من هديه صلى الله عليه وسلم فى خطبة الجمعة
قوله : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب احمرت عيناه و علا صوته و اشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم و مساكم )ويقول : (بعثت أنا و الساعة كهاتين) و يقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله , و خير الهدي هدي محمد , و شر الأمور محدثاتها , و كل بدعة ضلالة ), ثم يقول : (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه , من ترك مالا فلأهله , ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي و علي ) في هذا الحديث جمل من الفوائد ومهمات من القواعد , فالضمير في ــ قوله : ( يقول صبحكم ومساكم ) عائد على منذر جيش .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت أنا و الساعة )
أي بنصبها ورفعها , و المشهور نصبها على المفعول
و قوله : ( السبابة ) سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب . و قوله : ( خير الهدي هدي محمد ) قال العلماء : لفظ الهدي له معنيان أحدهما : بمعنى الدلالة والإرشاد , وهو الذي يضاف إلى الرسل و القرآن و العباد , و قال الله تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) , ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين ) و منه قوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم ) أي بينا لهم الطريق , و منه قوله تعالى : ( إنا هديناه السبيل) و (هديناه النجدين )
الثاني : بمعنى اللطف و التوفيق و العصمة و التأييد , و هو الذي تفرد الله به , و منه قوله تعالى : (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) .و قال أهل الحق من مثبتي القدر لله تعالى بقوله تعالى : ( والله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ففرق بين الدعاء والهداية .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( و كل بدعة ضلالة )
هذا عام مخصوص , و المراد غالب البدع . قال أهل اللغة : هي كل شيء عمل على غير مثال سابق .
قال العلماء : البدعة خمسة أقسام : واجبة , ومندوبة ومحرمة , و مكروهة , و مباحة . فمن الواجبة : نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة و المبتدعين وشبه ذلك . و من المندوبة : تصنيف كتب العلم , و بناء المدارس و من المباح : التبسط في ألوان الأطعمة و غير ذلك . و الحرام و المكروه ظاهران . ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح : نعمت البدعة , ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا . قوله : ( كل بدعة ) مؤكدا ( بكل ) , بل يدخله التخصيص مع ذلك , كقوله تعالى : ( تدمر كل شيء )
قوله صلى الله عليه و سلم : ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه )
هو موافق لقول الله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) أي أحق , قال أصحابنا : فكأن النبي صلى الله عليه و سلم إذا اضطر إلى طعام غيره و هو مضطر إليه لنفسه كان للنبي صلى الله عليه و سلم أخذه من مالكه المضطر , و وجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم قالوا : و لكن هذا و إن كان جائزا فما وقع ؟
قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي )
هذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ) . قال أهل اللغة : الضياع - بفتح الضاد - العيال قال أصحابنا : و كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يصلي على من مات و عليه دين لم يخلف به وفاء ; لئلا يتساهل الناس في الاستدانة و يهملوا الوفاء , فزجرهم على ذلك بترك الصلاة عليهم , فلما فتح الله على المسلمين مبادي الفتوح قال صلى الله عليه وسلم : ( من ترك دينا فعلي ) أي قضاؤه فكان يقضيه ؟ و اختلف أصحابنا : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه قضاء ذلك الدين أم كان يقضيه تكرما ؟ و الأصح عندهم أنه كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم . واختلف أصحابنا هل هذه من الخصائص أم لا ؟ فقال بعضهم : هو من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا يلزم الإمام أن يقضي من بيت المال دين من مات وعليه دين إذا لم يخلف وفاء , وكان في بيت المال سعة , ولم يكن هناك أهم منه .
قوله: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) قال القاضي : يحتمل أنه تمثيل لمقاربتها , وأنه ليس بينهما إصبع أخرى كما أنه لا نبي بينه و بين الساعة , و يحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة وأن التفاوت بينهما كنسبة التفاوت بين الإصبعين تقريبا لا تحديدا .
قوله : ( إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش ) يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة , و يرفع صوته , ويجزل كلامه , و يكون مطابقا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب . و لعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرا عظيما و تحديده خطبا جسيما .