البرتقالي لون التناقضات
الدنيا ألوان، هي التي تصبغ دنيانا، فتمنحها معنىً ووجوداً وحياة.
إنّ اللون هو الضوء، الذي تستوعبه العين، وهو الصبغة الملموسة، التي تحاكي الضوء، بدرجاته وتنويعاته. من البداية، عرفنا قوس قزح، كظاهرة بصرية تنشر طيفاً مرئياً في السماء، حيث الأحمر، فالبرتقالي، فالأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي. لكنّ اللون أكثر من مجرد ضوء. هو رواية بمزاج الفرح ومزاج الحزن، بطعم النصر وطعم الهزيمة. وبين كل لون ولون درجات وخلطات، ولكل لون إحساس ونكهة وعشرات الحكايات.
إما أن تحبّ البرتقالي، تعشقه وتُغرم به، وإما أن تكرهه وتمقته، فلا مشاعر وسط هنا، أو بين بين.
على أنّه أياً كانت مشاعرك نحو البرتقالي، فهذا لا يناقض الحقيقة بأنّه لون مرح ومشعّ، يفيض بالدفء والطاقة، ويفرض حضوره في المكان.
يُعدّ البرتقالي أكثر الألوان قابليةً للإستقطاب، وأكثرها إثارة للجدل على الإطلاق. فهو لون قد يثير مشاعر إيجابية للغاية تماماً، كما قد يثير مشاعر سلبية جدّاً. في النهاية، نحن إما نهيم بالبرتقالي وإما ننفر منه. قد يحفِّز في الذاكرة أحاسيس جميلة وقد يستنهض مشاعر بغيضة، هو لون غني بقدر ما يبدو أنّه فقير ومحدود الأفق.. هذه التناقضات وهذه التضاربات هي ما تصنع البرتقالي وتكسبه إرثه الشخصي، الذي يشكل إضافة إلى غنى عنها في تشكيلة الألوان التي تصوغ وجودنا وتأتلف مع حياتنا.
يقع البرتقالي بين اللونين الأحمر والأصفر في نظام "الطيف" المرئي، بطول موجي يتراوح بين 585 و620 نانومتراً (النانومتر وحدة قياس الطول في النظام المتري تساوي 1 إلى مليار متر). إذا كانت ألوان مثل الوردي والبنفسجي تكتسب اسمها من الأزهار (الوردي من الورد، والبنفسجي من زهرة البنفسج) فإنّ البرتقالي يكتسب اسمه من فاكهة البرتقال في معظم لغات العالم. بالإنجليزية، كما بالفرنسية، يشار إلى البرتقالي (Orange)، وهي كلمة مشتقة في الواقع من كلمة "نارنجا" (Narnaja) باللغة السنسكريتية. أما من قبل إعتماد "البرتقالي"كإسم للون، فكان يُشار إليه باللغة الإنجليزية القديمة بـ(geoluhread)، الذي يُترجم في الإنجليزية الحديث بـ(Yellow-red)، أي الأحمر المصفّر، أو الأحمر المائل إلى الاصفرار.
- نار الحبّ:
البرتقالي لون صاخب، بارز، مضيء، لا يمكن إغفاله، ومن الصعب أن يكون متوارياً، فهو حاضر دائماً وأبداً، أينما حلّ تراه كأنّه يقول بصوت عالٍ ومدوٍّ: "أنا هنا". أيّاً كانت درجته، من الفاتح إلى الكلاسيكي فالغامق فالبرتقالي المحمر (بلون المندرين) فالبرتقالي المحروق (المائل إلى البني)، يُعدّ البرتقالي من أكثر الألوان المحفزة، التي تحفِّز النشاط وتطلق الطاقة، كما أنّه من الألوان المثيرة للشهية. بل أثبتت بعض الدراسات أنّ البرتقالي يساعد على تسريع وصول الأوكسجين إلى الدماغ. أضف إلى ذلك أنّ البرتقالي من أكثر الألوان التي تشجّع على التواصل الإجتماعي وتخلق جواً من المرح والحبور، كما يشيع الدفء وينثر طاقة إيجابية في المكان.
هو لون البرتقال، الفاكهة الأكثر تفضيلاً والعصير الأكثر إنعاشاً، الذي يحظى بإجماع عالمي على مذاقه الشهي وفوائده، وهو لون المندرين، شقيق البرتقال، والجزر والقرع، الذي نحبه كطعام في ثقافات، ونصنع منه وجوهاً "مرعبة" طريفة، وفوانيس مضيئة في ثقافات أخرى عشية الإحتفال بـ"الهالوين". والبرتقالي لون أوراق الشجر في الخريف التي تكتنفها مسحة حُمرة ومسحة بُنية، وهو لون الشمس في لحظة من لحظات انصهارها أو ولادتها في كبد السماء، وهو لون الزهور التي تتزاوج فيها درجات الأصفر وتنويعات الأحمر.
كما يتأرجح البرتقالي في مشاعره بين صخب الأحمر الناري ودفق الأصفر المشع، فإنّ الزهور البرتقالية تستلف معناها من خليط معاني الأحمر والأصفر معاً. قطعاً تضفي الزهور البرتقالية طاقة حية على المكان، كما تنثر الدفء، وتذكرنا بحلاوة الفاكهة الحمضية. الزهرة البرتقالية رمز الرغبة غير المعلنة أو غير المصرّح عنها تماماً، هي رمز الحماسة المتقدة ورمز العاطفة، وهي بمثابة جسر بين مشاعر الصداقة، التي ترمز إليها الزهور الصفراء، ومشاعر الحب المرتبطة بالزهور الحمراء، لذا حين يقدم أحدهم باقة ورود برتقالية لإمرأة بعينها، فكأنه يريد أن يعبر عن مشاعر عاطفية تشتعل في داخله رويداً.. رويداً، أو كأنّه يعبر عن رغبة في أن يمضي بالعلاقة إلى مرحلة أبعد تتخطى مرحلة الصداقة. إضافة إلى ذلك، قد تكون الأزهار البرتقالية تعبيراً صارخاً عن الولع والافتتنان، وإذا كان تبادلها بين الأصدقاء فإنها تعبير صريح مفاده: "أنا سعيد بعلاقتي معك وفخور بك". أياً كان الغرض من الزهور البرتقالية، فهي مبهجة في الصيف، دافئة في الخريف والشتاء، عاطفية بين الأحبة، ودودة بين الأصدقاء، تأسر القلب وتسحر الروح. وهي في الغالب خيار العشاق غير التقليديين، ممن يرون في الوردة الحمراء هدية "مبتذلة" أحياناً، أو تعبيراً مرتجلاً وشائعاً، يفتقر إلى الخصوصية، بين "المغرومين". بالنسبة إلى العشاق غير التقليديين، تظل الوردة البرتقالية رمزاً أجمل وأكثر تعبيراً عن العاطفة المتأججة، والمشاعر الملتهبة والرغبة الحارقة المتحرّقة. إذا كانت الوردة الحمراء هي رمز الحبّ، فإنّ الوردة البرتقالية هي نار الحبّ.
- دلالات تاريخية وسياسية:
يدخل البرتقالي، كلون، في جغرافيا عالمية واسعة النطاق، كما أنّه لون ذو دلالات تاريخية وسياسية، فهو اللون الوطني لهولندا، فالعائلة المالكة هناك تنحدر من عائلة "أورانج – ناسو" الأرستقراطية، ذات الإمتدادات الأوروبية الضاربة في التاريخ. هذه العائلة كانت تملك "إمارة أورانج"، التي تأسست في عام 1163 كإمارة مستقلة عن الإمبراطورية الرومانية. اللافت أنّه لا توجد علاقة لغوية بين كلمة "أورانج" (التي تعني البرتقال كفاكهة أو البرتقالي كلون)، واسم إمارة "أورانج"، وما التشابه في اللفظتين إلا من قبيل المصادفة البحتة. بيد أنّه في المجتمع الهولندي الحديث، بات "البرتقالي" كاسم مقترناً بالبرتقالي كلون. فعلاوة على إقتران كلمة (Oranje) الهولندية، التي تعني "برتقالي"، بالعائلة الحاكمة الهولندية، فإنّ البرتقالي بات اللون الرسمي المعتمد للعديد من جوانب الحياة الثقافية والإجتماعية في البلاد، لعل أوضحها وأبرزها إقترانه بالمنتخب الوطني الهولندي لكرة القدم، الذي يُلقب بـ"أورانج" (Oranje) بالهولندية. وهناك مصطلح "جنون البرتقالي"، الذي يشير إلى قيام العديد من الهولنديين بإرتداء أزياء برتقالية اللون أثناء متابعة مباريات كرة القدم، فتبدو المدرجات في الملعب، كما الشوارع والميادين، كأنها أنهار مصبوغة بالبرتقالي. حتى القرن السابع عشر، كان البرتقالي، من الألوان المعتمدة في علم هولندا. أمّا في العلم الحديث، فيحتل اللون الأحمر محل البرتقالي، إلا أنّه في المناسبات الوطنية وأثناء الإحتفال بأعياد الميلاد الملكية، تتم إضافة علم مثلث الشكل البرتقالي اللون.
وعلى سيرة الأعلام، يدخل البرتقالي في أعلام العديد من دول العالم، من بينها أيرلندا والنيجر والهند وساحل العاج. لكن البرتقالي يتخطى الأعلام الرسمية مشكلاً شعاراً بارزاً للعديد من التجمعات والأحزاب السياسية. فهناك "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، وهي سلسلة من التظاهرات والمسيرات الإحتجاجية الحاشدة، التي غمرت شوارع العاصمة الأوكرانية كييف من أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 وحتى يناير (كانون الثاني) 2005، في أعقاب ظهور نتائج الإنتخابات الرئاسية وما أعقبها من إتهامات قوى المعارضة للحكومة بالفساد وتزييف نتائج الإنتخابات. كان اللون البرتقالي هو السائد في الشوارع، التي غصّت بالمتظاهرين، سواء من خلال إرتداء قمصان برتقالية أو بإعتماد الشريط البرتقالي شعاراً لهم.
نتوقف مع الحركة الديمقراطية البرتقالية، وهو حزب سياسي في كينيا، تشكل إبان الإستفتاء الشعبي على الدستور في كينيا (قبل أن ينقسم لاحقاً إلى حزبين). اكتسب الحزب صفة "البرتقالي" في اسمه من بطاقات الإقتراع في الإستفتاء؛ حيث كانت "نعم" يُرمز لها بالموزة، في حين كان يُرمز لـ"لا" ببرتقالة. كذلك، يعد البرتقالي اللون الرسمي لأحزاب عالمية عدة من بينها حزب الشعب الوطني في جمايكا، وإئتلاف العدالة والحقيقة في رومانيا، وحزب الشعب الأوّل في تايوان، والحزب الديمقراطي الجديد في كندا، وحزب قائمة يونيو في السويد، الذي تأسس في العالم 2004، وحزب باراتيا جاناتا في الهند، وهو من أكبر الأحزاب السياسية في الهند يمثل الغالبية الهندوسية ويمين الوسط في البلاد، والحزب الديمقراطي الإشتراكي في غيرها.
- ذكريات مُرّة:
ينطوي البرتقالي، حاله في ذلك حال معظم الألوان، على دلالات ثقافية ودينية متنوعة. في سريلانكا، يمثل البرتقالي الديانة الهندوسية في علم البلاد، فالمعلمون الدينيون الهندوس (الذين يشار إليهم بـ"السوامي") يتدثرون تقليدياً بأردية برتقالية اللون. وفق المعتقدات الهندوسيية فإنّ البرتقالي يرمز إلى النار. وهكذا فإن إرتداء ثوب برتقالي للعيان يفصح عن التحول الداخلي لصاحبه، أي إحتراق "الأنا" أو إحتراق "الذات" السابقة، ونكران الرغبات الشخصية. كذلك، يمثل الخط البرتقالي، المائل إلى اللون الزعفراني، في العلم الهندي، الشجاعة والتضحية ونكران الذات.
إذن، نستطيع أن نحب البرتقالي ونتبناه، لأسبابنا الخاصة، ونستطيع أن نمقته ونبغضه ونعلن مقاومتنا له، لأسبابنا المشروعة.. فاللون، أي لون، لا يمكن أن يكون محايداً مادام البشر آثروه، كلٌّ لغاية في نفسه.
02-24-2011, 04:09 AM
البرتقالي لون التناقضات
