مشروع عربي يغتاله التدخل الأجنبي آخر تحديث:الاثنين ,22/02/2010
عبد الاله بلقزيز
ليس شأناً في باب التفكير المسكون بفكرة المؤامرة أن يميل الوعي القومي إلى تفسير نكبة المشروع القومي العربي المعاصر بالأثر التدميري الذي كان للاستعمار والقوى الامبريالية في مواجهته، وإنما السقوطُ في فكرة المؤامرة يكون، بالتعريف، حينما يركن الوعي ذاك إلى تفسيرها بالعامل الخارجي وحده وينجح لتعليق نكباتنا وهزائمنا وإخفاقاتنا كافة على شمَّاعة خارج يتربَّصُ بنا الشرّ . وإذا ما تركنا جانباً هذا الجنوح - الذي ازدهر فعلاً في الوعي القومي - ونظرنا إلى حالة النكبة التي مني بها ذلك المشروع من مدخل التساؤل عمّا كان للعامل الخارجي (الاستعماري) من أثرٍ في ذلك، لوجدنا أمامنا فعلاً طائفةً من الشواهد على ذلك الأثر السلبي تشهد للرواية القومية عن دوره التدميري بالصحَّة أو بالوجاهة . وسواءٌ تَعَلّق الأمر بتجربة التوحيد الأولي في عهد محمد علي، أو بالتجربة الثانية في العهد الناصري، فإن النتيجة سواء: انهيار المشروع أمام التدخّل الاستعماري المعادي .
وكان في وُسْع القوميين، ولا يزال، أن يضيفوا إلى قائمة العوامل الخارجية المعادية لتجارب التوحيد القومي عاملاً جديداً طرأ على مشهد السياسة في المنطقة منذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين هو العامل الصهيوني . فلقد كان قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين، في حدِّ ذاته، حجراً أساساً في مشروع اسقاط التواصل الجغرافي بين الإقليمين الإفريقي والآسيوي من الوطن العربي . ومن هذا الموقع المُغْتَصَب، بقوة السّلاح والتآمُر الاستعماريّ، أطلقت الدولةُ الصهيونية حروبها التي لم تتوقف ضدّ كل مظهر من مظاهر التوحيد العربي أو ما يقود إليه من إنجازات أو مكتسبات في ميادين التنمية والأمن الوطني والقومي والديمقراطية . كانت حروبها على التيار القومي معلنَةً وشرسةً في العامين 1956 و،1967 وبصماتُها التخريبية للوحدة المصرية السورية ظاهرة للعيان، وتفجيرُها للوحدة الوطنية وللكيانات السياسية العربية القائمة جارٍ على قدمٍ وساق، من طريق هندستها للحروب الأهلية في لبنان والسودان والعراق وفلسطين الضفة وغزة، ومن طريق رعايتها لمشاريع التقسيم والفَدْرلَة والكانتونات في لبنان ولحركات الانفصال في كردستان العراق وجنوب السودان، وتدميرُها لمشاريع التنمية الصناعية في البلاد العربية متواصلاً منذ “حرب السويس” (1956) إلى ضرب البرنامج العلميّ السوري في مجال الطاقة الذّريّة (2008)، مروراً بتدمير “مفاعل تمّوز” النووي العراقي (1981) واغتيال العلماء العراقيين بعد الغزو الأمريكي للعراق (2003) والتهديد الإجراميّ بتدمير السدّ العالي في مصر، ثم كان ضيقُها بمساحات الحرية والديمقراطية القليلة، والشاذة في البَيْداء السياسية العربية القاحلة، واضحاً في هندسة الحروب الطائفية في لبنان .
أَوَّلُ تلك العناوين استعماريّ . فلقد كان التدخُّل الأجنبيّ العنيف لضرب وتدمير محاولات النهضة والتوحيد، في تاريخنا العربيّ الحديث والمعاصر، شديدَ الصِّلة بسعْي القوى الأجنبية في استعمار البلاد العربية، وإدراكِها العميق بأن أيَّ نجاحٍ تُحْرِزُهُ تلك المحاولات في مضمار الإصلاح والنهضة والوحدة سيضع في حوزة البلاد العربية موارد قوَّةٍ دفاعية و بالتالي سيقطع على الدول الاستعمارية طريقَ الوصول إلى هدف السيطرة عليها . ذلك ما يفسِّر لماذا كان الانقضاض البريطاني الفرنسي الاستعماريّ على تجربة النهضة والتوحيد في مصر محمد عليّ وإبراهيم باشا، ولماذا كان ردّ بريطانيا على “الثورة العربية” أثناء الحرب العالمية الأولى معاهدة “سايكس بيكو” و”وعد بلفور” . كان لا بدّ للاستعمار كي ينجح، في التحاليْف، من أن يَمُرَّ على جسدِ ذلك المشروع .
وثاني تلك العناوين جيو ستراتيجي . ذلك أن حُلُمَ السيطرة على المنطقة العربية لأهداف استراتيجية راودَ الامبراطوريات الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر وتَمَظْهر في صورةِ هاجسيْن متلازمين: أمنيّ عسكريّ، وأمنّي اقتصادي . أولهما، في القرن التاسع عشر، كان إخراج النفوذ العثماني من المنطقة العربية وقطع الطريق على التطلّع القيصري الروسي إلى بعض أطرافها . وتزايدت حدّتُهُ في القرن العشرين بعد ميلاد الاتحاد السوفيتي وتزايد “الخطر الشيوعي” والحاجة إلى تطويقه من الجنوب (المشرق العربي والخليج) . وثانيهما السَّعي الاستعماري الحثيث في تأمين طرق التجارة الدولية والسيطرة على مداخلها ومفاصلها، وخاصةً مع شرق آسيا، وهو ما كان في أساس شق قناة السويس والسيطرة على مصر . وكما اقتضى ذلك في الماضي الاستعمارَ المباشر، اقتضى في النصف الثاني من القرن العشرين زَرْع البلاد العربية بالقواعد العسكرية الأجنبية، والعدوان على مصر في 1956 للردّ على تأميم جمال عبدالناصر “شركة قناة السويس”، و قبل ذلك زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية لحماية المصالح الاستراتيجية الامبريالية .
أمّا ثالث تلك العناوين، فاقتصادي: السيطرة على منابع الثروة النِّفْطية في الوطن العربيّ وفي إقليم الخليج العربيّ بخاصة .
،،، حين يضع الخطابُ القوميّ العربيّ كلّ هذه اللوحة من المعطيات والوقائع تحت بصره، يَحِقّ له أن يفترض من دون تردُّد أن الكثير ممَّا أصاب المشروع الوحدويّ والنهضويّ العربيّ من نكسات وإخفاقات إنما كان بسبب الدور الاستعماري والصهيونيّ التخريبيّ المعادي الذي استَعْمَل في تخريبه الوسائل كافة بما فيها بل وعلى رأسها الحرب .