قصة طريفة من أدبنا المعاصر
رجاء النقاش
الأهرام 2/9/2007 لم أجد فيما قرأته عن تأثير الآداب الأجنبية في الأدب العربي أصدق ولا أجرأ مما كتبه الأديب العربي الكبير إبراهيم عبدالقادر المازني 1890 ـ 1949 تحت عنوان السرقات الأدبية , وهو مقال نشرته له مجلة الرسالة القديمة سنة 1937, وفي هذا المقال يعترف المازني علي نفسه بأنه نقل نقلا حرفيا خمس صفحات من رواية روسية كان قد ترجمها هو نفسه من قبل وضم هذه الصفحات إلي روايته إبراهيم الكاتب ويقول الكاتب الكبير إنه نقل تلك الصفحات بنصها من الرواية الروسية إلي روايته هو , وذلك دون أن يدري أن هذه الصفحات ليست له , وإنما هي لكاتب آخر .. وهنا يلتقي اعتراف المازني بالسرقة الأدبية , مع تفسيره العجيب لهذه السرقة . حيث يقول إنها سرقة غير إرادية , وغير متعمدة , وإنه لا ذنب له فيها علي الإطلاق , وهذا الكلام لا يمكن تصديقه بسهولة , ولو أنه صدر عن كاتب آخر لقلنا علي الفور إن هذا الكاتب يحاول أن يعتذر عن السرقة الأدبية بعذر أقبح من هذه السرقة , وهو أن ما سرقه إنما كان يظن أنه من تأليفه وليس من تأليف إنسان آخر . كلام لا يمكن تصديقه ولا التسليم به .. ولكنني هنا أصدقه تماما لأنه صادر عن المازني .. وأنا له من العشاق والمحبين , والمازني في نظر من يحبونه مثلي لا يمكن أن يتعمد الكذب , ولا يمكن أن يقع في خطأ كبير أو صغير , وهو قاصد إلي ذلك , وقد كتب عنه كاتب كبير معاصر له هو زكي مبارك يقول : إن المازني الذي عرفته رجل صادق إلي أبعد الحدود , صادق في البغض , وصادق في الحب , صادق في الجد , وصادق في المزاح , ويقول الدكتور مبارك ايضا : إن المازني رجل من أهل الجد والرزانة وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرس الأبطال , وأقل ما يوصف به المازني أنه رجل شهم وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد .. هذه شهادة زكي مبارك في المازني , وأظن أنها شهادة صادقة وصحيحة . ونعود إلي القصة الاصلية , وهي أن المازني قد سرق كلاما لكاتب آخر ونسبه لنفسه .. فكيف تمت السرقة وكيف قام المازني بتفسيرها حتي ينفي عن نفسه تهمة كبيرة تقول عنه إنه من لصوص الأدب؟ إن المازني يحكي هذه القصة من وجهة نظره فيقول : علي إثر الثورة المصرية في سنة 1919 ذهبت إلي الإسكندرية لأقضي فيها أياما , وأقمت في بيت أحد الأقرباء , وكنت لا أزال سقيم الاعصاب جدا , وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة , وكنت منشرح الصدر , لكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتي وقفت وقلت لقريبي إني محموم , فأنا راجع , فجسني قريبي فلم يجد بي شيئا , فأصررت علي أنها الحمي ورقدت , وكنت لا أطيق الصهد الذي أحسه , وزال عني بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش , وعادني الطبيب في اليوم التالي فقال : إن هذه حمي عصبية , فاستغربت , لكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء , وبقيت أياما في البيت , زارني في خلالها صديقي الاستاذ العقاد , وترك لي رواية روسية أتسلي بها , فأقبلت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوي وأصح جسما وأقدر علي المكافحة والنضال في الحياة وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي من سقم الأعصاب , وعدت إلي القاهرة ومضي عام , وطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية بشفائي وبالروح الجديدة التي استولت علي , فيحسن أن أنقلها إلي العربية , عسي أن تنفع غيري كما نفعتني , وكنت وأنا أترجم هذه الرواية كأنني أدون كلاما حفظته من قبل , ولست أذكر هذا لأباهي به أو لأقول إني رجل بارع , بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه , وفرغنا من الترجمة والطبع , ولم يعتن الناشر بأن يبعث لي بنسخة من الرواية , ولم أهتم أنا بأن أطلب الرواية من الناشر أو أن أحتفظ منها بنسخة , وقد نسيت أن أقول إنني سميت الرواية ابن الطبيعة وكان اسمها في الأصل سانين وهو اسم بطلها . يتحدث المازني بعد ذلك عن كتابته لروايته المعروفة إبراهيم الكاتب , وذلك بعد ترجمته لرواية ابن الطبيعة بفترة فيقول : انتهيت من إبراهيم الكاتب ودفعت بها إلي المطبعة , وصدرت الرواية وبعد أشهر من صدورها تلقيت نسخة من مجلة الحديث التي تصدر في حلب , وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا كاملا من رواية ابن الطبيعة فدهشت ولي العذر , وقد ذكر الناقد أني أنا مترجم رواية ابن الطبيعة وأنا أعرف أن آلاف النسخ من ابن الطبيعة منتشرة في العالم العربي , وأني أكون أحمق الحمقي إذا سرقت من هذه الرواية علي الخصوص , ومع ذلك وجدت التهمة الموجهة إلي صحيحة , فقد اتضح أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي إبراهيم الكاتب أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب هذا كلامي , حرف العطف هنا هو حرف العطف هناك , أول السطر في إحدي الروايتين هو أوله في الرواية الاخري , لا اختلاف علي الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير , الصفحات هنا هي بعينها هناك دون أي فرق , ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأنا أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أنني لم أر رواية ابن الطبيعة . منذ فرغت من ترجمتها , وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أومواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخري , لهذا فإني سكت ولم أقل شيئا , وتركت الناقد وغيره يظنون بي ما يشاءون , فما لي حيلة , لكن الواقع مع ذلك أن صفحات أربعا أو خمسا من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي ـ وأنا لا أدري ـ لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي , فجري بها القلم وأنا أحسبها لي , حدث ذلك علي الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها ايضا , ومن شاء أن يصدق فليصدق , ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذلك . ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي فما يعنيني هذا , وإنما أرويها علي أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معايشة الذاكرة للإنسان , وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه , من غير أن يكون لنا علي هذا سلطان , فالمرء يذكر وينسي ويغيب عنه الشيء ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه . ونخرج من الاعترافات التي قدمها المازني بصورة حية لأديب صادق لا يخشي أن يقول الحق ولو علي نفسه , علي أن اللافت للنظر في هذه الاعترافات قوله إن ذاكرته قد احتفظت بالصفحات التي انتقلت إلي روايته في ذهنه , وهو يظن أنها له وليست لغيره , وهذا طبعا يدل علي أن ذاكرة المازني كانت ذاكرة نادرة وعجيبة , وقد اعترف له الكثيرون في عصره بهذه الميزة الخاصة , ومن هنا فقد كانت سرقة المازني سرقة بيضاء , أي ليس فيها تعمد ولا سوء نية ولا قصد غير شريف .