حول قوله تعالى: {أياماً معدودة} و{أياماً معدودات}
وردت الصفة { معدودة } بصيغة الإفراد في ثلاث آيات في القرآن الكريم؛ الأولى قوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } (البقرة:80) والثانية قوله تعالى: { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } (هود:8) والثالثة قوله تعالى: { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } (يوسف:20) ووردت هذه الصفة بصيغة الجمع { معدودات } في ثلاث آيات أيضًا، وردت جميعها وصفًا لـ ( أيام ) الأولى قوله تعالى: { أياما معدودات } (البقرة:184) وردت بعد الحديث عن فرضية صيام رمضان؛ والآية الثانية قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات } (البقرة:203) والثالثة قوله سبحانه: { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } (آل عمران:24) والحديث هنا مقصور على المواضع التي جاءت فيه هذه الصفة - مفردة أو جمعًا - صفة لـ ( أيام ) فنقول:
قد استشكل البعض وصف ( أيام ) بـ { معدودات } لأن { أياما } جمع ( يوم ) وهو مذكر، و{ معدودات } واحدها { معدودة } وهو مؤنث، فكيف تقع صفة له ؟ هذا أولاً؛ وأيضًا لقائل أن يقول: لِمَ كانت الأولى: { معدودة } والثانية: { معدودات } والموصوف في المكانين موصوف واحد، وهو { أياما } ؟ والجواب على هذا الإشكال يُعرف بالرجوع إلى كتب التفسير أولاً .
- يجيب الإمام الرازي على هذا الإشكال، فيقرر أصلاً في المسألة، حاصله: أن الاسم إن كان مذكرًا، فالأصل في صفة جمعه، أن يُجمع بـ ( التاء ) المربوطة؛ فأنت تقول: كيزان مكسورة، وثياب مقطوعة؛ والأولى جمع ( كوز ) وهو مفرد مذكر، والثانية جمع ( ثوب ) وهو مفرد مذكر أيضًا، وجاءت صفة جمعهما بـ ( التاء ) المربوطة، إذ هو الأصل في مثل هذه الجموع؛ أما إن كان الاسم مؤنثًا، فالأصل في صفة جمعه، أن يُجمع بـ ( الألف ) و( التاء ) المبسوطة؛ فأنت تقول مثلاً: جرار مكسورات، وخوابي مكسورات، والأولى جمع ( جرة ) والثانية جمع ( خابية ) وجاءت صفة جمعهما بـ ( الألف ) و( التاء ) المبسوطة. فهذا الأصل في هذه المسألة، كما يقرره الرازي .
بعد أن قرر الرازي هذا الأصل، رأى أن هذا الأصل ليس مطردًا دائمًا، بل قد تأتي صفة الجمع، لما كان واحده مذكرًا بـ ( الألف ) و( التاء ) المبسوطة في بعض الصور؛ واعتبر أن ذلك يأتي نادرًا في اللغة، وهو - حسب رأيه على خلاف الأصل - نحو ( حمَّام ) يُجمع على ( حمامات ) و( جمل ) يُجمع على ( جمالات ) وحَمَل قوله تعالى: { أياما معدودات } في مواضعه الثلاثة على أنه جاء به القرآن على خلاف الأصل، وحسب تعبيره: بما هو الفرع؛ أما قوله تعالى: { أياما معدودة } فجاء وفق الأصل. هذا حاصل جواب الرازي على هذا الإشكال .
وأنت إذا أمعنت النظر فيما أجاب به الرازي على هذا الإشكال، وجدت أن في النفس منه شيئًا؛ وذلك أنه جعل قواعد اللغة هي الأصل، وقاس عليها ما جاء في القرآن؛ والحق الذي ينبغي أن يقال في مثال هذا: إن ما جاء في القرآن الكريم هو الأصل الذي ينبغي أن تبنى عليه قواعد اللغة، ويُخرَّج عليه ما هو أصل وما هو فرع، وما هو قاعدة وما هو استثناء؛ ولأجل هذا المأخذ، نرى أن ما ذهب إليه أبو حيان في هذه المسألة أصوب مسلكًا، وأقوم منهجًا؛ وإليك حاصل رأي الأخير في الجواب على هذه المسألة .
- يذهب أبو حيان إلى أن صفة الجمع الذي لا يعقل - وهو في مسألتنا ( أيام ) - تأتي على وجهين؛ فالجمع تارة يعامل معاملة الاسم المؤنث المفرد، فتأتي صفته بـ ( التاء ) المربوطة؛ وتارة يعامل معاملة جمع المؤنث السالم، فتأتي صفته بـ ( الألف ) و( التاء ) المبسوطة؛ فمثال ما عومل معاملة الاسم المؤنث المفرد، قوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } (البقرة:80) حيث جاءت الصفة هنا { معدودة } معاملة الاسم المؤنث المفرد؛ ومثال ما عومل معاملة جمع المؤنث السالم، قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } (آل عمران:24) فـ { معدودات } جمع لـ { معدودة } وعوملت هنا معاملة جمع المؤنث السالم؛ مع أنه لا يصح لك، ولا يستقيم لغة أن تقول: يوم معدودة، إنما الصواب أن تقول: يوم معدود؛ لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، فهما طريقان فصيحان لغة؛ كما تقول: جبال شامخة، وجبال شامخات، وأعمدة راسخة، وأعمدة راسخات. فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل، تارة كصفة الاسم المؤنث المفرد، وتارة كصفة جمع المؤنث السالم. فكما تقول: نساء قائمات، كذلك تقول: جبال راسيات. قال أبو حيان : وذلك مقيس مطرد فيه، أي: هذان الطريقان صحيحان، ومستقيمان في لسان العرب .
ف أبو حيان - كما ترى - يجعل كلا الاستعمالين صحيحين فصيحين ومستقيمين لغة، ويفيد قوله أن كلا الاستعمالين مسموع في كلام العرب، والقرآن جاء على وفاقهما، فمرة جاء بهذا، وتارة أتى بذاك. فليست المسألة - وَفْقَ أبي حيان - مسألة أصل وفرع، وإنما المسألة بمسلكيها أصل برأسه .
أما الشيخ ابن عاشور - رحمه الله - فقد وافق أبا حيان فيما ذهب، ولم يعرج على قول لغيره، بَيْدَ أنه رأى في المسألة تحقيقًا، غفل عنه أبو حيان ، ينبغي أن يُلتفت إليه، فقال بعد أن ذكر قول أبي حيان في المسألة: " ويظهر أنه ترك فيه تحقيقًا؛ وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه، أن يكون مؤنثًا مفردًا؛ لأن الجمع قد أُوِّل بالجماعة، والجماعة كلمة مفردة، وهذا هو الغالب. غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع، أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث؛ ليكون في معنى الجماعات، وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى - والكلام ل ابن عاشور - أن { معدودات } أكثر من { معدودة } ولأجل هذا قال تعالى: { وقالوا لن تمسسنا النار إلا أياما معدودة } (البقرة:80) لأنهم يقللونها غرورًا أو تغريرًا، وقال هنا { معدودات } لأنها ثلاثون يومًا، وهذا مثل قوله في جمع ( جمل ) { جمالات } (المرسلات:33) على أحد التفسيرين، وهو أكثر من ( جِمال ). هذا نص كلام ابن عاشور تقريبًا .
ف ابن عاشور لم يتوقف في المسألة عند القول: إنها من باب الأصل والفرع، كما ذهب إلى ذلك الرازي ؛ ولم يتوقف في المسألة أيضًا عند قول أبي حيان - على صوابه - من أن الوجهين صحيحان لغة، ومستقيمان لسانًا؛ ويذهب في الأمر أبعد من ذلك؛ ويرى أن المسألة لا ينبغي أن يوقف بها عند قواعد اللغة فحسب، بل ينبغي أن تفهم فهمًا أبعد من ذلك، فهمًا يقوم على أساس فقه اللغة وأسرارها. ولأجل هذا الملحظ، يرى ابن عاشور في المسألة معنى زائدًا وكاشفًا عن مقصود المغايرة بين اللفظين القرآنيين. ويقوَّي ما ذهب إليه ابن عاشور القاعدة البلاغية التي تقول: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ؟
هذا، ولم تخرج كتب النحو واللغة عما تقرر ذكره آنفًا، فهي تقول في هذا: يجوز أن يُنعت جمع غير العاقل بمفرد مؤنث، فأنت تقول: زارني فلان قبل أيام معدودة، أو أيام معدودات؛ وتقول أيضًا: ليس حول دمشق جبال شاهقة، أو جبال شاهقات. فجاء الوصف في كلا المثالين ونحوهما تارة بصيغة المفرد، وأخرى بصيغة الجمع. فدل على أن كلا الاستعمالين صحيحان لغة وفصيحان لسانًا. وبهذا يُعلم أن اللفظ القرآني في موضعيه، قد جاء على وَفْق اللغة وقواعدها .
يتبع