أيها الأحبة الأجلاء :
هذه تذكرة لأولي الألباب وتسلية لكل محزون ومصاب ، تشرح صدره ، وتجلب صبره ، وتهون خطبه ،
وهي وقفات مع آي الكتاب العظيم ، وأحاديث المصطفى الكريم ، وتجوالٌ في سير عباد الله الصالحين ، ممن ألمت بهم
المصائب ، وحلت بهم الكوارث والفواجع ، فثبتوا وصبروا ، وحمدوا ربهم وشكروا ، فكانوا مضرب المثل في الرضا بمرِّ القضا ،
والصبر على ما كتب الله عليهم من عظيم البلا . إنها تسليةٌ لكل مكروب ومنكوب ، وعزاءٌ لمن حلت به مصيبة ، ونزلت به
فجيعة .
دعونا – أيها الإخوة والأخوات – نسير وإياكم في أفياء هذه الكلمات ، ونقف مع عبرها وآياتها وقفات ووقفات ، فلعل كلمة
منها تقع في قلب مكروب طال حزنه ، وغشيه من الهم ما غشيه ، فتسليه وتعزيه ، وتصبره وتثبته .
أيها الأخ المكروب ، أيها المحزون المهموم :
إني أعزيك لا أني على ثقة *** من الحياة ، ولكن سنة الديـن
فما المعزَّى بباقٍ بعد ميِّتـهِ *** ولا المعزِّي ، ولو عاشا إلى حينِ
فأسلم إليَّ قلبك – وفقك الله- ، وأنصت إلى هذا الحديث ، فلعل الله أن يجمع لك به بين سعادة الدنيا ونعيمِ الآخرة ، وما
ذلك على الله بعزيز .وتأمل معي هذه الوقفات ، ففيها آيات وعظات ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
الوقفة الأولى : الابتلاء سنة الله في خلقه .
هي سنة علينا وعلى من سبقنا ، ومن سيأتي بعدنا
{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } .
إن الدنيا – أخي – دار امتحان واختبار ، وأسقام وأكدار .
فالمرء رهن مصائب لا تنقضي *** حتى يوسَّد جسمه في رمسه
فمؤجلُ يلقى الردى في غيره *** ومعجل يلقى الردى في نفسه
== تذكر أخي المكروب أن هناك خلقاً غيرك ممن حلت بهم المصائب ، فلست وحدك في ساحة الابتلاء ؛ بل لا أبالغ إذا
قلت : إنه لا يوجد أحد إلا ولديه ما يُهِمُّه ويحزنه .
كل من لاقيت يشكو دهره *** ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
== إن الدار التي ليس فيها كدر ولا حزن ، هي الجنة جعلني الله وإياك من أهلها . نعم تلك المَحَلَّة التي يكون فيها النعيم
والسرور سرمدياً أبدياً ، لا يحول ولا يزول .
وأهلها في فرح دائم ، ومتعة باقية
{ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }
فاصبر وصابر لها واحصد ما استطعت
من الحسنات فلعلك أن تظفر بها وتكون من أهلها .
== إن هذه الدنيا أيها الحبيب مليئة بالهموم والأكدار
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "إن لكل فرحة ترحة ، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء ترحا" وقال ابن سيرين : "ما
ضحكٌ إلا كان بعده بكاء ".
الوقفة الثانية : سبب المصيبة
إن المصيبة حين تحل بالعبد فلابدَّ أن يكون لنزولها سب ، وهذا السببُ في غالب الأمر لأجل ما كان من العبد من معصية
اجترحتها يداه ، أو تفريطٍ في طاعة مولاه .
قال تعالى :
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
، وقال سبحانه :
{ أو لما أصابتكم مصيبة قد
أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } 0
== وروى الطبري وصححه الألباني عن البراء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما اختلج عرقُ
(أي اضطرب ولا تحرك عرق) ولا عينُ إلا بذنب ، وما يدفع الله أكثر " 0
== قال ابن سيرين – رحمه الله – " إني لأعلم الذنب الذي حرمت به قيام الليل أربعة أشهر ذاك ني قلت لرجل : يا مفلس
" !! قال أبو سليمان الداراني : " قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين أوتوا وكثرت ذنوبناً فلم ندر من أين نؤتى " والله المستعان
.
== وسار أحد العلماء ومعه أحد طلابه فمرَّت امرأة فأطلق الطالب بصره فيها ، فقال الشيخ : " والله لتجدنَّ غبها ولو بعد
حين " فنسيَ القرآن بعد أربعين سنة ، وقد كان حافظاً له . نعوذ بالله من سخطه وعقابه 0
الوقفة الثالثة : من أسرار الابتلاء وحكمه
ذكر ابن القيم – رحمه الله – بعضها في إغاثة اللهفان : ومنها : حصول الإخلاص في الدعاء ، وصدق الإنابة إلى الله ،
والالتجاء وشدة التضرع بمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ...}
ومن فوائد الابتلاء : تمحيص الذنوب والسيئات ، وبلوغ الدرجات العلية في الجنات "إلى آخر ما ذكر رحمه الله .
== روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل يقال له : معاذ الكبير . أصابته مصيبة ، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات وكسر
الأواني . فسمعه حاتم فذهب إلى تعزيته مع تلامذته ، وأمر تلميذاً له . فقال : إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى
:
{ إن
الإنسان لربه لكنود }
فسأله فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال . فسأله ثانيا ، وثالثا . فقال : معناه أن الإنسان لكفور ،
عداد للمصائب ، نساء للنعم ، مثل معاذ هذا ، ان الله تعالى متعه بالنعم خمسين سنة ، فلم يجمع الناس عليها شاكراً
لله عز وجل . فلما أصابته مصيبة جمع الناس يشكو من الله تعالى ؟!!
فقال معاذ : بلى ، إن معاذاً لكنود عداد للمصائب نساء للنعم . فأمر بإخراج النائحات وتاب عن ذلك .
الوقفة الرابعة : إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا
إنا لله ... وأولئك هم المهتدون}
قال صلى الله عليه وسلم : " ما رُزِقَ عبدُ عطاء خيراً له ولا أوسعَ من الصبر " رواه الحاكم وصححه الألباني
أما مصيبة المرض ، فإن الله جعلها تذكرة وتنبيهاً للمؤمن ، ليعود إلى ربَّه ، وتنكسرَ نفسُه بين يديه جل وعلا . وقد جعل
الله الأجور الوفيرة لمن صبر على مرضه الذي نزل به .
== والمرض إما أن يكون حسياً عضوياً ، أو يكونَ مرضاً نفسياً ، والأمراض في كلَّ منهما تتفاوتُ درجاتُها ، ولكنْ على قدر
المشقة والألم يكون الأجر والجزاء .
فإذا حلَّ بك مرض – صغيراً أو كبيراً – فاصبر عليه صبر الراضي بقضاء الله وقدره ،
وتذكر ما أعده الله للصابرين على ما أصابهم من الأمراض والأوجاع ، ومن ذلك مثلا :
• ما رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ
نَصَبٍ ( تعب ) وَلَا وَصَبٍ ( مرض ) وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ " وفي
هذا الحديث دلالة على أن المرض النفسي كالبدني في تكفير السيئات .
• في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه)ِ بَلَغَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا " .
• في صحيح مسلم عن جَابِر بن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ
مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ قَالَتْ الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي
آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد "
== والمرض خير للإنسان ، وعلامة من علامات الإيمان ، وأما من لم يصب بالمرض ولا بشيء من الأسقام فذاك نذير خطر
، وعلامة شر .
• جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ
الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ
مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ " .
== وفي كتاب الزهد لهنّاد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضِهم قلبا ،
وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا ، وأمرضهم جسما ، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على
الله من الجعلان " .