انتهاء عصر الدولة الإسلامية في الأندلس
كان مقتل موسى بن أبي غسّان وتسليم ابن الأحمر الصغير غرناطة إيذانا بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في مملكة غرناطة.
أعطى أبو عبد الله محمد الصغير الموافقة بالتسليم للملكين فرناندو الثالث وإيزابيلا، ولم ينس أن يرسل إليهما بعضا من الهدايا الخاصة، وفي خيلاء يدخل الملكان قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس.
وفي نكسة كبيرة وذل وصغار يخرج أبو عبد الله بن محمد بن الأحمر الصغير من القصر الملكي، ويسير بعيدا في اتجاه المغرب، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه وإلى ذاك المجد الذي قد ولّى، وبحزن وأسى قد تبدّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه عائشة الحرة: أجل، فلتبك كالنساء مُلْكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل الذي وقف عليه أبو عبد الله بن محمد الصغير ما زال موجودا في أسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأملون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكا عظيما كان قد أسسه الأجداد، ويعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه.
وقد تم ذلك في الثاني من شهر ربيع الأول، لسنة سبع وتسعين وثمانمائة من الهجرة، الموافق الثاني من يناير، لسنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وألف من الميلاد.
وقد هاجر بعدها أبو عبد الله بن محمد الصغير إلى بلاد المغرب، وهناك اعتقله ملكها بتهمة الخيانة لبلاد المسلمين، ثم وضعه في سجنه، وكما يقول المؤرخون فقد شوهد أولاده (أولاد أبي عبد الله بن محمد الصغير) بعد ذلك بسنوات وسنوات يشحذون في شوارع المغرب.
فلعنة الله على هذا الذُلّ، ولعنة الله على هذا التَرْك للجهاد اللذَيْن يوصلان إلى هذا المثوى وتلك المنزلة.
وما كان من أمر، فقد اندثرت حضارة ما عرفت أوروبا مثلها من قبل، إنها حضارة الدنيا والدين، وقد انطوت صفحة عريضة خسر العالم أجمع بسببها الكثير والكثير، وقد ارتفع علم النصرانية فوق صرح الإسلام المغلوب، وأفل وإلى الآن نجم دولة الإسلام في بلاد الأندلس.
وليت شعري، أين موسى بن نصير؟ أين طارق بن زياد؟ أين يوسف بن تاشفين؟ أين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر؟ أين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ أين يعقوب المنصور المُوَحدي؟ أين يعقوب المنصور الماريني؟ أين كل هؤلاء؟ غابوا وانقطعت آثارهم وإمداداتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
النصارى في غرناطة.. لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة
كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها، وبعد أن ترك أبو عبد الله بن محمد الصغير البلاد، لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكّروا لكلامهم، وأغفلوا شروطهم السبعين، وقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم، وكان ذلك مصداق قوله تعالى: [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] {التوبة:8} .
وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة إحدى وخمسمائة وألف من الميلاد أصدر الملكان فرناندو الثالث وإيزابيلا أمرا كان خلاصته أن الله قد اختارهما لتخليص الأندلس من الكفرة (يقصدان المسلمين)، ولذلك يحظر وجود المسلمين في بلاد الأندلس، ويعاقب من يخالف ذلك بالقتل.
ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور، كان منها:
أولا: التهجير
هجر المسلمون بلاد الأندلس بالكلية، هجروها إلى بلاد المغرب والجزائر، وإلى تونس وغيرها من بلاد المسلمين.
ثانيا: التنصير
ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الأسبان، تَنَصّر من المسلمين آخرون، وهؤلاء لم يرتض لهم النصارى الأسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمّوهم بالمُورِسْكِيين احتقارا لهم وتصغيرا من شأنهم، فلم يكن المُورِسْكِي نصرانيا من الدرجة الأولى، لكنه كان تصغيرا لهذا النصراني الأصيل.
ثالثا: محاكم التفتيش
لم يقف الأمر عند حد التهجير والتنصير، وإنما تلى ذلك أن قام رئيس الأساقفة الأسباني كان يُدعى كِنِّيس وكان صليبيا حاقدا قام بحرق ثمانين ألف كتاب إسلامي من مكتبة قرطبة وأشبيلية وغرناطة في يوم واحد.
وهو نفسه الذي قام بعد ذلك بما سُمّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام، فكانوا إذا وجدوا رجلا يدّعي النصرانية ويخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفا، أو يجدوه يصلي، أو كان لا يشرب خمرا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيا، وأيضا أحواض يقيّد فيها الرجل ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت.
كانوا أيضا يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.
كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا أسبانيا بعد ذلك، وقد صوروها في كتاباتهم، وعبروا عن شناعتها بأنهم كانوا يصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذّب بها بشر، وقد كان يُعذّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.