إبـحَــثْ عَــنِ الْـمَـعَــرِفَـــةِ و دَقِّـــقْ فِي الْبَـحْـــث
الكرام الأفاضل.. أعزَّكم الله جميعًا بالإسلام،
وأحيانا وإيِّاكم في الدنيا بالقرآن، وأنار قلوبنا وقلوبكم بِنُورِ وهُدَىَ الفُرْقَان
تعرضنا فيما سبق لفهمٍ يوصِّلنا بتوفيق من الله تعالى إلى معـرفــة أهمية القرآن في حياة المسلم.
ولأنَّ المَعْــرِفَــــةَ هي أساس كل علم؛ فعلى كلِّ مسلم أن يخوض طريق المعرفة الذي يؤدي إلى التزوّدِ بكافّةِ العلوم النَّافعة.
وأوجبها، بل أهمّها؛ طلب العلم الذي يُصحِّحُ به عقيدته وعبادته وتعامله.
فلنسعى جميعًا بعون الله المُستعان باحِثينَ بكُلِّ جَهْدٍ عن المعرفة، ولنُدَقِّق معًا في البحث عنها،
بـِـدايـَــــــًة؛
فــ المعرفة إسم، ومعناه: إدراك الشَّيء على ما هو عليه ، ومعناه أيضًا: حصيلة التَّعلُّم عبر العصور.
و هذه بعض مرادفاته:
الإدْراك , الإِطَّلاَع , الدِرَايَة , العِلْم , الفَهْم , الفِطْنَة , الفِقْه , الإِلْمَام، ...
كلُّ هذهِ المعَانِ آثَرتُ أن أذكُرها لكُم لِجَلالِ وعِظَمِ ما يجِب على المُسلمِ أن يسعى أولًا لمعرفته حقّ المعرفة، ألا وهو؛
معرفة الله تبارك وتعالى
سبحانه جلَّ في عُلاه، لا معبود ولا ربٌّ سِواه، عزَّ جارُه وتقدست أسماؤه
فالعلم بالله ومعرفتة سبحانه هو حياةُ الرُّوح ونعيمها، ولذَّتها وسرورهها، واطمئنان النفس وتزكيتها، وسكون السريرة وهدوئها...
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
" وَأَمَّا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ؛ فَيُرَادُ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِهِ نَفْسِهِ؛ وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى.
وَهَذَا الْعِلْمُ إذَا رَسَخَ فِي الْقَلْبِ أَوْجَبَ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى طَاعَتِهِ؛ وَيُعَاقِبُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛
كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْعِيَانُ...
وَالنَّوْعُ الثَّانِي يُرَادُ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي ، والحَلالِ والحَرَام ..." [1]
فــــ يَجِبُ على كلِّ مسلم معرفة ربه، وُجُوبَ الفرض؛ كما قال تعالى:
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ} محمد: 19
هذا العلم هو أمر من الله تعالى لكل العباد، وهذا العلم هو العلم بتوحيد الله.
هذا العلم هو فرضُ عَيْنٍ على كلِّ إنسان، لا يَسقُط عن أحد، كائِنا مَنْ كان، بَلْ كُـلٌّ مُضْطَـــرٌّ إلى ذلك.
والطريق إلى العلم بأنَّه لا إله إلا هو؛ أعظمه تدبُّر أسمائهِ وصفاتهِ، وأفعالهِ الدالة على كمالهِ وعظمتهِ وجلالتهِ،
وبحسب معرفة العبد بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفتة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقُصَ نَقَص، وأقرب طريق إلى ذلك:
تدبر صفاته وأسمائه من الـقــــــرآن
_____________________________________________
إنَّ تدبُّر القرآن العظيم، والتأمُّل في آياته؛ هو البابُ الأعظمُ إلى العلم بالتَّوحيد ويُحَصَّلُ به من تفاصيله وجمله ما لا يُحصَّل في غيره،
قال تعالى:
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص: 70
سُبْحَانَهُ هُوَ الحَاكِمُ فِي الدَّاريْنِ؛
في الدنيا؛ بالحُكْمِ القَدَريّ، الذي أثـره جميع ما خَلَق وذَرَأ، والحُكْمُ الدِّينيّ، الذي أثـره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي.
و في الآخرة؛ يحكم بحكمه القَدَريّ والجَزائيّ، فيُجَازي كُلَّاً بعمَلهِ، مِنْ خَيـرٍ وشَــرٍّ.
فالقرآن العظيم هو الدّليل العظيم، والأمر الكبير؛ الذي وجَبَ على كُلِّ مسلم التَمسُّك به والعمل بما فيه.
القرآن العظيم، والتأمُّل في آياته؛ هو الباب الأعظم إلى العلم بالتـَّـوحيــد.
والعـلــم بـالله ومـعــرفـتـــة سـبحــانـــه هــــو؛
حياةُ الرُّوح ونعيمها، ولذَّتها وسرورهها، واطمئنان النفس وتزكيتها، وسكون السريرة وهدوئها...
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
[والعبدُ كمالُه في أن يعرِفَ الله فيحبَّه، ثم في الآخرة يراه ويلْتَذّ (2) بالنظر إليه]
ثم يشرح:
(والمقصود هنا أن النفس ليس كمالها في مُجردِ علمٌ بالله لا يُقترنُ بهِ حبٌّ لله ولا عبادةٌ له ولا غير ذلك، بل لا تصلح وتكمل إن لم تُحِبَّ الله وتعبُدَه)[3].
هَذهِ هِيَ غَايَةُ كُلّ عَبد مُؤمن مُريد؛ يتقَرَّبُ لمولاه بالعبادة حُبَّــًا كما يَرضى سُبحانه ويُريد
فتحقيقُ المعرفة يَكمُل بحبِّ الله المُجيب، وتلكَ غَايَاتٌ ومُنتهَى القَصْدُ لِكلِّ عَبدٍ مُنيب
وهنا؛ لنا وقفة تأمل في سعينا إلى الْـمَـعَــرِفَـــةِ.. فلندَقِّـــق معًا فيما سبق من درر القول؛
حيث قال علماؤنا الإجلاء -رحمهم الله وجزاهم عنا خير الجزاء-؛ أنَّ الوصول إلى معرفة الله حق المعرفة؛
بتدبر صفاته وأسمائه، ثم العلم بالأحكام الشرعية؛ سَـبـيــلـُـــهُ الْـقـُـــرْآن.
فالقرآن الكريم والسنة النبوية هما السبيل الوحيد إلى المعرفة الحقّ، بالمدوامةِ على مُعايَشتِهمَا؛
تلك المعايشة بكل معانيها التي تصل بنا -توفيقًا من الله تعالى- إلى المعرفة والعلم والفهم والإدراك؛
- أوْجَبُهَـــا وأحــقّ؛ معرفة الله حقَّ المعـرفـــة، فإذا عَرَفَ المسلِم ربَّهُ حقَّ المعرفة؛
أحبَّهُ واستأنَسَ به، وخافَهُ ولجَأَ إليه، بحيث لا تمرُّ عليه لحظة إلاَّ وهو فيها مؤدٍّ ما عليه، مستعدٍّ للقاء الله عزَّ وجل.
- ثم العلم اليقيني والإدراك التام؛ بسبب وجودنا في هذه الحياة ومراد الله فينا،
كما أخبرنا سبحانه وتعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: ٥٦
بما يحُثّنا على دوام العمل الخالص لله وحده سبحانه، و بما يجعلنا دائما وأبدا نحيا لله وحده في عبادته سبحانه الخالق المعبود.
هكذا أيها الكرام الأفاضل أعزَّكم الله؛ بالبحث عن المعرفة، والتدقيق في البحث، توفيقًا من الله:
نصل بفضله تعالى إلى إدراك أهمية القرآن في حياتنا، وأُذكِّر نفسي وإياكم بقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهْوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ»، أَيْ تَفَقَّدُوهُ وَرَاعُوهُ بِالْمُحَافَظَةِ وَدَاوِمُوهُ بِالتِّلَاوَةِ، والتَّعَاهُدُ: الْمُحَافَظَةُ وَتَجْدِيدُ الْعَهْدِ،
أَيْ وَاظِبُوا عَلَى قِرَاءَتِهِ وَدَاوِمُوا عَلَى تَكْرَارِ دِرَاسَتِهِ لِئَلَّا يُنْسَى!
(أَشَدُّ تَفَصِّيًا) ، أَيْ فِرَارًا وَذَهَابًا وَتَخَلُّصًا وَخُرُوجًا (مِنَ الْإِبِلِ).[4]
وفي هذا الحديث، أيضًا -بالبحث والتدقيق-؛ نخرجُ بفهمِ معنًى هَـــامـَّــــًا ودقيق:
أنَّ القرآن ينساه من لا يتعاهده ويحافظ عليه!!،
ثمَّ نقف معًا عند هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى:
{قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} طه: 126
هذا وعيدٌ خاصٌ لمَن أعَرَضَ عن كتاب الله؛ فلم يُؤمن به ولم يتَّبِعَهُ، بل تناساهُ وأغفلَهُ وأعَرضَ عنه؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل،
أما نسيان لفظ القرآن -لمن آمن- مع فهمِ معناه والقيام بمُقتضَاه، فليس داخلًا في هذا الوعيد الخاص بالكافرين،
أنما وردت السنة بالنهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ما منْ امرئٍ يقرأُ القرآنَ ثمَّ ينساهُ إلَّا لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ أجذمَ. (5) » [6]
وقانا الله وإياكم من خزي يوم القيامة والشعور بالندم والندامة.
عباد الرحمن؛ وأما من تعاهدوا القرآن،
فقد قال فيهم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» [7]
أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُه.. هؤلاءِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآن
وبالبحث والتدقيق عن صفات أهل القرآن
نجد أن أهل القرآن لهم أخلاق تُميِّزهُم عن سائر الناس؛ أحرى بنا أن نعرفها ونسعى لاكتسابها
فالمُتأدِّب بآداب القرآن، والمُتخَلِّق بها:
يَحْيَىَ مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمَرِهِ , حَافِظًا لِلِسَانِهِ , مُمَيِّزًا لَكَلَامِهِ , إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا ,
وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا...
حَافِظًا لِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ.
هذه بعض صفات وأخلاق أهل القرآن التي بمعرفتها يتضح لنا أهمية القرآن في حياتنا، سعيًا منا ومسارعًة أن نحظى بمثل هذه الأخلاق.
والقــرآن العظيــم هو الـذِكْــــر -كما قال أهل التفسير-، وهو دليل المسلم إلى مرضاة الله تعالى وجنَّاته،
كما هو دليله إلى سعادته في دنياه وآخرته، فكيف يمكن أن يستغني عنه؟!!
ولأنَّنا مَا خُلقنَا في هذه الدُّنيَا إلَّا لعبادة الله وحده لا شريك له، ولأنَّ الحياةَ بغيرِ القرآن لا تُعدُّ حـيــــاة؛
فإنَّ القرآن لهُ الصَّـــدَارة في الأهمية لحياةِ المُسلم الذي فُرِض عليه تحقيق هذه العبادة لله ربِّ العالمين.
فواجب على كل مسلم أن يحيا حياته بالقرآن؛ تَعبُّــدًا به لله رب العالمين.
تَعَبُّــــدًا للهِ؛ بمعرفته سبحانه والعلم به بتوحيده جلَّ في عُلاه.
و تَعَبُّــــدًا للهِ؛ بفهم العقيدة الصحيحة التي تشوبها الشوائب في زمننا هذا.
و تَعَبُّــــدًا للهِ؛ بدوام تلاوته وتدارسه وفهمه وحفظه والصلاة بما يتيسر منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ بما معناه:
"تلاوة القرآن أفضل من الأذكار، والذكر أفضل من الدعاء..." [8]
و تَعَبُّــــدًا للهِ؛ بالفهم والتدبر، ودوام العمل به في جميع مناحي الحياة.
عذرًا على الإطالة..
لكنَّ الكلامَ لهُ شُجُون، والقَلبُ تَعَلقَّتْ بهِ الظُنون، مَغزَاهَا حُسنُ وخَيرُ الظُنون؛ باللهِ الغَفُورِ الرَّحِيم إذَا فَاجَئَنَا الْمَنُون.
فاللَّهُمَّ نرجوكَ ونتَوَسَّلُ إليك بأسمَائِك الحُسنَى؛ المَوتَ على طَاعة، ونسألُكَ حُسنُ الخَاتِمة، فاجَعَل بفَضلِكَ آخِرَ كَلامَنا في الدُنيا، لا إله إلا الله
اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ
اللَّهُمَّ اجْعلِ القُرْآنَ رَبيعَ قُلوبِنا ، ونُورَ صُدورِنا ، وجَلاءَ أحزَانِنا ، وذَهابَ هُمُومِنا
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِن أهْلِ القُرْآنَ، ونَسألُكَ برحمَتِكَ الفِرْدَوْس الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّة،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أسألكم الدعاء .. بارك الله فيكم وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
[1] ابن تيمية: مجموع الفتاوى (3/333)
(2) الْتَذَّ الشيءَ، و به: وجده لذيذا.
[3] الصفدية، لابن تيمية.
[4] مرقاة المفاتيح، كتاب فضائل القرآن، لعلي بن سلطان محمد القاري.
(5) أجْذَمُ: مُصَابٌ بِدَاءِ الجُذَامِ .. رَجُلٌ أَجْذَمُ: مَقْطُوعُ اليَدِ أَوْ أَطْرَافِ الأصَابِع.
....أجذمُ الحُجَّة: لا حُجَّة له ولا لسان يتكلّم به.
[6] حسنه الإمام السيوطي في الجامع الصغير-الصفحة أو الرقم: 8005
[7]صححه الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 179، والمعنى:
.....قوله (أهلين) بكسر اللام، جمع أهل،
.....قوله (هم أهل القرآن) أي: حفظة القرآن، يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار ويعملون به،
.....قوله (أهل الله) أي: أولياؤه المختصون به اختصاص أهل الإنسان به.
[8] مجموع الفتاوى (23/56-60). للإطلاع واستكمال الفائدة؛