فنون روسيا و سحر الواقعية
لروسيا تراث كبير من الفن التشكيلي, ولكنه تراث مليء بالهواجس والتقلبات. بدءاً من هاجس الالتحاق بالغرب إلى الذوبان في تيار الواقعية الاشتراكية.
رغم أن روسيا هي أكبر الأمم الأوربية قاطبة, فقد بقيت متخلفة عن اللحاق بركب التطور الأوربي الغربي قرونا عدة, ويجمع المؤرخون على أن مرحلة القيصر بطرس الأكبر (1682-1725) هي البداية الفعلية لانفتاح روسيا على العالم الأوربي, وانخراطها في حركة التطور والإصلاح, فقد دخل بطرس الأكبر التاريخ بوصفه مصلحاً عظيماً, إذ تمّ في عهده إنشاء أول جيش, وأول أسطول نظاميين, وتطوير صناعتي تشغيل الحديد وصهر النحاس في الأورال, وتعديل لغة الكتابة, وتغيير التقويم, وإصدار أول صحيفة في روسيا, وتأسيس أكاديمية العلوم, وافتتاح جملة من المدارس والمعاهد المختلفة.
وينسب إلى بطرس الأكبر جملة من الأعمال المهمة في إطار تطوير الثقافة والفنون, فهو الذي بنى مدينة سان بطرسبورج على ضفاف نهر النيفا, وازدحمت قصورها بلوحات الفنانين الذين قصدوها من مختلف أرجاء أوربا, ويُروى أن بطرس الأكبر كان يستأجر لصوصاً محترفين لسرقة الأعمال الفنية, والقطع الأثرية النادرة من مختلف مناطق أوربا والمشرق حينما كان يعجز عن اقتنائها بوسائط أخرى, ولكن الثمار الفعلية لما غرسه بطرس الأكبر نضجت في عهد كاترينا الثانية التي أرادت أن تتابع مسيرة بطرس في البناء والإصلاح.
وعلى الرغم من وفرة الأعمال التشكيلية الروسية التي ترجع إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, فلا تزال تنزوي خارج الدائرة المعرفية العامة في مناطق مختلفة من العالم (غير السلافي), ولا يقف عندها تاريخ الفن المتاح للقارئ العربي غير المتخصص, وكأنها لم تكن موجودة قبل مطلع القرن العشرين, حين ارتبط ظهور المدرسة التجريدية باسم الروسي كاندينسكي, وهناك من يرجع أسباب انزواء الفن التشكيلي الروسي خلال القرنين المشار إليهما في الظلال إلى فقر التجربة التشكيلية الروسية بالمبدعين الأفذاذ الذين تتمتع أعمالهم بملامحها الذاتية الفارقة, وإلى فقر التجربة التشكيلية الروسية بالتنوع الأسلوبي, فكان الجميع - وفق هذا الرأي - يرسم مثل الجميع, واللوحة الواحدة رغم كل ما فيها من إتقان ندر مثيله لم تكن تستطيع أن تبرز في ثناياها شخصية الفنان الفرد, فكان في روسيا أسلوب روسي, ولم يكن هناك فنانون روس مميزون. ولكن يجب ألاّ يغيب عن الأذهان أن مصادرنا العربية لتاريخ الفن هي مصادر أوربية غربية على وجه العموم, فما لم يحفل به علماء الجمال والنقاد التشكيليون في غرب أوربا بدا أنه الأقل قيمة, أو بدا غير موجود, وفاقم هذه المسألة أن المرحلة السوفييتية في تاريخ روسيا سعت صراحة إلى التقليل من شأن ما كان قبلها.
كانت الانطلاقات الأولى للرسم الروسي من خلال الموضوعات الدينية, ورسم صور الشخصيات المشهورة في الكتاب المقدس, والصور النصفية للملائكة والقدّيسين, حيث كان ذلك استمراراً للفن البيزنطي الذي مازه رسم الصور النصفية, وتعمّد الابتعاد عن فكرة التجسيم, وإغفال البعد الثالث, فكان ذلك أساسا لفن الأيقونة الروسي الذي تسرّبت إليه تأثيرات مغولية أثناء الغزو التتري والمغولي لروسيا, مع التذكير بأن الأيقونة الروسية تحتل مكانة مرموقة على الصعيد العالمي, لا يضاهيها في ذلك فن أي شعب آخر.
توزّعت موضوعات الفن التشكيلي الروسي على مثيلاتها في تاريخ الفن الأوربي, فيحتلّ رسم الصور الشخصية للنبلاء وذوي النفوذ ورجال البلاط مساحة كبيرة, بالإضافة إلى رسم الموضوعات التقليدية المستوحاة من الكتاب المقدس, وكذلك تصوير وقائع الأحداث الكبرى في تاريخ روسيا, والمعارك ووقائع الانتفاضات والحركات الشعبية ضد الاستبداد القيصري, كانتفاضة الديسمبريين, وعمليات اعتقال المعارضين, ومحاكماتهم, وعمليات الإعدام, كما في لوحة (الإضراب) لنيقولاي كاساتين, ولوحة (اعتقال مروّج الدعاية) لإيليا ريبين, على سبيل المثال.
هاجس اللحاق بالغرب
ظل هاجس اللحاق بالغرب الأوربي ماثلاً في أذهان النخب الروسية على مختلف المستويات والأصعدة, ولم يغب هذا الهاجس عن مجمل الأدبيات والطروحات النظرية التي أنتجتها الحركات الثورية الروسية, بما في ذلك الثورة البلشفية الكبرى عام (1917), ولكن ذلك لم يمنع الفن الروسي من أن يختط لنفسه نهجاً خاصّاً, يحافظ على خصوصيته من غير أن يعزله عمّا يجري في العالم الأوربي المتقدّم. وقد برز في هذا الصدد تيّاران: (الأول: قومي أصولي مسيحي, يعتبر أن التحديث كان يجب أن يتم دون قطيعة مع التراث الروسي القديم, حفاظاً على روسيا (الشرق - غربية), والثاني: علماني منفتح شمولي يرى في الأوربة التي سعى إليها بطرس الأكبر إنقاذاً لروسيا من التخلّف عن الركب الحضاري العالمي).
وقد تجلّت الخصوصية الروسية في معظم التيارات والمذاهب الفنية, فالرومانسية الروسية استغرقها شغف خاص بالمنظر الطبيعي الساحر الذي تنطوي عليه سهول روسيا ذات الاتساع المذهل, كما في أعمال الأكاديمي والفنان الروسي الكبير نستروف الذي وُصف المنظر الطبيعي لديه بأنه (يمسّ قلب كلّ من لديه قلب). بالإضافة إلى انحياز الرومانسيين الروس إلى الموضوعات المستمدّة من واقع الحياة البائسة المشقية التي عاشها القطاع الأعظم من الشعب الروسي, ونجد ذلك حتى في اللوحات ذات الموضوع الديني, كما في لوحة (تجلّي المسيح للشعب) لإيفانوف, التي تضم حشداً كبيراً من الفقراء البائسين الذين يشغلون النسبة العظمى من مساحة اللوحة, بينما لم يترك الفنان لتجلّي المسيح سوى مساحة شديدة الضآلة, بحيث صار الحشد البشري البائس هو الموضوع الأساس في اللوحة. وكما نجد أيضاً لدى كيبرنسكي الذي انصرف عن رسم الصور ذات الطابع الكلاسيكي الجليل (إلى تكوينات مختلفة للمسيح محاطاً بأطفال, وإلى رسم رءوس حلوة لفلاحات وغجريات صغيرات غرزن في شعورهن ورداً).
والانطباعيون الروس ميّزهم عن الانطباعيين الفرنسيين (ميلهم للمؤثّرات الريفية, وخاصّة مناظر الريف الروسي بسهوله الرحبة وغاباته الكثيفة). وحتّى كاندينسكي الذي يعدّ المؤسس الأبرز للمدرسة التجريدية, على الصعيد العالمي, استمالته الأشكال البدائية للفن الشعبي الروسي, وكانت منطلقه في طمس البعد الثالث, وتحطيم الصلات الشكلية مع عناصر الواقع, أو الإيحاء بكل ما له صلة بالشكل الواقعي.
تأثير التيارات الفرنسية
حظيت الثقافة الفرنسية بمكانة مرموقة في روسيا القيصرية, لم تبلغها أي ثقافة أوربية أخرى, فقد كان تعلّم الفرنسية ملمحاً بارزاً في حياة الأرستقراطية الروسية, وتبلغ التأثيرات الفرنسية فيما يسمّى الفن الطليعي الروسي, أو المدرسة الشكلانية الروسية (الأفنغارد) ذروة مهمة في مطلع القرن العشرين, وتعدّ (جماعة علم الفن في بطرسبورج همزة الوصل بين روسيا وفرنسا), وكان من أنشطتها إقامة معرض الصالون الخريفي عام 1906, الذي ضم (750) عملاً فنياً فرنسياً وروسياً. ولم تقتصر العلاقة التشكيلية مع فرنسا على نشاط هذه الجماعة, بل تجاوزه إلى آفاق أخرى يتصدّرها قدوم الفنانين الروس إلى فرنسا للدراسة, ودور بعض جامعي اللوحات الروس, ورحلة ماتيس إلى روسيا, ثم المعارض التي أقامتها جماعة الوردة الزرقاء بين عامي (1907 و1909).
وترى د.زينات بيطار أن الطليعيين الروس لم يكتفوا بتلقّي التأثيرات الفرنسية, وإنما كانت التأثيرات متبادلة (إذ بدأت الطليعة الروسية استقلالها منذ عام 1913, وبدأت تفرض نفسها على الوسط الفرنسي, حين أصدر لاريونف كتابه (الشعاعية) مع غنشاروفا, وماليفتش). مع الإشارة إلى أن الحركة الطليعية الروسية في مطلع القرن العشرين توزّعتها تيارات واتجاهات مختلفة, فكان هناك التكعيبيون أمثال أكستر, والشكلانيون أمثال فربل, وسيروف, وباريسوف, وموساتوف, والرمزيون من جماعة الوردة الزرقاء أمثال كوزنتسوف, وبتروف - فودكين, والتجريديون أمثال كاندينسكي, وماليفتش, وتاثلين, والواقعيون أمثال ماليافين, وشيبتسوف, وبافل كورين, وغيرهم.
الواقعية الاشتراكية
يرى بعض النقاد أن مصطلح (الواقعية) هو من أكثر المصطلحات النقدية تضليلاً بسبب استعصائه على الضبط والتحديد المفهومي, وضرورة استتباعه بتقييدات مختلفة قارب عددها الثلاثين في (معجم مصطلحات الأدب) لمجدي وهبة, ك(الواقعية الطبيعية, والانتقادية, والسحرية, والاشتراكية,.. إلخ) ويكمن جوهر مفهوم (الواقعية الاشتراكية) في جعل فكرة (الاشتراكية) غاية يجب أن يستهدفها أي عمل فني جدير بالانضواء تحت عنوان (الواقعية الاشتراكية) بحيث يؤدّي ذلك إلى جعل وظيفة العمل الفني تحتلّ موقع الصدارة بدلاً من طبيعته.
ومع سيطرة الستالينية في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته, سيطر التبسيط والتسطّح على مجمل مناحي الحياة الثقافية الروسية, وأصبح ما أطلق عليه (الالتزام بقضايا البروليتاريا) هو المعيار المعتمد رسمياً لقبول الأعمال الفنية, وتمكينها من التمتّع برعاية الدولة, وفرص العرض والانتشار, وهذا ما أدّى إلى أن تقبع الاتجاهات التحديثية الروسية في الفن التشكيلي عدّة عقود في الظلال, مقابل تطوّر ملحوظ لفن الإعلان السياسي الذي بلغ شأواً مميّزاً في فترة الحرب العالمية الثانية, وفترة ما سمّي بالحرب الباردة, بالإضافة إلى النجاحات الخاصّة التي أحرزها الفنانون السوفييت في تصميم (الميدالية) وتميّزهم بإشادة التماثيل والنصب التذكارية ذات القياسات الضخمة, وأعمال الحفر الجداري بشقّيه الغائر والنافر.
أما الاتجاه الواقعي, فكان قد ماز التجربة التشكيلية الروسية منذ بواكيرها الأولى, سواء كانت تلك الواقعية موظّفة في خدمة التوجّهات السياسية الرسمية للدولة السوفييتية, أم كانت إخلاصاً فنّياً مارسه الفنان على قماش اللوحة وفق رؤاه الجمالية وقناعاته الفكرية, فالفنان الروسي ماليافين أبدع أعماله قبل وصول البلاشفة إلى الحكم, وقد كانت الحياة الفلاحية الروسية موضوعه الأثير, إذ رسم حشداً من صور الفلاحات الروسيات بوجوههنّ الطافحة (السمينة) وعيونهنّ الضيّقة, وثيابهنّ الطويلة بألوانها القوية الحمراء والخضراء, والخاضعة لما يسمّى بالذوق الفلاّحي, ومع ذلك استطاع من خلال هذا الذوق الفلاحي أن ينشئ مهرجاناً فذّاً من البذخ اللوني, والحفاوة الاستثنائية يجعل الألوان تقيم تجادلاتها الحادة فيما بينها, من أجل تحريك المشهد, وضخّ كميّة كبيرة من البهجة والفرح والمشاعر القوية في جميع أرجاء اللوحة.
ولم تتراجع الحرفية التشكيلية للفن الواقعي بكل اتجاهاته في ظلّ الستالينية, رغم التوجيهات الصارمة بضرورة الالتزام بقضايا الجماهير والقضية الوطنية العظمى في مواجهة الاجتياح النازي للاتحاد السوفييتي. ورغم ما تتمتع به الاتجاهات التحديثية على الصعيد العالمي من غواية خاصة, وجاذبية عالية باتجاه التجريب والتحديث الذي لا يقف عند أي حدّ, يظل للواقعية سحرها الخاص, وقدرتها على الفعل الجمالي, والتأثير العالي في المتلقّي, من غير أن يغيب عن الأذهان اتهامها بأنها صارت تكتفي بفعل ما تفعله آلة التصوير من محاكاة سلبية للواقع, وأنّ موضوعات البؤس البشري, وحياة الطبقات الفقيرة التي درجت الواقعية الاشتراكية على تناولها موضوعات تخلو من المناحي الجمالية, وتعجز عن طرح القيم الفنية المهمة.
ويمكن أن نجد في لوحة الفنان السوفييتي ألكسندر لاكيتوف (رسالة من الجبهة) قدراً من دحض هذه الاتهامات, فقد عالج الفنان القضيتين الوطنية والاجتماعية في هذه اللوحة, جاعلا من تدفق ضوء الصباح إلى شرفة المنزل الريفي وأرضيته الخشبية المتشققة المهترئة تجسيدا رفيع المستوى لأخبار الانتصارات التي أرسلها من الجبهة جندي محتفظ بحياته مع جندي جريح لأسرة الجندي الذي مازال في جبهة القتال, وتتحلق الأسرة حول طفل يقرأ الرسالة بجديّة طفولية عالية, لم تستطع أن تكبح ملامح الحماس والابتهاج على وجهه المغمور بالضوء, وفي الجهة المقابلة له تقف شقيقته الصغرى في ثياب المدرسة, وإلى يمينه شقيقته الكبرى تتابع ما يقرأ, متّكئة على حاجز الشرفة الذي ذهبت منه بعض عوارضه الخشبية, وكأنها تنتظر فراغ شقيقها من قراءة الرسالة لتذهب إلى عملها, والأم التي تحتل الحيّز الأكبر من اللوحة تتكئ على صدغ الباب وهي في ثياب المنزل البسيطة, تحمل في يدها ظرف الرسالة الفارغ ونظّارتها الطبية, حيث بدت أنها انتهت منذ لحظة من قراءة الرسالة, ثم أعطتها إلى ابنها ليقرأها بصوت مسموع للآخرين.
ويحسن التنويه بالتفات الفنان إلى تفاصيل مهمة على المستويين الفني والفكري, فإظهار حالة الفقر تعني أن الفقراء, أو الأكثر فقراً هم الذين كانوا وقود الحرب الوطنية العظمى التي ذهب ضحيتها أكثر من عشرين مليون نسمة من الاتحاد السوفييتي وحده, ولم يغفل الفنان عن أن تنتمي لوحته إلى التراث التشكيلي الروسي العريق في إطار الحفاوة المذهلة بدقائق التفاصيل, فالجندي الجريح ذو قسمات حادة, ووجه حليق تكاد تظهر على خده آثار الحلاقة وهو ينفث دخان التبغ, وعلى ثيابه العسكرية بعض الأوسمة, والطفلة تظهر منها أدق تفاصيل ملابسها وزينتها وطريقة تسريح شعرها رغم وقوفها عكس اتجاه الآخرين وفي الظل الكامل, والوالدة تظهر عروق قدمها اليسرى, ووجهها يطفح بالبشر والبهجة, ورغم أن الوجه شبه مخفيّ, بسبب وضعية وقوفها والتفاتتها إلى ابنها, فقد تمكن الفنان من استنطاق كمية البهجة التي ارتسمت عليه, فزوجها كان لا يزال محتفظا بحياته في تلك الحرب التي لم ينجُ من رحاها إلا القليل.
لم تستطع عناصر التسطيح الفكري والسذاجة الجمالية, والرقابة الصارمة في المرحلة الستالينية أن تدحر روح الإبداع والتألّق الجمالي لدى الفنانين التشكيليين الكبار, مع ضرورة الاعتراف بعبء تناول التجربة التشكيلية الروسية عبر هذه العجالة التي تقتضيها محدودية الحيز المتاح, ولكن حسبنا أننا نسعى إلى محاولة لفت الانتباه.