرام، (1/ 3/ 1977.
(21) "المؤتمر الصحفي"، الأهرام، (18/ 2/ 1977)، مرجع سابق.
(22) "حديث إلى التليفزيون البريطاني"، نقلاً عن الأهرام، (22/ 2/ 1977).
(23) "حديث إلى القيادات الفلسطينية"، نقلاً عن الأهرام، (22/ 3/ 1977).
(24) راجع الأحاديث مع الصحفيين الألمان، الأهرام، (29/ 3/ 1977)، ومع إريك رولو ـ لوموند، نقلاً عن الأهرام، (5/ 4/ 1977).
(25) نقلاً عن الأهرام/ (2/ 7/ 1977).
(26) "حديث السادات" إلى Time (January 2nd, 1977).
(27) "Carter's Pre – Election peace" The Middle East, (April 1979)
(28) د. حامد السايح، "بيان أمام اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب"، (13/ 2/ 1977).
(29) "بيان د. عبد المنعم القيسوني ـ والمناقشات حوله"، (28/ 5/ 1977)، مرجع سابق.
(30) إبراهيم نافع: "اجتماعات المجموعة الاستشارية في باريس: نادي الأصدقاء ـ كيف تكوّن.. وماذا تريد مصر منه"، الأهرام، (6/ 5/ 1977).
(31) د. محمد حلمي مراد، "مناقشة بيان د/ عبد المنعم القيسوني"، جِلسة 28/ 5/ 1977، مرجع سابق.
(32) خلاصة خطاب النوايا المُقدَّم إلى صندوق النقد الدولي، (البنك المركزي المصري ـ من المحافظ إلى مجلس الإدارة، 1977).
(33) "Egypts development strategy. Economic Reforms and Growth Objectives 1976 – 80".
A Policy statement, pp 1 – 2.
(34) خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1976، مرجع سابق.
(35) مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن عام 1977، (القاهرة: وزارة التخطيط، يناير 1977)، ص ص 4، 6.
(36) المرجع السابق، ص 6.
(37) A Policy statement, op. cit. items 11 – 14.
(38) Ibid, items 28 and 29.
(39) Ibid, Item 70.
(40) Ibid, item 43.
(41) نعتمد في عرض المضمون الأساسي للنقطتين المحذوفتين على رواية بعض المصادر المطلعة للمؤلف، ونعتقد في صحة الرواية على أساس اتساقها مع الوقائع والتطورات المُختلفة.
(42) "بيان د. عبد المنعم القيسوني"، جلسة 28/ 5/ 1977، مرجع سابق.
(43) "بيان ومناقشة د. القيسوني، جلسة 28/ 5/ 1977، مرجع سابق.
(44) ماجد عطية، المصور، (15/ 4/ 1977).
(45) International bank for reconstruction and development EGT – 78 – 8 – 1, (June 14, 1978).
(Paris: consultative group for the Arab republic of Egypt, Wednesday to Friday, June 14 – 16, 1978) for official use only, restricted.
ولا أعلم إذا كان ممثل ستانلي مورجان قد اشترك أيضًا في الوفد المصري إلى المجموعة الاستشارية الأولى، أو تعذر هذا بسبب أن لقاء المجموعة تم مباشرة، بعد توقيع الاتفاقية التي أنشأت حقوقه.
(46) ماجد عطية، المصور عدد (22/ 4/ 1977) وعدد (29/ 4/ 1977).
(47) رُتبت الوفودُ حسب الترتيب الوارد في "بيان د. القيسوني" جلسة 28/ 5/ 1977.
(48) Consultative group for the Arab republic of Egypt (Paris: Wednesday and Thursday, May 11 and 12, 1977).
Document of the world bank
For official use only. Confidential.
(49) Address of Dr, A. M. Kaissouny deputy prime minister, Arab Republic of Egypt. (Paris: consultative group, 11 – 5 – 1977).
(50) Statement by Mr. J. W. Gunter, of the internaitional monetary fund (Paris, Consultative group of the Arab Republic of Egypt. Wednesday and Thursday, May 11 and 12. 1977). Document of the world bank, for official use only, confidential.
(51) World bank, Statement on financial support for Egypt, by Mr. Wiliam S. Humphry. (Paris: consultative group for the Arab republic of Egypt, 1977).
(52) د. لطفي عبد العظيم "السيولة ليست المشكلة الأولى، الأهرام الاقتصادي، عدد (أول يونيو 1977).
(53) سمع المؤلف هذا الكلام من مصدر مطلع.
(54) كان الفريق من: Klaus Billerbeck, Christian Heimpel, Wolfgang Hillelarand Hans Helmat Taake and Dieter Weiss وكلهم أصحاب خبرة رفيعة مرتبطة بالمجالات المختلفة للمهمة.
(55) اشتمل التقرير على الفصول التالية:
1- استراتيجية التصنيع.
2- دور رأس المال الخاص.
3- إصلاح الإدارة الصناعية.
4- استراتيجية التنمية الزراعية.
5- الأسعار الزراعية كأداة لتسيير الإنتاج الزراعي.
6- الترتيبات الجديدة لدعم الغذاء.
7- إصلاح ميكانيزمات ومؤسسات اتخاذ القرارات الزراعية.
8- الاستخدام المتزايد لقطاع الخدمات.
9- احتياجات الهياكل الارتكازية في النقل والمواصلات.
10-توجيه النظام التعليمي نحو الإنتاجية والأداء.
11-اتجاهات في سياسة العمالة.
12-تنظيم تخطيط الأسرة.
13-إجراءات السياسة الاجتماعية.
14-العناصر الأساسية في برنامج الإسكان.
15-صياغة السياسات والبرامج والمشروعات.
16-إصلاح الموازنة العامة.
17-تعبئة رأس المال الداخلي.
18-التنوع الإقليمي لوادي النيل والدلتا وخفض الهجرة من الجنوب إلى الشمال.
19-مهام القطاع العسكري في عملية التنمية.
20-التعاون في التجارة الخارجية.
21-الصرف وضوابط التجارة.
22-إسهامات أقطار OECD والدول العربية النفطية، وإيران والأقطار الاشتراكية، والمنظمات الدولية في إنعاش الاقتصاد المصري وفي حل مشكلة الدَّين الخارجي.
(56) تتصدر التقرير مقدمةٌ تعرِض خلاصة ما اشتمل عليه البحث، وتنقسم هذه إلى أربعة أقسام:
1- إسهام الأقطار الأخرى والإسهام الخاص بمصر.
2- الأسس الاستراتيجية المصرية للتنمية.
3- أهم الخطوط الاستراتيجية الموجهة للتنمية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات.
4- الإجراءات المدعمة اجتماعيًّا، والإجراءات التعليمية والإقليمية لسياسة النمو. وقد أشار موللر إلى أهم النتائج الواردة في هذه الأقسام، في رسالة مرفَقة بالتقرير، وموجهة للرئيس تبدأ بـ: Honoured president of Arab Republic of Egypt وهذه الرسالة مرجعنا فيما ننقله من نتائج البعثة الأوروبية.
(57) "حديث د. عبد المنعم القيسوني إلى سعيد سنبل"، أخبار اليوم، (22/ 6/ 1977).
(58) نقلاً عن مصدر خاص للمؤلف.
(59) كافة البيانات عن التقديرات التي قام على أساسها "قانون التصفية" مصدرها: World Bank report no. 1624 – EGT, Op cit. P. P. 34 – 356. A Policy statement, Op. cit.. Paragraph 28.
(60) إعلان السياسة بحكم تركيزه على استراتيجية التنمية والسياسات الملائمة، عالج قضية الاستثمار الخاص الأجنبي والمصري بتفصيل أكثر، واتفاقيات هيئة الخليج وتشيزمانهاتن بحكم ارتباطها بقضايا العجز المباشر لميزان المدفوعات ركزت أكثر على ارتباطها بصندوق النقد، ولكن في المفاوضات السابقة على توقيع اتفاقية هيئة الخليج أصرت الدول النفطية الخليجية على شرط قبول مصر تعديل قانون الاستثمار وفقًا لمطالب المستثمرين، وعلى رأسها تعديل سعر الصرف الذي يعامل به المال الأجنبي المستثمر (انظر المصور عدد (15/ 4/ 1977)، مرجع سابق.
(61) د. محمد إبراهيم دكروري (رئيس اللجنة المشتركة)، مضبطة الجلسة 44 (11/ 5/ 1977). الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(62) مصطفى كامل مراد (رئيس حزب الأحرار الاشتراكيين)، مضبطة الجلسة 43 (10/ 5/ 1977)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(63) اللجنة المشتركة من اللجنة الاقتصادية ومكتبي اللجنة التشريعية ولجنة الخطة والموازنة: "تقرير عن مشروع قانون لتعديل بعض أحكام نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة الصادرة بالقانون رقم 43 لسنة 1974" ـ التقرير السبعون (مشترك 11)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب، (28/ 4/ 1977).
(64) توفيق عبده إسماعيل (المقرر) مضبطة الجلسة 43 (10/ 5/ 1977) الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(65) سيد مرعي: مضبطة الجلسة 43 (10/ 5/ 1977) الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(66) قال د. العطيفي مثلاً بالنسبة لشركات التأمين "إن مؤسسة البنوك والهيئة العامة للاستثمار تحرص الآن على وقف هذا السيل المنهمر من إنشاء بنوك عبارة عن شقق صغيرة
أو فيلات تسمَّى بنوكًا، وتقوم بأعمال مصرفية جارية عادية؛ مما يمكن أن يقوم بها أي بنك وطني.. وقد سبق أن وقفنا عند شركات التأمين؛ لأن التأمين عبارة عن شركة تجمع مدخرات المصريين، وتستثمرها وتربح أرباحًا ضخمة، ونحن مطالبون طبقًا لهذا القانون بتحويل هذه الأرباح" ـ د. حلمي مراد "لسنا في حاجة إلى شركات أجنبية في مجال التأمين؛ لأنها تعبئ المدخرات في الداخل؛ لتخدم الاقتصاد الأجنبي في الخارج، وهذا ليس في صالح مصر، بل بالعكس فهو يضربها. وقد عانينا من ذلك كثيرًا؛ فقد مصَّرنا شركات التأمين أثناء عملية التمصير في عام 1956، ولمست بنفسي عمليًّا كيف أن هذه الشركات الأجنبية، تمتص خيرات مصر وتوجهها للخارج".

علق سيد مرعي في نفس الجلسة "لقد قرأت هذا المشروع بقانون قراءة جيدة، وأرى أن الجزء الخاص بالتأمينات، يتفق مع ما ذكره الدكتور جمال العطيفي والدكتور حلمي مراد، وإنني أتساءل: هل نحن في حاجة إلى مزيد من شركات التأمين؟!"، انظر مضبطة الجلسة 43، المرجع السابق.
وبالنسبة للأراضي الزراعية قال مثلاً د. محمود القاضي: "إن هذا المشروع بقانون يفتح الباب على مصراعيه، ويُبيح ملكية العقارات والأراضي أعضاء والأراضي الزراعية والأراضي الصحراوية للأجانب، وإنني أريد أن أتساءل: كيف ستقاوم مصر هذا السيل المنهمر من الأموال العربية التي تستطيع تحت هذا النص أن تشتري كل مساحة الأراضي الزراعية؟... وإنني أعتقد أنه
لا يوجد في هذا المجلس عضو واحد يسمح له ضميره أن يوافق على مثل هذا النص" ـ وقال محمود أبو وافية: "إن الأراضي الزراعية تختلف عن الأراضي الفضاء وغيرها من الأراضي،
ولا يجب - بأيَّة حال - من الأحوال السماح للأجانب يتملك أرض زراعية؛ لأن الفلاح المصري أولَى بكل قيراط أو نصف قيراط من الأرض"، مضبطة الجلسة 44، مرجع سابق.

وبالنسبة لبيوت الخبرة والمكاتب الفنية والاستشارة قال د. العطيفي "إن مشروع القانون يعني أنني إذا أنشأت ـ كرجل قانون ـ مكتبًا للخبرة في العلامات التجارية وبراءات الاختراع، فإن كل ما أحصل عليه من إيرادات لا أدفع عنه ضرائب، حتى الضريبة التي تتعلق بنشاط المهن الحرة لمدة خمس سنوات، في حين أن المحامي الذي يقوم بالمرافعة في جنحة بمدينة إسنا، ويحصل على مقابل أتعاب قدره خمسة جنيهات، يدفع ضريبة عنها. ثم توسعت المادة في تحديد مجالات الاستثمار، فشملت مكاتب التمثيل الإقليمي، أي أن من يفتح مكتبًا لتمثيل شركة أو أكثر من الشركات الأجنبية داخل جمهورية مصر العربية ـ وهذا موجود في صورة الوكالات التجارية المختلفة ـ لن يدفع أيضًا أي نوع من أنواع الضرائب لمدة خمس سنوات. وهذه ليست مشروعات إنتاجية" وقال د. حلمي مراد "المكاتب الاستشارية تحقق أرباحًا كبيرة، وأيضًا التوكيلات والتمثيل التجاري التي تحصل أيضًا على عمولات لمجرد التوقيع على أي عقد، أو عند بيع كل سيارة بالداخل بالنسبة لتوكيلات شركات السيارات الأجنبية؛ فكيف نعفي من الضرائب أمثالَ هذه المكاتب الاستشارية أو التوكيلات والتمثيل التجاري، وهي تحقق أرباحًا ضخمة، في حين أن العامل أو الموظف الكادح، الذي يعمل بالحكومة ويتقاضَى راتبًا شهريًّا محددًا تُحصَّل منه الضرائب؟.. فهل أصحاب هذه المكاتب والتوكيلات في حاجة إلى تشجيع، حتى نعفيهم من الضرائب، في حين أنهم في الحقيقة يسعَون للحصول على مثل هذه التوكيلات والتمثيل التجاري لتحقيق الأرباح الطائلة من ورائها؟ والواقع أننا نريد أن نضع ضوابطَ محددة لهذه التوكيلات؛ لأن التوسع في مثل هذه المجالات يحتاج إلى إعادة نظر" ـ وأشار أبو العز الحريري إلى أن إقامة مثل هذه المكاتب, لم يكن مسموحًا للمصريين (يقصد في الفترة من 1961 إلى الانفتاح)، ثم فكرنا بعد ذلك بأن نسمح للمصريين بفتح هذه المكاتب، وبالفعل قررنا أن يكون للمصريين وحدهم هذا الحق، فكيف نأتي الآن ونجعل أمر إنشاء هذه المكاتب مسموحًا به للأجانب، بل ونعفيهم من كل أنواع الضرائب؟"، مضبطة الجلسة 43، وتحدث في نفس الاتجاه محمود أبو وافية فاقترح: "رفع النص الخاص بمكاتب التمثيل الإقليمي؛ لأن نشاطها يقتصر فقط على مجرد تأدية الخدمات، وشأنها في ذلك شأن شركات التأمين، وهذا ليس استثمارًا.. وقد تبيَّن لي بعد مناقشة الموضوع مع كثير من الزملاء - أنه يجب رفع مكاتب التمثيل الإقليمي وشركات التأمين الأجنبية، من ممارسة نشاطها بمصر، وقصر هذا النشاط على المصريين فقط. مضبطة الجلسة 44 ـ وقال سيد جلال: "عندما نوافق على الاستثمار (الأجنبي) يجب أن تقتصرَ موافقتنا على الاستثمار الإنتاجي، أما أن نفتح الباب للاستثمار الخدمي، ونعفيه من الضرائب، فسوف يترتب على ذلك أن تغلق مصلحة الضرائب أبوابها"، مضبطة الجلسة 49. وبالنسبة للمقاولات، قال أبو العز الحرير: إن شركات المقاولات الأجنبية "تتوافر لديها الإمكانياتُ الحديثة، وبأعلى مستوى من التكنولوجيا، فإذا سمح لها بالعمل في بلادنا؛ فإنها سوف تؤثر على المقاولين المصريين، وهذا يعني أننا نوجه ضربة قاضية للرأسمالية المصرية التي تعمل في قطاع المقاولات.. وبالتالي فإن سلطة إصدار القرارات، ستكون بيد الشركات الأجنبية، وهذا يعني أنه لن يكون لنا أي تأثير على القرارات"، وتساءل محمود القاضي: "هل الشركات لتشغيل عمالنا في الداخل؟ إن لدينا نحو نصف مليون عامل بناء يعملون في مجالات التشييد والبناء بكافة الدول العربية. هذه الدول كلها تُبنَى بشركات مصرية خاصة وعامة، تُبنى بأيد مصرية من العمال والمهندسين المصريين، فهل بعد ذلك يعرض علينا هذا المشروع بقانون، وقد تضمَّن مجال المقاولات؟ ألا توجد لدينا شركات للبناء، ومن ثم يجب أن نسمح لرأس المال الأجنبي أن يعمل في مجالات المقاولات، وما أدراك ما المقاولات!" مضبطة الجلسة 44.
(67) د. جمال العطيفي، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977).
(68) مضبطة الجلسة 43 (16/ 5/ 1977)، مرجع سابق.
(69) انظر: ماجد عطية، باب اقتصاديات، المصور، عدد (8/ 7/ 1977).
(70) انظر: أبو العز الحرير وعادل عيد وآخرين، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977).
(71) من "الطريف" أن قضية الإشارة إلى حق الدولة في رفض رءوس الأموال التي ترد من دول معادية، أُثيرت بحرج عجيب، فاستخدم أبو واقية تعبير الدول التي لا نقيم معها علاقاتٍ سياسية، وحين ضرب مثالاً قال: "جنوب أفريقيا"! وظلت المناقشة تدور حول جنوب أفريقيا، حتى تجرأ أحدهم وقال: إن "الجنسيات المعادية لا تتمثل خطورتُها فقط في بلد كجنوب أفريقيا، بل إنها تمتد أيضًا لتشمل بلدًا كإسرائيل"!، مضبطة الجلسة 44 (11/ 5/ 1977).
(72) مثلاً قال د. العطيفي في كلمته الافتتاحية إن الدول الأخرى لا تعطي للمستثمرين في تشريعاتها مزايا كتلك التي تعطيها تشريعاتنا وفقًا للقانون 43 "وليست المسألة بالدرجة الأولى هي مسألة إضافة مزايا جديدة إطلاقًا" ـ وقال د. حلمي مراد: "لسنا في حاجة إلى التزيد في الإعفاءات؛ بحيث يصل الأمر إلى الإعفاء الكامل، في حين أن المطلوب هو مجرد أن تكون الضرائب مفروضة بالنسب المعقولة وبالقدر المقبول؛ لأن كل المشروعات الاقتصادية في بلادها تلتزم بدفع ضرائب؛ ولذلك فليس من المعقول أن يأتي مستثمر ويتصور أنه لن يدفع ضرائب".. "ولو سألنا المستثمرين الأجانب عن الأسباب التي تعوق جلب رءوس أموالهم لاستثمارها في مصر، وهل هي الضرائب أو هي أسباب أخرى؟ سنجد أنها أسباب أخرى بلا شك" مضبطة الجلسة 43 (10/ 5/ 1977).. ـ وممتاز نصار "مما لا شك فيه، أن هناك قواعد أصبحت مستقرة في وجدان الشعب وضميره؛ وهي قواعد متصلة بالنظام العام، ومن ثم فإنه لا يجوز الاستثناء من هذه القواعد التي من بينها تحديد ساعات العمل، ومشاركة العمال في الإدارة والأرباح، فهذه المزايا التي تقررت لعمال مصر نصت عليها المادة 26 من الدستور، ومن ثم فإنها مزايا مستقرة؛ إذ تضمنتها نصوص آمرة متعلقة بالنظام العام، ولهذا لا يجوز - بأيَّة حال من الأحوال - وضع أي استثناء عليها. مضبطة الجلسة 45 (12/ 5/ 77).
(73) د. محمد علي رفعت، "الاستثمارات الأجنبية في مصر: ماضيها وحاضرها ومستقبلها في الميزان"، المؤتمر العلمي السنوي الخامس للاقتصاديين المصريين، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، القاهرة 27 ـ 29 مارس/ آذار، 1980، انظر: الحصر المفصل عن الاستثناءات الواردة في قانون الاستثمار، والتعليق عليها، ص ص 17 ـ 27.
(74) قال رئيس اللجنة المشتركة "كيف يحق لنا، أو كيف نقبل هنا، أن يسمح للأجنبي ما لا نبيحه لابن مصر؟ كيف يقال هذا" ـ وأضاف عضو اللجنة كمال صقر: "إن اللجنة هي التي أضافت هذا النص؛ لأنه بعد صدور القانون رقم 43 لسنة 1974، الذي نص على أن يتمتع رأس المال المصري بالمزايا في المشروعات الواردة في إطار الخطة، أو التي يوافق عليها مجلس الوزراء. وبعد انقضاء ثلاث سنوات على صدور القانون، فإننا لا نجد لتطبيقه أثرًا يُذكر"، مضبطة الجلسة 44 (11/ 5/ 1977).
وفي الصياغة النهائية للقانون 32 لسنة 1977 بتعديل بعض أحكام نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، كان نص المادة 6 كالتالي:
"تتمتع المشروعات المقبولة في جمهورية مصر العربية وفقًا لأحكام هذا القانون، وأيًّا كانت جنسية مالكيها، أو محال إقامتها بالضمانات والمزايا المنصوص عليها في هذا القانون، كما تتمتع المشروعات التي تنشأ بأموال مصرية مملوكة لمصريين في أحد المجالات المنصوص عليها في المادة 3 من هذا القانون بالمزايا والإعفاءات الواردة في المواد 9 (التحرر من نظم ولوائح القطاع العام)، 14 (فتح حسابات بالنقد الأجنبي)، 15 (حرية التصدير والاستيراد)، 16 (الإعفاءات الضريبية المؤقتة)، 17 (إعفاء ضريبة الإيراد العام)، 18 (إعفاء قروض النقد الأجنبي من الضرائب والرسوم) وذلك بشرط موافقة الهيئة للقواعد وبالإجراءات المنصوص عليها فيه (شرح المواد بين الأقواس للمؤلف).
وتسري الإعفاءات - المُشار إليها - على الشركات المساهمة القائمة وقت العمل بهذا القانون، في حدود ما تستحدثه عن طريق زيادة رأس المال باكتتاب نقدي في إنشاءات أي مجال من المجالات المنصوص عليها في هذا القانون، بشرط موافقة الهيئة".
(75) سيد جلال، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977)، تدخل العضو في المناقشة حول هذه النقطة ثلاث مرات، مركزًا على نفس المعنى.
(76) سيد مرعي، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977)، المرجع السابق.
(77) مع خضوع الحكومة لمطلب السعر التشجيعي ألحت دوائر المستثمرين على تحسين أوضاع الرواد الذين وفدوا إلى مصر أيام كان التعامل بالسعر الرسمي، وكان هذا يعني تطبيق التعديلات التي أدخلها قانون 32 بأثر رجعي، وهو مبدأ يزعج المستثمرين عادة، إلا أنهم أمام المصلحة
لم يترددوا في المطالبة برجعية القانون، ولم تتردد الحكومة بدورها في البحث عن مخرج، وتم التوصل إلى تعويض المستثمرين الأجانب "بعد اجتماعات ومناقشات مستفيضة استمرت على مدى أربعة أشهر تقريبًا، وحضر الاجتماع الأخير نحو 15 خبيرًا عالميًا ومجموعة كبيرة من المستثمرين المصريين" ـ جمال الناظر وكيل أول وزارة الاقتصاد والتعاون الاقتصادي، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977). وهذا الاهتمام بتسوية الحالة كان في حقيقته إعادة تسوية؛ لأن المستثمرين كانوا قد تحايلوا فعلاً على مسألة تقييم أموالهم بالسعر الرسمي؛ سواء بتعيين المستثمر خبيرًا بأجر يعوض الفارق أو باستحضار المستثمرين لآلات المشروع بمعرفتهم ومقومة بسعر أعلى من السعر الحقيقي ـ ثروت شفيق المستشار القانوني بالهيئة العامة للاستثمار، مضبطة الجلسة 49 (16/ 5/ 1977). إلا أن هذه المشكلة التي بذل عناء كبير في حلها، كانت - لحسن الحظ - محدودةَ الحجم؛ لأن الاستثمار الأجنبي الوافد منذ القانون 43 وحتى تعديله كان محدودًا جدًا.

(78) عمر أبو ستيت، مضبطة الجلسة 44 (11/ 5/ 1977).
(79) لمراجعة النص الكامل للقانون، انظر "قانون رقم 32 لسنة 1977 بتعديل بعض أحكام نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة الصادر بالقانون رقم 43 لسنة 1974"، الجريدة الرسمية، (9 يونيو 1977) العدد 23 تابع، ومن الأفضل مراجعة ملحق الأهرام الاقتصادي عدد (أول شباط/ فبراير 1978)، ويشمل قانون الاستثمار المعدل واللائحة التنفيذية.
(80) "حديث الرئيس السادات إلى س. بي. إس"، نقلاً عن الأهرام، (5 آب/ 1 أغسطس، 1977).
(81) Times, (January 2nd, 1078)
(82) New York Times, (31. July, 1979).
(83) راجع الصحف المصرية في الفترة (2 ـ 12 آب/ أغسطس 1977).
(84) أسامة الغزالي حرب، "رحلة فانس في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، عدد (تشرين أول/ أكتوبر 1977).
(85) حديث للرئيس السادات Time, (January 2nd, 1978):
(86) انظر: Ibid, P. 11 and the middle east, (April, 1979), p 27. انظر أيضًا عرض الحسابات الإسرائيلية في تلك المواجهة، وأساليب التحرك، كما عرضتها الصحافة الأمريكية، إلياس شوفاني، من تسوية إلى حلف.. طريق بيجن إلى القاهرة، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1979)، ص ص 34 ـ 41.
(87) خطاب الرئيس السادات أمام مجلس الشعب المصري، (26/ 11/ 1977).
(88) حسب رواية مجلة تايمز عدد يناير، مرجع سابق، فإن الفريق أول الجمسي "أبلغ السادات بأن نشوب حرب يعني دمار الجيش المصري... وفي أواخر أكتوبر دفع الجمسي وقادة القوات المسلحة السادات بشدة نحو تسوية سلمية".
(89) كتب شيهان مثلاً بمناسبة مباحثات الكيلو 101، "إن كيسنجر كان حريصًا على فشل المباحثات المباشرة بين الجمسي وياريف؛ ضمانًا لسيطرة الولايات المتحدة على المفاوضات" وأكد أنه "كان بوسْع الجمسي وياريف أن يصلا إلى اتفاق بدون كيسنجر وقبله"، إدوارد شيهان، العرب والإسرائيليون وكيسنجر، مرجع سابق، ص ص 69 ـ 70. ماتي جولان أعاد في كتابه (مرجع سابق) نفس القصة بنفس النتيجة.
(90) Time, (5 December, 1977).
(91) H. Kissinger, "They are fated to succeed", Time, (2 – 1 – 1978).
(92) Chase international finance, (June, 27 – 1977)
(93) I. M. F., Report SM – 78 – 9, op. cit., p. 2.
(94) Ibid. p. 12.
(95) Ibid. p. 13.
(96) "القيسُوني يحذِّرُ من العودة إلى الدوامة! تزايد الاستهلاك ونقص الاستثمارات يهدد بالعودة إلى دوامة القروض قصيرة الأجل ـ مؤشرات جديدة تهدد بزيادة عجز الميزانية ـ مشكلتنا الأولى عدد وجود خطة تنمية واضحة المعالم"، حديث إلى سعيد سنبل (مرجع سابق)، أخبار اليوم، (2/ 7/ 77). من الطريف أن الكاتب الذي أدار الحديث، ذكر أن القيسوني عانى كثيرًا من تعامله مع الأرقام؛ "فالوقفة مع الأرقام في مصر معناها المشقة، ومعناها التعب، والسبب تعدد المصادر للموضوع الواحد واختلاف النتائج. وعندما تختلف النتائج وبالتالي تختلف الأرقام عن نفس الموضوع، يجد الباحث عن الحقيقة نفسه في موقف لا يحسد عليه. يجد نفسه مضطرًا إلى الوقوف أمام الأرقام طويلاً يوازن بينها ويتأمل فيها ليخرج بالرقم الصحيح".
(97) "وزير المالية يصرخ بأعلى صوته: أمامي مخالفات دستورية مطلوب عرضها على مجلس الشعب"، اقتصاديات، المصور، (8/ 7/ 1977).
(98) كان "مانشيت" الأهرام، (18/ 8/ 1977): قرارات هامة لزيادة الدخول الصغيرة وإلغاء الدعم عن بعض السلع ـ الاتجاه إلى زيادة الدخول الصغيرة بنسبة 60 % وصرف شهرين مكافأة سنوية على أربع دفعات ـ تمويل اعتمادات الزيادة من إلغاء دعم بعض السلع ـ عدم المساس برغيف العيش والإبقاء على دعمه ـ رئيس الوزراء يبدأ في الأسبوع القادم دراسات واسعة لتحديد مجموعة من الاختيارات تطرح لمناقشة واسعة في جميع القواعد الشعبية.
(99) إبراهيم نافع، "عقد اجتماعي جديد بين الحكومة والشعب"، الأهرام، (26/ 8/ 1977).
(100) الأهرام، (3 ـ 5/ 10/ 1977).
(101) الأهرام، (6/ 10/ 1977).
(102) Consultation and review of stand – by agreement, I. M. F., Report S M – 78 – 9, op. cit. p. 7.
(103) نُشير هنا إلى ما جاء بتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات عن العام الذي نتناوله هنا (1977) ويتمتع تقرير هذا العام بأهمية خاصة؛ باعتبار أنه عمِد إلى تجميع ملاحظاته المتراكمة عبر سنوات، أو حاول أن يتوصل إلى استنتاجات وتوصيات عامة.
  • في بند الإيرادات: أشار التقرير إلى فوضى تحديد وتحصيل الرسوم والإيرادات، والإعفاء منها دون سند تشريعي (ص 70) ـ أشار أيضًا إلى استمرار تأجير بعض الأراضي بأسعار لا تتلاءم والارتفاع الكبير في قيمتها (ص 73) ـ التراخي في المطالبة ببعض المستحقات (ص 74).
وضمن الملاحظات الخاصة ببعض المصالح ذات الإيراد، أشار التقرير إلى مصلحة الضرائب. رصيد المتأخرات المستحقة للمصلحة في 31/ 12/ 1977 بلغ 167.9 مليون جنيه، ومثل 35 % من الموارد المستحقة للمصلحة (كان نصيب القطاع الخاص من المتأخرات 133.5 مليون جنيه). وسجل الجهاز أن هذه التقديرات - على أيَّة حال - "لا تمثل الواقع على نحو دقيق"... "ومن المسائل الهامة في ضياع مبالغَ على الخزانة العامة، عدم استجابة مصلحة الضرائب إلى بعض آراء الجهاز في تفسير بعض نصوص القوانين السارية، على الرغم من سلامة تلك الآراء" ـ في الدورات التفتيشية للجهاز (بعيِّنات عشوائية) لاحظ الجهاز "تأخير تحصيل بعض الضرائب دون مبرر، أو ربطها على بعض الممولين بأقل من المستحق، كما تبين استمرار عدم حصر ومحاسبة بعض الممولين، وعدم المحاسبة على بعض الأرباح والإيرادات، وعلى الرغم من تحديدها بصفة نهائية، وعدم تضمين أوعية بعض الضرائب بعض العناصر الواجب خضوعها للضريبة، وعدم تطبيق بعض الشرائح الصحيحة، أو منح إعفاءات عائلية دون وجه العناصر الواجب خضوعها للضريبة، وعدم تطبيق بعض الشرائح الصحيحة، أو منح إعفاءات عائلية دون وجه حق أو بفئات تزيد عن المقرر قانونًا، هذا إلى جانب الوقوع في أخطاء مادية وقانونية. وهناك من الظواهر ما يقتصر على ضريبة دون سواها، يخص الجهازُ منها بالذكر، ظاهرةَ إغفال حصر ومحاسبة بعض الممولين عما يستحقون على أنشطتهم من ضريبة على الأرباح التجارية والصناعية؛ مثل تجار قطع غيار السيارات والخردة والمصوغات والمقاولات واستغلال الفنادق والبنسيونات والشقق المفروشة.. ويود الجهاز أن يشير إلى أن شيوع الظواهر التي أُلقِي عليها الضوءُ على النحو السالف بيانه، وتكرار إثارتها بتقارير الجهاز المتعاقبة، أمر يستأهِل أن يوليه المسئولون عنايتهم". (ص ص 78، 88).
وبالنسبة لمصلحة الضرائب العقارية، أشار التقرير إلى ظواهر مشابهة، وإلى التسويف في علاجها، بلغت المتأخرات في آخر 1977 حوالي 46.9 مليون جنيه، ولوحظ "عدم توقيع الحجوز الإدارية نظير جانب كبير من المستحق من الموارد المختلفة". (ص 93).
وفي غاية مصلحة الجمارك، هناك عدم دقة واضحة في تقدير المحصل بالنسبة لبعض بنود الإيرادات. وتضمن الحساب الختامي للمصلحة على السنة المالية 1977 رصيد الحساب للديون المُستحقة للحكومة وتسوية المطلوبات قدره 129.6 مليون جنيه يمثل قيمة المتأخرات المستحقة لها من الموارد المختلفة، وهي تمثل 22 % من قيمة موارد المصلحة المحصلة فعلاً. ولاحظ التقرير أن رصيد المتأخرات خلال المدة من 1973 إلى 1977 بلغ على التوالي (بملايين الجنيهات): 25.5 ـ 56.2 ـ 76.4 ـ 89.1 ـ 129.6. وهذه النظرة "توضح تضاعفه بما يزيد على خمسة أمثال، وهو أمر يعبر بالدرجة الأولى عن عدم حصول المصلحة على جانب من مواردها مع تزايد هذه الظاهرة سنة بعد أخرى، (ص 101 و102). واستخلصت الدورات التفتيشية" الظواهر العامة التي لها سمة الشيوع"... "وتُمثل أهمها في الخطأ في تحديد طبيعة الأصناف والمهمات المستوردة والهدف من استيرادها، وفي تحديد الأسعار التي تُحتسب على أساسها قيمةُ بعض مُستحقات المُصلحة أو في تقييم بعض الرسائل الواردة،
أو في تطبيق فئات بنود التعريفة الجمركية، ونسب بعض الرسوم والغرامات، ومنح بعض الإعفاءات دون مُقتضَى. وبعض المآخذ شابت أعمال المناطق المصرح بإقامتها خارج الدائرة الجمركية، ومظاهر من التلاعب في البيانات الجمركية، وبعض الأخطاء بالنسبة لأوزان الرسائل وبيانات الفواتير. هذا فضلاً عن عدم تحقيق التكامل على الوجه الأمثل، بين المصلحة وغيرها من الجهات، وأهمها مصلحة الضرائب، بما يحقق للأخيرة صحة ربط الضرائب على بعض الممولين. وقد عُني الجهاز بتقصي أهم البواعث التي يسرت شيوع الظواهر المنوه بها، فتبين أنها تتمثل بصفة عامة في عدم تطبيق القوانين والقرارات واللوائح والتعليمات السارية على وجه صحيح؛ بسبب ضعف نظم الرقابة الداخلية والإشراف المالي والإداري على بعض الأعمال، وصدور أحكام في غَيبة المصلحة، أو دون تقديمها دفوع موضوعية، وعدم التزام المستوردين من القطاع العام والخاص، بتنفيذ الإجراءات التي تيسر للمصلحة تحصيل مُستحقاتها على الوجه الأكمل، فضلاً عن توقفهم أو امتناعهم عن سداد هذه المستحقات في بعض الأحوال.

وقد كان من أهم نتائج ذلك، عدم حصول المصلحة على جانب من مواردها بلغ ما أمكن حصره منها، ما يربو على 70 مليون جنيه (ص ص 103 ـ 104) وقد ضرب التقرير بعد ذلك أمثلة محددة وصارخة للظواهر التي أجملها، وقال إنها شائعة ـ وينبغي أن نُذكِّر هنا بأن عمل الجهاز المركزي ـ كجهاز رقابي ـ تناول فقط ضياع إيرادات الموازنة العامة في إطار النسق القائم للتعريفة الجمركية، ونضيف هنا من ناحيتنا (ونقلاً عن دراسات أخرى لوزارة المالية) إن الإعفاءات الجمركية توسعت في السنوات الأخيرة دون أي أسس موضوعية، ويقال إنها توسعت بطريقة عشوائية، وهي تبدو من الخارج كذلك، ولكنها تعكس في الحقيقة أن قرارات الإعفاءات صدرت ـ في أغلبها ـ حسب الخواطر والمصالح وظروف الصفات المختلفة، ومن ثغرة الإعفاءات هذه، تتسرب من الإيرادات المُحتملة للخزانة مئاتُ الملايين من الجنيهات.
وبالنسبة لمصلحة الضرائب على الإنتاج والأعمال، سجل التقرير أن رصيد المتأخرات بلغ 78.7 مليون جنيه بنسبة 26 % من المحصل الفعلي من إيرادات المصلحة (ص 116) وانتقل التقرير بعد ذلك إلى الإيرادات المتأخرة تحصيلها عبر القضاء والنيابة في آخر 1977، كانت متأخرات النيابة العامة 8 مليون جنيه والمحاكم 34.2 مليون جنيه (ص 122).
وباختصار فإن إجمالي المتأخرات بلغ 518.8 مليون جنيه (مع إضافة متأخرات وزارة المالية وهي 54.1 مليون جنيه).
* أما عن الإنفاق الحكومي:
فقد أشار الجهاز إلى المآخذ الخطيرة التي شابت أعمال المخازن والورش الحكومية ـ وإلى ارتباط الأعمال المحاسبية ـ وإلى جانب ضعف نظم الرقابة والضبط الداخلي لبعض مجالات العمل بالوحدات التنفيذية. وقد أوضح الجهاز الأسباب التي يراها واقترح الحلول، وضرب أمثلةً محددة لهذه الملاحظات العامة (ص ص 170 ـ 188). وبالتأكيد أسهمت هذه العواملُ، مع عواملَ أخرى حددها الجهاز في تزايد ما اكتشف من حوادث الاختلاس. ورغم ضآلة المُكتشف بالنسبة للأرقام الحقيقية، لم يتمكَّن الجهاز، من معرفة الحجم الإجمالي لرقم الاختلاسات المكتشفة؛ وفقًا لما ورد بمجلد الحساب الختامي للسنة المالية 1977؛ "لأن بعض الجهات لم تقيد المبالغ المُختلسة بها بحساب الديون المستحقة للحكومة (اختلاسات).. رغم صدور تعليمات وزارة المالية المتتالية في هذا الشأن.. ولم يتضمن التقرير تحليلاً لحوادث اختلاس المبالغ الكبيرة". وذكر الجهاز أنه "سبق أن أشار بتقرير" الختامي والسنوي الاختلاس والسرقة وهي ذات الأسباب التي تكشفت لدى دراسة أهم حوادث الاختلاس التي وقعت بوزارات العدل والتربية والتعليم والمالية خلال عام 1977". واضطر تقرير السنة المالية 1977 إلى أن يسجل مرة أخرى (عوامل تكرار وقوع حوادث الاختلاسات)، ص ص 164 ـ 168.
وفي جانب الإنفاق سجل التقرير أيضًا "شيوع ظاهرة توسع الجهات في صرف المكافآت للعاملين على خلاف القواعد المشار إليها، وعلى الرغم من استمرار الجهاز في تنبيه الجهات إلى تلك الظاهرة، وإدراج بعض الملاحظات المتعلقة بها بالتقارير الدوريَّة للجهاز". ورغم أن مهمة الجهاز رقابية، أي أنه لا يدخل في الأسباب الموضوعية لهذا التجاوز، إلا أنه أشار في أكثر من موضع إلى أن التجاوزات في كثير من الأحيان لا ترتبط بجهد خاص للعاملين. (ص 21 و27) ـ وتناول الجهاز أيضًا عقود التوريدات والأعمال "وتتمثل أهم الملاحظات التي تكشفت في هذا الصدد في عدم تحديد الأسعار النهائية لبعض الأعمال التي أسندت لشركات المقاولات بموجب أوامر تكليف، وإسناد عمليات لمقاولين بالأمر المباشر، دون طرحها في مُناقصات، وقبول عروض عن بعض التوريدات على الرغم من عدم مُطابقاتها للمواصفات، والتراخي في الإجراءات الخاصة بتحديد المواصفات والإعلان عن المناقصات والبت في العطاءات، والتأخير في فحص الأصناف الموردة واستلامها، رغم وجود عيوب فنية بها، وعدم الدقة في المحاسبة على بنود الأعمال والتوريدات وفقًا للأحكام المقررة وشروط التعاقد، فضلاً عن الخطأ في تطبيق بعض القرارات الوزارية.
وقد ترتب على ذلك عدمُ تحديد المراكز المالية؛ سواء لجهات الإسناد أو شركات المقاولات على الوجه الصحيح، وعدم الحصول على أنسب الأسعار، وتكبّد الدولة مبالغ دون مُقتضَى، وعدم صلاحية الأصناف أو الأجهزة الموردة للاستخدام (ص ص 38 ـ 39).
وضرب الجهاز بعد ذلك أمثلة محددة للظواهر التي عينها ـ وبعد هذا انتقل إلى الاستخدامات الاستثمارية وقال إنه: "جدير بالذكر أنه مما استرعَى نظر الجهاز أن هناك العديد من مظاهر التراخي في إنجاز بعض المشروعات، أو عدم تحقيقها الأغراض المستهدفة منها ـ كما تبيَّن له شيوعُ ظاهرة شراء المعدات والأجهزة، منذ سنوات بعيدة دون الاستفادة منها". وعن المشروعات، فقد حرص الجهاز على استخلاص الظواهر العامة التي تجلت بالنسبة له، وهو ما يرى إلقاء الضوء عليه مشيرًا إلى أنها تتمثل في عدم دراسة احتمالات نجاح المشروع قبل البدء في تنفيذه، وعدم صلاحية المواقع التي اختيرت لإقامة بعض المشروعات عليها، وعدم دراسة الإمكانيات المالية والفنية المُتاحة والتي تلزم سواء لتنفيذ المشروع أو لإدارته، وعدم إعداد موازنات تخطيطية وشبكة للأعمال توضح التسلسل المرحلي للتنفيذ، وكذا عدم توفير العناصر الفنية والإدارية والنظام المحاسبي السليم ونظم الرقابة الداخلية بما ينفق والخطط الموضوعة للتنفيذ، وعدم الالتزام بالبرنامج الزمني والمواصفات والاشتراطات الفنية، وعدم التحقق من الكفاءة الفنية للشركات المنفذة، فضلاً عن ضعف الرقابة على التنفيذ" (ص 49).
وقد رأى الجهاز المركزي أن يرفق بتقريره بحثًا أجراه "عن مظاهر الإسراف في إنفاق الأموال العامة"، وبدأه بمحاولة لتعريف الإسراف، فقال إنه يعني لغويًّا (التبذير.. أما المعنى الواسع الذي يمتد إلى التصرفات، فيعني الخطأ والجهل أو الغفلة.. أما التعريف العلمي له فإنه "المبالغة في إجراء نفقات يمكن الاستغناء عنها، دون أن يؤثر ذلك على الأهداف الموضوعة "أو هو" إدارة الوحدة الإدارية والاقتصادية، دون النظر إلى ما قد يترتب على بعض التصرفات من ضياع للقدرات والأموال"، كان يمكن تفاديها
لو تصرفت الإدارة بطريقة سليمة).. وعددت الدراسة الأسباب ـ التي رأتها ـ لشيوع هذه الظاهرة. فقالت إنها نقص الخبرة المتخصصة في المستويات الإدارية ـ "ولا يتوقف الإسراف عند الحد السابق، بل تجد الإدارة غير الواعية، تحاول جذب طبقة معينة من العاملين إليها.. تُغدِق عليهم المكافآت، وتتهاون معهم في تطبيق نظم المراقبة الداخلية؛ فتصبح الثغرات مفتوحة للجميع، ليس فقط منبعًا للإسراف، ولكن كذلك للإهمال" ـ من العوامل أيضًا لجوء بعض الإدارات إلى تضخيم بنود مصروفاتها، من باب الاحتياط؛ حتى لا تقع في مأزق فيما بعد، ويستخدم ما ينشأ عن ذلك من وفورات في غير الأغراض التي خُصصت لها ـ من العوامل أيضًا ما تنتهجه السلطة التنفيذية نفسها من إجراءات، تعطي الفرصة والوسيلة القانونية للإدارات الحكومية للإسراف في النفقة؛ كإلغاء قوانين الحدود القصوَى للمكافآت التشجيعية
أو الجهود غير العادية وتعديل لائحة بدل السفر ومصاريف الانتقال.. إلخ ـ وإلى جانب كل ذلك "نستطيع أن نضيف عاملاً أخيرًا وهو عدم وجود قانون يحاسب العاملين الذين يسرفون في إنفاق الأموال العامة، على حين يساءَل العامل لو اختلس جنيهًا واحدًا في ضوء القانون العام، أمَّا العامل الذي يسيء استعمال الموارد، ويتسبب في تضخيم قيمة النفقات؛ فلا جرم عليه في نظر القانون العام (ص ـ ص 190 ـ 194). واستعرض الجهاز بعد ذلك صورًا للإسراف في المجالات المختلفة.
  • انظر: الجهاز المركزي للمحاسبات، (الإدارة المركزية للرقابة على الجهاز الإداري للدولة)، التقرير الختامي والسنوي عن موازنة الحكومة المركزية للسنة المالية 1977، (سري وغير قابل للتداوَل أو النشر). نُشير في هذا الصدد، إلى ما تقرر من تبعية الجهاز المركزي للمحاسبات لمجلس الشعب (سنة 1975). ومفروض أن يقدم الجهاز تقاريره السنوية والدورية عن القطاعات المختلفة إلى مجلس الشعب لمناقشتها. ولكن عجز أعضاء مجلس الشعب عن الاطَّلاع على هذه التقارير. ظلت سرًا حتى بالنسبة لرئيس اللجنة الاقتصادية ولجنة الخطة والموازنة، ورغم التجاهل والتعتيم حول الدراسات والملاحظات الهامة التي يقدِّمها الجهاز، فإن العاملين في الجهاز العنيد يرفضون إلقاء السلاح حتى الآن.
ونُشير هنا أن التقرير الأخير للرقابة الإدارية ركز على نفس الظواهر، وسجل أنه بينما تسعَى الحكومة "للحصول على قروض لمجرد سداد القروض القصيرة الأجل، وتحويلها إلى قروض طويلة الأجل، فإننا نجد أن اقتصادنا يتعرض إلى استنزاف من الداخل، ولعل استعراضنا لأوجه القصور في الدعامة المالية يعطي تصورًا عن حجم الفاقد والضائع، والذي يصعب تحديدُ قيمته، وإنما يمكن تقديره بمئات الملايين من الجنيهات المحلية والعملة الحرة". انظر: هيئة الرقابة الإدارية، أوجه القصور والخلل في الجهاز الإداري للدولة (الفترة من عام 1972 حتى عام 1976)، (القاهرة: يوليو 1977)، تقرير سري.
وقضية التبديد في إيرادات الجمارك، والانحراف في السياسة الجمركية، استرعت انتباهًا واسعًا في الفترة الأخيرة (دون أن يعني ذلك أي توجه لإجراءات جديدة متكاملة من منظور ترشيد مستقل للإدارة الاقتصادية). وقال حسين أمين وكيل وزارة المالية لشئون الجمارك أن "الإعفاءات الجمركية الحالية تقدر بحوالي 500 مليون جنيه تدخل فيها إعفاءات لا بد من إقرارها؛ مثل عمليات الاستيراد الخاصة بمواد البناء والمواد الغذائية ومستلزمات الإنتاج التي تتصل بصناعات استراتيجية، وفيما عدا ذلك، فهناك قدرٌ لا يُستهان به من الإعفاءات التي لا بد أن يتم ترشيدها، والتي لا تقل عن 300 مليون جنيه، أي ما يعادل 50% من إجمالي الإعفاءات الجمركية". انظر: شريف العبد، الأهرام، (29/ 11/ 1979).
وأشار تحقيق آخَر إلى أن الأرقام السابقة، لا تشمل واردات المنطقة الحرة في بورسعيد، وقال إن التقارير المالية تدل على أن الواردات المُعفاة والتي بلغت قيمتها 303 ملايين جنيه في عام 1975 لم ينعكس أثرها على انخفاض فِعلي في أسعار المواد الغذائية للمستهلك، وبالتالي ذهبت قيمة الإعفاء إلى جيوب الوسطاء والمتلاعبين. انظر: "الدعم الجمركي للتجار والسماسرة"، الأهرام الاقتصادي، (1/ 2/ 1980).
(104) الجهاز المركزي للمحاسبات، التقرير الختامي للسنة المالية 1977، مرجع سابق، المقدمة ص ص ز ـ ط.
(105) د. عبد المنعم القيسوني، "سياسة الإلغاء التدريجي للدعم ـ ما هو الموقف المالي والاقتصادي في العام القادم"، حديث إلى إبراهيم نافع بعد اجتماعات مجلس محافظي الصندوق والبنك في واشنطن، الأهرام، (14/ 10/ 1977).
(106) هذه الأرقام نقلاً عن صندوق النقد الدولي حول مباحثاته، (مرجع سابق)، ولكن ورد في تقرير البنك المركزي عن نفس السنة أن صافي المطلوبات من الحكومة زاد خلال عام 1977 حوالي 334 مليون جنيه، وكانت الزيادة في أُذونات الخزانة وسندات الحكومة 323 مليون جنيه. انظر:
Central Bank of Egypt, Annual report 1977, p. 20.
وقد نقد البنك المركزي تزايد نسبة أذون الخزانة وسندات الحكومة، إلى صافي المطلوبات من الحكومة، وقال إن "هذا الاتجاه غير المرغوب فيه، يستلزم التخلص من العجز المُتزايد في مديونية الخزانة للبنك المركزي المصري". وأكّد نفس الموقف الجهاز المركزي للمحاسبات؛ إذ سجل "تزايد السحب على المكشوف من الجهاز المصرفي لتمويل العجز في موازنة الدولة حتى بلغ في 31/ 12/ 1977 حوالي 1400 مليون جنيه.. وعلى الرغم مما سبق أن أشار إليه الجهاز بتقريره السنوي عن حساب ختامي السنة المالية 1976 من أن السيد/ الدكتور وزير المالية رأى الأخذ باقتراح البنك المركزي، الذي يقضي بعقد اتفاق بينه وبين الحكومة ـ يصدر به تشريعٌ خاص ـ باعتبار العجز المتمثل في رصيد السحب على المكشوف مضافًا إليه رصيد الأذون على الخزانة العامة؛ بمثابة قرض لا يجوز للحكومة تجاوزه، بل يتم خفضه بما قد يتوافر من موارد مستقبلاً، وأن يكون التمويل بالافتراض ـ عند الضرورة ـ بمُقتضَى ما يصدر من صكوك أو سندات على الدولة في حدود ما يتضمنه قانون ربط الموازنة.. غير أنه بمتابعة ما تم (في أغسطس 1968) تبيَّن عدم صدور التشريع المُقترح على الرغم من الحاجة الماسة إلى سرعة إصداره؛ تلافيًا للآثار التضخمية المترتبة على استمرار تلك الظاهرة".
واستطرادًا في نفس الاتجاه سجَّل جهاز المحاسبات "استمرار التوسع في إصدار الأذون على الخزانة العامة؛ حتى بلغت قيمتها في 31/ 12/ 1977 (1300 مليون جنيه)، وقد سبق للجهاز أن أثار في تقاريره السابقة (يقصد تقريرية عن السنتين الماليتين 1975، 1976) إلى أن المصدر من تلك الأذون أصبح يمثل موردًا أسياسيًّا من موارد الدولة، الأمر الذي ترتب عليه أن خرجت هذه الأذون عن الطبيعة الأصيلة لها؛ وهي تمويل العجز الموسمي للخزانة العامة الذي ينشأ عن عدم التوافق الزمني بين الائتمان الحكومي أثناء السنة المالية، وبين تحصيل الموارد السيادية للدولة خلالها فضلاً عن أن معظم هذه الأذونات قد استُخدِمت في غطاء إصدار أوراق البنكنوت، وهو أمر - ولا شك- له تأثيرٌ على الاقتصاد القومي، وعلى الرغم مما سبق أن أبدته وزارة المالية في سبتمبر 1976 ردًّا على ما سبق أن أثاره الجهازُ، في هذا الصدد ضِمن تقريره على حساب ختامي موازنة الجهاز الإداري للدولة عن السنة المالية 1975 من أنها تبحث إصدار صكوك بمبلغ 1000 مليون جنيه لسداد العجز في السنوات من 1953 ـ 1954 حتى 1973 يكتتب فيها البنك المركزي بمبلغ 600 مليون جنيه، ويكتتبُ باقي الجهاز المصرفي بمبلغ 400 مليون جنيه بما يحقق خفض قيمة الأذون المصدَرة بما يجعلها تدخل ضمن الحد الأقصى المقرر بالقانون رقم 48 لسنة 1971، الأمر الذي حدا بالجهاز إلى إعادة الكتابة فيه إلى وزارة المالية في أبريل 1977 مُسترعيًا النظر إلى هذا الأمر.. وبمتابعة الجهاز للموضوع في أغسطس 1978 تبين تشكيل لجنة لبحث تطوير حسابات الحكومة بالبنك المركزي بصفة عامة، وبحث معالجة سداد العجز المُنوّه به واستهلاك المصدر من الأذون". انظر الجهاز المركزي للمحاسبات، التقرير الختامي للسنة المالية 1977، مرجع سابق، (ص ص 150 و151).
(107) أشار تقرير الجهاز المركزي، المرجع السابق، أن بيان الدين العام بالحساب الختامي للسنة المالية، 1977 لم يشمل قيمة سندات التنمية المكتتب فيها بالعملة الأجنبية والتي بلغت قيمتها في 31/ 12/ 1977 حوالي 88.8 مليون جنيه، وكذلك قيمة الوديعة المقدمة إلى الحكومة من مؤسسة النقد السعودي لتمويل صفقة زيت خام قيمتها 69 مليون جنيه (ص 147) ويدخل هذا في إطار الموارد المدبرة التي خفضت لجوء الحكومة للافتراض المصرفي.
(108) نُشير هنا إلى استجواب د. محمود القاضي عن القرار الصادر من وزير الصحة بزيادة أسعار بعض أنواع الأدوية بنسبة 30 % ـ كان القرار يعكس بداية ملموسة لتحميل أسعار شركات القطاع العام بأثر استيراد مستلزمات الإنتاج بأسعار السوق الموازية. وأدرك الجميع أن القرار هو مجرد بداية، وأن ترتيبات سرية أخرى في الطريق. وكان رئيس المجلس سيد مرعي ممن عبروا عن هذا الإدراك، وعن حقيقة أن المجلس، وهو شخصيًّا، بعيد عن الصورة؛ ولذا ترك منصة الرئاسة، واشترك في المناقشة بصفته عضوًا في المجلس، وطلب من القيسوني أن يَحضر اجتماعًا ضيقًا مغلقًا مع عدد مختار من أعضاء المجلس؛ لإطْلاعهم على الصورة الحقيقية والصريحة حول الأوضاع والسياسات الاقتصادية، ولكن رفض القيسوني أن يلتزم بذلك (انظر مضبطة الجلسة 83 (2/ 8/ 1977).
كان سيد مرعي يتصور أن ممدوح سالم هو المسئول عن حجب المعلومات، ولم يكن هذا صحيحًا؛ فدور صندوق النقد ومناوراته لفرض سياساته هو المسئول الأول عن السرية وحجب المعلومات عن المؤسسات المحلية المسئولة دستوريًّا. يعلم المؤلف أن سيد مرعي تمكن بعد ذلك من إقناع القيسوني بحضور اجتماع ضيق ومغلق داخل المجلس (بمناسبة مناقشة ميزانية 1978) ولكن انصرف الرجل بعد نصف ساعة، ورفض أن يدلي بأيَّة بيانات جديدة، وبالتحديد ـ لم يذكر شيئًا عن حقيقة اللعبة التي يؤديها صندوق النقد.
(109) I. M. F, Report S M – 78 – 9, op. cit., p. 17.
(110) Decision N". 5647 – (78 – 16).
Document of international monetary fund, Report SM – 79 – 34, Contains confidential information. (February, 1, 1979).
To: Members of Executive board.
From: The acting secretary.
Subject: Arab republic of Egypt – Staff Report for the 1978 Article IV, Consultation.
Not for public use. See appendix I.
(111) الاقتباسات في المتن عن نص خطبة مكنمارا في اجتماع مُغلق للمسئولين في القطاع الاقتصادي، (الخطبة كالعادة غير منشورة)، ونذكر هنا أن مكنمارا في هذه الخطبة أكد ما سبق أن ذكرناه في الفصل السادس عن إبلاغه الرئيس السادات تضامن البنك مع صندوق النقد الدولي، وأن تنفيذ مطالبات الصندوق والالتزام بتصورات البنك حول استراتيجية التنمية- شرطان ضروريان لتقديم قروض كبيرة إلى مصر. قال مكنمارا: "منذ أربعة أعوام سألني رئيسُكم أن يُزيد البنك الدولي مستوى إقراضه زيادة كبيرة (وكان المستوى واقفًا عند 40 مليون دولار في السنة). وقد أجبت بأنه "يسعدُنا أن نرتبط بجهد التنمية في مصر على نحو أكثر نشاطًا، ولكنْ كان واضحًا أنَّ مثل هذه الزيادة في تمويل البنك لا تكون فعالة، إلا إذا حدث تحسن في أربعة مجالات حاسمة من السياسة الاقتصادية والمالية المصرية: أولاً وقبل كل شيء، كان هناك احتياجٌ إلى خطة للتنمية ـ خطة تحدد فيها أولويات الاستثمار. ثانيًا الدين الخارجي لمصر كان يحتاج إعادة تنظيم وإدارة كفاءة. ثالثًا أن نظام الأسعار كان يحتاج ترشيدًا، ويشمل ذلك أسعارَ الصرف الأجنبي. وأخيرًا، وهذا هو الأكثر أهمية، كان ينبغي أن يكون هناك تناسقٌ صحيح بين السياسات المالية، والاقتصادية".
(112) انظر: "بيان السيد/ ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة"، مضبطة الجلسة 7 (4/ 12/ 77) الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب. وقال البيان المالي إن مجموع النفقات الجارية بمقدار 433.2 مليون جنيه، ولتجنب اللجوء إلى الجهاز المصرفي لسد العجز؛ لا بد من اختيار أحد البديلين الآتيين أو مزيج منهما:
1- زيادة الموارد السيادية من الضرائب والرسوم وما في حُكمها.
2- ضغط الاعتمادات المخصصة لبعض الأغراض التي تَهدف الموازنة العامة إلى تحقيقها.
فإذا اخترنا البديل الأول كان علينا أن نفرض أنواعًا جديدة من الضرائب، أو نرفع المعدلات التي تُجبَى على أساسها الضرائبُ الحالية ـ كلها أو بعضها ـ بما يكفل تغطية العجز الجاري في الموازنة (وكانت الحكومة تدرك سلفًا أن التركيب الاجتماعي لمجلس الشعب يدفع الغالبية الساحقة إلى الفرار فزعًا من هذا البديل).
وإذا اخترنا البديل الثاني كان علينا أن نستعرض أوجه الإنفاق؛ لكي نختار منها ما يقبل الضغط، وهناك نفقات لا نستطيع المساس منها بشيء.. ويتبقى أمامنا - بعد ذلك - الاعتمادات المخصصة لتقديم الخدمات الأساسية، والاعتمادات المخصصة لإعانات الدعم". فهنا "طريق مفتوح لاستئصال العجز الجاري بالموازنة
أو تخفيض قيمته على الأقل". هذا التحليل الذي استبعد زيادة الحصيلة الضريبية، لمواجهة عجز الموازنة، كان لا بد أن تمتد يده إلى الدعم كحل وحيد للمشكلة. لكن هبَّة يناير في بداية العام كانت حية في الذاكرة؛ ولذا عاد البيان إلى إنكار النتيجة التي توصل إليها، وقال بعد التحليل (الذي نقلناه) مباشرة إن مشروع الموازنة حرص "تخفيفًا على طبقات الشعب الكادحة، على عدم المساس بالاعتمادات اللازمة للدعم، كما أنه لم يتضمن أية إجراءات أو مقترحات لرفع الأسعار؛ وذلك وفاء لما التزمت به الحكومةُ" (انظر د. محمود صلاح الدين حامد وزير المالية، البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1978، وزارة المالية، جمهورية مصر العربية 1977). وقد كشف المعارضون هذا التناقض في موقف الحكومة (انظر د. حلمي مراد "وبيان حزب التجمُّع الوطني"، مضبطة الجلسة 16 (29/ 12/ 1977)، الفصل التشريعي الثاني، وممثل حزب الحكومة تجاهل التناقض، وقال إن اللجنة تقدر تأكيد الحكومة استمرار الدعم، وعدم تحمل الجماهير أعباء جديدة (تقرير لجنة الرد على بيان رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة، تحريرًا في 15/ 12/ 1977). كان رئيس اللجنة د. السيد علي السيد وكيل المجلس ـ مجلس الشعب. ولا شك أن أعين الجميع كانت مصوبة أيضًا إلى أحداث يناير واحتمال تكرارها.

(113) I. M. F., Report SM – 79 – 34, op. cit., p. 11.
(114) كان تزاحم الأعضاء (من مختلف الاتجاهات) على مناقشة موجة الغلاء ملفتًا للانتباه، كان هذا أساسًا انعكاسًا لرد فعل شعبي ملموس، ولكن يمكن أن تكون الحكومة قد شاركت أيضًا (من خلال بعض أنصارها) لتدعيم موقفها أمام صندوق النقد. البعضُ فتح موضوع ارتفاع الأسعار ارتفاعًا لا يتناسب ودخولَ الكافة ـ وأحمد طه (يساري مستقل) من الارتفاع المطرد في الأسعار خلال عام 77/ 1978 ـ وقباري
عبد الله (حزب التجمع) عن الارتفاع المستمر في أسعار كافة السلع، وخاصة الضرورية منها بصورة خطيرة ـ ومحمود زينهم (مستقل) عن أسباب ارتفاع أسعار بعض السلع في الفترة الأخيرة، ومدى الرقابة وفاعليتها على الأسعار، وعمَّا إذا كانت الحكومة ملتزمة بعد المساس بالدعم.

وقد تركزت احتجاجات وتساؤلات البعض (من مختلف الاتجاهات أيضًا) على سلع أو قطاعات معينة، فسئل عن زيادة أسعار بعض السلع التموينية بالمجمعات الاستهلاكية وأزمة الدقيق واختفاء الأرز والمكرونة، وسُئل عما إذا كانت الحكومة قد طلبت من رؤساء المضارب تحويل كميات كبيرة من الأرز الشعبي إلى الفاخر؟ سُئل أيضًا عن ارتفاع أسعار اللحوم والسكر، وأخشاب الأثاث والكبريت، وعن زيادة أسعار الثلاجات والغسالات والأدوات الكهربائية. سئل أيضًا عن قرار وزير الصناعة بزيادة أسعار الأقمشة والملابس الداخلية والجهاز في شركات القطاع العام والمحلات التجارية بنسبة 50 %. وشملت الأسئلة أيضًا ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج؛ مثل زيادة أسعار القطن المُباع لشركات الغزل، وزيادة أسعار الغزل والخيوط المغزولة (مما تسبب عنه تعطُّل بعض المصانع)، أيضًا تساءل الكثيرون (وبينهم فكري مكرم عبيد الذي أصبح في فترة لاحقة الأمين العام لحزب الحكومة الجديد ـ الحزب الوطني) عن ارتفاع أثمان العلف ارتفاعًا كبيرًا مما أدَّى إلى انصراف المزارعين عن تربية المواشي وبيع العجول الصغيرة.
وبالنسبة لقضية رغيف الخبز، حدث أن أدخل وزير التجارة والتموين إلى قاعة المجلس أحد معاونيه يحمل بعض الأرغفة جيدة الصنع أثناء حديث الأعضاء عن أزمة الرغيف كرد على انتقاداتهم. وأثارت هذه الحركة كل الأعضاء وقال أحدهم غاضبًا: "هذا الخبز من تأليف السيد وزير التموين لعرضه على السادة الأعضاء في هذه الجلسة. إننا مثلاً في حاجة إلى مثل هذا الخبز ويا ليته موجودٌ في الأسواق".
وقال الشيخ عاشور: "إن ده مش مجلس شعب، ده مسرح مجلس شعب". وتصاعد الموقف إلى أن هتف الشيخ عاشور محمد نصر: "يسقط أنور السادات"، وتم فصله من عضوية المجلس على إثر ذلك. انظر مضبطة الجلسة 44 (21/ 3/ 1978)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب. انتهت المناقشات - على أيَّة حال- في جلسة تالية، دون نتيجة محددة، ولكن كانت المناقشات مظاهرة احتجاج مؤثرة. انظر: مضبطة الجلسة 53 (11/ 4/ 1978) الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(115) أسامة غيث، "تقرير شامل حول مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي"، الأهرام الاقتصادي، عدد (15/ 6/ 1978).
(116) الفقرات الواردة ليست في كل الأحوال ترجمة حرفية، دون إخلال طبعًا بالمعاني الأساسية. أصل الخطاب عند المؤلف. ويأخذ نص خطاب النوايا شكل خطاب فعلي، يبدأ بالتالي:
The Prime minister
Dear Mr. Witteveen.
Cairo, June 10, 1978.
ويختم على النحو التالي:
Yours sincerely
Mamdouh Salem
Mr. H. Johannes Witteveen
Managing Director
International Monetary Fund.
(117) نُشير هنا إلى العرض النقدي الذي قدمه د. جودة
عبد الخالق لخطاب النوايا هذا. أوضح الباحث في كلمته أمام المؤتمر أنواع التحايل والعناء التي صادفها؛ لكي يطَّلع خِلسة على خطاب النوايا. ونتفق مع د. جودة في كافة ملاحظاته حول البنود المتفرقة، ولكن وفق منهجنا العام، وإلحاحنا على مفهوم التبعية، نختلف حول دقة صياغة البحث لبعض النتائج العامة، فلا نوافق مثلاً على قوله: إن "نمط تخصيص الموارد الناتج عن الاعتماد على قوَى السوق لن يكون هو النمط الأكثر ملاءمة لمتطلبات التنمية في مصر؛ حيث يوجد تفاوت كبير بين الربحية الخاصة والربحية الاجتماعية، وبين التكلفة الخاصة وبالتكلفة الاجتماعية، فقد يعني هذا مزيدًا من الموارد للأنشطة التجارية؛ لأنَّ ربحيتها الخاصة مرتفعةٌ. لكن هذا
لا يخدم التنمية؛ لأن الربحية الاجتماعية لهذه الأنشطة منخفضة" (ص 23). هذا الكلام عن "السوق" بتجريد عن الزمان والمكان، وعن مدَى كفاءة هذه السوق المجردة في تخصيص الموارد، يوقعُنا في متاهات، ويواجه البحث بتحيزات أيديولوجية وليست علمية، ولا نقصد بأهمية الزمان والمكان حصر البحث حول الحالة المصرية في السبعينيات بالتحديد. ولكن نقصد وضع السوق في الدول التابعة، وأنه سوق تُوجِّه حركتَه وحوافزه الدولُ المسيطرة. وهذه الحركة المشوهة والتابعة (بقصد وتخطيط) هي التي تؤدي ـ في الأساس ـ إلى النتائج التي رصدها د. جودة بشكل صحيح. انظر بحثه في المؤتمر العلمي السنوي الرابع للاقتصاديين المصريين، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، القاهرة، مايو 1979.

(118) Press Release: second Meeting of the consultative group of Egypt, (Paris: World bank, European office. 1978).
(119) Statement by Mr Joseph C. Wheeler of the united states delegation, (Paris: Consultative group for the Arab Republic of Egypt, June 14 – 16, 1978).
European office, Paris, Restricted.
(120) Opening statement by the head of the Egyptian delegation, (Paris: Consultative group of the Arab Republic of Egypt, Wednesday to Friday, June 14 – 16, 1978).
European Office, Paris, RESTRECTED.
(121) Financial time, (17 – 6 – 1978).
(122) البنك المركزي المصري، التقرير السنوي 1978، ص 17.
(123) انظر: إبراهيم نافع، "رحلة في عقول المسئولين عن تسيير دفَّة الأموال العربية"، الأهرام، (28/ 4/ 1978).
(124) I. M. F., Report SM – 79 – 34, op. cit, p. 14.
(125) "بيان السيد الدكتور وزير المالية عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1979"، مضبطة لجلسة 17 (8/ 1/ 1979)، الفصل التشريعي الثالث، مجلس الشعب.
(126) وفقًا لتقرير بعثة الصندوق، فإن الحكومة توقَّفت عن مواصلة رفع الأسعار، بعد رد الفعل الذي أثاره تحركها في بداية العام، "وأكدت السلطات من جديد نيتها، ولكن عبرت عن قلقها بالنسبة للأثر التضخُّمي المباشر الناشئ عن تعديلات الأسعار المسيطر عليها. وبالنسبة لأثر هذه التعديلات على المطالب بزيادة الأجور" (P. 11). نقدت البعثة زيادة الأجور والمكافآت في القطاع العام في مايو وأكتوبر، أثناء نقدها لانحرافات الموازنة في ذلك العام عن الخط المرسوم، فهذه الزيادات التي لم تكن واردة بالموازنة كانت في اتجاه معاكس للاتجاه نحو زيادة نصيب الإنفاق الاستثماري، ورفعت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي، فوق المستوَى السائد في العامين السابقين، وفوق ذلك، فإن مكافآت الأجور لم تكن على صلة بأيَّة زيادات في الأسعار المسيطر عليها، على عكس الممارسات التي تمت في الماضي في أوقات متفرقة. وقد أوضحت السلطات أن هذه المكافآت كانت ضرورية؛ بسبب الوضع السياسي". (P.9) وناقشت بعثة الصندوق وضع الإيرادات الحكومية مقابل هذا التزايد في الإنفاق، فانتقدت نظم الضرائب والجمارك في تعقدها وعشوائيتها، وقالت على سبيل المثال أنَّ الإفراج عن البضائع وفقًا "لأسلوب السماح المؤقت، ونمو المناطق الحرة، وخاصة بورسعيد، أدَّى إلى خسائرَ كبيرة في الإيرادات. وتحصيل ضريبة الملكية انخفض في السنوات الأخيرة، رغم ارتفاع قيمة الملكية إلى أعلى". وقد سجلت السلطات أنها بصدد دراسة النظام الضريبي دراسة شاملة، وبمساعدة خبراء الصندوق، وفي حالة بورسعيد، فإنه يصعب التخلص من المشكلة تمامًا لأسباب سياسية وإدارية (P.9).
(127) "حديث الرئيس السادات إلى جوزيف كرافت"، واشنطن بوست، نقلاً عن الأخبار، (8/ 11/ 1978).
(128) وكالة أسوشيتدبرس، أيام (1/ 10/ 1978، 5/ 10/ 1978، 13/ 10/ 1978).
(129) I. M. F. Report, SM – 79 – 34, op. cit., p. 10.
(130) انتظارًا لبعثة الصندوق في كانون الثاني/ يناير 1979، سربت السلطات إلى بعض الصحف، وأعلنت مصادرُ البنك المركزي معارضة صريحة لمطالب الصندوق. انظر: "جولتين من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي"، الأهرام الاقتصادي، (1/ 1/ 1979).
كان مفروضًا أن تصل بعثةُ من صندوق النقد إلى القاهرة في منتصف فبراير لاستكمال المناقشة حول موازنة 1979. وبالفعل وصلت البعثة وعقدت اجتماعًا مع قادة القطاع الاقتصادي في 18 فبراير. ووفقًا للمذكرة المصرية الرسمية عن هذا الاجتماع، فإن البعثة أبدت تقديرها وارتياحها، إلى ما اتخذته حكومةُ مصرَ من إجراءات، أدت إلى تحسن موقف الموازنة، وكان من نتائجها
ما يلي: تخفيض العجز الكلي ـ الالتزام بالعجز الصافي ـ عدم الزيادة في الأجور أو المنح.

إلا أن البعثة أبدت التحفظات التالية: صغر حجم المدرج كاحتياطي الموازنة العامة ـ عدم وضوح الإجراءات التي ستتخذ لتدبير مبلغ الـ 90 مليون جنيه المستبعد من اعتمادات الدعم وتاريخ تنفيذها. اتجاه وسائل الدفع إلى الزيادة، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية؛ مما قد يجعل استقرار الأجور وترشيد الدعم وسعر الصرف أمرًا صعبًا. في ضوء ما تقدم، أبدت البعثةُ أنه حتى يتسنَّى تحقيق موازنة أفضل؛ فإن الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات إضافية لزيادة الموارد وخفض المصروفات؛ بهدف خفض العجز الكلي.
وقد أبدَى الجانب المصري: إمكانية النظر في تحقيق مبلغ 180 مليون جنيه إضافية خلال عام 1979، وأبدت البعثةُ بعض الارتياح لهذه المقترحات طالما أنه يمكن تحقيقها، وأنها سوف تدرس الآثار المترتبة على هذه المقترحات.






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:53 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

وطلبت البعثةُ دراسة مدَى إمكانية تحريك جديد للأسعار، وقد أفيدت بأنه يصعب اتخاذ إجراءات جديدة، نحو تحريك الأسعار خلال السنة الحالية. إلا أنه يمكن دراسة تحريك بعض أسعار السلع المعمرة؛ كالثلاجات والسيارات والتليفزيونات، وخاصة السلع التي تباع بالعملات الحرة. كما سيتم دراسة زيادة أسعار الأقمشة.
وطلبت البعثة إجراء تخفيض جديد في اعتمادات الدعم بموازنة السنة المالية 1979، وقد تم إحاطة البعثة علمًا بأنه يصعب حاليًا النظر في تخفيض جديد لاعتمادات الدعم، إلا بعد الانتهاء من الدراسة التي تجريها الحكومة حاليًا للدعم والبطاقات التموينية.
وأُحيطت البعثة علمًا، بأنه يتم حاليًا دراسة تحصيل الرسوم الجمركية على السلع الواردة لمدينة بورسعيد من المنبع، وسوف يحقق ذلك زيادةً كبيرة في الإيرادات. إلا أن اتخاذ القرار النهائي في هذا الشأن، يتوقف على دراسة متأنية عن مختلف الجهات التي يعنيها الأمر.
(المذكرة داخلية، أي غير متداولة إلا بين من حضروا الاجتماع، وهي منشورة هنا مع بعض الاختصارات ـ ويُلاحظ مرة أخرى كيف أن الصندوق يطلع على أي شيء يمكن أن تفكر الحكومةُ فيه، وكل التعديلات والإجراءات المقترحة، لا يعلمها
إلا الصندوق).

المهم، أدى تطور الأمور إلى قرار من الصندوق بوقف حق مصر في السحب على الشريحة الائتمانية المقررة لها، وفق ترتيبات المساندة في يونيو 1979، وكان ذلك نذيرًا بأزمة حقيقية. (انظر: جمال الناظر وزير الدولة للتعاون الاقتصادي، "حقيقة الخلاف مع صندوق النقد الدولي"، الأخبار، (25/ 7/ 1979).
(1) Anthony Mc. Dermatt, "The economy skepticism remains", Financial timers Survey. Financial times, (July 30. 1979).
وقد قامت التقديرات المصرية، على أساس أن احتياجات النقد الأجنبي للخطة 9 بليون جنيه؛ المتاح منها 2 بليون جنيه، يتم عن طريقها تنفيذ مشروعات موجودة فعلاً في الخطة. المطلوب - إذًا- 7 بليون جنيه منها 5 بليون جنيه (أو 7 بليون دولار) مطلوبة للمشروعات العمرانية وما شابهها (أي: لا تدر عائدًا)؛ ولذا ينبغي أن يكون الجزء الرئيسي من هذه المبالغ، مِنحًا
أو قروضًا بشروط ميسرة للغاية. ومطلوب في الخطة أيضًا 2.5 بليون دولار لمشروعات القطاع الخاص. ومطلوب لمواجهة التوسع في السلع الوسيطة 4.5 بليون دولار، وفي السلع الاستهلاكية 4.5 بليون دولار. ويصبح الإجمالي:

7 + 2.5 + 4.5 + 4.5 = 18.5 بليون دولار ـ انظر: إبراهيم نافع، "ماذا قالت مصر للدولة الغنية في اجتماع طوكيو؟"، الأهرام، (6/ 7/ 1979).
أوضح الكاتب أن الحكومة المصرية، تعهَّدت في المقابل بمواصلة تنفيذ تعليمات الهيئات الدولية، وحدد التعليمات بالتفصيل على النحو الذي نعرفه.
(2) الاقتباس الأول عن براون مصدره: "مرة أخرى.. كيف يستفيد الاقتصاد المصري من القروض والمساعدات الأمريكية؟" الأهرام، (20/ 4/ 1979)، الاقتباس الثاني، "مستقبل العلاقات الاقتصادية مع أمريكا"، أخبار اليوم (5/ 5/ 1979 م) لأمثلة أخرى حول تصريحات المسئولين الأمريكيين. انظر: "كيف تستفيد مصر من القروض والمساعدات الأمريكية، الأهرام (13/ 4/ 1979)،... "قليلاً من الصبر، ثمار المساعدات الأمريكية لمصر لا تُؤتَى بين يوم وليلة"، حديث مع أثرتون السفير الأمريكي (أخبار اليوم، (15/ 9/ 1979).
(3) خطاب الرئيس السادات أمام مجلس الشعب، مرجع سابق.
(4) مبادرة السلام: رحلة القرن العشرين ـ توثيق وتحليل علمي، (القاهرة: الأهرام، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 1977)، ص ص 36 ـ 28.
(5) انظر: اليأس شوفاني، "حسابات إسرائيل خلف التسويف"، طريق بيجِن، مرجع سابق، ص ص 57 ـ 58.
(6) هذه هي النصوص كما أعلنها مناحم بيجِن أمام الكنيست في 28/ 12/ 1977، بعد عودته من الإسماعيلية، نقلاً عن: مؤتمر كامب دافيد ـ دراسة توثيقية، (القاهرة: الأهرام، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 1978)، ص ص 11 ـ 12.
(7) كامب دافيد، مرجع سابق، ص ص 20 ـ 21.
(8) يمكن اقتراض علاقة ما بين محاولة السادات استغلال التناقضاتِ داخل المؤسسات الإسرائيلية. وبين إجراءاته المُعلنة في أول مايو 1978 لإحكام قبضته، والتي انتهت إلى استفتاءٍ أبعدَ بعضَ الشخصيات العامة عن العمل السياسي، وهدد باستبعاد أي شخص آخر في المستقبل (وفق معايير غير محددة). نتج عن ذلك بالتحديد، استبعادُ فؤاد سراج الدين كرئيس لحزب الوفد الجديد، ثم حل الحزب، قبل مقابلة بيريز (فايتسمان. يمكن أن نلاحظ أيضًا اشتداد الهجوم الشخصي على بيجِن قبل كامب دافيد (في الواقع كان هذا هجومًا مضادًا). وصاحبت ذلك لهجة غير مالُوفة من الصحافة المصرية لنقد كارتر وتردده، ونشر عن فضيحة الأوتوبيسات المستوردة بسعر مرتفع، وبمواصفات بالغة الرداءة من خلال مساعدات وكالة التنمية الأمريكية، ثم أصدر الرئيس السادات قرارًا بمنع مصطفَى أمين من الكتابة (وقد تحول هذا الرجل إلى ما يشبه علَمًا أمريكيًّا يرفرف في السماء المصرية)، وفي خطاب السادات (26 يوليو 1978) أعلن أن الدولة المصرية تعرف أن الأقمار الصناعية الأمريكية تتجسس باستمرار على الأراضي المصرية، وترسل التقارير بانتظام إلى إسرائيل. وقد حل حزب مصر وأبعد ممدوح سالم في هذه الظروف، ولا ندري مدَى الارتباط بين هذا الإجراء وبين السياق العام الذي أوردناه. المهم، نفترض أن هذه التصرفات - قبل كامب دافيد مباشرة ـ كانت لتأكيد، أنه لا زال مركزُ السلطة الوحيد، وأن هامشه في الحركة المستقلة لا زال موجودًا، ولكن واقع الحال ـ الذي يعرفه من تلقوا الرسالة ـ كان غير ذلك إلى حد كبير.
(9) "كلمة بيجِن رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد توقيع وثائق كامب دافيد"، مؤتمر كامب دافيد، مرجع سابق، ص 94.
(10) "مُقتطفات من المؤتمر الصحفي للرئيس السادات مع بعض رؤساء التحرير الأمريكيين بتاريخ 20/ 9/ 1978"، كامب دافيد، المرجع السابق، ص 108.
(11) خطاب الرئيس السادات أمام مجلس الشعب، نقلاً عن المرجع السابق، ص 141.
(12) المرجع السابق، ص 38.
ذكرت المصادر الإسرائيلية المسئولة أن فايتسمان كان قد تقدم للجمسي بمقترحات للتسوية في سيناء، منذ المراحل الأولى للمباحثات بعد الإسماعيلية ـ تتضمن نزع سلاح جزء






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:54 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

مُلحق الفصل التاسع
خُلاصة خطاب النوايا المُقدَّم إلى صندوق النقد الدولي
نتيجة لبطء النمو الاقتصادي في مصر، واستمرار الصعوبات التي تواجه ميزان المدفوعات؛ اتُّبِعت سياسات لحماية مستوى معيشة الشعب المصري، إلا أنها أحدثت بعض الاختلال في هيكل الأسعار والتكاليف. وزاد من تفاقم الموقف في عامَي 1974 ـ 1975 التطورات الاقتصادية الخارجية. رغم حدوث بعض التحسن في ميزان المدفوعات الأساسي لعام 1976، أدَّى انخفاضُ حجم المساعدات الخارجية إلى تراكُم مُتأخرات المدفوعات الجارية.
وإدراكًا من الحكومة بضرورة تعجيل مُعدل النمو الاقتصادي وتخفيف الضغط عن ميزان المدفوعات بدأت تدريجيًّا عمليةُ الإصلاح الإداري؛ بهدف اتباع أسلوب اللامركزية في اتخاذ القرارات، وجعلها أكثر تجاوبًا مع قوى السوق. وفي الوقت ذاته أُدخِلت بعضُ التعديلات على نظام الصرف وأمكن إلى حد ما، تصحيح اختلال الأسعار.
وفي عام 1974 أعلن الرئيس السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، وصدر قانون جديد للاستثمارات الأجنبية. وكان لهذه الخطوات آثار مشجعة؛ حيث تمت الموافقة على عدد كبير من مشروعات الاستثمار وتوفَّرت كميات أكبر من السلع الاستهلاكية.
ونظرًا للارتفاع السريع في الأسعار العالمية للاحتياجات من الواردات الأساسية؛ زادت الإعانات التي تستهدف تثبيت نفقات المعيشة لذوي الدخول المنخفضة في عامي 1974، 1975 وقد ترتب على هذا الإنفاق، بالإضافة إلى الأعباء الضخمة المستمرة للدفاع القومي - حدوثُ عجز كبير في الميزانية، وقد اعتمد في تمويل هذا العجز على الائتمان المصرفي؛ مما أدى إلى ارتفاع ملموس في الأسعار واستمرار الضغوط العنيفة على ميزان المدفوعات.
ولما كانت حصيلة صادرات البترول ورسوم العبور في قناة السويس، وتحويلات المواطنين العاملين بالخارج، تتزايد بدَرجة ملموسة، من المتوقَّع تحسُّن ميزان المدفوعات في المدَى المتوسط. ومع ما يتطلبه تزايد السكان واحتياجات التنمية، من ارتفاع في الطلب على الواردات، فإن إعادة التوازن في ظل الوضع الراهن لميزان المدفوعات، تحتاج إلى بعض الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، فإن قصور العملات الأجنبية في الوقت الحالي، يهدد برنامج التنمية؛ سواء من حيث تأخير استيراد المستلزمات الضرورية للصناعة، أو تراكم متأخرات المدفوعات الجارية، وعلى الصعيد المحلي تجاوزت مصروفات الميزانية إيرادتها، واستمرار معدل التضخم مرتفعًا ومستوى المدخرات المحلية منخفضًا، لا يكفي ليكون أساسًا لتحقيق نمو سريع.
وحتى يمكن التغلب على المُشكلات الاقتصادية التي تواجه مصر، يتطلب الأمر إدخال تعديلات كبيرة في السياسات المالية والاقتصادية؛ من أجل تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات، وزيادة الموارد المُتاحة للتنمية. وحيث إن مثل هذا البرنامج سيؤدي إلى تغييرات جوهرية في هيكل الأسعار، فإنه يتعين استمراره لعدة سنوات؛ للمحافظة أساسًا على مستوى معيشة الطبقات المنخفضة الدخل. ومن المتوقع أن تسفر الإجراءات التي اتخذت مؤخرًا، أو التي ستتخذ خلال الاثني عشر شهرًا القادمة، عن تقدم ملموس في إنجاز الأهداف الموضوعة، كما يُقصد منها أن تكون بمثابة إشارة؛ سواء للمصريين، أو للمجتمع الدولي، بأن مصر تتبع سياسة، من شأنها خلق أساس نمو قوي مدعَّم، غير أن الحاجة للمساعدات الخارجية ستظل مستمرة. فإذا أُريدَ تنفيذُ البرنامج بنجاح؛ لا بد من الحصول على مزيد من الدعم من الحكومات الصديقة التي ساعدتنا في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى التسهيل الائتماني الذي يُرجَى الحصولُ عليه من صندوق النقد الدولي لمدة عام في حدود 125 مليون وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة.
إصلاح سعر الصرف وسياسة التجارة الخارجية:
يهدف إصلاح سعر الصرف في النهاية، إلى توحيد السعر عند مستوى من شأنه القضاء على العجز في ميزان المدفوعات الأساسي، وتحرير المعاملات الخارجية من القيود الإدارية في ذات الوقت. وهكذا تم تطبيق أسعار صرف السوق الموازية على جميع المعاملات، بالعملات القابلة للتحويل، باستثناء معظم ما تقوم به الحكومة أو مؤسساتها. كما بدأت مرحلة جديدة من تحرير التجارة؛ وذلك بإزالة قيود الصرف على مجموعة من الواردات.
وفي عام 1973 أُنشِئَت السوقُ الموازية التي طبقت سعر صرف أكثر انخفاضًا عن الأسعار التشجيعية السابقة. ورغم التوسع في شمول السوق الموازية منذ ذلك الوقت، ظلت نسبة معاملات النقد الأجنبي التي تمت عن طريقه ضئيلة. وكخطوة رئيسَة لإنشاء سعر صرف واقعي، تم تضييق نطاق المعاملات بالعملات القابلة للتحويل بدرجة كبيرة، والتي كانت تتم بالسعر الرسمي؛ ففي جانب الصادرات، يقتصر التعامل بالسعر الرسمي على القطن الخام والأرز والبترول ومشتقاته، وأضيف البطاطس والبصل الطازج والثوم وغزل القطن والمنسوجات القطنية والأسمنت إلى الصادرات التي تتم بسعر السوق الموازية.. أما بالنسبة للواردات، فيطبق السعر الرسمي بالنسبة لسبع سلع تموينية أساسية هي: القمح، ودقيق القمح، وزيوت الطعام، والسكر والشاي، والأسمدة والمبيدات الحشرية، بالإضافة إلى الواردات غير الرأسمالية لقطاع البترول.
أمَّا فيما يتعلق بالمتحصلات غير المنظورة، فقد حولت ـ عدا رسوم المرور في قناة السويس ـ إلى السوق الموازية. وحال الانتهاء من الاتفاق مع الاتحاد الدولي للطيران؛ ستُحسب قيمةُ تذاكر السفر بالجو، التي تُدفع بالجنيه المصري، على أساس سعر السوق الموازية. وبذلك تقتصر المدفوعات الجارية غير المنظورة، التي يستمر تنفيذها بالسعر الرسمي، على مصروفات البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج، والدعم الرسمي للبعثات التعليمية، ونفقات الشحن والتأمين على الواردات، ومدفوعات الفوائد، ومصروفات الدَّين في الخارج. كما تظل تُعامل - بالسعر الرسمي - القروض المقدمة لغير المشروعات، والودائع التي تتسلمها الحكومة أو البنك المركزي، وسداد الديون الحكومية الأخرى السابقة لعام 1977. وحتى يمكن تحويل الاستثمار المباشر إلى السوق الموازية؛ يجري تعديل القانون رقمي 43، 81 وسوف يطلب من البنوك التجارية أن تكون جميعُ الحسابات التي تتضمَّن أصولاً أو خصومًا بالنقد الأجنبي مقومة بسعر السوق الموازية، في موعد غايته أول كانون الثاني/ يناير 1978.
من الضروري لنجاح هذا البرنامج أن يتم انعكاس أثر تعديلات نظام الصرف الأجنبي على الأسعار المحلية تدريجيًّا. وسوف يكون الأثر مُحتملاً إلى درجة كبيرة؛ بسبب المكاسب الناجمة عن الكفاية والقضاء على أرباح الندرة عند مستوَى التوزيع، وأيضًا نتيجة السياسات العامة للتقييد المالي والنقدي. وبالإضافة إلى ذلك، قد تُفرَض ضريبةُ صادر مؤقتة على البطاطس؛ لتخفيف الأثر على المستهلكين المحليين، والاستيلاء على جانب من الأرباح القدرية التي تحققت فعلاً نتيجة الأسعار العالمية المرتفعة للبطاطس.
وحتى يمكن الحد جزئيًّا من أثر تطبيق سعر السوق الموازية على أسعار واردات السلع الوسيطة والمواد الأولية؛ أُنشِئ "صندوق موازنة الأسعار" لتقديم الإعانات المؤقتة للسلع التي تتميز بأهمية خاصة في استهلاك الطبقات ذات الدخل المُنخفض. وبصفة عامة، فإنه من المتوقع أن تلجأ صناعات القطاع العام إلى تعديل أسعارها؛ لتغطية زيادة التكلفة الناتجة عن تغيير سعر الصرف والعوامل الأخرى، بالإضافة إلى طلب المنح من صندوق موازنة الأسعار، الذي سيكون في شكل حساب لدى البنك المركزي، يُضاف إليه ما لا يزيد عن 200 مليون جنيه خلال النصف الأول من عام 1977 و100 مليون جنيه خلال الجزء المتبقي من فترة التسهيل الائتماني. ولن يسمحَ أن يظهر الصندوق رصيدًا سالبًا.
لتحقيق المزيد من تحرير التجارة الخارجية؛ وضعت قائمة مفتوحة للسلع التي يمكن استيرادها عن طريق السوق الموازية، دون أية قيود على الصرف الأجنبي. وسوف تضم القائمة 29 سلعة تزداد بالقدر الذي تسمح به إمكانيات النقد الأجنبي، على أن لا يرفع منها أية سلعة سبق إضافتُها.
عُدِّل سعر السوق الموازية ثلاث مرات خلال عام 1976؛ بحيث ارتفع سعر الدولار من 58.7 قرشًا (شراء) في نهاية 1975 إلى سبعين قرشًا، مما جعله أكثر تنافسًا مع أسعار السوق غير الرسمية، مما أدى إلى زيادة كبيرة في التحصيلات غير المنظورة عن طريق السوق الموازية، وفي الوقت نفسه خفض الهامش بين أسعار الشراء والبيع من 2.9 في المائة إلى 2 % زيادة تشجيع لاستخدام السوق الموازية. هذا وليس في النية تخفيض سعر الدولار من 70 قرشًا أو إعادة أية معاملات من السوق الموازية إلى السعر الرسمي وسوف تضمَّن مراجعة البرنامج في منتصف فترته استعراض تطورات أسواق الصرف لضمان استمرار تطابق سياسة الصرف الأجنبي مع هدف القضاء على عجز ميزان المدفوعات في الأجل المتوسط.
أما بالنسبة لسوق الاستيراد دون تحويل عملة، فستظل تعمل في الوقت الحاضر جنبًا إلى جنب مع السوق الموازية، ولو أنه يجري تدريجيًّا الإقلال من أهميتها. هذا وقد ضُوعفت تقريبًا أسعار الفائدة الحقيقية على الودائع الادخارية، ولأجل حفز العاملين بالخارج على تحويل أرصدتهم عن طريق السوق الموازية، بدلاً من الاحتفاظ بها، حتى في حسابات بعملات أجنبية. ومن ناحية أخرى يؤدي تحويل جميع الواردات في النهاية إلى السوق الموازية، إلى اختفاء الطلب على الصرف الأجنبي من السوق الخاصة ـ الاستيراد دون تحويل عملة ـ ومن المعالم غير المرغوبة للسوق الأخيرة الزيادة البالغة في استيراد السلع الترفيهية، والتي تعتبر غير مناسبة، في وقت يعاني الاقتصاد من نقص كبير في كثير من السلع الضرورية. وحتى يمكن مواجهة هذه المشكلة فرضت رسوم إنتاج كبيرة على مثل هذه السلع بالإضافة إلى ضرورة الحصول على تراخيص استيراد لجميع الواردات دون تحويل عملة.
وفيما يتعلق بالمعاملات الخارجية عن طريق اتفاقيات الدفع الثنائية، فقد هبطت نسبة الواردات في ظل هذه الاتفاقيات، وسوف يستمر هذا الانخفاض كما انخفضت نسبة الصادرات؛ بسبب الكساد الذي أصاب أسواق العملات القابلة للتحويل غير أنها من المتوقع عودتها إلى الارتفاع في عام 1977، وقد أُنهي العمل خلال السنوات الثلاث الماضية ـ باتفاقيات دفع ثنائي مع 15 دولة، 9 منها خلال عام 1976 وما زالت هناك اتفاقيات باقية مع 16 دولة، 10 منها أعضاء في صندوق النقد الدولي، هذا ومن المتوقع إنهاء العمل بخمسة اتفاقيات أخرى مع أعضاء بالصندوق بحلول 31 كانون الثاني/ ديسمبر 1977.
التحرير الداخلي واللامركزية:
يجري حاليًا التوسع في إجراءات التحرير واللامركزية التي صاحبت سياسة الانفتاح، فقد أُلغيت المؤسسات الاقتصادية العامة، وانتقلت إلى الشركات سلطة اتخاذ القرارات الإنتاجية؛ تطبيقًا لنصوص القانون رقم 111 لسنة 1975 بإعادة تنظيم القطاع الصناعي. ومن ناحية أخرى أُنشئت مجالسُ قِطاعية للتنسيق بين السياسات الصناعية والاقتصادية. ويجري تدريجيًّا الأخذُ بنظام الإدارة بالأهداف والنتائج، ويراعَى في ميزانيات الشركات، اعتبارًا من عام 1977 تحويل معيار الإدارة بالتدريج من أهداف الإنتاج إلى اعتبارات الربحية. وللشركات الآن حرية القيام بالاستثمارات الخاصة بالتجديدات والتطور، لمَّا أعطيت لها سلطة تحديد مستويات الإنتاج والأسعار لكثير من المنتجات. وسوف ترتفع أسعار المنتجات الصناعية الرئيسية؛ حتى تغطي الزيادة في تكاليف إنتاجها؛ بسبب تحويل واردات مستلزمات الإنتاج إلى سوق الموازية، وكذلك بسبب زيادة الفوائد والنفقات الناتجة عن الإجراءات الأخرى. أما بالنسبة إلى قطاع الزراعة سترفع أسعار المنتجين لتتناسب مع الأسعار الدولية، إلى مستويات تضمن حوافز كافية المزارعين.
السياسة المالية:
أدت احتياجات الدفاع القومي وسياسة حماية معيشة الطبقات ذات الدخل المنخفض إلى ارتفاع مستوى الإنفاق بالميزانية بالنسبة للإيرادات، وقد كان تحويل العجز إلى حد كبير من البنوك، عاملاً أساسيًّا في خلق مشكلات التضخم، وضعف ميزان المدفوعات. وقد كان من المرجو أن تتضمن ميزانية هذا العام تغييرات تصحيحيَّة كبيرة في السياسة المالية، إلا أنه ثبت عدم إمكان إجراء هذه التغييرات كلها دفعة واحدة، ومن ثم اتخذت إجراءات الإصلاح المالي بالتدريج، وتعتبر ميزانية هذا العام خطوة أولى في هذا الاتجاه. ومع ذلك سوف تُتخذ إجراءاتٌ أخرى خلال العام لتزداد تدريجيًّا قوة المركز المالي. ولتمكين الحكومة من عدم تجاوز الحد الأقصى للائتمان المقرر للقطاع الحكومي بالفقرة (18).
تضمن ميزانية عام 1977 زيادة الرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج على السلع الترفيهية، وزيادة رسوم الدمغة، ومن المتوقع أن تنتج هذه الإجراءات 60 مليون جنيه.
وبالإضافة إلى ذلك، تم إلغاء دعم الاستهلاك المحلي من القطن؛ مما سوف يخفض من الإنفاق مبلغ 56 مليون جنيه لتحسين نسبة المدخرات القومية وتشجيع الاستثمار، هذا وقد أُلغيت الضريبةُ على القيم المنقولة ورسوم الاستيراد على السلع الرأسمالية ومواد البناء. وسوف تؤدي هذه الإجراءات في مجموعها إلى تحسين في الميزانية بحوالي 100 مليون جنيه، تمثل 40 % تقريبًا من عائد الإجراءات التمييزية التي خُطط لها أصلاً، ويُضاف إلى هذا ارتفاعُ الرسوم الجمركية نتيجة لزيادة تحويل الواردات إلى السوق الموازية.
ومن المتوقع أن تتم خلال هذا العام الموافقة على القانون المعدل لضريبة الدخل الذي سوف يوحد بصورة جزئية جداول ضريبة الدخل، ويحسن متحصلات الأرباح الرأسمالية، وضريبة الملكية. وقد تم اختصار نظام المسحوبات المؤقت الذي تسحب بموجبه الواردات من الجمارك قبل سداد الرسوم؛ تمهيدًا لإلغائه نهائيًّا.
السياسة النقدية والائتمانية:
يتعين زيادة مستوى أسعار الفائدة؛ لتنمية المدخرات المحلية، وتشجيع تدفُّق الموارد المالية الخاصة، وحيث إن الزيادة الفورية في أسعار الفائدة كبيرة، فمن المهم رفعها تدريجيًّا؛ ولذلك رفع البنك المركزي هيكل سعر الفائدة بمقدار 1 % (ومن ثم يزداد سعر خصم البنك المركزي إلى 7 % وأسعار إقراض البنوك التجارية إلى ما يتراوح بين 8 % و 9 % والأسعار على ودائع البنوك التجارية لأجل والودائع الادخارية إلى 6 %). وسوف تحدث زيادات أخرى في أسعار الفائدة؛ حتى يمكن الوصول بها إلى المستويات الدولية المُتتالية.
وضع برنامج الائتمان لعام 1977 بهدف تخفيف الضغوط التضخمية، وتقوية ميزان المدفوعات ومقابلة الاحتياجات الائتمانية للحكومة وللقطاع غير الحكومي، وذلك يتضمن الحد من زيادة الأصول المحلية للجهاز المصرفي (فيما عدا تمويل القطن) التي بلغت 3958.7 مليون جنيه في 30 كانون الثاني/ ديسمبر 1976 بحيث لا تتجاوز 400 مليون جنيه في 30 حزيران/ يونيو 1977، و500 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، 600 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، و500 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، 600 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، 700 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978، كذلك فإن صافي المطلوبات من الحكومة التي بلغت 3083.8 مليون جنيه في 30 كانون الأول/ ديسمبر 1976، لن تزيد بأكثرَ من 225 مليون جنيه في 30 حزيران/ يونيو 1977، 275 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، 350 مليون جنيه في 31 كانون الأول 1977، 400 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978. وإذا تم الحصول على التمويل الخارجي المتوقع في شكل قروض نقدية للحكومة؛ ستخفض تبعًا لذلك الحاجة إلى الائتمان المصرفي. ونظرًا للنمط الموسمي الواضح لاحتياجات تمويل القطن؛ فإنها لن تتجاوز 10 مليون جنيه في 30 حزيران/ يونيو 1977، 30 مليون جنيه في 29 أيلول/ سبتمبر 1977، 200 مليون جنيه في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، أو 90 مليون جنيه في 30 آذار/ مارس 1978.
سياسة الدَّين الخارجي والمتأخِّرات:
أدت متطلبات الأمن القومي وتفاقم مشكلات ميزان المدفوعات خلال السنوات الأخيرة، إلى تراكُم كبير في الدين الخارجي؛ بحيث بلغ مجموعه ما يعادل حوالي 12 مليار دولار، يقع جانب كبيرٌ منها في استحقاقات قصيرة الأجل نسبيًّا. ومن بين أهداف البرنامج الحالي تقليل الاعتماد على الاقتراض من الخارج إلى مستوى يتناسب مع احتياجات التنمية. ومن المرجو أن يؤدي تصحيح المسار الاقتصادي إلى تشجيع التمويل الاستثماري ومساعدات التنمية طويلة الأجل وتقليل الاعتماد على القروض الخارجية قصيرة ومتوسطة الأجل، غير أن ضخامة احتياجات البرنامج الاقتصادي خلال السنوات القادمة ستجعل تقدمنا محدودًا في سبل تقليل القروض الأجنبية الرسمية، قصيرة الأجل ومتوسطة الأجل. ومع ذلك من المتوقع أن يؤدي تقليل استخدام تسهيلات المراسلين بالخارج إلى بعض التحسُّن في متوسط آجال الدَّين الخارجي، وقد هبط في عام 1976 استخدام مثل هذه التسهيلات من 1800 مليون دولار في عام 1975 إلى 1400 مليون دولار. ومع ذلك تخلفنا خلال العام عن سداد هذا الائتمان، حتى بلغ مجموع التزاماتنا في نهاية عام 1976 حوالي 1350 مليون دولار. وسوف يقتصر استخدام هذه التسهيلات خلال الفترة من أول نيسان/ أبريل إلى 30 حُزيران/ يونيو 1977 على 450 مليون دولار، 700 مليون دولار في الفترة المنتهية 30 أيلول/ سبتمبر 1977، 900 مليون دولار في الفترة المنتهية 31 كانون الأول/ ديسمبر 77، 1100 مليون دولار في الفترة المُنتهية 31 آذار/ مارس 1978. ومن المتوقع - نتيجة ذلك - أن تهبط التزاماتنا المُستحقة إلى 750 مليون دولار تقريبًا مع نهاية آذار/ مارس 1978. كذلك سوف تقتصر القروض الأخرى بقدر الإمكان على القروض الطويلة الأجل ذات الشروط الميسرة، والتي سوف تستخدم طبقًا للبرنامج الاقتصادي فقط. وهكذا لن يؤدي اقتراض القطاع العام من الخارج إلى زيادة الدين العام في المدة 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977 (بما في ذلك الودائع لدى البنك المركزي وجميع الالتزامات الأخرَى قصيرة الأجل ما عدا الودائع الخاصة لدى البنوك التجارية) بأكثر من 1000 مليون دولار حتى 30 حُزيران/ يونيو 1977، 1500 مليون دولار حتى 30 أيلول/ سبتمبر 1977، 2000 مليون دولار حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، 2500 مليون دولار حتى 31 آذار/ مارس 1978. ومن الممكن تعديل هذه الحدود العليا في وقت المراجعة النصفية، أو قبل ذلك إذا قدِم إلى مصر ائتمان إضافي بشروط مرضية، تسمح بتعجيل التنمية الاقتصادية دون نتائجَ تضخمية. وحتى تضمن أن يكون الاقتراض مناسبًا لاحتياجات التنمية؛ أُنشِئ بالبنك المركزي وحدة لتسجيل وتحليل الدين الخارجي، سوف تزاول نشاطها بحلول 31 آذار/ مارس 1977 على أن يسجل لدى الوحدة كل قرض أجنبي، تكون فترة سداده سنة أو أكثر.
أدى اطِّراد العجز في ميزان المدفوعات إلى استمرار تراكم متأخرات المدفوعات الجارية، لكن في ظل حرية تحويل الأرباح والفوائد المسموح بها عن طريق السوق الموازية، لن تطرأ متأخرات جديدة مستقبلاً. هذا وقد ارتفعت مُتأخِّرات الفوائد والتسديدات الأصلية على الدَّين المدني الخارجي (بما في ذلك تسهيلات المراسلين) بدرجة كبيرة، ولن يُسمح للمتأخرات أن تتجاوز 500 مليون دولار خلال الفترة من أول أيار/ مايو إلى 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977، والتي ستكون قد خفضت في نهايتها إلى ما لا يتجاوز 250 مليون دولار. وخلال الفترة من 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 إلى 30 نيسان/ أبريل 1978، لن يسمح لها أن تتجاوز ما يعادل 250 مليون دولار على أن تُلغَى تمامًا في نهاية هذه الفترة.
لا تعتزم الحكومة خلال فترة سريان التسهيلات الائتمانية، إدخال أية أنظمة لأسعار الصرف المتعددة دون موافقة الصندوق، أو تضع قيودًا جديدة، أو تزيد القائم منها فعلاً على المدفوعات والتحويلات الخاصة بالمعاملات الدولية الجارية، أو تعقد اتفاقاتِ دفع ثنائية جديدة مع أعضاء الصندوق، أو تفرض قيودًا جديدة، أو تزيد القائم منها فعلاً على الواردات؛ لأسباب تتعلق بميزان المدفوعات.
إذا لم يراعَ خلال فترة سريان التسهيلات الائتمانية ما جاء بالفقرات (8، 18، 19، 20) أعلاه، أو إذا لم تنفذ النوايا الواردة بالفقرة (21)، أو إذا لم تحتفظ البنوك التجارية بحسابات الصرف الأجنبي بسعر السوق الموازية بعد أول كانون الثاني/ يناير 1978 طبقًا للفقرة (7)، ولا يجوز لمصر أن تطلب الشراء بموجوب تسهيلات تؤدي إلى زيادة حيازة الصندوق من الجنيهات المصرية عن الشريحة الائتمانية الأولى، إلا بعد التوصل إلى اتفاق مع الصندوق بشأن الظروف التي توجِب مثل هذا الشراء.
تستعرض مصر مع الصندوق في موعد أقصاه 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 التقدم الذي أحرزته في تنفيذ البرنامج، وتتشاور معه خلال فترة سريان التسهيلات بشأن الإجراءات التي قد تكون ملائمة؛ بناء على طلب مصر أو طلب مدير الصندوق، إذا لم يلاحظ أي من المبادئ الواردة بالفقرة (22). بالإضافة إلى ذلك، فإنه بانتهاء فترة التسهيلات، وعندما تكون حيازة الصندوق من الجنيهات المصرية أعلى من الشريحة الائتمانية الأولى؛ تتشاور مصر مع الصندوق من وقت لآخر، فيما يتعلَّق بسياسات ميزان مدفوعات مصرَ.
تتفق الحكومة مع الصندوق على العملات التي يمكن شراؤها قبل التقدم بطلب الشراء، في ظل التسهيلات المقترحة.












آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2011, 03:58 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع


الفصل العاشر
(1974/ 1979)
التَغيُّراتُ الهيْكليَّة والبِنيَويَّة، والسَّلام الأمريكي الإسرائيلي

أولاً ـ المُعدَّلات والمفاهيم:
(1) أكذوبة "مُعجزة" النمو الاقتصادي:
تابعنا في فصول سابقة تطور المفاهيم، وتطور التصورات حول استراتيجية التنمية، باتجاه إعادة صياغة هيكل الاقتصاد المصري وبنيته (من خلال الجهد التنموي)، على نحو يُحقق الاستقرار في التبعية (راجع الفصول من السادس إلى التاسع). وكشفنا ـ في الأثناءـ زيف الادعاء بارتفاع معدلات النمو التي حققها "الانفتاح" (أو الغزو الاقتصادي الخارجي). في التقرير الشهير للبنك الدولي عن إدارة الاقتصاد المصري في مرحلة وخلص البنك الدولي إلى نتيجة عامة تقول: "أنه إذا كان ضروريًا أن نجد علاقة وحيدة بين (معدلات النمو) وبين متغير آخر، فإن المرء قد يحدد هذا المتغير، على سبيل القطع تقريبًا، باعتباره مدى توافر النقد الأجنبي" (1). والمقصود هنا أن انقطاع القروض الأمريكية في أواخر الخطة الخمسية الأولى، كان السبب في بطء معدلات النمو أثناء الفترة التي تلتها، والمقصود بالتالي إثبات أن انتظام القروض الأمريكية والغربية، الشرط الحاكم لارتفاع وانتظام معدلات النمو، وهذه الأُطْروحة كانت تتطلب من البنك الدولي (ومن معه) اعتبار أن الاستنزاف البشري والعيني والمالي للحرب، كان سببًا ثانويًّا في انخفاض معدلات النمو في السنوات التالية لحرب 1967 ـ من ناحية ـ وكانت تتطلب الإصرار على أكذوبة أنه حدثت "معجزة" في معدلات النمو بعد "الانفتاح" ـ من ناحية أخرى. ولن نعيدَ ما ذكرناه حول حقيقة هذه المعدلات في السنوات 1974 و1975 و1976، ولكن نضيف أن حقيقة معدل النمو المُحقق عام 1977 لم تكن أفضل حالاً.
لقد قيل إن معدل النمو العام في الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) وصل إلى 8.3 % (أي تجاوز ما كان مستهدفًا في مشروع الخطة: 8 %). ونشير ـ في هذا الصدد ـ إلى الديماغوجية التي أحاطت بهذا المعدل؛ كي نكشف مرة أخرى حقيقة الخبراء الدوليين، وحقيقة أن التقارير الدولية تهتم بالدعاية السياسية لخدمة أغراضها، وليس بالدقة العلمية؛ ففي بيان حامد السايح أمام المجموعة الاستشارية (يونيو 1978)، والذي أقرَّه بالضرورة قبل إلقائه البنك الدولي، قال: "إن مصر استطاعت أثناء 1977 أن تحقق معدلاً حقيقيًّا (أي بالأسعار الثابتة) للنمو بلغ 8.3 في المائة". وعلق على ذلك بأن "هذا المعدل لم يسبق أن تحقق من قبل". وقد صدَّق على ذلك البيان الصادر عن اجتماع المجموعة (أيضًا بعد أن اعتمده البنك الدولي بالضرورة)، فسجَّل "أن الاجتماع لاحظ بارتياح أن معدل النمو لعام 1977 كان عند 8.3 في المائة (لاحظ الدقة الشديدة في رصد الـ 0.3) وهذا يثير الارتياح جدًا" (3). والطريف في الموضوع أن هذا المعدل ـ في حالة صدقِه ـ كان يمثل تراجعًا (يثير القلق) بالنسبة للمعدلات التي قيل إنها تحققت في العاملين الماضيَين (1975 و1976)، واعتمدتها تقارير الهيئات الدولية، فمعدل النمو الذي نُسب إلى هذين العاملين كان أعلى من 9 في المائة، وبالتالي لم يكن معدل 8.3 في المائة شيئًا فريدًا، أو مثيرًا لكل الارتياح الذي عبَّرت عنه مجموعة باريس. ولكن الدعاية لنتائج "قانون التصفية" في عام 1977، كانت مسألة ضرورية.
وواقع الحال أن المعدل المنسوب إلى عام 1977 (كمعدلات الأعوام السابقة) كان يتعارض مع كل البيانات والمؤشرات الصادرة من الجهات المسئولة. فحين أُعلِن مشروع خطة 1977، أوضح وزير التخطيط أيامها (الإمام) أنه ينبغي تدارك النواقص الخطيرة التي صادفت التنمية في عام 1976 (التي قيل عنها أيضًا إنها حققت معجزة)؛ فقد انتقَد الوزيرُ "أن خطة 1976 بُنيت على أساس توقعات بأن تتوفر خلال السنة موارد إضافية من الأخوة العرب بوجه خاص، ومن الدول الصديقة بوجه عام (يقصد مشروع مارشال العربي).. غير أن عدم تحقق الموارد بقدر كافٍ أدى إلى تنفيذ نسبة محدودة من الشريحة الثانية، الأمر الذي أثر على معدلات تحقق الأهداف، وعلى متطلبات تنفيذ البرنامج الاستثماري للخطة الخمسية في مجمُوعها". وقال الوزير أن الأمر في عام 1977 ينبغي أن يكون مختلفًا، فأولاً يتطلب التخطيط العلمي السليم "أن الاستثمار للوصول إلى ما استهدفه مشروع الخطة الخمسية. وحتى لا نكون واهمين؛ فإن هذه الاستثمارات يجب أن تُبنى على موارد يمكن تحقيقها؛ سواء أكان ذلك من مدخرات قومية أم من معدات ومستلزمات التشييد، فإذا توافرت موارد إضافية خلال السنة، وهو ما يُرجَى أن يتحقق، فإن هذا يمكن أخذه في الحسبان في حينه". إلا أن هذه العوامل الضرورية، لم تتوفر خلال العام ـ كالعادة ـ فارتفع معدل النمو ـ كالعادة أيضًا ـ عما كان مُستهدفًا! وبعض هذه العوامل لم يتوفر من البداية، أي وفق هيكل مشروع الخطة نفسه؛ إذ لم تتمكن الحكومة من زيادة حجم الاستثمار ـ كما طالب وزير التخطيط ـ لتعويض القصور في عام 1976. صحيح أن إجمالي الاستثمارات المستهدف كان 1784.5 مليون جنيه، مقابل 1201 مليون في العام السابق، ولكن هذا الرقم المُستهدَف كان يتضمن مبلغ 389.3 مليون جنيه يمثل الفرق بين السعرين التشجيعي والرسمي للمكون الأجنبي والجمارك المستحقة على هذا الفرق، وباستبعاد هذا الانتفاخ المفتعل يهبط الرقم المستهدف للاستثمار إلى حوالي 1395.2 مليون جنيه، ولا تكون الزيادة في حجم الاستثمار بالنسبة لعام 1976 حوالي 48 % ولكن حوالي 16 % فقط.
أيضًا لم يتمكَّن مشروع الخطة من الاعتماد على موارد حقيقية؛ لكي تكون هناك خطة، وحتى "لا نكون واهمين"، كما قال الوزير بصدق. فالمدخرات المحلية المُستهدَفة كانت 845.5 مليون جنيه، مقابل 575 مليون عام 1976. ولكن إذا استبعدنا فروق السعر التشجيعي؛ يهبط الرقم هذه المرة إلى أقل من الرقم المقابل للمدخرات في عام 1976 ـ إلى 268 مليون جنيه فقط، مقابل 475 مليون جنيه في عام 1976. وبالتالي تراجعت نسبة الادخار المحلي في تمويل الاستثمارات إلى 15 % مقابل 40 % في العام السابق (4)، وكان هذا يعني زيادة الاعتماد على الخارج، ودون التزامات محددة سلفًا تغطي كل هذه الفجوة؛ بحيث تدخل كموارد حقيقية في يد المخطط.
إلا أن هذه الأوجه من القصور والاختلال، استفحلت ـ كالعادة ـ أثناء التنفيذ. فرغم الحجم المتواضع للاستثمار وللادخار المحلي المستهدَف، أعلن وزير التخطيط التالي (القيسوني) على ضوء نتائج الستة أشهر الأولى من عام 1977 "أن التوسع في الاستهلاك أهدر الموارد المُتاحة للاستثمار.. ولا يخفَى أننا نعطي الاستهلاك اهتمامًا يزيد عن اهتمامنا بالاستثمار والإنتاج... والمطلوب في هذه المرحلة أن نعطي الاستثمار، ونعطي الإنتاج، الاهتمام الأول، والاهتمام الأكبر". وحذر القيسوني من نتائج السياسة الحالية، كما تكشفت من المتابعة النصف سنوية، "فلو أهملنا الاستثمار، واستخدمنا الموارد المتاحة لنا الآن في الاستهلاك؛ فإننا سنجد أنفسنا مضطرين مرة أخرى إلى اللجوء للقروض قصيرة الأجل؛ وبذلك نعود إلى دوامة هذه الديون التي نعمل جاهدين على التخلص منها"(5). وأوضح تقرير وزارة المالية حقيقة هذا التخلف في الاتفاق الاستثماري (خلال الفترة التي تحدث فيها القيسوني). فسجل أن 27 في المائة فقط من إجمالي الاستخدامات الرأسمالية المُدرَجة في موازنة عام 1977 تم إنفاقها خلال الأشهر السبعة الأولى من ذلك العام، مقابل 35 في المائة تم إنفاقها خلال الفترة المماثلة من عام 1976، فعلى حين أن إجمالي الاستخدامات الرأسمالية كان يبلغ 1654.5 مليون جنيه، لم يتجاوز الإنفاق الفعلي 441.3 مليون جنيه، وفي مقابل ربط سنوي يبلغ 1196.5 مليون جنيه في عام 1976، ثم إنفاق 422.2 مليون جنيه في الأشهر السبعة الأولى من العام المذكور. ولم يتوقف الأمر على نقص الاستخدام الفعلي للاستخدامات الرأسمالية في موازنات الحكومة ووحدات الحكم المحلي والهيئات الاقتصادية والخدمية ومشروعات القطاع العام؛ إذ امتد النقص الملحوظ من الإيرادات الرأسمالية أيضًا، وأوضح تقرير وزارة المالية أن إجمالي المحصل الفعلي من الإيرادات الرأسمالية، بلغ 443.5 مليون جنيه من تقدير سنوي قدره 1645.5 مليون جنيه، بنسبة 27 في المائة، مقابل 406.5 مليون جنيه، من تقدير سنوي قدره 1196.5 مليون جنيه، بنسبة 34 في المائة، عن نفس الفترة من العام السابق(6). ولكن أعلن ـ كالعادة ـ عن قفزة في أرقام الاستثمار خلال الأشهر المتبقية من عام 1977؛ إذ قيل في تقرير المتابعة عن كل السنة: إن الاستثمارات الإجمالية (القطاع العام والخاص) التي تم تنفيذها، بلغت نحو 1636.3 مليون جنيه، أي بزيادة قدرها 43 مليون جنيه عن المعتمد أصلاً في خطة 1977 (دون المخزون السلعي). وأعلن أن القطاع العام (الذي ركز على متابعته تقرير وزارة المالية) نفذ استثمارات تقدر بنحو 1420 مليون جنيه بزيادة تقدر 81 مليون جنيه، وبنسبة 106 في المائة عن الحجم الاستثماري الأصلي المقرر له" (7).
ونذكر أن القيسوني ووزير المالية عبَّرا عن نقدهما الصريح لمختلف جهات التنفيذ. (الفصل التاسع) ووصل الحال إلى اعتراف القيسوني بأنه لم تعُدْ هناك خطةٌ (استمرارًا لما كان في الأعوام السابقة)، فقال: "إننا نفتقر إلى خطة تنمية واضحة محددة". و"الاستثمارات يجب أن تتحقق بطريقة مدروسة؛ وفقًا لخطة واضحة مفضلة، يُراعَى فيها التوازن المنشود بين القطاعات المختلفة؛ بحيث لا يتقدم قطاع على حساب قطاع آخر، أو تظهر صناعة دون أن نكون قد أقمنا الأنشطة المُكملة لها" (5).
وقد أكدت النتائج النهائية لآخر العام، حقيقةَ أن الجهد التنموي لم يحكمه فعلاً أي تخطيط، وحتى في حدود الأرقام الإجمالية، تتضح عشوائية المعدلات التي تحققت بها الاستثمارات في القطاعات المختلفة؛ قطاع الزراعة نفذ 92.7 % مما كان مُستهدَفًا. قطاع الصناعة والتعدين 138.4 % قطاع البترول نفذ 60.4 %. قطاع الكهرباء 100.1 % قطاع المقاولات 168.4 %. قطاع النقل والمواصلات والتخزين نفذ 70.2 %. قطاع التجارة والمال نفذ 61.4 %. قطاع الإسكان 93.4 %. قطاع المرافق 84%. الخدمات الأخرى 80.1 %.
وقد انعكس ذلك ـ بطبيعة الحال ـ في نمو الدخل المتولد من القطاعات المختلفة بمعدلات لا تمت بصلة للمعدلات التي كانت مستهدَفة. ولكن حدث ـ في النهاية ـ أن كان معدل النمو العام في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة ـ كما قيل ـ 8.3 %.
وبعيدًا عن المؤشرات السابقة التي تثير شكًا مشروعًا حول هذا المعدل المعلَن، سبق أن هاجمنا معدلات النمو المزعومة، من زاوية أن الأسعار الثابتة (التي يُحسب على أساسها ما يُسمَّى معدل النمو الحقيقي) تحدد وفق معدلات للتضخم تقل كثيرًا عن المعدلات الفعلية، وأشرنا أيضًا إلى النواقص المصاحبة للحسابات القومية، ونشهد أن صندوق النقد الدولي بدأ بدوره يثير هذه النقطة؛ إذ اعترف بأن "تطورات الناتج المحلي في مصر، وكذلك الحسابات القومية الإجمالية الأخرى، تعوقها بعض جوانب القصور الإحصائي، فسلسلة الأسعار الجارية تعاني من عدم الاتساق المرتبط بتحميلها بخدمات وقطاعات معينة. وهناك مصاعبُ إضافية فيما يتعلق بسلسلة الأسعار الثابتة ناشئة عن نقص الأرقام القياسية المناسبة لضبطها؛ ولذا يعتقد أن بيانات الحسابات القومية تبالغ في تقدير المعدل الحقيقي لنمو الاقتصاد" (8). وقد حاول الجهاز المركزي للمحاسبات تصويب هذا الوضع، وباستخدام أرقام قياسية قدرها، هبط معدل النمو عام 1977 من 12 % (بالأسعار الجارية) و8.3 % (بالأسعار الثابتة حسب كلام المسئولين) إلى 0.19 % (أي لم يحدث أي نمو تقريبًا) (9).
وعلى كل، فإننا لا نهدف إلا أن نهزم البنك الدولي في الساحة التي اختارها لنفسه، وبالمعيار الذي عينه للنجاح والفشل في قضية التنمية. ولكننا لا نضع أبدًا معدل النمو معيارًا أولاً. معدل النمو متغير تابع لهدف التنمية المستقلة (بمفهومها المركب ـ الفصل الخامس). ومن هذا المنظور نركز انتباهنا على المفاهيم الحاكمة للتنمية، وعلى محتوى النمو الاقتصادي الحادث ـ قبل معدله، وعلى ارتباط هذا الجهد التنموي بمُخططات التغيير الشامل للهيكل الاقتصادي والبنية الاقتصادية (10). ومن هذا المنظور نحاكم أداء القوى الخارجية. إن تغير السياسات المالية والنقدية (الذي تابعنا دور صندوق النقد في فرضه) يؤدي إلى التنمية التابعة ويدعمها، وهو في نفس الوقت يتدعم ويتعمَّق بهذه التنمية التابعة، والنشاط في هذا المجال يقوده ـ كما نعلم ـ البنك، الدولي وهو يرتبط ويوجه ـ في منطقتنا ـ بمتطلبات السلام الأمريكي ـ الإسرائيلي. وقد تابعنا تطور مفاهيم وممارسات التنمية عبر السنوات المتتالية، ونهدف في هذا الفصل إلى استكمال سلسلة الوقائع، وتشكيل نظرة عامة عن النتائج.
(2) الخطوط العامة لاستراتيجيَّة التنمية التابعة:
أ- في متابعة تطور المفاهيم، وصلنا إلى أن الحكومة المصرية وقعت في مارس 1977 على استراتيجية التنمية التي صاغها البنكُ الدولي. وبعد المجموعة الاستشارية الأولى بكل ما تضمنته، وما أضافه القيسوني أمامها، كان طبيعيًّا (في آخر العام) أن يبدأ وزير التخطيط الجديد في شرح ما آل إليه التخطيط ومفاهيمه وأولوياته، وفق هذه الاستراتيجية، فقال القيسوني: "يبدو من استقراء تطوير الاستثمارات أن بريق المشروعات الجديدة، كان يصرفنا عن المحافظة على المشروعات القائمة أو حتى عن استكمال المشروعات التي بدأناها.. ونرجو في خطة 1978 أن نركز تركيزًا قويًّا على هذا الموضوع، فمن مجموع استثمارات الحكومة والقطاع العام خصصنا لاستكمال المشروعات ما يزيد على 70 % من الاستثمار الكلي، وخصصنا حوالي 20% من الاستثمارات للإحلال والتجديد للمحافظة على الثورة القائمة، بينما لم تخصصْ أكثر من 10 % فقط من الخطة للمشروعات الجديدة" (11).
وهذا الكلام كان مثيرًا لدهشة الكثيرين؛ فلِلعام الرابع على التوالي، تظل الخطط أسيرة لما تسميه استكمالاً للمشروعات السابقة، وتمتنع عن إقامة مشروعات جديدة؛ استجابةً لطلب الجهات الخارجية وقف التوسع في القطاع العام الإنتاجي. وقد اعترف القيسوني بالتغير الهيكلي المستهدَف في نمط الاستثمار الحكومي ـ في الأجل المتوسط ـ وذلك "بتحديد أشد حزمًا لأولوليات المشروعات التي توجه إليها الموارد الاستثمارية؛ بحيث يتوسَّع القطاع العام في تنفيذ المرافق.. بينما يتحمل القطاع الخاص عبئًا متزايدًا من المشروعات الإنتاجية"، وفي كل الأحوال ينبغي "تركيز الاستثمارات العامة في قطاعات معينة، وفي عدد محدود من المشروعات؛ بحيث لا تتشتت المواردُ" (12).
وقد "استجابت خطة 1978 إلى كافة احتياجات القطاع العام لوجوب دعمه ورفع قدراته الإنتاجية؛ وذلك بتمكينه من مُستلزمات الإحلال والتجديد واستكمال مشروعاتِه، وكذا بتحديث معداته، والنهوض بمستواه التكنولوجي وتأهيله لأنْ يقدم للقطاع الخاص - المحلي والأجنبي - مبادراتِ جذب للمشاركة" (11). وكان مفروضًا أن يُستكمل هذا التوجه بتحديد السياسات المناسبة، وعلى رأسها التعادل التدريجي بين الأسعار المحلية والأسعار العالمية، وما يتضمنه ذلك من إجراءات أقل تكلِفة من سياسة الدعم الاستهلاكي الحالية (ويقال إنها أكثر فعالية) ولا بد أيضًا من الاعتراف بالوضع المؤسسي للجهات الخارجية في قلب أجهزة التخطيط المصرية، وقيل هذا باسم "الاستمرار في الحوار الاقتصادي المنظم مع الدول العربية والصديقة، والمنظمات الدولية؛ لتنظيم وتنسيق استخدام المعونات المُتاحة" (12).
وقد نذكر أخيرًا أن الإمام أطلق اسمًا محايدًا على مشروعات القناة والبترول (في مشروعه لخطة 1977)؛ إذ أسماها: "المشروعات التصديرية" فجاء القيسوني ليطلق عليها: "المشروعات الرائدة"؛ تمشيًّا مع استراتيجية البنك الدولي (ومن خلفَه)، وأضاف إليها السياحة (13). واختلاف التسمية لم يكن مسألة شكلية؛ فهو اختلاف في المفهوم،
أو في مضمون الدور المرشح لهذه القطاعات.

ب ـ فصلت وزارةُ التخطيط هذا الكلام ـ وغيره ـ في مجلدات سبعة عن الخطة الخمسيَّة الصادرة في أواخر 1977 (وخاصة المجلد الأول). ولكن ما دُمنا نبحث عن المفاهيم التي تتبناها الحكومة، فإنه يحسن أن نلجأ للأصل مباشرة، أي إلى تقرير البنك الدولي ذي المُجلدات الستة، والصادر في نفس الفترة (والمجلد الأول أيضًا هو الأهم لتعلقه بالنظرة العامة). ولا أعتقد أن المندوب الأمريكي في المجموعة الاستشارية الثانية كان مبالغًا أو مجاملاً، حين وصف دراسة البنك الدولي عن الاقتصاد المصري بأنها "من أفضل الدراسات الصادرة علن البنك في هذه المجال" (13). وفي الحقيقة، كانت الجهود التنموية التي رصدناها خلال عامي 1975، 1976، والتي تواصلت عام 1977؛ تعبيرًا عن الانتصارات المُتعاظِمة لاتجاهات البنك. صحيح كانت الإنجازات غير متكاملة أو متماسكة على النحو المبلور في التقرير المشار إليه (نوفمبر 1977). ولكن هذا يعكس المصاعب التي واجهها الصندوق أيضًا، في إعادة تشكيل الاقتصاد المصري. وإذا كنا نهدف إلى تشكيل صورة عامة لمجمل التغيرات الهيكلية والبنيوية التي تحققت، فإنه يفيد أن نبدأ بعرض المبادئ الأساسية للنموذج المتكامل والمستهدف الذي أوضحه البنك الدولي (14).
"المساعدات" الخارجية تلعب ـ كما يقول البنك ـ الدول الحاكم للتنمية؛ ولذا أكَّد مطلب إقامة علاقة مؤسسية مُستقرة بين الحكومة المصرية ومقدمي "المساعدات" "فأثناء العقد القادم، يُتوقع أن تتزايد أهمية تنسيق الأولويات بين مصر ومقدمي المساعدات؛ لأن قسمًا كبيرًا من الاستثمارات المتوقعة تموله المساعدة الخارجية. ويمكن أن يتحقق ذلك - إلى حد ما - من خلال إنشاء مؤسسة المجموعة الاستشارية؛ حيث يجد الجانبان فيها فرصة المناقشة حول استراتيجية التنمية، والأولويات القطاعية، والإمكانيات التمويلية المُتاحة" (15).
ومع زيادة الاعتماد على التمويل الخارجي للاستثمار "وبكل اعتبارات عدم اليقين في المنطقة، يظل التخطيط للأجل المتوسط، على سبيل القطع، تجربة غير مُتيَقَّن منها تمامًا. وقد يكون أكثر فاعلية تبنِّي نظام خطط خمسية متحركة" (16)، (أي بعد كل سنة يُضاف برنامج سنة جديدة للخطة؛ بحيث يظل الأفق الزمني للتخطيط دائمًا خمس سنوات).
وهذا المنهج لا يختلف كثيرًا عن منهج برامج الاستثمار السنوية التي درجنا عليها، ولكن يهمنا هنا أن نؤكد حقيقة أن البنك ربط هذا المنهج باعتماد التمويل على المصادر الغربية، وربط مواقف هذه المصادر بتطورات الأوضاع في المنطقة. ويفهم من هذا أن البنك استشرف أن هذه الأوضاع ستشهد تغيرات هامة وعميقة تؤثر في حجم التمويل الخارجي وتخصيصاته؛ ولذا كان ينبغي أن تمتنع الحكومة المصرية عن تحديد أهداف ثابتة لنمو اقتصادها خلال السنوات الخمس التالية لكتابة التقرير (أي 78 ـ 1982)؛ انتظارًا لنتائج التطورات المتوقعة. وأعتقد أن البنك، ومقدمي "المساعدات"، كانوا على حق في هذا المطلب؛ إذ تشهد هذه الفترة معاهدة السلام "وتطبيع" العلاقات مع العدو الإسرائيلي. وهذا هو المضمون الحقيقي لما أُطلق عليه يومًا: "مشروع كارتر"، وللاتصالات حول كونسورتيوم دولي بعد تحقيق السلام.
وكيف ينظر البنك، ومعه جهات التمويل الغربية، إلى الإمكانيات الكامنة في الاقتصاد المصري؟ يؤكد البنك أن الإمكانيات كبيرة في الأجل الطويل، ويتمثل ذلك في الدخل المتزايد المتوقع من البترول، وفي الإيرادات الناشئة عن توسيع قناة السويس، وعن التحويلات المتصاعدة بسرعة من المصريين العاملين في الخارج، وعن السياحة، أيضًا تملك مصر روابطَ ثقافية وسياسية مع الأقطار العربية صاحبة الفوائض المالية، وتملك موقعًا مناسبًا (في الشرق الأوسط، ولكن على مقرُبة من الأسواق الأوروبية، وتملك قوة عمل مُدرَّبة إلى درجة معقولة(17) والقضية الآن هي كيف تتحول هذه الإمكانيات إلى فعل وحقيقة؟
ويكفينا ـ في هذه المرحلة من التحليل ـ أن نشير إلى اهتمام البنك "بالقطاعات الرائدة" (البترول ـ القناة ـ السياحة)، التي تُزيد الدخل وحصيلة النقد الأجنبي، دون زيادة مناسبة في رقم العمالة، أو في المهارات الإنتاجية، بل يشيد البنك بالزيادة الكبيرة في تحويلات العاملين في الخارج، رغم أنها تعكس إلى حد كبير - مع بقاء كل شيء على حاله- زيادة في الدخل والنقد الأجنبي على حساب التدهور في الإنتاجية داخل الاقتصاد المصري. ونلاحظ أيضًا أن هيكل الاستثمار والنشاط الاقتصادي المُقترَح، يعتمد بالضرورة، أو وفق المخططات الموضوعة، على قرارات خارجية. فالبحث عن البترول وزيادة إنتاجه، يعتمد على إنفاق الشركات الأجنبية، وتوسيع القناة يعتمد على قروض يديرها البنك الدولي (وخاصة من الأقطار النفطية التي "تربطها علاقات ثقافية وسياسية" مع مصر، أي من الأقطار الخليجية الخاضِعة للغرب). وإمكانيات التوسع في السياحة تعتمد على الاستثمارات العربية الخاصة، وعلى القدرات التنظيمية للشركات الغربية. والعمالة المصرية في الدول النفطية أصبحت تمثل اعتمادًا متبادلاً (في هذا المجال)؛ بحيث يصعب على مصر أو على هذه الدول إصدار قرار بمنعها، ولكن تظل الدول النفطية ـ في الظروف الحالية ـ في موقع أفضلَ من حيث تحديد الأعداد المطلوبة ومستوى الدخول، وبالتالي في تحديد حجم التحويلات المُتاحة من هذا المصدر، بل وفي وضع قيود على التحويلات عند الضرورة. بقيت إمكانية الاستفادة من الموقع الجغرافي للتصدير إلى أوروبا، وهذه إشارة إلى صناعات تصديرية تعتمد في قيامها وإدارتها على الخارج، فالتمويل من "الأقطار التي تربطها علاقات ثقافية وسياسية مع مصر"، والتكنولوجيا لصناعات التصدير، تعتمد على الشركات العابرة للجنسية، وتنظيم العملية كلها، أو تأليف عوامل الإنتاج، يعتمد أيضًا على هذه الشركات (ومن خلفها)، وما نُقدمه في هذه الصناعات (حسب رواية البنك) لم يتجاوز الموقع والأيدي العاملة التي نسي أن يذكر ضمن مزاياها أنها رخيصة، ويبدو أنه نسي أيضًا، أن مصر يمكن أن تسهم بمنظمين وإداريين.
هذا الهيكل المقترَح للاستثمار والنشاط الاقتصادي، يعتمد على الخارج، وبمعنى آخر يعتمد تنفيذ البرنامج التنموي على رضاء الخارج عنا، أي على مدَى تنفيذنا لتعليمات الجهات صاحبة القرار. ومفهوم التبعية هنا واضح. وقد عبَّر البنك عن هذه التعليمات لأصحاب القرار حين أوضح "إن البنية الاقتصادية الحالية مُثقلة بالمؤسسات والسياسات والمناهج التي لا تعتبر مناسبة لاستخدام الظروف الجديدة على النحو الأفضل. وعلى ذلك سيتطلب تحول الإمكانية إلى فعل إصلاحات كبيرة في السياسة، وتغيرات بنيوية" (17).
والإصلاحات والتغيرات المطلوبة عملية مركبة، تشمل مواجهة للاختلال الأساسي في التوازن بين حجم السكان والموارد غير البشرية. وتشمل مواجهات للتغيير في قطاعات الصناعة والزراعة والتعليم.. إلخ، كما يقول البنك. ولكن في أي اتجاه، وبأي الوسائل؟ طبعًا لا بد من الانفتاح الكامل المُستنِد إلى تعليمات صندوق النقد، وهناك "قضايا أساسية تتعلق بوضع السياسات الاقتصادية وبالتنسيق بينها؛ وبسبب التغلغل الطويل والواسع للدولة في الاقتصاد، فإن هذه القضايا لا ينفع معها تحسين أو تحوير هذا الإجراء السياسي أو ذاك، فالمطلوب إجراء تكون غير فعالة إذا شرع فيها جزءًا جزءًا، ولكن قد يكون مستحيلاً أيضًا أن يتم التنفيذ بسرعة وبطريقة راديكالية" (18). إن الأمر يستلزم إدارة كُفْأَة لفترة انتقالية، يُستكمل أثناءها التحول المطلوب. "ويمكن اعتبار الفترة من 1973 على أنها تمثل بداية لمرحلة انتقالية طويلة نسبيًّا قد تستغرق عِقدًا" (19) (أي حتى أوائل الثمانينيات).
وحدد التقرير تصورًا واقعيًا لمدى الانفتاح وأشكاله في البنية الاقتصادية المصرية، وقال: "إنه يبدو واضحًا أن النسق الاقتصادي المصري سيظل مختلطًا، به قطاع عام كبير وقطاع خاص مدعم". ويمثل هذا التصور تطويعًا لنموذج البنك وفق متغيرات محلية لا يمكن تجاهلها. لقد أوضحنا أن البنك الدولي يسلم بإنشاء الدولة للهياكل الارتكازية وامتلاكها لها، وأيضًا لبعض الصناعات (الفصل الخامس). ولكن وفقًا للاستراتيجية الموضوعة لمصر يجري التوسُّع في قطاعات البترول والتعدين وقناة السويس، وهذه بالضرورة في إطار قطاع الدولة (وبهذا المعنى تملك السعودية والكويت مثلاً قطاعًا عامًا هائلاً). ولكن في الحالة المصرية هناك أيضًا مشكلة المواجهة الصعبة مع القطاع العام الموروث في مجال الصناعة التحويلية، ويقرر البنك الدولي "أن التخلي عن ملكية هذا القطاع غير ممكن من الناحية السياسية، كما أنه ليس هدفًا لسياسة الحكومة". وعلى ذلك تلجأ سياسة الانفتاح في الظروف المصرية، إلى النفس الطويل، وتجاوز الشكل إلى المضمون الفعلي، فمن ناحية تعمل التخصيصات الاستثمارية الجديدة إلى الحد من نمو القطاع العام، وخاصة في الصناعات التحويلية، وتتم مشاركة متزايدة بين القطاع العام والقطاع الخاص (أجنبي ومحلي)، ويعني هذا "انخفاضًا في الحجم النسبي للقطاع العام في الصناعات التحويلية". وبالنسبة لهذه الصناعات التي تبقى مملوكة للقطاع العام، "فإن مسألة الملكية قد لا تهم كثيرًا؛ فالاهتمام الحقيقي للانفتاح موجه إلى اقتراب أكثر انطلاقًا نحو الأسواق المحلية والخارجية، وإلى تدخل إداري أقل في حركة عوامل الإنتاج، وفي عمل الاقتصاد. وباختصار، حول إدارة الاقتصاد على مستوى الماكرو والميكرو.. إن هدف سياسة الانفتاح خلق نسق اقتصادي جديد، يتكافأ فيه القطاعان - العام والخاص - من حيث الوزن، وتحُدّ فيه الدولةُ بشدة من تدخلها في الاقتصاد". إن التحول إلى نَسَق الاقتصاد المختلط، لا يعني فقط تواجد "قطاع عام وقطاع خاص لهما قوة متقاربة، تمكِّن كلاً منهما من مراجعة وموازنة الآخر، ولكن يكفي أيضًا أن كليهما متفتح فيما يتعلق بتخصيص الموارد، وكليهما عادل بمعايير توزيع الدخل". ويؤكد البنكُ مرة أخرى، أن تحقيق كل ذلك "لا يُتوقع أن يكون سهلاً، ولا يتوقع أن يتم فورًا".. "ولا يمكن استبعاد احتمالات انتكاس السياسية.. وما لم تنفذ بعناية وتدرُّج، فإن الانفتاح يخلق توترات اجتماعية وسياسية، يمكنها إجبار الحكومة على التخلي عن هذه السياسة، أو على تعديلها جذريًّا" (20).
في الطريق إلى الاقتصاد المختلط، لا بد من دعم وحفز الاستثمار الخاص الأجنبي والمحلي (في إطار استراتيجية تنموية ملائمة). وقد أكد البنك في مجال الاستثمار الأجنبي على المطالب التقليدية للمستثمرين الأجانب، ولكن نلحظ إلحاحه على غزو قطاع المقاولات، "ففي الحقيقة، يحتمل أن تكون أوجه القصور في طاقة الإنشاء أخطر نقطة اختناق تواجه تسارع الاستثمار" (21).
وبالنسبة للقطاع الخاص المحلي، ركز التقرير على السياسات المالية والنقدية المطلوبة لزيادة معدل الادخار؛ فخفض معدلات التضخم يزيد جاذبية الأدوات التمويلية، وخَفْضُ الاعتماد على التمويل بالعجز، يقلل استنزاف القطاع الحكومي للائتمان، فيحرر الأرصدة من أجل استخدام القطاع الخاص المنتج. وكل هذا يؤدي إلى مدَّخرات إضافية. وأوضح التقرير أيضًا أن القطاع العام يسيطر حاليًا على كمية كبيرة من المدخرات الخاصة (من خلال النسق الضريبي، والتأمين الاجتماعي، ومدخرات صناديق البريد)، ومع نمو القطاع الخاص، وتزايد احتياجاته التمويلية، ينبغي أن تُطوِّر استراتيجية المدخرات - في المستقبل - آلياتٍ تُطلق سراح نسبة متعاظمة من هذه المدخرات الخاصة. وفي كل الأحوال يتطلب الهدف "استراتيجية متسقة لزيادة المدخرات، وتوسعًا عبر الزمن في تشكيله المؤسسات التمويلية، وزيادة في الأنماط المختلفة للأدوات التمويلية" (22). ومفهوم طبعًا أن زيادة المدخرات الخاصة، وتحريرها من سيطرة القطاع العام، هي الوجه الآخر لانطلاق الاستثمار الخاص في المجالات المُتاحة؛ سواء في مشروعات خالصة للمستثمرين المحليين، أو في المشروعات المشتركة (في المشروعات المشتركة يلجأ المستثمرون الأجانب أيضًا إلى استخدام المدخرات المحلية المحررة من سيطرة القطاع العام).
مع التحول نحو الاقتصاد المختلط "سيشهد العقد القادم تعقدًا متزايدًا دومًا في بنية الصناعة المصرية"، والاقتصاد المصري عمومًا. ويتطلب هذا جهودًا جادة؛ لتنسيق الاستثمار والجهود الإنتاجية في ثلاث مجالات: القطاع العام الذي أصبح وحدات متناثرة، والمشروعات المشتركة، والقطاع الخاص الذي يتوقع نماؤه. والتنسيق الأمثل يبدأ بتحديد السلطات لأهداف تأشيرية للإنتاج والاستثمار، مُستندة على دراسات الطلب لِكافة المنتجات الصناعية، وتتولَّى السلطات متابعة ما إذا كان الاستثمار سيزيد أو يقل في هذه الأنشطة، فيمكن تعويض النقص بتدخل القطاع العام، أو بتقديم حوافزَ سعرية إيجابية وسلبية حسب الحاجة.
ج ـ إن هذه المبادئ الواردة في نموذج البنك الدولي للتنمية التابعة، تؤكد التزام البنك بالمبادئ الستة التي أوضحنا أنها أساسية في أي تنمية (انظر الفصل الخامس): فبالنسبة لمبدأ الاعتماد على النفس، نلحظ أن مصر حَظيت بمعاملة خاصة، فتدفق عليها تمويلٌ خارجي بمعدلات غير طبيعية، ولكن كان ذلك تكلفة ضرورية لتحطيم النسق القديم، وللشروع في إعادة تشكيل البنية. ورغم أن المرحلة القادمة قد تتطلب أيضًا حجمًا من التمويل الخارجي المناسب الذي يزيد عن متوسط معدلات التدفق إلى الدول التابعة، فإن نموذج البنك الدولي كان حريصًا على تأكيد أن الاعتماد المتزايد على الموارد المحلية، ينبغي أن يكون الأساس (من خلال المدخرات الخاصة والقطاعات الرائدة) ـ وبالنسبة لمبدأ التنمية المُركبة، أوضح البنك تفهُّمه الكامل. فتركيز التقرير على الجانب الاقتصادي لم يوقعه في إغفال المفهوم المركب للتنمية، فعالج القضايا السياسية والسكانية، ومشاكل التحضر، والتعليم، والبنية الاجتماعية باعتبارها مكونات متكاملة ومتسقة لعملية التنمية الشاملة (وضمنها التنمية الاقتصادية) ـ ومبدأ القفزة الكبيرة متضمن بصراحة في الاستراتيجية لإعطاء الدفعة الضرورية لتنمية متواصلة في إطار التبعية (ومعبر عن هذه القفزة رقميًّا في التحديدات الأولية لمعدلات الاستثمار المستهدف ومعدلات النمو). وبالنسبة لمبدأ أو دور الدولة والتخطيط، أوضحنا التزام البنك بهذا المبدأ (شاملاً التدخل المباشر في شكل قطاع عام).
بقي مبدأ العلاقات الدولية، وأنها غير مواتية، ومبدأ إعادة توزيع الناتج، وبالنسبة للعلاقات الدولية تسجل هنا أن كثيرًا من الدراسات والكتابات الصادرة عن البنك،, أو بأقلام عدد من العاملين به، تُفيض في تشخيص العلاقات الدولية، على نحو لا يختلف مع وجهة النظر السائدة في الدول التابعة، ولكن في تقرير رسمي يحدد سياسات عملية مباشرة، وفي معركة ضارية لإخضاع بلد ذي أهمية خاصة في استراتيجية النظام الدولي الغربي، لم يكن هناك مجال لمثل هذا الكلام الذي يثير البلبلة في فترة تتطلب الحسم. ورغم أن المناقشة الموضوعية لسنوات الانفتاح، كانت تُفضي إلى كشف المصاعب التي حملها النظام الدولي للاقتصاد المصري، فإن التقرير ركز ـ بدلاً من ذلك ـ على نجدة النظام الدولي للاقتصاد المصري بعد احتداد أزمته (قانون التصفية عام 1977)، واكتفى بإشارة على استحياء إلى "أنه لا يوجد سبب ضروري يجعل قرارات السلطات (المصرية) متطابقة في كل النقاط مع آراء مقدمي المساعدات الخارجية" (23). ولكن يمكن أن نقول إن تقرير البنك تضمن منذ البداية تحذيرًا قويًّا من قسم معين من العلاقات الدولية، وهو قسم العلاقات مع الدول الاشتراكية، ولم يقدم هذا التقرير "الموضوعي" الاقتصادي، تفسيرًا اقتصاديًّا واحدًا لهذا الموقف.
لم يكن متوقعًا - على أيَّة حال - غير هذا الموقف من البنك الدولي. ولكنْ حدث أن أصرَّ البنك في هذا التقرير (كما في عديد من تقاريره ودراساته الأخرى، وكما في تقارير الصندوق) على أن يتضمن برنامج العمل المبدأ الذي تناوله خبراؤه أخيرًا بالدراسة، مبدأ عدالة توزيع الناتج. وهو دائم التحذير من النتائج التي أصابت الجماهير الفقيرة في مرحلة التحول إلى الانفتاح. ولا أتصور أن البنك يركز على هذا الجانب ـ بنفس الدرجة ـ في البرامج العملية التي يقدمها لبلاد تابعة أخرى، وأعتقد أن هذا التركيز في بلد كمصر يرجع إلى سببين: السبب الأول أن البنك (ومن معه) يتحركون في إطار استراتيجية السلام الأمريكي التي يتطلب نجاحها وجهًا مقبولاً للولايات المتحدة، واستقرارًا سياسيًّا واجتماعيًّا، والسبب الثاني، أن البنك ومن معه بصدد تحطيم تجربة للتنمية المستقلة، تدعمت شعبيتها بموقفها الإيجابي من الطبقات الفقيرة، وبالسقف الذي فرضته على الدخول والملكيات الكبيرة، وقد عبر تقرير البنك عن هذا الموقف بأن "المشكلة التي تواجه الحكومة، هي أن تصمم السياسات التي تواصل تنفيذ الانفتاح، وفي نفس الوقت تضمن استمرار الحماية المتواضعة الممنوحة حتى الآن، والتي تحُدُّ من عمل القوَى التي تفاقمت من فوارق الدخول. إن الصعوبة الكامنة هنا، هي أن الانفتاح، تترتب عليه إزالة عديد من أشكال التدخل الإداري التي تقررت من البداية لأغراض توزيعية، وسيتحتم على الحكومة أن تواصل المحاولة في إقامة توازن بين الأهداف المتعارضة للانفتاح من أجل نمو الإنتاجية، والتدخل من أجل توزيع عادل للدخل. ونأمُل أن تكتسب الحكومةُ مع الزمن قدرة متزايدة على الإمساك بتشكيلة مركبة من السياسات التي ينبغي أن تُنفذها لتحقيق الأهداف المتعارضة وللتوفيق بينها" (24). إلا أن الفشل الحالي في التوصل إلى هذه التشكيلة المركبة من السياسات، ليس فشلاً مؤقتًا، ولا يمكن تجاوزه في الأجل المتوسط أو الطويل مع اكتساب الخبرة اللازمة؛ لأن عدالة توزيع الناتج لا يمكن أن تتحقق في إطار هيكل وبنية نموذج التنمية التابعة. ونموذج البنك الدولي استخدم ـ باقتدار ـ المبادئَ الضرورية لإحداث تنمية في مصر، وفق المفاهيم العامة والنموذج العام للتبعية، وسبق أن أثبتنا أن مبدأ عدالة توزيع الناتج لا يتسق مع هذا النموذج (انظر الفصل الخامس). وأقصى ما تستطيعه السياسات ـ في ظروف غير متوافرة حاليًا في مصر ـ إدخال بعض التحسينات الهامشية. ولكن استخدم عامل (من خارج النسق المصري وسياساته) للتخفيف من حدة التناقضات الناشئة في هذا المجال نتيجة للانفتاح. ونقصد هنا استخدام عامل هجرة العمالة للدول النفطية العربية (انظر البند رابعًا في هذا الفصل).
إن الخطوط الأساسية لاستراتيجية البنك الدولي التقليدية وجهت تحرَّكه العام من البداية، قبل أن تتبلور بشكلها الخاص والمحدد في تقريره المشار إليه (على ضوء دراساته واتصالاته مع الواقع المصري ومسئوليه)، وقبل أن تتبناها السلطات المحلية رسميًّا، وقبل أن يتولى سلطة الإشراف الفعلي على تنفيذها عام 1977. وننتقل الآن إلى متابعة الوقائع التي شكلها تحرك البنك الدولي ـ بالتعاون مع المهاجمين الآخرين. ونبدأ متابعتنا للقطاعات الأساسية، بقطاع الزراعة (الذي لم يسبق أن تناولناه في الفصول السابقة). وتقييم التطورات في هذا القطاع، أثناء الستينيات وأثناء السبعينيات، تكتنفه الصعوبات وتتخلله الخلافات، ويدعونا ذلك إلى تحديد رؤيتنا لبعض المفاهيم.
ثانيًا ـ قطاع الزراعة:
(1) المعدلات ـ المفاهيم ـ الستينيات:
لا خلاف حول أهمية الدور الذي يلعبه قطاع الزراعة في التنمية الشاملة، ولكن حرص المسئولون في السنوات الأخيرة، على تكرار الحديث حول إهمال الإنتاج الزراعي في الستينيات، وحول تعديل الأولويات والثورة الخضراء بعد الانفتاح؛ بحيث ترسب انطباع عام بأن تغيرات هامة قد حدثت في قطاع الزراعة، أثناء إعادة تشكيل الاقتصاد القومي، وبدأ البعض ينتقد هذا التركيز الشديد على الزراعة، إلا أنَّ المتابعة الكمية للمعدلات العامة تُطمئِن ـ في الواقع ـ هؤلاء الخائفين من ظلم الزراعة للصناعة، فواقع الحال أن الإنتاج الزراعي لم يكن أسعد حالاً من الإنتاج الصناعي. كلاهما لم يحقق زيادة هامة. بل كان الإنتاج الزراعي أتعس حظًّا، والاهتمام بالتنمية في قطاع الزراعة في ظل الانفتاح كان يقل قطعًا عمَّا كان في الستينيات؛ ففي الخطة الخمسية الأولى (60/ 1961 ـ 64/ 1965) بلغت استثمارات قطاع الزراعة والري والصرف 355 مليون جنيه (أي 23 % من الاستثمار المُنفذ). وقد انخفضت هذه النسبة في السنوات التالية؛ بحيث أصبحت في حدود 13 % خلال السنوات الثلاثة الأولى من السبعينيات، ولم تتحسن الصورة تتجاوز 8 % من إجمالي الاستثمارات المنفذة في الفترة 1974 ـ 1977 (25)، وفي مشروع الخطة الخمسية 78 ـ 1982 استمر نفس الاتجاه، وقالت لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب: إنه تبين لها "ضآلة الاستثمارات المخططة لقطاع الزراعة والري؛ حيث بلغت 8.5 % من إجمالي الاستثمارات الخطة الخمسية... وذلك رغم توجيهات سيادة الرئيس بالاستراتيجية الحديثة؛ وهي الثورة الخضراء، وضرورة توفير الأمن الغذائي" (26).
ومعدلات النمو السنوي في الدخل الزراعي لم تعكس اتجاهًا مخالفًا؛ فالمعدل المحقق خلال الخطة الخمسية الأولى كان 3.5 %، وفي الفترة التالية وحتى بداية الانفتاح كان المعدل 2.5 %، وفي السنوات موضع الدراسة كان معدل النمو في الدخل الزراعي بالأسعار الثابتة كالتالي (27):

السنوات
1974
1975
1976
1977
معدل النمو
0.3 %
2.4 %
1.5 %
ـ 0.7 %

أي كانت المعدلات أقل مِن 1 % عام 1974،
ولم تتجاوز 2 % في عامَي 1975، 1976، وكانت بالسالب في عام 1977. وتقول التقديرات الأولية أن المعدل ارتفع إلى 3 % عام 1978، ويقول البنك الدولي إنَّه لا يمكن إغفال أثر زيادة استخدام المدخلات، وخاصة الأسمدة، ولكن الأداء الإنتاجي الأفضل ساعدته أساسًا ظروف جوية ممتازة على نحو غير عادي، وخاصة أثناء أشهر الصيف التي أثرت على إنتاج القطن، والأرز والذرة".

هذه الظروف الجوية أدت إلى "زيادة استثنائية عام 1978"، وهي ظروف لم تتكرر طبعًا عام 1979؛ "ولذا يحتمل أن يكون معدل النمو في القيمة المُضافة الحقيقية في الزراعة منخفضًا في عام 1979، رغم أن ظروفه كسُنَّة زراعية ـ كانت نسبيًّا جيدة" (28).
ونعود إلى تأكيد أن المعدلات العامة للاستثمار والنمو، لا تُعتبر - في منهجنا - المعيارَ الأول في تقويم النجاح والفشل، ولكن حرصنا على إثبات الحقائق السابقة؛ كي نؤكد أنه حتى بهذه المعايير، لم يحدث شيء مما يدعون. وينبغي بعد ذلك أن نبدد وهمًا آخر؛ إذ يبدو للمتابع للحوار حول قضايا الزراعة، أن هناك اتفاقًا واسعًا حول ضرورة الأمن الغذائي، ولكن هذا الاتفاق في صياغة الأهداف لا يمثل أي تقارب في تصور مضمون مشترك. والأمن الغذائي بالذات أصبح بفضل المسئولين المصريين شعارًا مهترئًا، ويعني ـ في إطار الممارسات العملية ـ عكس المقصود منه بداهَة. فمفهوم الأمن الغذائي، يقصد إلى تأمين حصول المجتمع على حاجاته الغذائية، وفي ظروف العلاقات الدولية الراهنة، يتضمن ذلك تحرر المجتمع المعين من تحكم الدول المسيطرة في إمداده بالمواد الغذائية؛ حتى لا يتعرض لضغوط تهدد استقلال إرادته. وبالتالي يعتبر الأمن الغذائي جزءًا من استراتيجية الاعتماد على النفس وإشباع الحاجات الأساسية، ونعيد أن الاعتماد على النفس لا يعني الاكتفاء الذاتي (من المواد الغذائية أو غيرها).
وفي المواد الغذائية بالتحديد يتعذَّر تحقيق الاكتفاء الذاتي في عديد من الحالات. ولكن يتطلب الأمر، في أيَّة محاولة للتنمية المستقلة، تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن الغذائي، وينبغي أن يكون تقليل الاعتماد على الدول المُسيطرة في الحصول على المواد الغذائية إلى الحد الأدنَى الممكن، هدفًا دائمًا في استراتيجية التنمية (29). وهذا التوجه لنمو الإنتاج الزراعي لا يتحقق ـ بطبيعة الحال ـ إلا في تشابك مع التنمية الشاملة المتمحورة حول ذاتها، وعبر زيادة الاعتماد المتبادل بين قطاعَي الزراعية والصناعة ـ بالذات ـ أثناء عملية التنمية الشاملة. فالأمن الغذائي لا يتحقق بمجرد زيادة إنتاج المواد الغذائية من التربة المصرية، إذا كانت الحبوب المُحسَّنة والأسمدة والمبيدات وأدوات الري ومواسير الصرف المُغطَّى وأدوات الحرث والدراس والحصاد.. مستوردة بالكامل (أو في الغالب) من الخارج. أيضًا
لا يتحقق الأمن الغذائي، إذا كانت المؤسسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المنظمة للنشاط الاقتصادي في قطاع الزراعة مرتبطة ـ بشكل أو آخر ـ بالخارج. وقد نذكر أن السيطرة الخارجية على الزراعة (في ظروف مصر الخاصة) لم تتحقق سابقًا ـ في الأساس ـ بإقامة قطاع إنتاجي أجنبي كبير (30)، وحين قيل إن مصر تابعة اقتصاديًّا، أو مزرعة قطن لـ "لانكشاير"، لم يكن مقصودًا أن الإنجليز أو الأجانب يملكون الأرض الزراعية أو يديرون مباشرة عمليات إنتاج القطن في المزارع المصرية، ولكن كان المقصود أنهم يسيطرون على مسار العملية؛ سواء بإعاقة قيام صناعة غزل ونسيج وطنية، أو بالسيطرة على مُدخلات ومخرجات زراعة القطن، وبالتحديد من خلال التحكم في الإقراض والتسويق المحلي والخارجي للإنتاج.

إن مراعاة هدف الأمن الغذائي في هيكل التركيب المحصولي المستهدف، ترتبط عضويًّا بهيكل النمو المُستهدف في قطاع الصناعة، وترتبط أيضًا بمراكز البحث الوطنية والمنوط بها استنباطُ توليفات وإبداعات تكنولوجية ملائمة، وترتبط بهيكل للخدمات ملائم، وترتبط بإنشاء مؤسسات وسياسات اقتصادية ملائمة. فزيادة الإنتاجية، وضمان الالتزام بالخطة العامة، وبالتركيب المحصولي الأمثل ـ وفق هدف الاستقلال (بمفهومه المركب) ـ يتطلب تجميع الزراعات في مساحات كبيرة، ويتطلب اتساق مصالح ووعي القوَى المسيطرة على المؤسسات (أو على علاقات الإنتاج) في الريف مع أهداف القيادة العليا للتنمية المستقلة، ويتطلب الأمر أيضًا سياسة سعرية مستقلة، تُستخدم في توجيه الإنتاج نحو الأهداف المحددة.
في إطار هذا المفهوم المركب للأمن الغذائي. يمكن أن نشير إلى محددات وإشكالات خاصة بالزراعة المصرية، لا يمكن إغفالها في فروض وحسابات تنمية مستقلة (وما تتضمنه من خطة ملائمة للأمن الغذائي). وأول هذه الإشكالات أن الموارد الطبيعية المُتاحة محدودة (الأرض الصالحة، والموارد المائية اللازمة)، فالأرض القابلة للاستصلاح قليلة، وفي حالة الاستخدام الأمثل لمياه الري لن يوفر إلا ما يكفي لتوسع جديد لا يتجاوز 3 مليون فدان. ويعني هذا أنه لا يمكن تحقيق أكثر من 50 % من التوسع الأفقي المطلوب لحفظ نصيب الفرد في مصر عن المستوى الحالي، أو لتحقيق الاكتفاء الذاتي سنة 2000. "فتحقيق الاكتفاء الذاتي في سنة 2000 ـ كما يقول الجبلي ـ يحتاج إلى زيادة المساحة المحصولية الحالية بنحو 11.3 مليون فدان، أو مضاعفة إنتاجية كل المحاصيل، وكلا البديلين أمر صعب التحقيق؛ نظرًا لمحدودية الموارد الأرضية والمائية الصالحة من جهة، وارتفاع الإنتاجية الحالية لمعظم المحاصيل المصرية من جهة أخرى" (31). ولكن لا يعني هذا أنه لا يوجد هامش واسع نسبيًّا لتعديل الهيكل المحصولي، ولزيادة الإنتاجية، وخفض التكلفة، ولكن يواجه كل ذلك، كما يواجه ترشيد استخدام مياه الري، بعقبات مؤسسية تحول دون إدارة الزراعة المصرية كقطاع منظم. وأبرز هذه العقبات تفتت الملكية، وأهم منها تفتت الحيازات (32)، وهذا هو التحدي الآخر الخطير الذي يواجه التنمية الزراعية والمصرية. إن المحدد الأول (الموارد) تفرضه الطبيعة لأجل يصعب التنبؤ بمداه، ولكن المحدد الثاني تفرضه أوضاع مؤسسية، يمكن تغييرها في ظروف سياسية مناسبة، ويستحيل ـ في نفس الوقت ـ أي بحث جاد حول الاستخدام الأمثل لإمكانيات قطاع الزراعة، دون مواجهة لهذا الإشكال: إشكال التفتت (33).
إلا أن المحددات الطبيعية تظل تمتع مصر، كما بينا، وفي أفضل الظروف، (وإذا استبعدنا العُمق العربي المحتمل للتنمية) من تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية (لو كان هذا مطلوبًا). وبالتالي، فإنه إلزام (وليس اختيارًا) أن يعني الأمن الغذائي ـ في الحالة المصرية ـ الحرص على مجرد زيادة الاعتماد على النفس (بالمفهوم المركب) إلى أعلى درجة ممكنة، ويرتبط بذلك هيكليًّا ـ من منظور الأمن الغذائي أيضًا، والتنمية المستقلة عمومًا ـ زيادة الاعتماد على الصناعة في تنمية الدخل والصادرات (بالمقارنة مع أقطار أخرى لها هيكل مختلف من الموارد الطبيعية).
إن تنمية الصادرات غير الزراعية ـ في الحالة المصرية ـ من المكونات الأساسية لخطة الأمن الغذائي، فإذا كانت زيادة الاعتماد على الخارج في الحصول على الغذاء مما يهدد استقلال الإرادة، فإن التهديد يتضاعف إذا شحَّ أيضًا النقد الأجنبي اللازم لاستيراد المواد الغذائية، وإذا أصبحت الحاجة للاقتراض لا ترتبط فقط بمشروعات استثمارية، ولكن من أجل تجنُّب المجاعة (34). ويترتب منطقيًّا على كل ما ذكرنا، أن الاستراتيجية الزراعية ينبغي ألا تُهمل التوسع الأفقي باسم المصاعب وارتفاع التكلفة،
أو باسم التوسع الرأسي ذي العائد السريع. وتزداد أهمية التوسع الأفقي؛ إذا أخذنا في الاعتبار التطلع إلى خلق نمط للزراعات الرائدة (35)، وأيضًا إذا أخذنا في الاعتبار أن المباني غطَّت حوالي 640 ألف فدان (في الفترة 64 ـ 1974).

إذا راجعنا ـ من هذا المنظور ـ تطوراتِ قطاع الزراعة في الستينيات، نقول إنها ارتبطت ـ بتعثر ـ بالتوجه العام نحو تنمية مستقلة، وللأسف لم تركز الدراسات حول هذه الفترة تركيزًا كافيًا على التقويم النقدي لهذا الارتباط، أي على متابعة التطورات في قطاع الزراعة من منظور النموذج المستقل والمتكامل للتنمية. ولكن كان التركيز على تغيرات الهيكل المحصولي، أو على تطورات التوسع الأفقي والرأسي، أو على قضايا التوزيع؛ كمجالات منعزلة للبحث، وبعيدًا عن محاولة استكشاف النَسَق الجاري إنشاؤه من كل ذلك(36). إن تطورات الستينيات تعثرت في بعض الأحيان، وكانت بغير حسم في أحيان أخرَى، ولكن تمخضت ـ رغم ذلك ـ عن إنجازات مادية، ومؤسسات وسياسات، تتضح أهميتها من منظور التنمية المستقلة عند مراجعة ما تم خلال سنوات الانفتاح. فعلى رأس الإنجازات العظيمة نذكر السد العالي الذي مثل مشروعًا أساسيًّا للتنمية المستقلة (المُتمحورة حول ذاتها) في الزراعة والصناعة. وفي الزراعة بالتحديد ارتبطت بالسد العالي أوسع مشروعات للاستصلاح (منذ عهد الخديو إسماعيل)، وكذلك زيادة المساحة المحصولية (37). ولم يكن ممكنًا إقامة السد العالي وما يرتبط به من مشروعات، وخاصة في الظروف التي اتخذ فيها القرار، إلا بإرادة مستقلة لدى المستويات العُليا للسلطة، وهذه الإرادة لم يكن يكفي لتجسيدها اتخاذُ اختيارات صحيحة وشجاعة في إطار العلاقات الدولية، ولكن تطلب الأمر تغيرات مناسبة في إدارة الاقتصاد المصري (على مستوى القُطْر، وعلى مستوى المشروع).
وبشكل عام كان الأمر يتطلب تدخلاً متزايدًا وكفُؤًا من الدولة. وإلى جانب السد العالي، كانت مشروعات الأسمدة والتراكتورات والمبيدات (والحديد والصلب والأسمنت أيضًا) ترتبط بتنمية زراعية مستقلة (38). وبالنسبة للأوضاع المؤسسية والسياسات، كانت إجراءات الإصلاح الزراعي المتوالية (المتعلقة بالملكية وعلاقات الإيجار) خطواتٍ تؤدي إلى تغيُّر بنية السلطة الحاكمة للريف باتجاه أكثر اتساقًا مع بنية وأهداف سلطة مركزية تحاول قيادة تنمية مُستقلة. ومحاولات التجميع (في أراضي الإصلاح ثم خارج الإصلاح) (39) والجمعيات التعاونية والتسويق التعاوني (40) كانت في اتجاه إحكام الالتزام بالهيكل المحصولي المستهدف من قبل سلطة التخطيط المركزي، وضبطًا لاتجاه الأسعار وفق المستويات المحددة بقرارات مركزية محلية، وكل هذا مرتبط بسيطرة الدولَة المتزايدة على مدخلات الإنتاج الزراعي، وبإمكانية استخدام أفضل للفائض العيني والمالي لقطاع الزراعة لصالح التنمية الشاملة المستقلة (41).
ومع ذلك كانت الإنجازات والمؤسسات والسياسات، مشوبةً بأوجه القصور والتناقضات. بعض الثغرات والتناقضات كان امتدادًا طبيعيًّا لنواقص التجربة العامة وتناقضات المرحلة الانتقالية إلى نموذج مستقل، والبعض الآخر، كان لوعورة القطاع الزراعي وظروف تطوره في إطار الوضع المصري والثورة المصرية (42). ويمكن أن نشير مثلاً في قطاع الزراعة، إلى فوضَى زحف المباني السكنية على الأراضي الخصبة، وإلى انخفاض معدل الاستصلاح والاستزراع. وإلى التردد في قرار إنشاء قطاع زراعي منظم (مجمعات زراعية صناعية) في الأراضي الجديدة، ويمكن أن نشير أيضًا إلى التخلف في مشروعات الصرف، وأثر ذلك على الإنتاجية في مساحات كبيرة من الأرض القديمة، وكذلك إلى تقاعُس الدولة عن التدخل الجاد باتجاه التعاون الإنتاجي، اكتفاء بالوقوف في إطار الخدمات(43). ونشير أخيرًا إلى أن ضبط الأسعار والدورة اقتصر على صغار الحائزين.
وإفلات الحائزين الكبار، وخاصة نحو الزراعات غير التقليدية، لم يكن جزءًا من تخطيط مركزي (44)، وتخلف المؤسسات والسياسات في الأسعار وتنظيم الإنتاج، كان يَعكس - إلى حدٍّ كبير - وزن كبار الحائزين في بنية الريف المصري، وفي السلطة السياسية المركزية. وليس مقصودًا هنا ـ في تقديرنا ـ أن التنمية المستقلة تتطلب ـ في كل الأحوال ـ تصفية كبار الحائزين كفئة اجتماعية، فما لم تدعُ ظروفٌ سياسية معينة إلى مثل هذا الإجراء؛ يكفي أن يوضع سقفٌ للملكية والحيازة، يتناسب مع محدودية الأرض الزراعية بشكل عام، ومع إنتاجية الأرض في المواقع المختلفة.
فمن ناحية، لسنا ضد الملكية الفردية للأراضي الزراعية من حيث المبدأ، ومن ناحية أخرى، فإن الحائزين الكبار يمثلون - عادة - مهاراتٍ فنية تنظيمية هامة. والمهم (والممكن في ظروف مواتية) تحييد الضغوط الممكنة لهذه الفئة الاجتماعية، والتي تحول دون اتساق السياسات باتجاه التنمية المستقلة. ويتطلب ذلك نضالاً متصلاً ضد الاتجاهات المنتشرة بين أفراد هذه الفئة (كما عند نظرائهم في المدينة) لتغليب مصالحهم وتطلعاتهم، على مصلحة المشروع العام. ويتضمن هذا النضال جهدًا سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا.
(2) التغيرات البنيوية نحو التبعية:
أ- بعد هذا التقديم السريع لمفهومنا عن التنمية المستقلة في قطاع الزراعة، ولإشكالاتها الخاصة في الظروف المصرية، وبعد تقييم ما تحقق في هذا الاتجاه أثناء الستينيات، يمكننا الآن متابعة التغير العميق (المستهدف والحادث) في هيكل وبنية الريف المصري. إن الغزاة الأجانب لم تكن مهمتهم حل مشاكل القطاع الزراعي من منظور التنمية المستقلة، وإجاباتهم على الأسئلة المطروحة، كان طبيعيًّا أن تختلف تمامًا عن نوع الإجابات التي قدمناها؛ فإجاباتهم للأسئلة كان طبيعيًّا أن تتسق مع هيكل وبنية الاقتصاد التابع الذي يستهدفونه، وكان طبيعيًّا بالتالي أن تتسق وتترابط مع توصياتهم في القطاعات الاقتصادية الأخرى. لقد طالب البنك الدولي ـ وله حق ـ بما أسماه: "تحولاً نوعيًّا في الزراعة" (45). وبشرنا تقريرُ البنك الدولي، بأنه يعتقد أن مصر يمكنها "أن تحقق معدلاً سنويًّا للنمو في إنتاجها الزراعي، يصل إلى 4 في المائة، لفترة تمتد حوالي عشر سنوات". إذا تمت التعديلات التي تقترحها بعثةُ البنك (46).
* وكما تكفَّلت جهات خارجية بوضع الخطط التفصيلية لتنمية القطاعات الأخرى (في إطار الاستراتيجية العامة المفروضة)، كان طبيعيًّا أن يتم التعاقد مع جامعة كاليفورنيا (مشروع أنساق التنمية الزراعية) لدراسة الإنتاج الزراعي وتحديد سياساته (تشارك وكالة التنمية الأمريكية في تمويل المشروع بما يعادل 12 مليون دولار). ويكمل هذا (مشروع إدارة القطاع الزراعي) ASIP؛ حيث تسهم الوكالة الأمريكية في تمويل أعمال التدريب اللازمة لتكوين مجموعة من المديرين المصريين والموجهين "من خلال أسلوب ASIP"، قادرة على تنفيذ السياسات الموضوعة. وهناك أيضًا حوالي 65 مشروعًا بحثيًّا تنفذ في إطار قانون فائض الحاصلات الزراعية (PL, 480), وكافة هذه الدراسات (كما في المجالات الأخرى) تقوم على الجهود الفنية والخبرات المتنوعة للباحثين المصريين في معاهد البحوث التابعة لوزارة الزراعة في كليات الزراعة بالجامعات المختلفة (لقاء مكافآت مغرية جدًا)، فيتوقف البحث العلمي المستقل، وترتبط المصلحة الاقتصادية المباشرة للباحثين (مستوى المعيشة المرتفع) بالولاء لمصادر التمويل الأجنبي، وتوظف الوقائع والنتائج البحثية وفق الإطار المستهدف. وهذه المسألة تخفَى على البعض (ليس بحسن نية في كل الأحوال)؛ ولذا يلزم تذكيرهم بأنه لا توجد تكنولوجيا أو توصيات فنية، غير مشروطة بالنسق الذي تعمل فيه. لقد تم ـ مثلاً ـ وضع برنامج طويل الأجل بمساعدة البنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية من أجل التوسع التدريجي في استخدام الميكنة في عمليات معينة؛ كالري والحرث والدراس والنقل، ولتنفيذ هذا البرنامج سيعتمد على دراسة التكنولوجيا المستخدَمة حاليًا في الزراعة المصرية، وعلى معلومات من المحافظات والمجالس المحلية والفلاحين، ولكن بأي هدف؟ ليس لتطوير التكنولوجيا المحلية، أو لإقامة صناعة وطنية تُمِدُّ الزراعة باحتياجاتها، ولكن "لأنه سيتم التركيز في المستقبل على أسلوب نقل التكنولوجيا الأمريكية المناسبة للتوطين في البيئة المصرية" (47)، ويتطلب هذا - بطبيعة الحال - "خلق جيل جديد من العاملين الذي يجيدون استخدام هذه الآلات وإنشاء وحدات صيانة لها، مع وجود جيل من الفنيين المتخصصين في إصلاحها" (48). وهناك أيضًا مشروع ركزت عليه وكالة التنمية الأمريكية، منذ فترة مبكرة، إصلاحها" (48). وهناك أيضًا مشروع ركزت عليه وكالة التنمية الأمريكية، منذ فترة مبكرة، يبحث "استخدام وإدارة المياه"، أي ترشيد مياه الري، مع وزارتي الري والزراعة، فهناك 8 خبراء أمريكيين يقيمون في مصرَ بصفة دائمة للإشراف على هذا المشروع، بالإضافة إلى خبراء آخرين يأتون بصفة دورية. وكانت الوكالة سخية فقدمت للمشروع مِنحة تصل إلى 8 ملايين دولار، ويقول المتحدث باسمها إنه "يأمل أن يتم تطبيق النتائج التي سوف نصل إليها على مستوى الجمهورية" (47)، ويدعم هذه النتائج ربط نظام الري المصري بالاستيراد من الولايات المتحدة؛ وفقًا لـ "مشروع مضخات الري" الذي تمول الوكالة الأمريكية بمقتضاه إنشاء مضخات في 34 محطة على طول النيل، في الوجهين البحري والقبلي، ووفقًا لـ "مشروع تجهيزات حفر قنوات الري". وأعتقد أن مصطلح "الترشيد" أصبح سيِّئَ السمعة في مصر ـ بشكل عام ـ ولكن بغض النظر عن هذا ينبغي ـ في كل الأحوال ـ أن نبحث عن الهدف من الأداء قبل البحث في ترشيد هذا الأداء. وبالنسبة لموضوع مياه الري، يمكن مثلاً أن نتساءل عن قيمة ترشيد الأداء، إذا كان تحقيق الوفر في استخدام المياه، ستستفيد منه إسرائيل؟ بنفس المنهج يكون الحكم على مشروع تحسين التربة في مساحة تزيد على 200 ألف فدان، يتولَّى البنك الدولي تمويل المكون الأجنبي له. وترتبط بذلك مشروعات الصرف المغطَّى التي عقدت بشأنها أربعُ اتفاقيات مع البنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية (141 مليون دولار) (49). هذه المشروعات
لا ينبغي أن نعزلَها عن سياقها ونقول: هل هي مُفيدة ـ في حد ذاتها ـ لزيادة الإنتاجية أم لا؟ فوفقًا لمنهجنا؛ ننظر إلى الاستراتيجية الزراعية، وإلى السياسات المتكاملة في مجموعها، فإذا كانت قروضُ الصرف المُغطَّى وفائض الحاصلات مرتبطة بشروط تحدد مجمل السياسة الزراعية على نحو مُتسق مع نموذج التبعية، فإن زيادة الإنتاجية للفدان ـ في هذا الإطار ـ لا تُعتبر نجاحًا يفخر به (50). وواقع الحال أن كافة الأبحاث والمشروعات، تستهدف فعلاً إرساء التبعية، يشمل ذلك المشروع الفرعي للبساتين (المنبثق عن مشروع أنساق التنمية الزراعية) الذي يشمل ذلك المشروع الفرعي للبساتين (المُنبثق عن مشروع أنساق التنمية الزراعية) الذي يشمل تطوير وتحسين الأصناف الحالية، واستخدام الوسائل الحديثة في الزراعة، تدعم هذا المشروع قروض سلعية من الوكالة تقدم إلى المزارعين من خلال بنك الائتمان الزراعي؛ للتوسع في زراعة الفواكه والخُضَر، ولدعم تعاونيات القطاع الخاص في تسويق هذه الحاصلات. ويتضامن هذا الدعم مع قرض البنك الدولي لتوفير تقاوي الخضر والفواكه للسوق المحلية. هناك أيضًا "مشروع تحسين الدواجن" ومشروع تنمية المزارع السمكية التي تنشئها الدولةُ بمساعدة الوكالة الأمريكية، وتملك للقطاع الخاص بقروض طويلة الأجل، وسنرى كيف تتسق كل هذه التوجهات مع نسق التنمية الزراعية التابعة.

ب ـ بعد هذا العرض للمفاهيم وتوجهات السياسة، نتابع أساليب ونتائج التنفيذ. وفي قطاع الزراعة (كما في القطاعات الأخرى) مدخل البنك الدولي (ومن معه) لتنفيذ مهامِّه، هو الالتزام بتعليمات الصندوق، أي رفع يد الدولة عن التدخل الإداري والسعري لتوجيه النشاط الاقتصادي. وانعكس ذلك، في قطاع الزراعة، في تضامن البنك الدولي مع صندوق النقد، للمطالبة برفع يد الدولة عن التدخل الإداري لتحديد المحاصيل المستهدفة، وبإنهاء سيطرة الدولة على الأسعار الزراعية. لقد لاحظ صندوق النقد "أن الإنتاج الزراعي نما بمعدل يقل عن معدل نمو السكان في السنوات الأخيرة (يقصد سنوات الانفتاح)؛ كنتيجة لمشاكلَ فنية واقتصادية"(51). وأوضح صندوق النقد أن المشاكل الفنية تشمل مشروعات الصرف وتوفير المدخلات المناسبة، وأن الحل الأساسي للمشاكل الاقتصادية، يمكن في اتباع تعليماته التقليدية. وترجمة هذا الطرح أن قروض البنك الدولي ووكالة التنمية (قروض المشروعات والقروض السلعية) لقطاع الزراعة مرتبطة باتباع تعليمات الصندوق؛ بحجة أنه لن يستفاد من أي تطويرات فنية إذا لم يضبط الأداء الاقتصادي، وترجمة هذا أيضًا؛ أن مشروعاتِ التنمية لا بد أن تُحكم بسياسات ومصالح البنية التابعة. والبنك الدولي لم يقصِّر في الترويج لإمكانيات جَعبته في تنمية الزراعة المصرية، "هناك الكثير مما ينبغي عمله في الأراضي القديمة، رغم إنتاجيتها العالية، ورغم المحددات البادية على الحد الكثيف. إن تحوُّل الزراعة على الأراضي القديمة، يمكن أن يُحقق نتائجَ بعيدة المدى، شاملة الصرف، وأنماط المحاصيل الجديدة، وطرق الري الجديدة، والتكنيك المحسِّن للزراعة، وكذلك ربط الأصناف الجديدة من الإنتاج الزراعي بالصناعة والصادرات" (45). ولكنْ لم يخفِ البنك (ومعه وكالة التنمية بطبيعة الحال)، أن "مساعداتِهما" ـ كما قال صندوق النقد ـ مرتبطة بشروط الأخير، وعبر عن ذلك في نصوص اتفاقيات القروض (راجع الفصل الثاني)، وسجل هذا أيضًا في كافة الوثائق التي صدرت عن هذه الهيئات (باسمها مباشرة، أو باسم الحكومة المصرية).
وفي تقريره الشامل، أثبت البنك الدولي أن نسق الأسعار المدار وطنيًّا يمثل "قيدًا رئيسيًّا على كمية ومستوى الإنتاج الزراعي، وتأثيره على مزارعي الوادي القديم، ومستوطني قُرَى الأراضي المُستصلحة يزداد سفورًا؛ حيث إنهم مرتبطون أيضًا بدورة محاصيل محددة إداريًّا. ومزارع الدولة الكبيرة في الأراضي المستصلحة، تُنتج وفقًا لدورة زراعية مقررة، وتكاليف التشغيل والخسائر تموَّل من الخزانة المركزية للحكومة" (52).
إن نسق الأسعار الوطني كان يحتاج فعلاً إلى تعديلات هامة؛ لكي تتسق المصالح (أو لكي تضيق الفجوة على الأقل) بين مصالح المزارع منعكسة في دخله، وبين مصالح المجتمع وتنميته المستقلة. وبمعنى آخر: كان مطلوبًا إعادة النظر في مستويات الأسعار للمحاصيل المختلفة؛ لاستخدامها كحوافزَ هامة وإضافية للالتزام باتجاه الأهداف المحددة.. ولكن ليس هذا مقصد الصندوق والبنك، فتدخل الدولة في تنظيم الدورة إداريًّا، أو بمساعدة الأسعار، مرفوض لديهم أصلاً، وقيل إنَّه بالضرورة يؤدي إلى انتكاس التنمية الزراعية، وحتى في مزارع الدولة، يؤدي إلى خسائرها،
ولم يشفع لهذه الخسائر مثلاً أن الأراضي لا زالت تحت الحدية الاقتصادية أو فوقها بقليل.

لم يذكر ذلك ولو باعتباره أحد العوامل. فقط أشير إلى تحديد الدورة، مع أن الأراضي المستصلحة ـ في حالة إدارتها عن طريق شركة أجنبية ـ ستخضع على ما أعتقد لدورة مناسبة محددة، عن طريق إدارة الشركة. على أيَّة حال، المطلوب من الدولة أن تُنهي نسق التدخل المركب في أسعار المدخلات والمخرجات، وأن تعمد "إلى نسق أكثر شفافية (أبسط) يعتمد على الحد الأدنى من الأدوات غير المباشرة" (53). وينبغي "على السلطات أن ترتب الأسعار المدفوعة للسلع الزراعية، وفقًا للأسعار السائدة في السوق الدولي، وسيعني هذا ارتفاعًا كبيرًا في أسعار بعض السلع الهامة، وإذا أريد لها أن تبقى منخفضة؛ يتطلب الأمر زيادة في اعتمادات الدعم من موارد الخزانة. ومن أجل تقليل هذا الاحتمال، يحسن أن يتم التحرك أولاً نحو نسق من معدلات الأسعار تتفق مع المعدلات السائدة في السوق العالمي. والمساواة بين مستويات الأسعار المحلية والعالمية للمنتجات الزراعية يمكن أن تتحقق في مرحلة تالية" (54).
وقد توالت الضغوطُ ـ في إطار الهجوم العام ـ لتحقيق هذه النتيجة، وجنبًا إلى جنب مع النتائج المحققة في جبهة أسعار القطاع العام الصناعي، تمكَّن الصندوق أيضًا من انتزاع انتصارات مشابهة في جبهة الأسعار الزراعية، فأعلنت الحكومة "أن هيكل الأسعار لم يقدم حوافز مناسبة للإنتاج الكفء.. وسنراجع سياسات التسعير الزراعي؛ بهدف خفض تشوهات التكلفة ـ السعر، وزيادة حوافز الإنتاج. وفي نيتنا ترشيد نظام التوزيع للمدخلات الزراعية؛ حيث إن النظام الحالي للتسعير والتخصيص أعاق الاستخدام الكفء" (55). (ويعني هذا زيادة الاعتماد على قنوات السوق، بدلاً من التدخل الحكومي). أعلنت الحكومة هذا الالتزام أمام صندوق النقد في برنامجها للسنوات الثلاث التالية ليونيو 1978، وفي برنامجها للسنة الأولى من هذا الاتفاق الممتد، التزمت بأن تنتهي من مراجعتها الكاملة لسياسات التسعير الزراعي خلال العام؛ "بحيث يمكن اتخاذ القرارات التي تحسن حوافز الإنتاج بدءًا من العام الزراعي 79/ 1980" (56). ولكن حتى أواخر عام 1978، لم تكن الحكومة قد انتهت من دراساتها (التي كان مفروضًا أن تنعكس نتائجها في الموازنة العامة). واضطرت بعثة الصندوق إلى التذكير بأن "انخفاض معدل النمو في الإنتاج الزراعي في السنوات الأخيرة، يُثير اهتمامًا جادًا"، وربطت كالعادة زيادة الإنتاجية بقضية الأسعار في المقام الأول، فجددت الحكومة التزامها بإنهاء الدراسات حول دعم مدخلات الزراعة وحول سياساتها في التدخل لتخصيص الموارد، وبتقديم أسعار مناسبة للمزارعين. وقد "اقترح خلال العام الجاري (178) عددٌ من التغيرات في الأسعار لكل من المخرجات والمدخلات؛ بهدف أن تكون الأسعار المدفوعة والتي يتسلمها المُزارعون أوثق صلة بأسعار السوق" (51). وقد اشتملت السياسة الزراعية بالفعل على تعديل للأسعار الرسمية للمحاصيل الزراعية، فتقررت في ميزانية 1979 زيادة أسعار شراء الحكومة لعدد من المحاصيل بحوالي
30 % (57) ولكن زادت في نفس الوقت أسعار بيع الأسمدة (حوالي 4 جنيهات للطن)، وكذلك نفقات المقاومة (حوالي 7 جنيهات للفدان). وبالتالي لم يحقق المزارعون زيادة محسوسة في دخولهم من بيع الحصص التي تتسلمها الحكومة (في موازاة الارتفاع العام في معدل التضخم)، ولكن ساعدت الزيادة على حفز موجة عامة لارتفاع الأسعار (وبمعدل أعلى) في الحاصلات التي تشق طريقها إلى السوق المرسلة. وبالتالي لم يتحسن الموقف الدخلي النسبي لأصحاب المحاصيل التقليدية، ولم تكن الإجراءات الحكومية حوافز لتوجيه الزراع ولزيادة إنتاجيتهم (كما زعم صندوق النقد) بالنسبة لمحاصيل أساسية؛ كالقطن وقصب السكر (وهذا أمر له مغزاه العميق كما سيجيء). كان المقصد مجرد تحقيق خطوة في اتجاه رفع يد الدولة عن إدارة الأسعار؛ بتقريب أسعار الشراء الحكومية من مستوى الأسعار في الدول المسيطرة. وقد أقر البنك الدولي بصحة ما فهمناه، وفسر ابتهاجه بالقرارات على أساس أنها مجرد "اعتراف حميد (من السلطات) بالمبادئ المتضمنة: أسعار مناسبة للمحاصيل، وخفض في دعم المدخلات" (58).

ج ـ مع هذا النجاح في ضبط الأداء الاقتصادي، يقوم البنك الدولي بمهامه المتميزة، مسلحًا بخطته وخبرائه وقروضه، ومتعاونًا مع وكالة التنمية الأمريكية. وقد لاحظنا أن الخطوط العامة للاستراتيجية ركزت في مُقترحاتها الفنية لتطوير القطاع الزراعي على مشروعات الصرف، وتحسين مدخلات الإنتاج. وتجاهلت إشكال التفتت في الحيازات كعائق أساسي؛ سواء في وجه الاستجابة المناسبة لتغير الأسعار، أو في وجه الاستخدام الأمثل للمدخلات المُحسِّنة، ولا نعتقد أن التجاهل يعكس تقييمًا اقتصاديًّا موضوعيًّا، يقضي بأن المشكلة
لا تستحق اهتمامًا. ولكن يبدو أن اتجاه البنك الدولي يتضمن اعتمادًا على النتائج المتولدة من مجمل السياسات الاقتصادية، والتي قد تحد من مساحة القطاع المفتت عن طريق التركز في الملكية والحيازة. فهذا هو البديل المناسب للبنية الاقتصادية والاجتماعية التابعة.

وللأسف، لا توجد ـ كما قلنا ـ بيانات إجمالية عن تطور الملكية والحيازة منذ منتصف الستينيات (59)، ولا عن تطور توزيع الأصول الإنتاجية الأخرى على الفئات الاجتماعية المختلفة، بل لا توجد أرقام إجمالي يرتكن إلى دقتها ـ بقدر مقبول ـ عن الزيادة العامة في الآلات المستخدمة في الزراعة، أو في الأنشطة غير الزراعية في الريف المصري، ولا توجد بيانات متكاملة حول التصورات في مستوى وأنماط المعيشة بين الفئات المختلفة، وبشكل عام لا توجد دراسات ميدانية اجتماعية كافية (60). وعلى ذلك فنحن نقتحم المجهول، ونركب مخاطرة كبيرة نسبيًا؛ إذ نحاول تتبع التطورات الحادثة فعليًّا في الريف، وسنُضطر إلى استخدام عدد من القروض، ونحاكم نتائجها على ضوء بعض دراسات العينات المحدودة.
والفرض الأول هو أن هناك اتجاه تلقائي وطبيعي للتمركز في ملكية الأرض الزراعية (كما في ملكية الأصول المنتجة في أي نشاط اقتصادي) في ظل سوق مرسل، وفي غيبة ميكانيزمات مضادة (من خارج السوق) لهذا الاتجاه. وإذا اعتمدنا على المقارنة بين هيكل ملكية الأراضي الزراعية قبل قانون 1952 للإصلاح الزراعي الأول، وبين الهيكل المقابل عام 1965 (بعد المعالجة المعقولة لمحمود عبد الفضيل) (61)، سنلحظ أنه بعد تنفيذ قانوني الإصلاح الزراعي، حدث تغير جذري وهام لصالح أصحاب الملكيات الصغيرة (5 أفدنة فأقل)، وهذه الفئة اكتسبت المساحات المضافة (أساسًا) عبر قرارات سياسية، وإجراءات منظمة. ولكن يلاحظ أيضًا أن ملكية الأراضي خارج نطاق الإصلاح الزراعي (أي المتداولة في السوق)، انتهت إلى اتجاه نحو تمركز الملكية في نطاق الفئة من 5 ـ أقل من 50 فدانًا، وداخل هذه الفئة كانت زيادة المساحة المضافة لدى شريحة 5 ـ أقل من 10 أقل من المساحة المضافة لدى الشريحة 10 ـ أقل من 20، والأخيرة أقل من المساحة المضافة إلى الشريحة 20 ـ أقل من 50 فدانًا. وقد حدث ذلك رغم أن سوق الأرض الزراعية لم تكن مُرسَلةً تمامًا؛ فبالتأكيد لم يكن الجو السياسي العام الذي أشاعه توزيع الأراضي، ومنع طرد المستأجرين، يشجع كثيرًا على تمركُز ملكية الأراضي الزراعية، وكذلك لم تكن لجنة تصفية الإقطاع مما يحفز على شراء الأراضي، ولا انحيازات السلطة المركزية لصغار الحائزين، ولا التأميمات والحراسات، أو الحديث الدائم عن الاشتراكية وتذويب الفوارق بين الطبقات. لم تَكنْ السوقُ مرسلةً إذن، وكانت عوامل الضغط على حركته التلقائية مؤثرة، ومع ذلك تم رصد الاتجاه الذي أشرنا إليه. ومن حقنا أن نتصور أن هذا الاتجاه يتسارع إذا خفت الضوابط والضغوط المفروضة على سوق الأراضي الزراعية. إن النتائج المستخلصة من (دراسة عينات واسعة نسبيًّا) حول توزيع ملكية الأراضي الزراعية في عام 1973 (62)، وتشير إلى تغير جسيم في هيكل الملكية، إذا قورنت هذه النتائج مع آخر إحصاءات رسمية في الموضوع ـ عام 1965 ـ كما في الجدول التالي:
جدول رقم (1)
تطور هيكل الملكية الزراعية
الملكية بالفدان
النسبة المئوية من الملاك
النسبة المئوية من المساحة
1965
1973
1965
1973
أقل من 5 أفدنة
5 ـ أقل من 10
10 فأكثر
94.5
2.4
3.1
85.6
7.8
6.6
57.1
9.5
33.4
26.1
11.2
62.7

وقد يدهشنا هذا المدَى من التغير، في فترة شهدت بعض التساهل (وخاصة بعد حرب 1967)، ولكن لم تشهد انقلابًا كاملاً في السياسات، بل حدث في تلك الفترة فرض سقف على ملكية الأسرة من الأراضي الزراعية. وقد نرى أن تقديرات 1973 هذه لا تقدم صورة صحيحة، ولكنها مؤشر لاتجاه متوقع في ظل قدر محدود من التساهل، وهي مؤشر يرجع تصورنا أن هذا الاتجاه قد تسارَعَ بعد التصفية شبه الكاملة للضوابط المفروضة على سوق الأراضي الزراعية، بل من حقنا أن نتصور أن الاتجاه للتمركز تسارع جدًا؛ لأن السوق ـ في فترة الانفتاح ـ لم يكن أيضًا سوقًا مُرسلاً. فالسرعة المُذهلة لتمركز الأصول والأنشطة الاقتصادية في مجالات كالاستيراد والمقاولات والتجارة الداخلية، لم تكن مجرد نتائج للسوق المرسلة، ولإطلاق آلياتها؛ فالسوق المرسلة لا تحقق وحدها هذه النتيجة، وبهذه السرعة، وحقيقة الحال أن السوق ازدادت تشوهًا بالتدخلات الأجنبية، وبتدخلات السلطة السياسية المصرية لمساندة البعض بشكل مباشر، وكان الأمر كذلك في قطاع الريف، وفي ملكية الأراضي الزراعية أو حيازتها. والسلطات المحلية ـ في المناطق الريفية ـ لعبت بلا شك دورًا هامًا في إطار التوجه العام للسلطة السياسية الجديدة، وفي إطار الارتباطات الوثيقة (والمعلنة الآن بلا رادع) بين رجال الإدارة المحليين، والفئات القادرة والعناصر المغامرة. ويبدو أن عدد الزاحفين من المدينة إلى الريف، لشراء الأراضي أو لحيازتها، قد زاد أيضًا لإقامة مزارع ومشروعات ذات إنتاج غير تقليدي، وشجع كل هذه العملية، أن إخلاء الأرض من صغار المستأجرين أصبح سهلاً نسبيًّا، فأصبح بوسع بعض الملاك الكبار أن يعودوا إلى أرضهم لزراعتها على الذمة، أو أن يؤجِّروها لمستأجرين قادرين على إقامة مشروعات ربحيتها عالية، وقادرين بالتالي على دفع إيجار أعلى. وسهولة طرد المستأجرين الصغار تحققت نسبيًّا الآن بعد تصفية الجميعات التعاونية التي بدأت من الناحية العملية بإحلال بنك القرية محلها في أهم وظائفها: الائتمان (63)، وبعد تصفية لجان فض المنازعات (القانون رقم 67 لسنة 1975)، ومع إطار الوضع السياسي العام الذي مال بتوازن القوى ضد مصالح صغار المستأجرين، وضد قدرتهم على الدفاع عن مواقعهم وحقوقهم القانونية.
وتشير دراسات متفرقة ومحدودة، إلى نتائجَ تتفق مع ما ذهبنا إليه ـ فبالنسبة للعلاقات الإيجارية، يتضح من عينة قرَى (في محافظة البحيرة) أن الإيجار الفعلي السائد كان 87 جنيهًا للفدان في السنة إذا زرع قطنًا ـ 40/ 50 جنيهًا لفدان البرسيم ـ 60 جنيهًا لفدان الأرز ـ 100 جنيه للفدان إذا زرع قمحًا وأرزًا (مع أن الإيجار القانوني، سبعة أمثال الضريبة، لا يزيد عن 24 جنيهًا للفدان في السنة). ولاحظت هذه الدراسة (وتاريخها 1976) أن "الاستئْجار بإيجار مرتفع، عادة ما يقع من جانب الملاك وأصحاب الحيازات الكبيرة، يستأجرون الأرض لتوسيع الرقعة التي يشغلونها، وخاصة في تربية المواشي" (64).
ويشير هذا، إلى أن أثر العوامل الاقتصادية في زيادة الإيجار، كان أكبر من أثر الضغط والقهر ضد صغار المستأجرين، وكان هذا مُتصورًا في إطار الأوضاع المؤسسية للمرحلة السابقة، فوفقًا لدراسة أخرى حول مجموعة قرى برج نور الحمص، كانت المشاكل المحورية التي بحثتها لجان فض المنازعات في جمعيات الائتمان (قبل إنهائها عام 1976) تدور حول العلاقات الإيجارية، "فعقد الإيجار الذي ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر، وفقًا لأحكام القانون، هو محور الصراع بين الطرفين؛ فكل منهما يجعل من هذا العقد وسيلة لتحقيق مصلحته؛ إذ إن المالك يحاول من خلاله أن يثبتَ عدم التزام المستأجر بشروط هذا العقد؛ كتأخيره في سداد الإيجار، أو تغييره لمعالم الأرض، أو قيامه بالتأجير من الباطن.. إلخ؛ لكي يحصل على حكم بطرده من "العين" أي من أرضه. كما أن المستأجر يعتبر عقد الإيجار هو الصيغة القانونية التي تضمن حقه في استغلال الأرض وتجعله في مأمن من استغلال المالك. ومن ثم، فإنه (أي المستأجر) يحاول جاهدًا أن يلزم المالك بتوقيع هذا العقد، فيما لو امتنع عن ذلك".
وقد أثبتت الدراسةُ أن قرارات لجان فض المنازعات (في قرَى العينة) كانت بنسبة 40.3 % لصالح الملاك، وجاءت بنسبة 59.7 % لصالح المستأجرين (65). وهذه النتيجة تؤكد الدور الهام للجان، وتعزز تصورنا، أن إنهاء هذه اللجان، وإضعاف الجمعيات التعاونية بشكل عام (من خلال بنك القرية)، كان ضربة مُوجَّهة للملاك والمستأجرين الصغار؛ فالقانون كان يوفر قدرًا من الحماية لحق صغار الملاك في إدارة جمعيات الائتمان (66).
ومهما قيل عن محاولات الأعيان لإفراغ هذا القانون من محتواه، ظل نص القانون (بما يمثله من اتجاه عام للسلطة المركزية)، وظل جو الانتخابات، وتصاعد الوعي السياسي العام لدَى صغار الحائزين، ظل كل ذلك عامل ضغط هام على تطلعات ومشاغبات الأعيان، وفي عينة قرى البحيرة، نجد أن الدراسة تُنقل على لسان صغار الفلاحين نقدهم الحار للموقف السلبي للجمعية التعاونية، فيقولون عن دور أعضاء مجلس الإدارة "إنه (ولا حاجة: يصالحوا الخلق على بعضها.. المرأة الغضبانة مع جوزها يصالحوها) ـ ومشاكل الزراعة والدواء وخلافه، ألا يساعدون في حلها؟ (بالنسبة للفلاحين، لا.. ومن يهابِر ـ أي: يعارض أو يصرّ على المطالبة بحقوقه ـ يقولون له: أنت ثورجي) ـ طيب ألستم أنتم الذين انتخبتموهم؟ الجواب (أيوه إحنا انتخبناهم، خُدعنا فيهم. المرة الجاية مش حاننتخبهم)" (64). هذه الصورة كانت تعكس الحال الفعليَّة في عديد من الجمعيات، ولكن حتى من هذه الصورة، نلمح وعيًا بالدور المُفترض من الجمعية أن تقوم به، وبأن هذا الدور هو معيار الحكم عليها بالنجاح
أو الفشل، وبإعادة انتخاب مجلس إدارتها أو عدم انتخابه، وبالتالي فإن مجرد وجودها واستمرارها كان رادعًا يحد من تجاوز القواعد الموضوعة، وبالتالي كانت جمعيات الائتمان ـ كمؤسسة محورية في الريف ـ وكانت لجان فض المنازعات، مما يتمنَّى الأعيان زواله؛ كي ينفردوا بالسلطة في القرى تمامًا ورسميًّا، وكي تطلق يد المؤسسات التقليدية القائمة على الملكية والثروة والعائلة الممتدة، تساندها الأجهزة الإدارية.

كان من حقنا ـ إذن ـ أن نتوقع أن إضعاف جمعيات الائتمان، وإنهاء لجان فض المنازعات، خطوة محسوبة في هذا الاتجاه، دعمت قدرة أعيان الريف والقادمين من المدينة، على حل مشاكل الصراع حول الإيجار والملكية بطريقتهم الخاصة وبشروطهم، فتسارع تمركز الملكية والحيازة.، وتعبيرًا عن الواقع الجديد كان منطقيًّا في عام 1979 أن يتغير قانون التعاون جذريًّا (67). أن التوسع في الحيازة (بزيادة الملكية وزيادة الأرض المستأجرة) كان يتحقق في الستينيات (غالبًا) نتيجة قدرة البعض على تحقيق تفوق اقتصادي (في مواجهة عوائقَ غير اقتصادية). وهو يتسارع الآن أيضًا بتأثير القوة الاقتصادية بعد أن تضاعف أثرها مرات عديدة (مع اتساع التمايز في الدخول وفي القدرة على الادخار والاستثمار)، وينعكس هذا في الأرقام الاقتصادية أصبحت تدفع في نفس الوقت وبشدة في اتجاه التمركز. وقد نضيف اعتبارًا آخر من خارج النسق المصري؛ إذ يبدو أن أعدادًا كبيرة نسبيًّا من صِغار الحائزين تميل الآن إلى التخلص من الأرض؛ من أجل الحصول على سيولة تكفي للسفر إلى الدول النفطية المجاورة. وتشير دراسة برج نور الحمصي إلى ما يؤكد هذه النتيجة (التمركز المتسارع)، "فاتجاه الحركة ـ كما قالت ـ أشار إلى أن أكثر فئات الحيازة بيعًا لأرضها كانت فئة أقل من فدان؛ حيث وصلوا إلى 160 حائزًا مقابل 35 فقط اشتروا أرضًا، وكانت النسبة الغالبة من البائعين من فئة أقل من ثلاثة أفدنة (72.6 %) من المشتغلين بالزراعة أساسًا، وليس لهم مهنة أخرى،
أو أي مصادر دخل أخرى واضحة على الأقل" (68).

إلا أن تمركز الأصول المنتجة لم يعد يتمثل فقط في مجرد مساحة الحيازة، فنحن نفترض أيضًا زيادة التمركز في الأصول المنتجة الأخرى؛ إذ هناك علاقة وثيقة ومفهومة بين تمركز ملكية الأرض وحيازتها، وبين تمركز هذه الأصول الأخرى (ويترتب على هذه العلاقة - بطبيعية الحال - مزيد من التشوه في توزيع الدخل في قطاع الريف). وقد تأكدت هذه العلاقة ـ قبل الانفتاح (69) ـ وسط احتكار الدولة للاستيراد، ورغم قدر من الضوابط على الائتمان المقدم لكبار الحائزين، وعلى بيع المنتج المحلي من الآلات الزراعية. فكيف يمكن أن يكون الحال مع فتح باب الاستيراد على مصراعيه أمام وكلاء الشركات الأجنبية العديدة، ومع تدفق الاستثمار الخاص لإقامة زراعات غير تقليدية ومشروعات على حيازات متنامية المساحة، ومع تحيز صريح في السياسة الائتمانية لما يُسمَّى بمشروعات الأمن الغذائي؟ نعتقد أن قدرة أصحاب الحيازات الكبيرة على تنويع الأنشطة، وعلى ملكية الآلات قد تضاعفت، ولكن يبدو من بعض المؤشرات أن هذه القدرة لم تعد حكرًا على أصحاب الحيازات الكبيرة، فبعض المشروعات؛0 كتربية الدواجن، والمناحل، أو زراعة الخضر.. إلخ لا تحتاج بالضرورة إلى مساحات كبيرة، والقدرة التمويلية وفَّرها الزاحفون من المدينة، وبعض العائدين من الأقطار النفطية. وبوسع هؤلاء أيضًا امتلاك جرارات، أو آلات ري، أو سيارات نقل، دون حيازات كبيرة بالضرورة؛ إذ يؤجرون هذه الآلات لجيرانهم. ووفقًا لبيانات مؤسسة الدواجن ـ على سبيل المثال ـ فإن هناك الآن 1700 مزرعة دواجن (قطاع خاص) تنتج فعلاً، و5600 تحت الإنشاء و1700 لا زالت في المراحل التمهيدية (70) (ولا تدخل في هذه الأرقام الشركات التي قامت لنفس الغرض وفق قانون استثمار المال الأجنبي). وحسب الخبرة والمشاهدات، فإن قسمًا كبيرًا من هذه المشروعات يديرها أصحاب حيازات صغيرة أو متوسطة. أيضًا نعتقد أن عددًا متزايدًا من أصحاب الحيازات المتوسطة كان مسهمًا في زيادة مساحة الفاكهة من 258 ألف فدان (1973) إلى 321 ألف فدان (1977). وفي زيادة مساحة الخُضر من 186 ألف فدان إلى 214 ألف فدان في نفس الفترة (من المساحة المحصولية الشتوية) ومن 374 ألف فدان إلى 452 ألف فدان (من المساحة المحصولية الصيفية) (71). وقد أكَّدت الدراسة الميدانيةُ في برج نور الحمص - العلاقةَ المنطقية بين الهيكل الحيازي للأرض وبين التركيب المحصولي وملكية الحيوانات الكبيرة؛ إذ تمكن المساحة الكبيرة للحيازة من زيادة متوسط نصيب الرأس من العلف الأخضر، وبالتالي تقل مشكلة الحصول على العلف اللازم لتغذية تلك الحيوانات، ولكن لم يثبت وجود نفس الرابطة بين حجم الحيازة وبين عدد الآلات المملوكة والمشاركة في الأنشطة الاقتصادية الأخرى، بل تبيَّن أن نسبة كبيرة من الآلات الزراعية (من جرارات وآلات ري) المملوكة في القطاع الخاص يمتلكها أفراد في الفئات الحيازية الدنيا، وحتى ثلاثة أفدنة، وبدَا من ذلك، أن ملكية هذه الآلات ليست للاستغلال في الأعمال المزرعية لمالك تلك الآلات، وإنما لتأجيرها ـ في الأساس ـ للعمل عند الغير، وتعتبر هذه الآلات من مصادر الدخل الرئيسية في قُرَى العينة (منطقة برج نور الحمص). كذلك لوحظ انحصار المناحل في الفئات الحيازية الدُّنيا، ولوحظ أيضًا مشاركة هذه الفئات في معامل الألبان. واستخلصت الدراسة من كل هذا "أن الحيازة الأرضية
لا تعبر عن القوة الاقتصادية للمزارع، ولا تمثل أهمية كبيرة في دخله، وخاصة في تلك الفئات الحيازية الدنيا" (72). وقد
لا يصدق تعميم هذه النتيجة على كافة أنحاء الريف، وأيضًا لا نقصد أن ظاهرة وجود فئة من أعيان الريف، لا تستند إلى حيازة واسعة، تعتبر ظاهرة جديدة، ولكن نعتقد أن هذه الظاهرة انتشرت بمعدلات أسرع في سنوات الانفتاح، رغم استمرار العلاقة التقليدية الوثيقة بين تمركز الحيازة وتمركز الأصول المنتجة الأخرى.

د ـ السؤال الآن هو: هل تستفيد الجهات الخارجية من تسريع النتائج السابقة، والتي تولدت من مجمل سياساتها العامة، وسياستها في القطاع الزراعي؟ وهل يفسر هذا الاتجاه إلى التمركز السريع، تجاهُلَ البنك الدولي لقضية التفتت؟ أعتقد أنه يسفر، دون أن يعني هذا اتهام البنك الدولي أو وكالة التنمية، بأنهما يسعيان إلى عودة نسق ما قبل 1952؛ إذ ليس من مصلحتهم اقتصاديًّا، أو سياسيًّا. وعودة طبقة من مالكي مئات وآلاف الأفدنة في الأرض القديمة، بمساحتها المحدودة وبكل الوقائع الاجتماعية التي صارت، مسألة مستحيلة عمليًّا. وبالتالي فإن المقصود بالتمركز هو توسع طبقة الأعيان عددًا ومساحة إلى آخر مدَى ممكن. وهذا التوجه يحد فعلاً من مشكلة التفتت، ولكن لا يُلغيها؛ فمن ناحية سيظل تيار التفتت عاملاً باستمرار من خلال الإرث، وسيظل هناك دائمًا من يتشبثون بحيازاتهم مهما كانت قزمية، ومن ناحية ثالثة، فإنه إذا كان العمل في الأقطار العربية قد دفع بعض صغار الحائزين إلى ترك الأرض، فإن بعض العائدين يستخدمون مدخراتهم في شراء مساحات محدودة (في دراسة بُرج نور الحمص كان البائعون من فئة 1 إلى 3 أفدنة ثلاثين بائعًا مقابل 60 اشتروا، معظمهم من العاملين في البلاد العربية كمدرسين أو كعمال)(73). قد يكون تيار التمركز ـ في مرحلة معينة ـ أقوى من التيار المضاد (تيار التفتت)، ولكن لن يلغيه، ولن يتواصل في تفوقه بلا حدود. وبالتالي فإن بديل الاعتماد على التمركز يعني استمرار قطاع مشوه ومعوق في الزراعة المصرية، بكل ما يعنيه هذا من تبديد للموارد الأرضية والمائية المحدودة.
إلا أن هذا البديل العاجز (من منظور الاقتصاد الكلي ـ الماكرو) يشكل البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية الملائمة لنموذج التبعية. التوجه في الستينيات لم يسفر عن أوضاع مؤسسية متسقة تمامًا مع خط التنمية الشاملة، ومع متطلبات الإدارة المركزية. ولكن ظل هذا التناقض (أو عدم الاتساق) محاصرًا بانتشار الملكيات والحيازات الصغيرة، وبما تمثله من وزن اجتماعي وسياسي متزايد. وبعض هذه الملكيات الصغيرة (مناطق الإصلاح) كان ارتباطه بالإدارة المركزية وثيقًا، ومحاصرًا بممارسات واحتمالات الأراضي الجديدة؛ كمزارع كبيرة تابعة للقطاع العام. وكانت سياسة التسعير تضمن مرور قدر من الفائض الاقتصادي في قنوات التخطيط المركزي. وكان أعيان الريف يمنعون جزءًا مهمًّا من فائضهم عن هذه القنوات (رسميًّا أو بالتحايل)، ولكن كان ممكنًا أن تتطور الأوضاع المؤسسية إلى إحكام الحصار السعري والضريبي، بل وإلى الإلزام بخطة عامة للتعاون الإنتاجي تحل تدريجيًّا المشاكل الناتجة عن التفتت. ولا ننسى أن الدولة كانت تحتكر الاستيراد والائتمان. وكان ممثلو التنمية المستقلة (أو الاشتراكية ـ حسب مصطلح تلك الفترة) في السلطة يسعون إلى إحكام الحصار؛ كي يستفاد من إمكانيات الأعيان وفق شروط المشروع الشامل لتنمية متمحورة حول ذاتها. وكان الأعيان ـ في المقابل يسعون إلى الإفلات من الحصار، وتصفيته إذا أمكن.
ونشير هنا إلى توصيات المجلس القومي للإنتاج والشئون الاقتصادية (مارس 1976)، فهي بمثابة برنامج لحزب الأعيان بعد انهيار مفاهيم التنمية المستقلة. لقد أفاض المجلس في شرح أهمية القطاع الخاص ودوره في النهوض بالإنتاج الزراعي، ويمكن تلخيص توصياته، في أنها مطالبة مُلحة برفع يد الدولة عن قطاع الزراعة (أسعارًا وتنظيمًا وإنتاجًا وتسويقًا وتصديرًا وتصنيعًا)، وبمعالجة النتائج التي ترتب على سياسات ما قبل الانفتاح (74).
إن المنظمين في القطاع الخاص، الكبار (بالمستويات المصرية) والأقزام (بالمقاييس الدولية)، تحت وهم أن تحررهم من إدارة الدولة يطلق المنافسة الحرة التي تعطي لكل ذي حق حقه. ومفروض ـ في الحقيقة ـ أن يمتلك المنتجون إحساس أنهم يحصلون على مقابلٍ عادلٍ لجهدهم وخبرتهم؛ فهو إحساس يفجر الإبداع والمبادرة، ولكن ينبغي أن يدرك هؤلاء (وهذا صعب) أن اللعبة في كل الأحوال محكومة، وأن التنافس ليس بلا ضوابطَ، والسؤال بالتالي هو: هل يكون التنافس في إطار النهضة العامة والتنمية الشاملة؟ أو في إطار ما يُسمَّى السوق؟ لن نعيد هنا أن السوق العادل، والمتوازن بالطبيعة، خرافة (الفصل الخامس)، ولكن نؤكد على حقيقة أن السوق المرسلة في بلد كمصر، في ظروف العلاقات الدولية الحالية، هو سوق تابع، إنه سوق لا تترابط أطرافه حول مركزه، ولكن تترابط أطرافه ـ في التحليل النهائي ـ مع أسواق الدول المسيطرة على العلاقات الدولية. الأسعار والدخول واتجاهات النمو لا تتحدد من داخل السوق المصري، ولكن تحكمها الضوابط الخارجية المفروضة على الأسعار المحلية وعلى التصدير والاستيراد. واللعبة ليست بالتالي حرة، ولهذا السبب كان طبيعيًّا أن تدعم القوى الخارجية مطالب أعيان الريف، فالنسق الذي ينشأ عن هذه المطالب مضمون أن يحكم ويضبط من جانب القوى الخارجية. ولماذا يصعب إقناع أعيان الريف بهذا المنطق؟ إنه صعب؛ لأن السوق التابعة مُرَتَّبةٌ على نحو يحقق مصالحهم المباشرة. وهذا أمر ينطبق على فئات اجتماعية متنوعة، ربطتها حركة السوق التابعة والمشوهة ـ عضويًّا ـ بِقوى السيطرة الخارجية. فالعمَّال الذين ارتبطت مصالحهم بشركات الانفتاح ـ من خلال الأجر الأعلى ـ يصعب إقناعهم برفض هذه الشركات التي ترفع الأجور؛ لأنها لا تعمل إلا في مشروعات تحقق أرباحًا عالية وسريعة، (مرتبطة إلى حد كبير بحركة الأسعار الموجهة من الخارج)، بغض النظر عن مدى أهمية هذه المشروعات بمنظور التنمية الوطنية الشاملة، ويصعب إقناعهم بأن الأجر الأقل في شركات القطاع العام كان أفضل؛ لأن استراتيجية التنمية المستقلة تختم إقامة مشروعات فترة حضانتها طويلة، وقد
لا تحقق ربحًا بعد بدء الإنتاج لفترة ما، وأنه ينبغي بالتالي أن تتحمل الشركات الرابحة بعض الأعباء، وينعكس هذا على مستويات الأجور. يصعب الإقناع بهذا بالنسبة للعمال والتكنوقراط (ولهذا يتم استنزاف المهارات بسهولة)، ونفس المنطق يسري على أعيان الريف.

في مرحلة تمزيق نسق الأسعار المُستقل (بكل ما صاحبها من ضغوط ومؤامرات لخلق أمر واقع) استفاد المهاجمون من ضغوط المُزارعين في نفس الاتجاه، والجو العام مكَّن كبار المزارعين (أصحاب الحاصلات غير المسعَّرة) من استخدام السيولة الزائدة في الاقتصاد؛ لتحسين موقعهم الدخلي النسبي، فزادت أسعارهم بمعدلات مجنونة، وأدى هذا فعلاً إلى زيادة نصيبهم النسبي من كعكة الدخل، (وانعكس هذا في التدافع على شراء الأرض وحيازتها) وبالتأكيد كان هذا الضغط من العوامل المفجرة لضوابط الأسعار في القطاعات الأخرى، وداخل القطاع الزراعي نفسه. وقد تؤدي إعادة الترتيب الشاملة لنسق الأسعار إلى بعض الهبوط النسبي في نصيب الأعيان، ولكن يظل صحيحًا أن تحرير مستويات الأسعار والدخول من سيطرة الدولة، مكَّن الأعيان (ويمكنهم) من تحسين مستواهم المعيشي، ومن إدمان نمط الاستهلاك المستورد (كقرنائهم في المدينة). وفضلاً عن الفائدة الاقتصادية المباشرة التي يجنيها الغزاة من ذلك، فإن إدمان نمط الاستهلاك المستورد أداةٌ استراتيجية لإدامة التبعية (الفصل الخامس).
وإضافة إلى تغير نمط الاستهلاكن فتح باب الأمل على مصراعيه لتملك الأراضي الجديدة (المستصلحة)، وأدت زيادة الدخول وفتح أبواب الاستيراد، إلى استخدام الفائض الاقتصادي في توسع عشوائي في استيراد المدخلات (75)، (بمساعدة القروض السلعية أو تسهيلات الموردين
أو الاستيراد دون تحويل عملة)، وما يتبقى لا يوجه عبر الدولة في مشروعات استراتيجية لإنتاج هذه المدخلات وغيرها، لكن يتصرف فيه أصحابه بقرارات فردية، وكشركاء أقزام، في كثير من الحالات، في مشروعات المستثمرين الأجانب، إن هذه الفئة الاجتماعية المتنامية ارتبطت – إذًا - في استهلاكها وإنتاجها بالخارج، (ويلوح لها أيضًا بإمكانيات مساعدتها في التصدير). وحققت أثناء ذلك تحسنًا حقيقيًّا في مستوى معيشتها وإنتاجيتها؛ فالصفقة إذن متكاملة، والربط بين طرفيها مُحْكمٌ، ويصعب بعد ذلك فك التحالف بين فئة الأعيان، وبين القوى الخارجية التي قدمت الدعم السياسي، والتوجيهات الاقتصادية التي أدت إلى انحياز واضح لمصالحها المباشرة. يصعب إقناع هذه الفئة أن زيادة دخولهم وإنتاجية مزارعهم ـ من خلال لعبة السوق والأسعار ـ كانت على حساب التنمية المستقلة الشاملة، وبقاء قطاع من الزراعة المصرية كسيحًا مهدرًا، رغم أن هذه حقيقة.

(3) مأساة القُطن وتغيير هيكل الإنتاج الزراعي:
أ- إن "التغيير النوعي" الذي طالب به البنكُ الدولي (ودعمته الوكالة والصندوق)، تضمن ـ إلى جانب ما ذكرناه ـ إدخال أصناف بديلة للتصدير. وتعبيرًا عن الالتزام بالتعليمات؛ أعلنت الحكومةُ أنها تدرس فعلاً إدخال دورات زراعية بديلة (46). ثم فوجِئ الجميع بحديث لوزير التخطيط (عبد الرزاق عبد المجيد) يقول: إن "القطن لم يعد ثروة قومية. ولعلَّني لا أكون مبالغًا إذا قلت إنه أصبح يمثل مشكلة حقيقية، وأن الاستغناء عن زراعته، قد يكون أجدَى وأفيد للاقتصاد القومي من الإصرار على زراعته" (76).
وكان طبيعيًّا أن يواجه هذا الكلام بالدهشة والمعارضة من الفنيين والاقتصاديين الوطنيين. كتب مثلاً سيد أيوب: "إن القطن الذي بدأت زراعته في مصر عام 1820، واستمرت إلى اليوم، هو المحصول الزراعي الأول والرئيسي لمصر، وسيظل كذلك إلى مستقبل بعيد، وسيصعب لأسباب اقتصادية واجتماعية وفنية التخلي عنه والانتقال إلى محصول آخر بديل أو منافس. فقد فرض القطنُ نفسه علينا، وتقبلناه وتزداد أهميته يومًا عن يوم (...) إنه المحصول الأول والرئيسي، وأصبح فلاح مصر خبيرًا مُتخصصًا في زراعته، وهو الخامة لكثير من الصناعات الرئيسَة الناجحة، وهي الحليجُ والغزل والنسيج والصباغة والملابس الجاهزة واستخلاص الزيوت، وما يتبع هذه الصناعات الرئيسَة مِن صناعات أخرى فرعية ضرورية للبلاد؛ مثل ما يتفرع من صناعة استخلاص الزيوت من إنتاج المِسلي الصناعي والصابون والجلِسرين، وإنتاج الكُسْبِ الذي يعتبر المصدر الأكبر للأعلاف الحيوانية الجافة. وأحطاب القطن هي مصدر الطاقة الرئيسي المُستخدَم في منازل الفلاحين، وتستوعب كل هذه الأنشطة عِمالة كبيرة، لها أهميتها الكبرى. وترتب أيضًا على القطن وإنتاجه، ظهورُ طبقات من العلماء المتفوقين في علوم زراعته وصناعته واقتصادياته" (77).
ولا تقتصر أهمية القطن في الحقيقة على هذا التاريخ العريق، وما ترسب عنه من إنجازات هامة؛ إذ معروف أيضًا أن مصر تحتل المركز الأول بين دول العالم المصدرة للقطن طويل التيلة؛ حيث تمثل صادراتُها حولي 49 % من إجمالي الصادرات العالمية من تلك الأقطان" (78).
ولكن يبدو أن سياسة إزاحة القطْن كانت قد بدأت فعلاً قبل إعلان الحرب رسميًّا على لسان وزير التخطيط، ويشهد على التقليص المُتعمَّد والمُطرد للمساحات المُنزَرعة قطنًا خلال سنوات الانفتاح. وتحقق هذا الاتجاه من خلال سياسة الأسعار، وبالتعليمات الإدارية المباشرة. فتوجيهات وزارة الزراعة قضت بإلغاء زراعة القطن في الأراضي ضعيفة الإنتاج، ومحاولة الاكتفاء بزراعة الأراضي الخصبة مرتفعة الإنتاج. "وهذا أمرٌ يجافي الصواب ـ كما كتب صلاح
أبو النصر؛ إذ إنه يجب أن نقسم الهدف من زراعة القطن إلى قسمين؛ أولهما مساحات قُطنية تُزرع بقصد نتاج محصول وفير وتبلغ 1.2 مليون فدان، أمَّا القسم الثاني، فهو مساحات قطنية تُزرع بنبات القطن كوسيلة من وسائل استصلاحها، دون النظر إلى ما يغله الفدان، وتبلغ مساحتها من 300 إلى 500 ألف فدان.. وقد أُعفيت محافظة الجيزة من زراعة القطن، فماذا كانت النتيجة؟ هبوط عام في إنتاجية الأرض الزراعية في المحافظة، وساءت الصفات الطبيعية للتربة فيها" (79). على كلٍّ، حدث أن تطورت العلاقة بين مساحات القطن والقمح والبرسيم كما في الجدول (2).

جدول رقم (2)
المساحات المُنزَرعة بالقطن والقمح والبرسيم (بالمليون فدان) (80)

المحصول
1973
1974
1975
1976
1977
1978
القطن
القمح
البرسيم (مستديم)
1.60
1.25
1.59
1.45
1.37
1.62
1.35
1.39
1.69
1.25
1.40
1.71
1.42
1.20
1.79
1.18
1.38
ـ

وقد ترتَّب على هذا الاتجاه النزولي للمساحات المنزرعة قطنًا، أن إجمالي الإنتاج من القطن الخام، كان مُتجهًا بالتوازن نحو الانخفاض، أساسًا في الأصناف متوسطة التيلة (انخفض بنسبة 60 %)، تليها الطويلة التيلة الممتازة
(24.2 %). وفي المقابل يبدو من الجدول التوسُّع المُطرد في القمح والبرسيم.

ب ـ إنَّ قضية الزيادة المطردة في استهلاك القمح تُثير الانتباه والحذر (اقترب الاستهلاك من علامة الـ 7 مليون طن عام 1978، بزيادة 15 % عن العام السابق). وترتبط بهذا الزيادة المطردة في الاعتماد على استيراد القمح والدقيق الفاخر من الخارج. أصبح متوسط الاستيراد السنوي 156.6 مليون جنيه (في فترة 73 ـ 1977) مقابل 42.6 مليون جنيه (في فترة 67/ 1968 ـ 71/ 1972). و35.3 مليون جنيه (في فترة 62/ 1963 ـ 66/ 1967). وبالتالي أصبح متوسط الإنتاج السنوي المحلي (في فترة 73 ـ 1977) لا يغطي أكثر من 37 % من استهلاك القمح والدقيق الفاخر، وهذا التطور حدث وسط الانهيار الذي أصاب الميزان التجاري الزراعي خلال سنوات الانفتاح. فالصادرات من السلع الزراعية ومن السلع الغذائية (مثل السكر والمشروبات والسجائر والبصل المجفف والمولاس والكُسْب) كانت تزيد عن الواردات من السلع الزراعية ومستلزمات الإنتاج الزراعي، ومن السلع الغذائية (مثل دقيق القمح وزيت بذرة القطن والسكر).
ظل القطاع الزراعي يحقق فائضًا في ميزانه التجاري طوال الستينيات وحتى عام 1973، وبدءًا من عام 69/ 1970، كانت قيمة الفائض تزيد سنويًّا عن 100 مليون جنيه، ووصلت إلى 145 مليون جنيه عام 1973. ثم حدث تحول مفاجئ بدءًا من عام 1974، فانقلب الفائض إلى عجز على النحو التالي (بالمليون جنيه) (81).
1974
1975
1976
1977
ـ 51.7
ـ 283.4
ـ 151.0
ـ 159

وهذا التحول مثير بالفعل للقلق (من أي منظور)، فهو يعني أن قطاع الزراعة لم يعُد من مصادر الإضافة إلى حصيلة النقد الأجنبي، بل لم يعد يكفي احتياجاته من النقد الأجنبي، وأصبح عبئًا على قطاعات التصدير الأخرى.
ولم يكن ارتفاع أسعار الواردات السبب الأساسي في هذا التحول؛ لأن أسعار الصادرات الزراعية الرئيسية، زادت بمعدل يزيد عن معدل الارتفاع في أسعار الواردات من المحاصيل الزراعية الرئيسية، طوال هذه السنوات، كما يبدو من الجدول رقم (3) (82):

جدول رقم (3)
معدل الارتفاع في أسعار السلع الزراعية الداخلة في تجارتنا الخارجية:
67/ 1968 ـ 71/ 1972
1973 ـ 1977
الصادرات
القطن
الأرز
الواردات
القمح
الذرة الشاميَّة
الدقيق
22.2 %
3.1 %
ـ 11.5 %
ـ 1.4 %
ـ 14.9 %
140.9 %
146.5 %
117 %
116.9 %
123.3 %

ويُلاحظ أن القطن وحده يمثل حوالي 68 % من إجمالي قيمة صادرات السلع الزراعية والغذائية، ويمثل مع الأرز نسبة 78 % (في المتوسط السنوي لفترة الانفتاح 73 ـ 1977). ويلاحظ أيضًا أن القمح على جانب الواردات يمثل 37.9 % من إجمالي قيمة الواردات الزراعية والغذائية، ويمثل مع الذرة والدقيق نسبة 51.8 % (في المتوسط السنوي لنفس الفترة). وعلى ذلك، فإن التدهور في الميزان التجاري الزراعي؛ كان نتيجة انخفاض الكميات المصدرة من السلع الزراعية (من جانب)، وزيادة الكميات المستوردة (من الجانب الآخر). وقسمٌ من هذه النتيجة يمثل تطوُّرًا طبيعيًّا يرتبط بزيادة عدد السكان. ولكن يرتبط قسم آخر بمجمل السياسات الاقتصادية للانفتاح. كان النقص في كمية الصادرات، وكانت الزيادة في كمية الواردات (في السلع الأساسية محل المقارنة) كما في الجدول (4) (79):


جدول رقم (4)
نسبة التغير في كمية الصادرات الواردات
67/ 1968 ـ 71/ 1972
1973 ـ 1977
الصادرات
القطن
الأرز
الواردات
القمح
الذرة الشامي
دقيق القمح
ـ 9.4 %
49.1 %
36.2 %
ـ 55.8 %
ـ 38.8 %
ـ 34.7 %
ـ 51.5 %
104.3 %
79.9 %
ـ 37.4 %

وقد انخفضت كمية الأرز المُتاحة للتصدير؛ بسبب زيادة الاستهلاك المحلي، وانخفضت كميات القطن المُتاحة للتصدير بسبب الاتجاه المدبر لتقليل الإنتاج، باعتبار أن محصول القطن "أصبح يمثل مشكلة" كما قال وزير التخطيط، فهل التوسع في القمح والبرسيم (وفول الصويا أيضًا) (83) أكثر جدوَى من التوسع في زراعة القطن من منظور وطني لمصالح الاقتصاد القومي؟ وهل يؤدي ذلك إلى تحسين الميزان التجاري الزراعي مثلاً؟ إن موقفنا السابق في الدفاع عن تحقيق أقصَى حد ممكن من الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الغذائية، لم يضعنا في تعارض مع تساؤل مصطفى الجبلي حول جدوَى التوسع في إنتاج بعض المحاصيل الغذائية، وقد ضرب بالتحديد مثل القمح واللحوم؛ فالقمح في كل الأحوال، وأمام حقيقة وجود احتياجات غذائية أخرَى (بمنظور الاكتفاء الذاتي) تتنافس على رُقعة زراعية محدودة، أصبح تحقيق الاكتفاء الذاتي منه أمرًا مُتعذرًا. وعدم وجود المراعي الطبيعية لا يبرر التوسع في زراعات البرسيم، بل يدعو إلى تقليل هذه المساحة إلى النصف، والاقتصار على عدد محدود من حيوانات اللبن واللحم عالية الكفاءة التحويلية، مع ضرورة التركيز على التوسع في إنتاج الدواجن، وتنمية مصادر الأسماك باعتبارها مصدرًا رخيصًا للبروتين الحيواني. وحسب تعبير الجبلي، فإن "هناك اختلالاً في استخدام الأراضي بين محاصيل الأعلاف - والتي تشغل نحو 30 % من المساحة لتغذية 4 ملايين من الحيوانات -وبين المحاصيل الغذائية التي تشغل نحو 55 % من المساحة، وذلك لسكان يصلون سنة 1985 إلى نحو 50 مليون نسمة" (84).. إن "الرقعة الحالية المحدودة تشهد تنافسًا شنيعًا بين الإنسان والحيوان، والأربعة ملايين حيوان يأكلون أكثر من الـ 37 مليون إنسان. هذه عملية حقيقية في الزراعة المصرية" (85). وعلى كلٍّ، فإن الدراسات حول تغيير الهيكل المحصولي، كانت جارية قبل الانفتاح. وقد تمت في وزارة الزراعة بالاشتراك مع هيئة الأغذية والزراعة (1972) دراسة مقارنة في هذا الاتجاه لتراكيب محصولية بديلة تشمل تغيير مساحة القطن والقمح والفواكه والخضر وهيكل الإنتاج الحيواني، وأثبتت هذه الدراسة ـ فيما يتعلق بالقطن بالذات ـ أن العائد من الحبوب (قمح ـ أرز ـ ذرة) بمعنى أن ميزة القطن تفوق ميزة هذه المحاصيل في الدورة، (ولم يتغير هذا التقدير وفق الأسعار الحالية) ـ وأثبتت الدراسة أيضًا أن التوسع في زراعة القطن يحقق زيادة في العمالة تقدر بنحو 30 % بالنسبة لدورة الحبوب البديلة، علاوة على أنها تستهلك كمية من المياه تعادل 33 % من استهلاك دورة القمح والأرز (86). وقد توصّل البنك المركزي إلى نتيجة مشابهة، وكتب أنه "بمقارنة العائد القومي من زراعة القطن بالعائد القومي من زراعة القمح، ويُلاحظ أنه في ظل أقل معدل تبادل بالأسعار العالمية بين القطن والقمح (7.5 طن قمح مقابل طن قطن)، فإن زراعة فدان قطن تمول واردات بما يوازي إنتاج أربعة أفدنة قمح. ومع أخذ التكاليف في الاعتبار وإجمالي العائد من الدورة ككل يلاحظ أن صافي العائد بالأسعار العالمية من زراعة فدان قطن (بمتوسط أسعار 1976 و1977) يُوازي 672.5 جنيه مقابل 426.5 جنيه من زراعة فدان قمح، ثم أرز، أي أن هناك مَيزة نسبية في زراعة القطن (87). وأكد خبير القطن الكبير محمد فرغلي نفس النتيجة، فكتب: "لقد عشت في عالم القطن ما يقرب من الأربعين عامًا، ولكنَّ العاطفة ليس لها أي تأثير في اقتناعي التام بأن سياسة تخفيض المساحات المنزرعة قطنًا، حتى من أجل زراعة الحبوب ليست السياسة الأفضل، بل وستظهر على مدى سنين نقط الضعف العديدة فيها" (88).
وقد أشارت دراسة الجبلي ـ بحق ـ إلى "أنه إذا كانت ميزة القطن النسبية للاقتصاد القومي، تفوق كثيرًا ميزته النسبية للمزارع؛ وفقًا للأسعار السائدة، فإن الدراسة أوضحت ضرورة منح حوافزَ سعرية وغيرها للمزارعين؛ لضمان استمرارية إنتاجهم بالقدر الذي تُحدده الدولة".
فماذا حدث لكي تنقلب الحسابات، وتستخدم الأسعار والتدخلات الإدارية لإحداث عكس ما كان متفقًا عليه؟ ماذا حدث؛ لكي يتحول القطن إلى مشكلة؟
ج ـ إن إمكانيات مصر في إنتاج القطن طويل التيلة، تدعو إلى زيادة المساحة المنزرعة قطنًا؛ وفقًا لمبدأ المزايا النسبية (الذي تتحدث عنه الهيئاتُ الدولية كثيرًا)، وزيادة كمية الأقطان المصدرة، بالارتباط مع سياسات اقتصادية ملائمة من منظور التنمية المستقلة، كانت تؤدي قطعًا إلى الحد من قيمة العجز الحادث في الميزان التجاري الزراعي بنسبة كبيرة (89). ولكن حدث أن تضافر نقص كمية القطن المنتجة، مع باقي السياسات الملائمة لفرض التبعية، في اتساع العجز ومع ذلك، فإن مضار تقليص المساحة المنزرعة قطنًا، تتعدَّى هذا الأثر على الميزان التجاري. إن الضرر الأكبر يتمثل في أن محاربة زراعة القطن مسألة متسقة منطقيًّا، بل مسألة محورية، باتجاه إعادة تشكيل بنية الاقتصاد المصري، ومن هذا المنظور فقط، يمكن تفسير لغز أن "القطن أصبح يمثل مشكلة". فمن المفارَقات العجيبة أن هذا المحصول كان المؤسسة الرهيبة التي يسيطر الأجانب ـ عن طريقها ـ على الاقتصاد المصري حتى منتصف القرن الحالي، وهذا المحصول نفسه أصبح الآن "مشكلة" في وجه المخططات الخارجية لاستعادة السيطرة، وكافة ما ذكرناه للقطن من أفضال، يزيد من عداء الغزاة لوجوده. فزراعة القطن ـ في كل مراحلها ـ تعتمد لاستمرارها وتطويرها ـ كما ذكرنا ـ على الخبرة المحلية المتراكمة لدى الفلاحين والفنيين والعلماء والإداريين المصريين، عبر أجيال عديدة، وارتبط القطن بشكل مباشر بحياة المواطنين في الريف وخارج الريف. إنه العمود الفِقَري للهيكل الإنتاجي، ومنطق عملية القطن يتطلب بالضرورة وضعًا مؤسسيًّا يمتد بإدارته إلى كافة أنحاء القطر؛ لضمان الإنتاج المنتظم من القطن الخام، ثم لضمان الانتظام في تدفقه إلى أوجه استهلاكه في الداخل والخارج. وكان الأجانب يديرون هذه المؤسسة بطريقتهم الخاصة وبشروطهم، وكانت الدولة تتدخل أيضًا ـ على الأقل لتحديد المساحة. ومع التوجه الاستقلالي، ومع التطور المرتبط بذلك في السياسات الاقتصادية، أصبحت قبضة الدولة أكثر إحكامًا إن القطن يستأثر الآن باهتمام الأكبر لقطاعات الزراعة والتجارة والصناعة في الدولة. فوزارة الزراعة مثلاً، تتولَّى إنتاج الأصناف الجديدة، وتحسين الأصناف الجارية، وتعمل على منع اختلاط الأصناف بتحديد مناطقَ لزراعة كل صنف، وتُعِد التقاوِي على مستوى فني عالٍ من حيث النقاوة، وقوة الإنبات، والخلو من التقاوِي الغربية، وتتولى إرشاد الزراع إلى أفضل الطرق الزراعية، والمواعيد المناسبة، والإشراف بواسطة أجهزتها على كل خطوة من خطوات الإنتاج، وهي التي توفر الأسمدة والمبيدات للآفات الزراعية ومبيدات الحشائش، ولا يقتصر فضلُ علماء وزارة الزراعة على تحسين أصناف القطن، أو استنباط أصناف جديدة؛ فبحوثهم حول مقاومة الآفات العديدة للقطن، وحول التربة في مناطقَ زراعية، والمحافظة عليها من التدهور، تتمتع بسُمعة عالمية رفيعة. ونذكر أيضًا أن وزارة الري تنسق مع الزراعة توفير مياه الري في مواعيدها المنتظمة، وهي المسئولة عن المصارف الرئيسية. وقد تمت تصفيةُ القيادة الأجنبية لمرحلة التسويق، وتمت تصفية شبكة تجار الداخل الممتدة على طول الوادي. وأصبحت الدولة تقدم الائتمان عبْر الجمعيات التعاونية. وحل التسويق التعاوني محل تجار الداخل، فأصبح القطن يتدفق من الحقول إلى المغازل المحلية والأسواق الخارجية، عبْر قنوات تحكمُها الدولةُ. وشركات التصدير الستة في قبضة القطاع العام بالكامل (90)، وصناعة الغزل والنسيج يملك القطاع العام القسم الحديث والمركز منها، والقطاع الخاص (23 %) نموذج للقطاع الخاص الصناعي المُرتبط أساسًا بالداخل وقراراتِه. إن عملية القطن تحولت – إذًا - إلى مؤسسة تُدار وطنيًّا ومركزيًّا بالكامل.
وبحكم الوزن الهائل الذي يمثله قطاع القطن (بكل تشعباته داخل الاقتصاد المصري)، يدعم قيامَ هذه المؤسسة إمكانيةُ الإدارة المركزية لتنمية شاملة، تتمحور حول ذاتها. وكل هذا مما ينبغي تصفيته.
ويُضاف إلى ذلك، أن التوسع الطبيعي في إنتاج القطن الخام، لا بد وأن يرتبط باطراد ـ في إطار التوجه إلى تنمية مستقلة ـ بزيادة نسبة ما يستخدم منه في الصناعة المحلية (غزلاً أو نسيجًا)؛ سواء لمقابلة الاستهلاك المحلي،
أو لتصدير قسم متزايد من القطن مصنعًا، بدلاً من تصديره خامًا. "فتصنيع كل محصول القطن الخام محليًّا وتصديره كأقمشة وغزل يؤدي إلى تقليل عام المخاطرة الناتج عن تغير أسعار القطن الخام في الأسواق العالمية، علاوة على أن ذلك يخلق فرص عمل جديدة، ويرفع العائد من القطن" (86). وقد تحركت صناعة الغزل والنسيج المصرية في هذا الاتجاه فعلاً(91). في (59/1960) كانت صناعة الغزل والنسيج تغطي القسم الغالب من الطلب المحلي، وكانت صادراتها تمثل 9.7 % من القيمة الإجمالية للصادرات، ومع نهاية الخطة الخمسية الأولى (64/ 1965) وحتى عام 1975 كانت نسبة صادرات الغزل والنسيج حوالي 14 %. وبلغت كميات الغزل المصدرة ذروتها عامي 1972، 1973 (حوالي 46 ألف طنٍّ في السنة الواحدة) والذروة لصادرات المنسوجات كانت في الأعوام من 1968 حتى 1972 (بمتوسط سنوي 22 ألف طن).

ويلاحظ أن أسعار التصدير كانت ترتفع باطِّراد.. كان سعر الطن من الغزل 760 دولارًا (1968) فوصل إلى 2155 دولار (1977) وسعر طن النسيج كان 728 دولار فأصبح 1661 دولارًا (في نفس العامين على التوالي (92). ووفقًا لمابرو، شهد هَيكلُ صادرات الغزل والنسيج تحولاً مستمرًا نحو زيادة نسبة النسيج على حساب الغزل، حتى أصبحت الغلبة لصادرات النسيج في عام 1975. وبالنسبة للغزل نفسه كان التحول مستمرًا أيضًا من الغزل السميك إلى الغزل المتوسط والرفيع، وكل هذا كان "علامة مُشجعة إلى حد بعيد" (93) كما تصور مابرو (أو كما يمكن أن يتصور أي باحث موضوعي). ولكنه لم يكنْ كذلك في الحقيقة من منظور الهيئات الدولية (ومن معها)، بل كان التطور في هذا الاتجاه داعيًا إلى تغليظ العداء لمحصول القطن؛ فهذا التنويع لهيكل الصادرات. تحقق من خلال صناعات تحويلية وطنية، وعبر قنوات تصدير وطنية. ولا تخضع السلسلة فعلى أية حلقة من حلقاتها لسيطرة شركات أجنبية. وأكثر من ذلك؛ فإن هذا النجاح في التصدير، ارتبط بفتح أسواق الدول الاشتراكية أمام الإنتاج الصناعي المصري، وهذه "مصيبة" أخرَى.
إن الأسواق الغربية عاجزة عن استيعاب كل صادرات القطن المصري الخام، وهي أشد عجزًا عن استيعاب القطن المصنع، ورغبتها في استيراد الغزل والأنسجة المصرية أقل من قدرتها، في إطار الشروط المؤسسية الراهنة لقطاع القطن. وعلى ذلك كان توزيع صادرات الغزل والنسيج على الكتلتين (الغربية والشرقية) كما في الجدول (5) (94):
جدول رقم (5)
نسبة توزيع صادرات الغزل والنسيج على كل من الكتلتين إلى إجمالي صادرات الغزل والنسيج *

1973
1974
1975

عملات حرة
اتفاقات
عملات حرة
اتفاقات
عملات حرة
اتفاقات
غزل
نسيج
27 %
36.9 %
72 %
53.5 %
29 %
23.5 %
70 %
74.7 %
12.9 %
4.6 %
86.8 %
94.9 % * *

* النسب في كل حالة لا يساوي مجموعها 100 ـ الفارق يمثل حصة الدول الأخرى.
* * النسبة تمثل في هذا الإحصاء (وفق البنك المركزي) ما قيمته 210.2 مليون دولار. وقد تفوقت في هذا العام حصة صادرات النسيج على حصة صادرات الغزل بالنسبة للدول الاشتراكية (الاتفاقات) لأول مرة وبالتالي في إجمالي صادرات الغزل والنسيج.
ويعني ذلك أن المستوى الحالِي لإنتاج الغزل والنسيج يربط هذه الصناعة ـ بالضرورة ـ بأسواق الدول الاشتراكية. ومثل هذه الرابطة مرفوضة استراتيجيًّا من الولايات المتحدة والهيئات الدولية، وهي سبب يكفي وحده لعداء القوى الخارجية لمحصول القطن ونتائجه.
د ـ "القطن أصبح - إذًا - "يمثل مشكلة" من كافة الزوايا، أمام المخططات الخارجية؛ ولذا كان طبيعيًّا أن تختصه هذه المخططات بهجمات متنوعة.
لوحظ منذ بداية الانفتاح، وخاصة منذ عام 1975، تصاعد الهجوم ضد الأوضاع المؤسسية التي تحكم التعامل في القطن. التسويق التعاوني واحتكار الدولة للتصدير كانا موضعَ هجوم دائم في لجان مجلس الشعب المعنية، وفي المجلس القومي للإنتاج، وفي أجهزة الإعلام، وبالتأكيد في أماكنَ أخرَى لم نسمع عنها. ولكن فاجأ الجميعَ خبيرُ القطن محمد فرغلي (قارب - أو تجاوز - الثمانين، وأُمِّمت ممتلكاته)، فقد كتب في معارضة هذا الهجوم، فأشاد بنجاح القطاع العام في مجال تصدير القطن، واعتبر قيام الدولة بهذه المهمة نظامًا أمثل، وقال: "لقد عملت في ميادين القطن، ابتداء من إنتاجه إلى بيعه إلى المغازل في شتَّى أنحاء العالم سنوات عديدة، كما أنِّي في غِنًى تام عن القول بأنني أشد أنصار الحرية في الاقتصاد والتجارة (...) ولكن بكل أسف، بل بكل ألم، أقول إن ظروفنا لا تسمح لي بأن أشارك السادة أصحاب هذا الرأي في مواقفهم. وليس معنى هذا أن التسويق التعاوني نظام مثالي، أو أنه لا يدعو إلى الكثير من الانتقاد، ولكن البديل الوحيد للتسويق هو الرجوع إلى النظام القديم ـ أو ما يشابهه ـ والذي كان سائدًا عشراتِ السنين قبل عام 1961. وهذا الرجوع ـ في تقديري ـ أمر في منتهى الصعوبة والخطورة، إن لم يكن مُستحيلاً" (95).
وقد اعترف الرجل ـ بعد فترة ـ بأن أصدقاءه وعارفيه، انتقدوه في موقفه هذا، ولكن حدث أن كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي، تبنوا هذا الرأي، بنفس الحجج العملية التي قدمها رجل الأعمال الوطني، وحين عادت لجنة الزراعة في مجلس الشعب إلى التقدم بتوصية إلى وزارة الصناعة، ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لدراسة "تحرير" تجارة القطن، وطلب من وزارة الزراعة دراسة خفض مساحة وإنتاج القطن، عارض الفنيون في وزارتَي الصناعة والاقتصاد ـ بالإجماع ـ إلغاء النسق الحالي للتسويق التعاوني والتصدير (91). تمامًا كما عارض الفنيون في وزارة الزراعة اتجاه خفض مساحة وإنتاج القطن. وزكريا توفيق (الذي لا يشك في ولائه للانفتاح) وقف بصرحة إلى جانب الفنيين، على ضوء خبرته السابقة (كان أول رئيس للمؤسسة المصرية العامة لتصدير الأقطان قبل تعيينه وزيرًا)، فكتب بدوره في معارضة هذا الكلام عن "تحرير" تجارة القطن، وأيضًا من مُنطلق أنه غير واقعي(97).
  • والموقف ببساطة كالتالي: فكرة إنهاء الأوضاع المؤسسية الحالية، وإنشاء أوضاع بديلة لتجارة القطن، تُباع لمنتجي الأقطان، على أساس أن إنهاء الوضع الحالي يقضي على احتكار الحكومة لشراء الأقطان، وعلى فرضها بالتالي لأسعار مُحددة. وترك الأسعار ـ كما يقولون ـ لكي تحددها حركة التنافس في السوق المحلية والأسواق الدولية، يؤدي إلى ارتفاع أسعار الشراء لأقطان المنتجين، وإلى زيادة دخولهم. هذه الفكرة تباع لكافة منتجي الأقطان، وكبار المنتجين، يتصورون أن فرصتهم بالذات في السوق المرسل، ستكون أفضل في الحصول على أسعار أعلى من غيرهم عند فتح باب المنافسة. ولكن ينبغي ـ في المقابل ـ أن يقتنع المستهلكون المحليون، أي صناعة الغزل والنسيج، أن الوضع المؤسسي المقترح، يقدم لهم مزايا مُحتملة، متمثلة في الحصول على القطن بأسعار أقل ـ في حالة التعامل مع تجار القطن في الداخل، وفي حالة التخلص من الأسعار المحددة التي تفرضها الحكومة. وقد يلوح هذا الاحتمال؛ إذا كانت سلسلة تحرير التجارة كاملة، فيكون للغزالين المصريين مثلاً حقُّ الاستيراد الحر من الأسواق الخارجية، في حالة ارتفاع الأسعار المحلية، للضغط على هذه الأسعار وإعادتها إلى التوازن المعقول مع أسعار الخارج. ومطلب الغزَّالين المصريين مثلاً، حق الاستيراد الحر من الأسواق الخارجية، في حالة ارتفاع الأسعار المحلية، للضغط على هذه الأسعار وإعادتها إلى التوازن المعقول مع أسعار الخارج. ومطلب الغزالين المصريين المشروع لا بد أن يوضع في الاعتبار؛ لأن الصناعة المصرية كانت تستهلك 42 % من القطن الشعر (67/ 1968)، و50 % (73/ 1974)، ووصل استهلاكُها إلى حوالي 65 % في السنوات الأخيرة. وفي كل الأحوال، لا يعني قبول المستهلكين
    أو المنتجين لآليات السوق، أنهم يقبلون تقلباتٍ حادة ومتلاحقة في الأسعار؛ فالمفروض ـ كما يقال ـ أنَّ آليات السوق تضمن استقرار الأسعار عند مستويات موضوعية، مع ذبذبات بسيطة حول هذا المستوى، وفي حالة الاختلال العنيف يطلب دعاةُ السوق الحرة على الفور تدخل الدولة. وفي حالة كالقطن؛ حيث إن المستهلكون في مصر والخارج مؤسسات منظمة، يكون الاستقرار في شروط العمل (وضمنها طبعًا أسعار المدخلات الأساسية) مسألة مطلوبة جدًا من أجل التنبؤ والتخطيط لآجال مَعقولة. ومن أجل هذا الضمان للاستقرار النسبي ابتدَع أصحاب السوق أدوات مناسبة تنظم العلاقة بين العرض والطلب على مستوى السوق المحلي (بورصة البضاعة الحاضرة)، وتنظم العلاقة بين العرض والطلب بين السوق المحلي والأسواق الخارجية (بورصة العقود). وبورصة العقود في هذا الإطار المؤسسي، هي القمة الحاكمة، فذبذبات أسعارها هي الموجه والحافز لكل عمليات البيع والشراء في المراحل السابقة، وكل ذلك كان قائمًا في مصر تحت قيادة بورصة ليفربول، وصناعة الغزل والنسيج في لانكشاير، وكان متركزًا داخل مصر على أوضاع مرتبة، وعاملة بكفاءة ونشاط على كل المستويات، بدءًا من تُجار الداخل، إلى سماسرة البورصة والمصدرين، وكانت كل هذه المؤسسة التابعة، تحت الإدارة المباشرة للكوادر الأجنبية واليهودية المُدَرَّبة.
والموقف الآن، جدَّ فيه أن السوق الدولية للقطن، والتي يتعامل معها القطنُ المصري، تغيرت مؤسساتها تمامًا، فمن ناحية أصبح جزء هام. من صادراتنا القُطنية موجهًا إلى الدول الاشتراكية، وهذه الدول لا تحدد أسعار صفقاتها عن طريق بورصة عقود، وفي الدول الغربية لم تعد الصورة مختلفة؛ إذ أقفلت معظم دول العالم بورصاتِها؛ بسبب المُضارَبات، وحتى بورصتا ليفربول ونيويورك، أصبحت أسعارُهما مجرد مؤشراتٍ لا يُلتفت إليها كثيرًا؛ لأنها قائمة أيضًا على المُضاربات.. وبالتالي لا معنى لإعادة إنشاء بورصة عقود في مصرَ لقيادة سوق القطن، ولا مانع من إضافة أنه حتى في حالة قيام سوق للعقود في مصر يتطلب الأمر ـ بالضرورة ـ توفير عملات حرة للقيام بعمليات التوازن الحيوية بين بورصة العقود في الإسكندرية والخارج، وإلا أصبح سير البورصة في اتجاه واحد تابع للخارج، وهذا أمر خطر وغير عملي.. وغير عملي أيضًا ضمان توفر العملات الحرة اللازمة لهذا الغرض ـ ثم هناك مُتغيرًا آخر هام في سوق القطن، أشرنا إليه، وهو الوزن الكبير المطلب المحلي، الذي لا يمكن تجاهل مصالحه. وهذا "الزبون" المهم لا يرى له أية مصلحة في تصفية العلاقات الحالية المستقرة.
أمام هذه الوقائع الجديدة، كيف يمكن تغيير الوضع المؤسسي الحالي لتجارة القطن، وما جدوَى مثل هذا التغير بأي معيار؟ إن العدول عن إنشاء بورصة العقود، يهدم المنطق المتماسك لدعوة "تحرير" تجارة القطن؛ إذ تتطلب العملية ـ في كل الأحوال ـ مركزًا يحدد القدر المعقول من الاستقرار السعري، وفي غياب بورصة العقود سنجد أنفسنا من جديد أمام ضرورة تدخل الدولة لتحديد الأسعار،
وإلا تحولت تجارة القطن في الداخل والخارج إلى فوضَى شاملة. وارتباط القطن بملايين المنتجين، وبالصناعة الأولى في مصر، وبحقيقة أنه مصدر أساسي للنقد الأجنبي، كل هذا لا يسمح باحتمال مواجهة مثل هذه الفوضى. ولكن لا يعتقد أن الفوضى والقلاقل المحتملة تقل كثيرًا إذا اقتصر تدخل الدولة على حالة تحديد أسعار التصدير، يكفي تصور التقلبات العنيفة التي تحدث بالضرورة كلما تراءَى للسلطات المُختصة أن تزيد أسعار التصدير، ويحدث هذا عادة بعد بيع جزء من المحصول، وبالتالي يصبح المتبقي مجالاً أسهل لهذه التقلبات، ويترتب على ذلك حتى إفلاس بيوت التصدير في القطاعين العام والخاص، وخرابُ الصناعة المحلية. وإذا امتد تدخل الدولة إلى تحديد أسعار شراء القطن من المنتجين؛ فإن العملية تكون قد عادت مرة أخرى للوضع الحالي، مع فارق أن القطاع الخاص حل في تجارة الداخل محل التسويق التعاوني. وإذا تلخص التغيير في هذا؛ فإن هذا الفارق في نوع الوسيط ليس في صالح منتجي الأقطان أو مُستهلكيها (في الداخل والخارج)؛ ففي إطار السعر المحدد سيعمَد الوسيط الخاص ـ بكافة أشكال التحايل والضغوط ـ إلى التنافس في تعظيم ربحه؛ سواء في شراء القطن بأقلَّ من السعر المحدد، أو ببيعه بسعر يزيد عن المحدد. ثم هل تضمن شبكة المقتحمين الجدد لتجارة القطن ـ بتجربتهم المحدودة ـ أن تمتد بيوت التصدير بانتظام يتفق مع ما اكتسبته السوق المصرية من سمعة عالية، في احترام المواعيد، ودقة تلبية الطلبات؟ إن الأيام الأولى من موسم القطن ـ مثلاً ـ تشهد لحظة إلحاح على تغطية مئات الآلاف من البالات، تتمكن قناةُ التسويق التعاوني الحالية من مواجهتها، ولا يتصور أن يتمكَّنَ التجارُ الجدد من تقديم نفس الضمان.

ويجرنا كل ذلك إلى حقيقة هامة؛ فكافة الحجج السالفة كانت ـ على أسس عملية ـ حُججًا قاطعة ضد نسف الوضع المؤسسي الحالي للقطن، واستعادة أوضاع قديمة، ولكن أقطع من كل ذلك، ما بدأنا في سرده عند حديثنا عن مدَى قدرة وخبرة تجار الداخل، فواقع الأمر، أن الأوضاع المؤسسية القديمة تطورت عبر أجيال، مع النمو المُتصاعد في زراعة القطن، ومع التوسع المُصاحب في روابطه الدولية. في هذه العملية التطورية تراكمت خبرات، وتبلورت كوادرُ تفهم قواعد اللعبة، وتديرها بحِذق، وهذه الشبكة الواسعة من الكوادر ماتت وانتهت.. ولسنا بصدد تجربة ناشئة يتدرب الكادر الجديد معها، وينمو بنموها، نحن أمام العمود الفقري، المكتمل النمو، للهيكل الإنتاجي المصري، ولا يمكن ـ في ظل أي إدارة للاقتصاد المصري ـ المقامرة بتسليم هذه المؤسسة القطنية إلى هواة. وبتعبيرٍ آخر، فإنه إذا كان يروقُ للبعض أنَّ يُصرَّ على مزايا "السوق المرسل" في التعامل مع القطن المصري، بعد كل ما قيل، فإنه لا يوجد من يقوم بتشغيل هذا النموذج "الجميل".
هـ ـ القطن المصري أصبح مُلتحمًا – إذًا - بنظامه المؤسسي الحالي القائم على الإدارة المركزية للدولة، وأصبح مرتبطًا بتشابكات مع الصناعة المحلية، وبعلاقات دولية، تثير انزعاجًا مشروعًا لمخططي بُنية التبعية. ووصل الحُنُق بممثل الهيئات الدولية (وزير التخطيط المصري)، وفي مواجهة هذه الحالة التي تبدو مستعصية - إلى المطالبة بالاستغناء نهائيًّا عن زراعة القطن. ولكنْ لم يكن من هذا مما يُعقل، ولعل الوزير نفسه لم يكن يقصد المعنى الحرفي لكلماته؛ فهي زفرة ضيق في حرب، ثبت أنها ممتدة، ولن تنتهي بضربة وحيدة قاضية.
مع هذا الفشل في تصفية الأوضاع المؤسسية القائمة، تصفية كاملة، وبضربة واحدة، اتجهت السياسات إلى محاصرة قطاع القطن والتضييق عليه، وإلى إضعاف وزنه النسبي داخل الاقتصاد المصري وصادراته، وإلى إفراغ هذا الوضع المؤسسي من مضمونه "المزعج"، وإلى تقطيع أوصاله، وعلاقاته. وهذا الكلام مجرد وصف موضوعي لما تحقق.
يقول زكي شبانة: إن "السياسة القطنية المصرية اتجهت إلى تخصيص المزيد من الأقطان للاستهلاك الداخلي؛ وذلك لتدعيم وتنمية صناعة الغزل والنسيج المصرية (...) وانطلاقًا من ذلك؛ فإن التركيب المُقترح لمصر، يمكن أن يسير في اتجاه التخفيض التدريجي لمساحات القطن (....) وفي حالة الأخذ بالتركيب المحصولي المقترح؛ فإن الكمية المستهدف إنتاجها تكفي لحاجة التصدير (بالعملات الحرة وجزء مناسب من الصادرات لدول الاتفاقيات) ويقترح تغطية باقي احتياجات الاستهلاك المحلي باستيراد الأقطان قصيرة التيلة الأمريكية، مع إدخال البوليستر في صناعة المنسوجات في مصر.
ويرى البعض قصر التصدير من القطن طويل التيلة على بلاد العملات الحرة فقط، وتخفيض نسبة المصدر إلى دول أوروبا الشرقية ودول الاتفاقيات إلى نحو 40 % من إجمالي الصادرات القطنية المصرية" (98)، هذا التحديد يعني بالدقة ـ في إطار فهمنا للوضع العام ـ الوصف الذي أوردناه (وسنوضح هذا حالاً)، وكافة ما جاء في التحديد يتحقق فعلاً، وأهميته تكمن في أن يثبت، (لمن يحتاج) أن المتحقق "سياسة قطنية "مترابطة الحلقات، وليس إجراءات متفرقة وغير مرتبة.
الخفض التدريجي والمنتظم للمساحات المُنزرعة قطنًا تحقق فعلاً، ولم يكن منطق هذا الاتجاه مفهومًا (كما ذكرنا) وفق اعتبارات اقتصادية بريئة. وناشد محمد فرغلي الحكومة (منذ عام 1976) أن تعدل عن هذا الاتجاه الخطير لوزارة الزراعة، والذي بدأ مع الانفتاح، ولكن يمكننا الآن أن ندرك ببساطة أن هذا الإجراء كان جزءًا من سياسة قطنية متكاملة. وهذا الإجراء وحده ضربة "لمشكلة القطن" من المنبع، بتقليص حجم "العدو"، أي حجم إنتاج القطن، وبالتالي حجم إسهامه المطلق والنسبي في مجمل النشاط الاقتصادي. وقد تراجع عبد الرازق عبد المجيد عن فكرة الاستغناء نهائيًّا عن زراعة القطن أمام ردود الفعل الواسعة، ولكن أصرَّ - في تصريحات تالية - على ضرورة الاستمرار في خفض المساحات المزروعة قطنًا؛ بحيث "لا يُزرع القطنُ إلا في حدود ما يمكن تصديره خامًا أو مصنَّعًا بعملات حرة"، وقد عارض محمود داود وزير الزراعة - هذا الاتجاهَ علنًا، وقال: "إن المساحة الحالية هي أدنى حد يمكن تخصيصه للقطن تحت ظروفنا الحالية (....) ويقتصر الإلغاء على بعض المساحات المحددة التي يثبت ضعفُها في بعض المراكز/ وهذه محدودة جدًا (...) وهنا سيكون الإلغاء في أضيق الحدود؛ مما يُتيح تعويضه في المناطق الأخرى" (99).
ولكن حدث فعلاً - وعلى أيَّة حال - أن انخفضت مساحة القطن بحوالي 600 ألف فدان عمَّا كانت عليه قبل الانفتاح. وكان طبيعيًّا أن يؤدي هذا تلقائيًّا إلى خفض كميات القطن الخام المُتاح للتصدير، وهذه نتيجة مطلوبة لتقليص أهمية القطن كمصدر للنقد الأجنبي؛ ولتأكيد هذه النتيجة تضمَّنت السياسة القطنية أيضًا زيادة المبيعات للمغازل المحلية، فارتفعت الأهمية النسبية لهذه المبيعات من 44 % من إجمالي كمية المبيعات (مغازل محلية وتصدير) في عام 1973 إلى 63 % عام 1977، وبالتالي كانت الكمية المصدرة من القطن المصري عام 1977 حوالي 51 % فقط من الكمية التي تم تصديرها عام 1973. وبالأسعار الثابتة لعام 1978، كانت قيمة صادرات القطن 592 مليون دولار عام 1974، فانخفضت إلى 275 مليون دولار عام 1978. وقد انخفضت تبعًا لذلك نسبة صادرات القطن إلى مجْمَل الصادرات السلعية إذا كان هذا الاتجاه يعني ارتفاع معدل الزيادة في الصادرات من قطاعات الصناعة التحويلية الوطنية (وقد تحقق هذا قبل الانفتاح). ولكن حدث هذا الانخفاض (أثناء الانفتاح) في ظروف تدهورت فيها أيضًا قيمة الصادرات من إنتاج الصناعات التحويلية الوطنية من 808 مليون دولار عام 1974، إلى 725 مليون دولار عام 1978 (بالأسعار الثابتة لعام 1978)، ويقدر أن يصل الهبوط إلى 690 مليون دولار عام 1979 (10) ـ لقد عوض الاقتصاد المصري عن الانخفاض في صادرات الصناعات التحويلية والقطن الخام بزيادة في صادرات النفط، وخارج الميزان السلعي كانت هناك زيادة في متحصِّلات السياحة وقناة السويس.
إن خفض الإنتاج أدى إلى تقليل الوزن المطلق والنسبي للقطن في مجمل النشاط الاقتصادي، وساعد هذا في خفض إسهامه المطلق والنسبي في تشكيلة الصادرات المصرية. ولم يكن الخفض في إنتاج القطن كافيًا وحده للهبوط بصادرات القطن الخام إلى المستوى الملائم؛ ولذا عمدت السياسات - كما قلنا- إلى زيادة المبيعات إلى المغازل المحلية. إن المستوى الملائم لكمية الاشتراكية (102)؛ لأن أحد الأهداف الأساسية خفض الحجم المطلق والنسبي للقطن المصدر إلى هذه الدول، وقد أوضح زكي شبانة هذه السياسة، واعترف بها وزير التخطيط. إلا أن تدبير أسواق بديلة لم يكن سهلاً، فرغم انخفاض الكميات الإجمالية المصدرة على نحو حاد، كانت نسبة القطن الشعر المتجه إلى الدول الاشتراكية الأوروبية 42.7 % من إجمالي صادرات القطن الشعر (75/ 1976)، وأصبحت 42.5 % (76/ 1977)، ثم فرض الحظر على تصدير القطن الشعر إلى الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا بالعملات الحسابية (وهما أكبر مستوردين للقطن المصري في هذه الكتلة)، فانخفضت النسبة إلى 25.7 % (77/ 1978)، ولكن لم تزد في المقابل صادرات القطن إلى الدول الغربية، فنسبة هذه الأسواق كانت في السنوات الثلاث على التوالي 37.7 % ـ 38.6 %، أي رغم القرارات التي هبطت بمجموع صادرات القطن، وبمجموع الصادرات إلى الدول الاشتراكية وبنسبتها، بدرجة محسوسة، لم تزد الصادرات إلى دول العملات الحرة الأساسية بدرجة مناسبة، وقد أسهمت الصين الشعبية في ذلك الموسم 77/ 1978 في منع الأزمة؛ إذ تضاعفت وارادت الصين من القطن، وأصبحت نسبتها 14.5 % بدلاً من 7.3 % (76/ 1977)(103)، وزادت نسبة يوغوسلافيا إلى 8.5 % وكانت 1 %، فتمت تغطية الفجوة.
وفي العلاقات الدولية الراهنة، لا يمثل ارتباط القطن المصري بالسوق الصيني أو اليوغوسلافي نفس المحاذير التي يمثلها الارتباط بالسوق السوفيتي ودول شرق أوروبا (من منظور المخططات الأمريكية الإسرائيلية). ولكن يعني كل هذا أن الأسواق الغربية لم يكن في تخطيطها أن تستوعب الأقطان "المحرَّرة" من أسواق الكتلة الاشتراكية، وتتأكد بالتالي أهمية المخطط المسند لزيادة المبيعات للمغازل المحلية، لقد انخفضت كمية صادرات القطن الشعر، وزاد الاستهلاك المحلي كما في جدول (6) (104):


جدول رقم (6)
الصادرات والاستهلاك المحلي من محصول القطن بالألف طن:
37/ 1974
74/ 1975
75/ 1976
76/ 1977
الصادرات
الاستهلاك
261
220
191
222
169
226
152
235


ولكن إلى أين تذهب الغزول المنتجة؟ لم يكن مقصودًا دعم وتنشيط الروابط العضوية بين إنتاج الحقول المصرية والمصانع المصرية، فهذا يدعم المؤسسة الوطنية للقطن. والمقصود استنزاف هذه المؤسسة وإرباكها. لقد زاد إنتاج الغزول؛ بهدف إقلال صادرات القطن الشعر إلى الدول الاشتراكية، وفي نفس الوقت لم يحدث أن استوعبت الأسواق الغربية فائض الغزول، فاضطرت السلطات في عامي 1975 و1976 إلى زيادة صادرات الغزل إلى الدول الاشتراكية. والتعليمات الخارجية كانت تقضي بالحد من الاستيراد من هذه الدول؛ ولذا لم تستخدم حصيلة الصادرات لاستيراد آلات أو مستلزمات إنتاج، ولم يكن ممكنًا أن تدفع الدول الاشتراكية ثمن مشترياتها بالعملات الحرة؛ كي تستخدمها السلطات المصرية في الاستيراد من الغرب، وبالتالي استخدمت حصيلة الصادرات في تعجيل سداد الديون المصرية (105)، وكان هذا سفهًا واستنزافًا للموارد، وبالإضافة فإن التعليمات الخارجية لم تكن تحد من تصدير القطن الخام إلى الكتلة الاشتراكية؛ لكي تسمح بزيادة التصدير من الغزل والنسيج. وعلى ذلك كان طبيعيًا أن يتوقف هذا الاتجاه، فانخفضت صادرات الغزل والنسيج إلى الكتلة الاشتراكية بدءًا من عام 1977 (عام قانون التصفية ـ الفصل التاسع)، وفي نفس الوقت أغرق السوق المصري بمنسوجات مستوردة، فاختنقت الصناعة الوطنية (انظر البند التالي ـ ثالثًا ـ عن قطاع الصناعة).
و ـ إلا أن خفض تصدير القطن الخام من أجل زيادة الإنتاج المحلي من الغزول، كان مجرد مرحلة انتقالية، لم تنعش الصناعة، ولكن ضربتها، والضربة الأكبر كانت مع الخطوة التالية لفصم العلاقة العضوية بين القطن المصري والصناعة المصرية؛ فحين يصل خفض المساحة المنزرعة قطنًا إلى الحدود المرسومة له؛ تكون الكمية المنتجة ـ وفق السياسة المُعلَنة ـ "تكفي لحاجة التصدير (بالعملات الحرة، وجزء مناسب من الصادرات لدول الاتفاقيات) ويُقترح تغطية باقي احتياجات الاستهلاك المحلي، باستيراد الأقطان قصيرة التيلة الأمريكية، مع إدخال البوليستر في صناعة المنسوجات في مصر".
وهذا الاقتراح تحول بدوره إلى إجراء منفَّذ، وهو ما تعتبره ـ في السياق الحالي ـ تقطيعًا لأوصال المؤسسة القطنية المتكاملة. كان القانون يمنع استيراد أقطان قصيرة التيلة لاستخدام المغازل المحلية؛ خوفًا على محصول القطن المصري من الآفات، التي يُحتمَل أن تُصاحب الأقطان المستوردة. ولا مانع طبعًا من إعادة النظر في هذا الموقف ولو جزئيًّا، من منظور مستقل، وقد تحدث في هذا الاتجاه محمد فرغلي مثلاً، ولكن السياق الحالي للتطورات لا يبرر التصور بأن المراجعة الحالية للموقف التقليدي تتم وفق حسابات وطنية، وبعيدة عن حسابات المخططات الخارجية، في عام 1976 ـ 1977 تم استيراد 288.3 ألف قنطار لكي تستخدم في المصانع التي تبعد 30 كيلو مترًا على الأقل من مناطق زراعة القطن، وبالتالي اقتصر استخدام هذا القطن على منطقة الإسكندرية. ويُلاحظ أن اختيار الإسكندرية يتيح توسعًا سريعًا في التجربة؛ لأنها تستحوذ على حوالي 40 % من صناعة الغزل والنسيج. وقد زادت الكمية المستوردة إلى 478 ألف قنطار في الموسم التالي 77/ 1978، ويتوقع أن يصل الاستيراد إلى مليون قنطار عام 1979. وتقول مصادر غربية: إن محاولات الحكومة المصرية لتحديث وتوسيع صناعة الغزل والنسيج، تهدد إمكانياتِ التصدير للقطن المصري؛ ولذا "يلزم زيادة الضغط على الحكومة؛ لكي تسمح بزيادة الواردات من الأقطان القصيرة التيلة. وفي الواقع، يبدو أن وزارة الزراعة تدرس حاليًا الوسائل الممكنة لنقل القطن المستورد إلى المصانع القائمة في مناطق زراعة القطن؛ بحيث لا تكون هناك إمكانية لتلويث المحصول المحلي" (106).
هذا الاتجاه المنفذ على عجل، يجعل ما يتبقَّى من الصناعة الوطنية صناعة تابعة، معتمدة في تشغيلها على مستلزمات إنتاج مستوردة، وتنتج للسوق المحلية. وهذا الانقطاع بين المحصول وبين الصناعة الوطنية، يساعد أيضًا في مواصلة خفض المساحات المزروعة إلى الحدود المستهدفة، أي: حدود الصادرات الممكنة من القطن الشعر بالعملات الحرة، وحدود استخدامات بعض الشركات المحلية للأقطان الرفيعة المصرية، وذلك بعد إعادة تشكيلها؛ بحيث تخضع في عمليات إنتاجها وفي عمليات التسويق الداخلي والتصدير لإدارة أجنبية. ونضيف في هذا السياق أن صناعة الغزل والنسيج والملابس الإسرائيلية تقوم على التصدير، ويمكنها بالتالي أن تشارك بخبرتها واتصالاتها في تسويق منتجات الصناعة المصرية بالأسواق الأوروبية وغيرها. ويمكنها أيضًا أن تستخدم حصة متزايدة من الأقطان المصرية الرفيعة لتحسين إنتاجها وصادراتها.
وقد نشير في مقابل هذا إلى أن فرغلي حين طالب بتجربة استخدام أقطان مستوردة، طالب في نفس الوقت "بعدم الاكتفاء باستيراد الأقطان الأمريكية فقط، بل استيراد ما يماثلها من الأقطان الإيرانية والسودانية والتركية والهندية إلخ.. وهذا من شأنه أيضًا زيادة مجالات التبادل التجاري بيننا وبين هذه البلاد الصديقة، وترخيص الأقمشة الشعبية إلى حد ملموس".. وقال الرجل هذا الرأي، في إطار أن تستمر المغازل المحلية في زيادة استهلاك القطن المصري، وفي إطار أن انخفاض إنتاجنا من محصول القطن لا يجوز أن يستمر (88). وواضح أنَّ ما يحدث حاليًا هو إدخال الأقطان المستوردة في إطار نسق مختلف تمامًا؛ فأولاً يقتصر استيراد الأقطان على الولايات المتحدة (من خلال القروض السلعية لوكالة التنمية الأمريكية)، وترتبط هذه السياسة بتخفيض مسئولية الصناعة الوطنية عن تصنيع القطن المصري، وترتبط بضرب قطاع القطن من الأساس، أي بتخفيض المساحة المنزرعة قطنًا بالتعليمات المباشرة، وبالسياسة السعرية. إلا أن الحديث عن السياسة السعرية، ينقلنا إلى بند آخر في تقطيع الأوصال. فإضافة إلى استخدام الأسعار ـ في مرحلة معينة ـ كحافز سلبي ضد زراعة القطن، نشير إلى هدف إنهاء حق الإدارة المركزية في تحديد أسعار القطن في مراحله المختلفة؛ فتحديد أسعار الشراء من الحقول يستهدف أن يصل (في لحظة مناسبة لمجمل المخطط المعادي) إلى مستوى الأسعار العالمية دون أن تدخل من حسابات محلية لخدمة التخطيط المركزي وتمويله، وأسعار شراء المغازل المحلية للقطن تتحدد الآن فعلاً حسب المستويات العالمية، ولا يحق للدولة أن تتدخل في هذا الأسعار لدعم الصناعة الوطنية. وهذه الإجراءات جزء من البرنامج العام لإبعاد الأسعار عن دائرة التخطيط وإبعاد قسم متزايد من الفائض الاقتصادي من يد الدولة، وتسليمه إلى منتجي القطاع الخاص، وهذه الإجراءات في مؤسسة القطن أداة مناسبة لتفكيك الروابط الخاصة بين أفرع نشاطها. ونُضيف أخيرًا في نفس الاتجاه، ما أصاب نظام التسويق التعاوني من تعديلات تُخل بوحدته انحيازًا لكبار الزراع(107).
(4) الزراعات البديلة:
أ- كانت ضروريًّا أن تصاحب هذه الحملةَ على القطن، إشاعةُ آمال تساعد في بيع الفكرة؛ ولذا تضمنت مقترحات البنك الدولي، حديثًا عن أصناف جديدة من الإنتاج الزراعي ترتبط بالصناعة والصادرات. أي تضمَّنت وعدًا بإدخال بدائلَ جديدة، تؤدي وظيفة قطاع القطن كدعامة لصناعة محلية نامية، وكمصدر للنقد الأجنبي (من خلال التصدير). ولا شك أن البحث في هذا المجال مشروع في إطار التوصل إلى الهيكل المحصولي الأمثل، ولكن يختلف البحث في هذا الأمر، وتختلف النتائج، حسب المنظور العام لاستراتيجية ونموذج التنمية. ومسألة إدخال مزروعات غير تقليدية ـ بالتحديد ـ احتلت اهتمامًا كبيرًا من جانب الاقتصاديين والفنيين المصريين. الجبلي ـ على سبيل المثال ـ كان مهمومًا دائمًا بهذه القضية. في دراسة وزارة الزراعة (1972) قيل: "إن هناك احتمالاتٍ كبيرة للتوسع في زراعة الفواكه (الموالح أساسًا) والخضر والزهور والنباتات الطبية والعطرية لأغراض التصدير؛ لِما تحققه من عائد نقدي مرتفع، علاوة على خلقها لفرص عمل جديدة؛ سواء في عمليات الزراعة والجمع، أو التعبئة والتصنيع، وما يصحب ذلك من آثار على تكوين المجمعات الزراعة الصناعية الحديثة، وتطوير القرية، وتعظيم الإنتاج".
ولكنْ من منظور التنمية المستقلة، كان ضروريًّا أن يرتبط مثل هذا التفكير عند الجبلي، بتحذير من التوسع السريع في التنفيذ، قبل القيام بدراسات تنبؤية عن احتمالات التسويق خارجيًّا، وعقد اتفاقات طويلة المدَى، تضمن انتظام هذا التسويق في ظروف العقبات التي تشكلها التكتلات الاقتصادية القائمة. "اللهم إلا إذا كان ذلك ضمن إطار خطة للتكامل الزراعي بين الدول العربية" (108). كذلك لا بد من إنشاء المؤسسات اللازمة لعمليات التعبئة والتصنيع والنقل والتسويق والتصدير، وكل ذلك يتطلب وقتًا للإنجاز واكتساب الخبرة، إذا كان المقصودَ إقامةُ سلسلةِ مؤسسات وطنية، تتحكم في كافة مراحل العملية، وتتشابك مع الجهود المركبة للتنمية المتمحورة حول نفسها.
ولكنَّ الدعوة الحالية لإدخال محاصيلَ غير تقليدية (وبديلة على وجه التحديد لمحصول القطن) تعمل ـ كالعادة ـ في إطار نسق مختلف تمامًا، وتحمل بالتالي مضمونًا معاكسًا؛ فهي عاملة في مُخطط محاصرة وإضعاف القطن (بوزنه ودوره كمؤسسة وطنية)، وبهدف إنشاء قطاع جديد يقيم وضعًا مؤسسيًّا خاضعًا للسيطرة الأجنبية، أي يمثل ما كان يمثله القطن في الزمن الماضي؛ فالمنتجات الجديدة تُحتاج بالضرورة مدخلاتٍ مستوردة متنوعة (بدءًا من البذور المحسنة وانتهاء بالخبرة الفنية)، ويمكن أن نضرب هنا مثلاً من قمة "مشروعات الأمن الغذائي"، أي مشروعات إنتاج الدواجن التي يجري التوسُّع فيها بنشاط ملحوظ. الشركة العامة للدواجن تقود الإنتاج؛ سواء بإنتاج الدواجن بنفسِها،
أو ببيع الكتاكيت والأعلاف لبيوت البداري في المحافظات، وللجمعيات التعاونية، ومزارع التسمين في الإصلاح الزراعي، وفي القطن الخاص.

وقد رأت السياسات الجديدة أن يجد دور شركة القطاع العام في إنتاج الدواجن؛ بحيث "يقتصر دور الشركة العامة للدواجن في خلال السنوات الخمس القادمة، على أساس التركيز على إنتاج الكتاكيت والأعلاف وتحسين نوعيتها"(109)؛ وبحيث يتولى القطاع الخاص مرحلة التسمين والنمو السريع (بعد تجاوز مرحلة التفوق المرتفع) ويبيع الناتج للمستهلك بأسعار "حرة" وأرباح عالية. وقد نذكر هنا أن معظم بيوت البداري (وحدات حكومية) تحولت "إلى مخازنَ غير مستخدمة، والجزء الباقي لا يعمل إلا دورة واحدة أو دورتين على الأكثر" (110)، وبالنسبة للشركة العامة نفسها، كان طبيعيًّا أن يستفاد من تجهيزاتِها لإنتاج الدواجن التي لم تَعُد مستخدمة، وقد نشأت بالفعل شركة الإسماعيلية/ مصر للدواجن (من شركات عثمان أحمد عثمان) لتتولَّى هذه المهمة، فجردت شركة القطاع العام من ممتلكاتها؛ بحجة إدخالها شريكة في شركة الإسماعيلية/ مصر. بلغت حصة الشركة العامة للدواجن في رأسمال الشركة الجديدة 900 ألف جنيه، رغم تبين أن الحصة العينية التي قدمتها الشركة العامة قيمتها 3.1 مليون جنيه (أي أكثر من إجمالي رأسمال الشركة الجديدة)، ورغم هذا الافتئات، ظل نصيب الشركة العامة حوالي 30 % من رأس المال، ولكن مثلت بعضو واحد في مجلس الإدارة، كما لو كانت حصتها 9 % فقط من رأس المال (111).
هذه صورة الوضع المؤسسي الحالي لقطاع إنتاج الدواجن، أي لمشروع "الأمن الغذائي" رقم واحد. وهذا الوضع يضمَن توسُّع المشروع بالاعتماد الكامل والمستمر على المدخلات المستوردة؛ فالشركات، ومزارع القطاع الخاص للتسمين، تستورد الآلاتِ والمعدات اللازمة لتربية الكتاكيت وتسمينها من الخارج، بما فيها المباني جاهزة التركيب، ووحدات التدفئة ووحدات التهوية، وأفران حرق النافق، ووحدات التحصين والتفريخ، وكذلك آلات تدريج وتعبئة البيض، وحتى صناديق البيض وكرتون البيض، كما يستورد أيضًا الكثيرَ من الأعلاف ومكونات الأعلاف وإضافات الأعلاف من الخارج؛ وذلك لتصنيع الأعلاف الخاصة بالدواجن داخل البلاد. وفضلاً عن ذلك، معروف أن الكتاكيت تستورَد أيضًا بمعدلات متسارعة، ودون جهد محلي لإنتاج كتاكيتَ بديلة ملائمة، ووقف الاستيراد، بل لوحظ أن الشركة العامة للدواجن أخذت تستورد الأمهات التي تنتج جيلاً واحدًا (بدءًا من عام 1978) بدلاً من استيراد الجدود كما كان الحال قبل ذلك (112).
إن الدعوة لإدخال منتجات جديدة، ترتبط إذن ـ في النسق الحالي ـ بالتوسع في مشروعات تتأكد تبعيتها للخارج، من حيث المدخلات المطلوبة. ووفقًا للسياسات الحالية، يستهدف أيضًا أن يدار قسم كبير من الإنتاج الزراعي غير التقليدي بواسطة الأجانب مباشرة (عبر الشركات المشتركة أو من خلال التعاقد مع خبراء)، وعمليات التسويق المحلي، والتصدير بالذات (بما يتطلبه من اتفاقات منظمة مع السوق العربية) يعني في الظروف السائدة الاعتماد على الوسطاء الأجانب في المقام الأول. ومعروف أن التسهيلات الائتمانية المناسبة (الممولة من قروض وكالة التنمية الأمريكية والبنك الدولي وغيرهما) تقدم بسخاء، وكذا الحوافز السعرية، والإعفاءات الضريبية، من أجل سرعة التحول نحو هذا التغيير في هيكل الإنتاج الزراعي، أي لارتباط مساحات أوسع، ولارتباط أعداد متزايدة من أقدر الزراع (ماليًا وفنيًا) بهذا القطاع الصاعد. "ولماذا نذهب بعيدًا؟ إن إسرائيل تعاني من مشكلة أرض، وتعاني من مشكلة مياه، فماذا فعلت؟ إنها لا تزرع أرزًا أو قمحًا
أو قصبًا أو أيًّا من هذه المحاصيل، إنما ركزت كل جهودها على المحاصيل التي لا تستغرق وقتًا طويلاً في الأرض، ركزت على الخضروات والفواكه، وتمكنت من خلق سوق رائجة لهذه المحاصيل في أسواق الخارج" (73). هكذا أكمل وزير التخطيط تصوره حول مستقبل الزراعة المصرية، وترك لنا أن نستنتج قيمة الاستعانة بالخبرة اليهودية، كما سبق أن "أفادتنا" في الزمن السابق في محصول القطن.

ب ـ ويرتبط بقضية إنشاء قطاع جديد تابع في مجال الزراعة، وبدور الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا المجال، أن البنك الدولي ـ حتى أوائل 1977 ـ كان يرى أن أهمية التوسع الأفقي تتعلق بالأجل الطويل، "ومن الواضح أن الوصول إلى هدف النمو الزراعي المطلوب يتطلب زيادة في استثمارات القطاع، ويتطلب أيضًا تخصيص قسم أكبر من هذا الاستثمار في الأراضي القديمة. وفي النهاية، فإنه حتى بالنسبة للاستثمار في الأراضي الجديدة، فإن العائد يمكن أن يكون أسرع إذا تركز الاستثمار في مساحات أصغرَ، وتجريبية، يمكن أن تخدم كمساحات نموذجية، بدلاً من الانتشار المبعثر عبر كل الـ 900 ألف فدان التي يجري استصلاحها حاليًا" (113). وفي اجتماع المجموعة الاستشارية الأولى (مايو 1977) أكَّد البنك الدولي (على لسان الحكومة المصرية) نفس الموقف، فأعلن أنه في إطار إعادة ترتيب الأولويات، ستلتزم الحكومة بتوجيه "اهتمام أكبر بقطاع الزراعة، مع إعطاء الأفضلية للمشروعات ذات العائد السريع في الأراضي الزراعية القائمة، وللاستغلال الاقتصادي للأراضي التي تم استصلاحها فعلاً (بدلاً من مواصلة مشروعات استصلاحات أخرى طويلة الأجل)"(114). ولكن حدث تحول مفاجئ في موقف البنك الدولي (والحكومة المصرية بالتالي) في اجتماع المجموعة الاستشارية الثانية (يونيو 1978). فأعلن أن الضغط السكاني يتطلب الانتباه "نحو التوسع في مشروعات استصلاح الأراضي، باعتبارها حلاً هامًا للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد.. ورغم الجهود الحالية المبذولة لزيادة مستوى الإنتاجية في المساحة المنزرعة القائمة، فإن الإنتاج الزراعي الناشئ عن هذا لا يمكنه إشباع الحاجات الغذائية للسكان، ودعك من الحاجة لتوفير فائض للتصدير يمكن أن تعتمد عليه البلادُ في الحصول على نقد أجنبي. وكإجراء أساسي، فإن الدولة تعطي ـ بناء على ذلك أولوية متزايدة للتوسع الأفقي في الزراعة، بالنظر إلى الدور الحيوي لهذا النشاط، وإلى أهميته للاقتصاد القومي" (115).
ماذا حدث خلال عام واحد، لكي يتم تعديل جوهري كهذا في أولويات استراتيجية؟ وهل يمكن أن حيثيات التحول كما نقلناها، لا تستند - بأيَّة حال - إلى عوامل طرأت خلال العام 77 ـ 1978، ولم تكن في الحسبان قبل ذلك؛ ولذا يمكن أن نقول إن المطالبة بوقف التوسع الأفقي في مرحلة الانفتاح الأولى، وبالتركيز على مشروعات التوسع الرأسي في الأراضي القديمة والجديدة، قابلت في نفس الفترة مطالبة القطاع العام الصناعي بالتوقف عن البدء في مشروعاتٍ جديدة، للتركيز على مشروعات الاستكمال والإحلال والتجديد، وكانت الحجة في الحالتين تحقيق عائد سريع، الأمر الذي لم يتحقق بدلالة كل معدلات النمو التي فحصناها في أجزاء مختلفة من الكتاب (وكان متعذرًا أن يتحقق في ظل السياسات الاقتصادية المفروضة)، وبالتالي يبدو أن السبب الحقيقي لهذه المطالبة كان يكمن في محاولة لتجميد توسعات القطاع العام الجديدة في الزراعة والصناعة، إلى حين الانتهاء من السيطرة على القرارات، ومن تحديد الاتجاهات المطلوبة، وبعد هذه المرحلة يمكن دعوة القطاع العام في دوره الجديد؛ لكي يسهم مرة أخرى في تمويل وتحرك التنمية، ولكن في إطار ما تستهدفه الهيئات الدولية (ومن معها).
في قطاع الزراعة بالذات، كانت عمليات التوسع الأفقي (وخاصة في مرحلة الاستصلاح) منوطة بجهود الدولة. وجهود الدولة في هذا الاتجاه كان ينبغي أن تتوقف إلى حين الاطمئنان على طبيعة الدور المرشح لهذه الأراضي عند زراعتها، وعلى طبيعة وضعها المؤسسي.
  • وقد حسمت هذه القضية (كغيرها من القضايا) عبر عدد من السنوات. كان إجمالي المساحات الإجمالية التي دخلت برامج الاستصلاح منذ عام 1952، وحتى بداية الانفتاح أكثر من 900 ألف فدان. سلمت معظم هذه المساحات إلى مؤسسة استزراع وتنمية الأراضي (773 ألف فدان)، وبقيت بعض المساحات تحت إشراف كل من الجهاز التنفيذي للمشروعات الصحراوية (81 ألف فدان) والهيئة العامة للإصلاح الزراعي (58 ألف فدان). وقد أنفقت الدولة على مشروعات الاستصلاح هذه منذ 1953 إلى 1974 حوالي 600 مليون جنيه (منها حوالي 455 مليونًا إنفاق استثماري على أعمال الاستصلاح والتعمير والاستزراع). وهذه المساحة كان أغلبها صالحًا للزراعة، بل كانت بينها مساحات منزرعة فعلاً (506 ألف فدان) (116). وقد توالت بسرعة إجراءات التمليك والتأجير، وحين تحولت الهيئات والمؤسسات إلى 8 شركات قطاع عام في نهاية 1975، كان حجم المساحات المستصلحة المسلمة على هذه الشركات عام 1976 حوالي 624 ألف فدان. وحتى عام 1977 لم تكن هناك سياسة واضحة لاستغلال الأراضي التي تم استصلاحها، وهل يتم في صورة مزارع يتولى القطاع العام إدارتها، أو عن طريق التأجير أو التمليك، وهل يكون التأجير أو التمليك لمساحات صغيرة أو وحدات كبيرة؟ ومن الناحية العملية، كانت هناك مساحات مزروعة على الذمة، ومساحات مزروعة بالتأجير أو التمليك في غياب سياسة عامة. ومع كل العوامل الأخرى المضادة التي واجهت القطاع العام، كان طبيعيًّا أن يزداد إهمال وتعثر الشركات الزراعية، فهربت الخبرات الفنية والتنظيمية، وانتهى التخطيط تمامًا، وانعكس ذلك بشكل خاص في الأراضي المزروعة على الذمة (أي بإدارة شركات القطاع العام مباشرة). فوصل الأمرُ إلى زيادة مطردة في نسبة المساحات المهجورة، أي التي لا تزرع أصلاً، أثناء سنوات الانفتاح (وصلت النسبة إلى 57.3 % في آخر 1977 بالنسبة لأكبر 4 شركات) وأهدِرت الأموال والاستثمارات التي أنفقت في استصلاحها. وبالنسبة للأراضي المزروعة على الذمة، حدث تدهور ملحوظ ومطرد في معدلات الإنتاج النباتي مع زيادة التكلفة، ومع عدم الكفاية في تخطيط التركيب المحصولي، وحدث تدهور متزايد أيضًا في الإنتاج الحيواني، وبالتالي "أسفرت نتائج غالبية الشركات عن خسائرَ متتالية؛ نتيجة للقصور في الدراسات التخطيطية، وفي نُظم الرقابة الداخلية، وقد أدَّى ذلك إلى اختلال مراكزها المالية". ولم يكن نشاط شركات القطاع العام المتخصصة في الإنتاج الحيواني وإنتاج الدواجن، وفي الثروة المائية، أسعد حالاً. كلها تدهورت إنتاجيًّا، وزادت خسائرها (117). ولا شك أن هذه النتائج كانت تمهيدًا ملائمًا لإنهاء فكرة قطاع عام في القطاع الزراعي. الشركات الزراعية الثمانية كانت تزرع بعض المساحات على الذمة، وتؤجر بعض المساحات، وتملك البعض الآخر. ووفقًا للتوجيهات الدولية المدعمة بهذه النتائج تقرر التوسع في التأجير والتمليك، وأعلن رسميًّا في عام 1977 (خارج مصر) أن "المليون أكر (حوالي 900 ألف فدان) التي تم استصلاحها يجري توزيعها على مُزارعين صغار (بدلاً من العمليات المدارة حكوميًّا)، أو على مشروعات مشتركة لمجمعات زراعية، تهدِف إلى إدخال تكنولوجيا جديدة في الري (كالري بالتنقيط Sprinkle مثلاً) وفي تصنيع الناتج الزراعي، وفي التسويق من خلال التصدير، وهناك بنفس القدر مجالٌ كبير لتحسين كفاءة المزارع الصغيرة الخاصة المنتجة لمحاصيلَ تجارية موجهة للتصدير" (118). وبالفعل ركزت وزارة الزراعة في تلك الفترة، على تصميم وتنفيذ الهياكل الارتكازية لاستكمال مشروعات مختارة على مساحة 145 ألف أكر. ويسهم المستثمرون العرب والأجانب في المشروعات المشتركة، في تمويل العمليات اللازمة لحوالي 92 ألف أكر؛ تجري إضافتها إلى المساحة المنتجة، وخاصة في المناطق القريبة من مصادر الري والصرف، ومن الموانئ؛ لتيسير تصدير المنتج. وبالإضافة إلى هذه المساحة يتم مشروع متكامل لإنتاج سكر البنجر فوق 100 ألف أكر في غرب الدلتا. وهو مشروع مشترك (مصري أجنبي)، وأعدت دراسة الجدوَى الخاصة به شركة استشارية بريطانية (U. L. G) بمساعدة وزارة التنمية فيما وراء البحار. وهناك مثال أخير للمشروعات الزراعية الصناعية لمعالجة فول الصويا، وقد تمت دراسته مع شركة أمريكية (Contintental Grain) لملاحقة التوسع السريع والمخطط في هذا المحصول الجديد. وقد أُعلِن ـ داخل مصر ـ عن هذه السياسة المتكاملة في مجال الأراضي المُستصلحة على لسان رئيس مجلس الوزراء (أواخر 1979)؛ إذ قال إنه "سيتم التصرف في الأراضي المستصلحة بمعرفة شركات القطاع العام بعد استصلاحها مباشرة؛ سواء بتوزيعها على صغار الزراع أو خريجي الجامعات والمعاهد العليا أو إقامة مجمعات زراعية صناعية عليها"، وبالنسبة لمسألة المجمعات هذه، فإنه يجب "إتاحة الفرصة أمام رأس المال الأجنبي والخبرة الأجنبية للمساهمة في تنفيذ مشروعات الخطة مع رأس المال العام أو الخاص منفردًا؛ ولذلك تعمل الوزارة على استكمال دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروعات التي يمكن أن تنفذ بالتعاون مع رأس المال الأجنبي، بإقامة مجمعات زراعية صناعية على الأراضي الجديدة، ويبلغ عدد هذه المشروعات حتى الآن 11 مشروعًا ستقام على مساحة 652 ألف فدان من الأراضي المستصلحة
    أو المقرر استصلاحها، ويجري التفاوض حاليًا مع الشركات الأمريكية واليابانية والسويدية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية لتنفيذها، وذلك بخلاف خمسة المشروعات التي تم تأسيس شركاتها، وبدأت العمل فعلاً على مساحة 36.6 ألف فدان" (119).
لقد حدث – إذًا - أن ركزت الدولة تخصيصاتها الاستثمارية (الموجهة "بالمساعدات") نحو الأراضي المستصلحة ذات الاحتمالية الإنتاجية الأقرب والأعلى؛ كي تسلمها (بعد كل ما أنفقته من أموال وجهود تنظيمية) هدية إلى شركات الاستثمار المشترك، وإلى بعض المحظوظين.
  • ولا مانع من الإشارة هنا إلى أهم تجربة "رائدة" بين المشروعات الخمسة التي تم تأسيسُ شركاتها، والتي أشار إليها رئيسُ مجلس الوزراء (120)، نقصد شركة "الإسماعيلية/ مصر للتنمية الزراعية"؛ فهذه الشركة حلت محل الشركة المصرية الزراعية العامة (قطاع عام) في تنمية واستغلال أراضي مشروع وادي الملاك. ولم يتضمن نصيب شركة القطاع العام ـ في رأسمال الشركة الجديدة ـ قيمة الأراضي المسلمة؛ حتى لا تكون لها الغلبة في رأس المال،
    أو حتى لا يتحمل أصحاب الشركة الجديدة أعباء مالية ضخمة (رأسمالها الإجمالي 4 مليون جنيه)؛ ولذا تسلمت شركة الإسماعيلية الأراضي المستصلحة مقابل إيجار زهيد، واختزل نصيب شركة القطاع العام في رأس المال إلى قيمة حصة عينية متمثلة في خطوط شبكات الري بالرش المتنقلة، وفي آلات وتجهيزات أخرى. وتم تقييم هذه الحصة من قِبل شركة الإسماعيلية بأقل من قيمتها الحقيقية، أي بمليون جنيه فقط (وبالتالي هبط نصيب الشركة المصرية الزراعية ـ مالكة الأرض ـ في رأس المال إلى 25 %) (121) وقد شاركت في المقابل شركة البيبسي كولا بواقع 15 % من رأسمال المشروع، وشركة إنتاج معدات الري بالرش (جيفورد) 10 %، وشركة سابا السويدية لتسويق الحاصلات 5 %، وللمزارعين الأمريكيين (الخبراء) 5 %، والنسبة الباقية لـ "المقاولون العرب". وهذا المشروع أحيط بضجة إعلامية ومبالغات، تصل إلى درجة الإسفاف، حول معجزات التكنولوجيا الأمريكية في الأراضي المصرية. "الأرض تكون هذا العام صحراءَ قاحلة، وفي عام واحد تتحول إلى أرض خضراء وإنتاج ممتاز.. ستملأ مصر بالخضرة والخير. لقد زادت إنتاجية الفدان عندنا من البطاطس والطماطم عن إنتاجية فدان الشرقية والإسماعيلية.. إننا نعجب لماذا نقضي في مصر عشراتِ السنين نستصلح الأرض، ونصرف عليها، ويكون إنتاجها ضعيفًا؟! وكل أراضي الاستصلاح في مصر مثال على ذلك" (122).
هذه الدعاية لا تحتاج إلى خبير فني ليكشف أنها زائفة. وإذا كان الفلاحان (أو الساحران) الأمريكيان قادرين على معجزة تحويل الصحراء إلى أرض مثمرة خلال عام واحد، فلماذا سيستمر المشروع 12 سنة لتغطية المساحة المستهدَفة (كما قيل سهوًا) أثناء الحملة الإعلامية؟ إن مشروع شركة الإسماعيلية/ مصر للتنمية الزراعية، هو النموذج المتكامل والمجسد، لما يُراد بالزراعة المصرية. وخاصة في الأراضي الجديدة. وقد لا يتكرر النموذج بكل تفاصيله في كل مكان، ولكن الجوهر سيكون واحدًا، فقد لا يشارك الأجانب في كل حالة في ملكية الشركات المسيطرة على العمليات الإنتاجية، ولكنْ سيحرِصون على التحكم في المدخلات (حبوب ـ آلات ـ خبرة) وستكون المخرجات أيضًا في قبضتهم، وخاصة في التسويق الخارجي. وبكلمات حسين عثمان، فإنه كان ضروريًّا أن نستعين بالخبرة الفنية للمزارعين الأمريكيين (وفي مقابل ذلك) دخلوا شركاء في رأس المال، "وكما طرقنا باب الفلاحين، وقلنا لهم: تعالوا شاركونا، طرقنا باب مصانع إنتاج آلات الري الحديثة، وطلبنا من الشركة المنتجة لنظام الري المحوري مشاركتَنا.. يبقى أننا نضع في خطتنا أن نقوم بتصدير جزء من إنتاج هذه الأرض من الخضروات والفواكه، وعملية توزيع وتسويق خضروات في أوروبا، وطلبنا منهم مشاركتنا؛ حتى نضمن حسن التوزيع" (122) .
هذا النموذج المتكامل لقطاع زراعي تابع، كان مُفتَرضًا أن يبدأ بعشرة آلاف فدان؛ لتمتد إلى 21 ألف فدان (في نفس المنطقة). وقال حسين عثمان: إن لديه "خططًا جاهزة لمجموعات، كل مجموعة تصل إلى 50 ألف فدان في أماكن منتشرة على أرض مصر". وقد بلغت الضجة الإعلامية ذروتها حين زار الرئيس السادات أرض هذه المعجزة (مع كافة مسئولي الدولة)، واعتبر يوم الزيارة (29 يناير) عيد الثورة الخضراء، وصدر الأمر بتسليم مزيد من الأرض المستصلحة (150 ألف فدان) إلى شركة الإسماعيلية (123).
  • إن توسع هذا النمط في إدارة الزراعة المصرية، من خلال شركات الإسماعيلية، والشركات المشابهة، يسانده التوسع الموازي في تسليم الأراضي إلى من أُسمَوا بالمزارعين الصغار. وعبَّر الرئيس السادات عن هذا الاتجاه بشعار: "فليمتلكْ كل مصري قطعة من أرض مصر". وهو شعار ـ كما لاحظ
    عبد المنعم بلبع، يعني أن "الأرض لم تعد لمن يزرعها، بل هي لمن يستثمرها". ولا توجد بيانات متكاملة حول توزيع هذه الأراضي (التي أُنفقت مئات الملايين من الجنيهات في استصلاحها)، ولكن النظرة العامة تكشف أن قسمًا كبيرًا، وزِّع على "أصحاب الصلات الطبية"، والقسم الآخر بِيع في المزاد، وفي الحالين ذهبت هذه الثروة القومية ـ في أغلبها ـ إلى من لا يستحقون (ليس بمعيار عدالة التوزيع فقط، ولكن أيضًا بمعيار الكفاءة والخبرة الإنتاجية)، وتشكلت جمعيات تعاونية عديدة لاستصلاح واستزراع الأراضي، وقد سدد بعض هذه الجمعيات قسطًا من ثمن الأرض، وأصبح أعضاؤها من الناحية القانونية مشتركين في امتلاك مساحات تصل إلى آلاف الأفدنة، يخص كل فرد فيها نحو 10 إلى 20 فدانًا. ويقول وزير استصلاح الأراضي إنه ينبغي زيادة حد الملكية للفرد (في الأراضي الجديدة) من 50 إلى 100 فدان، وبالنسبة للأسرة من 100 إلى 200 فدان. وبالنسبة للشركة الزراعية من 10 آلاف إلى 30 ألف فدان (124). ولكنَّ أحدَ الأساتذة البارزين كان محقًا حين تساءل: "هل هذه الجمعيات جادة في استصلاح هذه المساحات الواسعة، وهل هي قادرة على ذلك؟ وكيف يتأتَّى للكثير منها هذه القدرةُ، وهي مكونة من أفراد بعيدين عن النشاط الزراعي واستصلاح الأراضي؟!" طبعًا كان أحد شروط بيع الأراضي الحكومية لهذه الجمعيات، هو أن تُبدي جديتها وقدرتها بإنجاز عمليات الاستصلاح والاستزراع في فترات زمنية محددة. ولكن هل يمكن تنفيذ هذا الشرط، وما هو جزاء المخالفين، وما هو الوضع القانوني لهذه الجمعيات؟ هل هو مماثل للشركات المساهمة، وهل في النظام الذي تقوم عليه الجمعية ما يحفظ للعضو حقه قبل إدارة الجمعية؟ "إن ذيوع هذه الجمعيات وانتشارها واستحواذها على عشرات الآلاف من الأفدنة في مختلف جهات الجمهورية، يحتم مراجعة قوانين إنشاء هذه الجمعيات ووضع الضوابط التي تضمن للعضو حقه، وعدم تحول الإدارة فيها إلى هيئة إقطاعية مستقلة مثلما كانت شركات الأراضي قبل الإصلاح الزراعي، وعدم استحواذ هذه الجمعيات على هذه المساحات للإتجار فيها" (125) إن التصرف في الأراضي ـ على النحو الذي تحقق ـ فتح الباب أمام أعداد واسعة، ممن لا ينوون فعلاً زراعة الأرض، ولكن حصلوا على الأرض لمجرد المضاربة (126). ولكنْ حتى بالنسبة للجادين، حدث كما قلنا هذا التدافعُ لتشكيل الجمعيات التعاونية ودخول أفراد لا يمُتون بصلة للريف أو النشاط الزراعي، وصاحب هذا ظهور مهنة خبراء الزراعة والهندسة؛ فالجمعيات والأفراد الذين لا يمتهِنون الزراعة، محتاجون إلى من يُمِدُّهم بالمساعدة الفنية والتقنية في مجال "تخطيط" الاستصلاح والاستزراع والأشراف على التنفيذ؛ ولذا بدأت مكاتب الخبرة تنتشر في كل مكان وعلى مستويات مختلفة. وفضلاً عن حقيقة أن الفوضَى القائمة سمحت لعديد من غير المُتخصِّصين، بولوج الميدان، فإن الخبراء المصريين يطالبون بحمايتهم من "زحف الخبراء الأجانب". ولكن حمايتهم مستحيلةٌ؛ فالخبراء ـ كأفراد ومكاتب وشركات خدمات ـ أدوات أساسية في مخطط التنمية التابعة التي تبدأ على نطاق واسع في الأراضي الجديدة، وتسعَى الإعلانات والتصريحات لنشرها أيضًا في الأراضي القديمة على حساب "القطن اللعين".
  • بعد الاطمئنان على مستقبل الأراضي التي تُستَصلح، وبعد الاطمئنان إلى مدى صلاحياتهم في تحديد اتجاهات الاستصلاح لأراض جديدة (ويتضمن ذلك أولويات التوزيع الجغرافي) عاد البنك الدولي (ومن معه) كما قلنا إلى إطلاق النور الأخضر أمام عمليات التوسع الأفقي. ومسألة التحكم في أولويات التوزيع الجغرافي لها بعد يتعلق بالاستراتيجية العُليا، فوفقًا لهذه الاستراتيجية، يتطلب الأمر مدَّ إسرائيلَ بمياه النيل (127)، ويرتبط بهذا توجيه مشروعات الاستصلاح الجديدة إلى شرق القناة. ولكن هذا القرار كان ينتظر تكامل التطورات السياسية التي توجت بالاتفاقات مع إسرائيلَ. وقد نضيف أن هذا الانتظار الضروري، كان أيضًا من العوامل الأساسية خلف مطالبة الهيئات الدولية بوقف عمليات الاستصلاح حتى منتصف 1977؛ لأن البدء في عمليات جديدة ـ قبل هذا التاريخ ـ كان سيُلزم بتخصيص مواردَ كبيرة لسنوات طويلة في مشروعات استكمال الاستصلاح وتطوير الاستزراع، في مناطقَ بعيدة عن التوزيع الجغرافي الأمثل (من وجهة نظر الهيئات الدولية)؛ ولذا، حدث بعد التطورات السياسية المطلوبة، ومع سيطرة البنك الدولي (ومن معه) على القرار، أنْ عاد التوسع الأفقي يحتل أولوية متقدمة، واحتل مشروع توسيع ترعة الإسماعيلية الاهتمام الأكبر؛ "لكي يتمشَّى مع احتياجات الري وبرنامج استصلاح 1.5 مليون أكر شرق الدلتا وشرق قناة السويس" (115).
ومع كلٍّ، فقد أعفانا مسئولٌ كبيرٌ من عبء ومسئولية الاستنتاج؛ إذ وضع الرجل ببساطة كل النقاط على الحروف، وأوضح (يوسف والي) أن "تطوير الزراعة المصرية يسير حاليًا في إطار حلقات ثلاث؛ الأولى: مصر ـ الولايات المتحدة، والثانية: مصر ـ الولايات المتحدة ـ إسرائيل، والثالثة: مصر ـ إسرائيل ـ الدول العربية، وأضاف أن الحلقة الأولى في طريقها للتحقيق، وأتاحت لنا تحسين المدخلات؛ بمعنى البذور والأسمدة والمبيدات والمكننة الصغيرة. وسنشرع في العمل بالحلقة الثانية لتحسين المخرجات بمساعدة الإسرائيليين. وأخيرًا الحلقة الثالثة وتتجه للانفتاح على الدول العربية وبالذات السودان" (ويرتبط هذا بقضية مياه النيل بطبيعة الحال)، ومعروفٌ أن زيارة وزير الزراعة الإسرائيلي آرييل شارون، كانت تهدف إلى تحديد الوسائل التي يجب اعتمادُها من أجل التعاون بين البلدين(128).






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:30 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator