بين الرّغبات الأبدية الجارفة.. والأقدار المعاكسة.. كان قدري.
وكان الحب يأتي , متسللاً إليّ, من باب نصف مفتوح, وقلب نصف مغلق.
أكنت أنتظره دون اهتمام, تاركة له الباب موارباً. متسليّة بإغلاقه نوافذ المنطق؟
قبل الحب بقليل, في منتهى الالتباس, تجيء أعراض حبّ أعرفها. وأنا الساكنة في قلب متصدع الجدران, لم يصبني يوماً, هلعٌ من وَلَعٍ مقبل كإعصار.
كنت أستسلم لتلك الأعاصير التي تغيّر أسماءها كلّ مرة, وتأتي لتقلب كلّ شيء داخليّ.. وتمضي بذلك القدر الجميل من الدمار.
دوماً..
كنت أحبهم. أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة, فيتعثرون حيث حلّوا, بقصة حب وضعتها الحياة في طريقهم, بعد أن يكونوا قد حشروا أنفسهم بين الممكن والمستحيل.
أولئك الذين يعيشون داخل زوبعة الحبّ التي لا تهدأ, مأخوذين بعواصف الشغف, مذهولين أمام الحرائق التي مقابل أن تضيء أياما في حياتهم, تلتهم كل شيء حولهم, جاهزين تماما.. لتلك اللّحظات المضيئة خلسة, والتي ستخلف داخلهم عندما تنطفئ رماد انطفائهم الحتميّ.
أحبّهم.. وربّما كنت أشبههم.
ولكن هذه المرّة, توقعت أنني أذكى من أن أتعثر في قصة حب وضعها الأدب في طريقي. لا ليختبر قدرتي على الكتابة, وإنما ليختبر جرأتي على أخذ الكتابة مأخذ الحياة.
كنت في الواقع, مأخوذة بمقولة لأندريه جيد "إنّ أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل".
مأخوذة بها إلى درجة أنني , عندما اقترح علي الجنون أن اذهب إلى موعد ضربه بطل قصتي لامرأة أخرى, أخذت اقتراحه مأخذ الجد, وقررت أن أذهب بذريعة كتابة شيء جميل.
كنت مرتبكة لعدة ساعات قبل الموعد, ذلك الارتباك الذي يسبق لقاءً لا ندري ماذا ينتظرنا فيه, ولكننا نصر على الذهاب إليه, لأن شيئا ما يأمرنا بأن نذهب.
صحيح أنه كان بي فضول لمعرفة ذلك الرجل, وفضول آخر لمشاهدة ذلك الفيلم. فقد يكون الطريق الأقصر لفهمه.. ولفهم إصراره على مشاهدته.
ولكن كنت أعي تماما أنني ارتكب حماقة غير مضمونة العواقب, بذهابي بمفردي لمشاهدة فيلم, في مدينة مثل قسنطينة, لا ترتاد فيها النساء قاعات السينما. فما بالك إذا كانت هذه المرأة زوجة أحد كبار ضبّاط المدينة, وتصل إلى السينما في سيّارة رسمية, لتجد في انتظارها جيشا من الرجال اللذين لا شغل لهم سوى التحرش بأنثى, على قدر كاف من الحرية أو من الجنون, لتجلس بمفردها في قاعة سينما.
ولهذا تعمدت أن أصل متأخرة عن الفيلم بربع ساعة, كي لا أقف في طابور الانتظار, أو أدخل القاعة على مرأى من الناس.
... تماما كما طلبت من السائق أن يعود قبل موعد انتهاء الفيلم بربع ساعة, تفاديا لتلك الأضواء التي ترافق نهاية كل عرض, وتجعل الناس يتفحصون بعضهم بعضا بفضول كثيرا ما أربكني.
ولأنني وصلت بعد فترة من بدء الفيلم كان لي حرية اختيار مكاني, وهو الأمر الذي مكنني من الوقوف لحظات وإلقاء نظرة على الجو العام للقاعة التي بدت لي نصف فارغة.
كما توقعت, كان الحضور جميعه رجالا. ومن الأرجح أن يكون من الشبان الذين جاؤوا لإهدار الوقت في قاعة السينما بدل إهداره وهم متكئون على جدار.
وحدهما رجل وامرأة, كانا يجلسان على انفراد في آخر القاعة ويبدو أنهما كانا هنا لسبب آخر.
استنتجت أنهما "هما" فاخترت لي مكانا خلفهما تماما, وكأنني أحتمي بهما, أو أتجسس عليهما.
أتوقع أن وجودي أزعجهما. ولكنهما وجدا في أنوثتي ما يبعد الرعب عنهما.
ما أتعس العشاق في هذه المدينة التي يعيش فيها الحب ممسكا أنفاسه, جالسا في عتمة الشبهات على كراسيّ مزقتها بسكين أيدٍ لم تلامس يوماً جسد امرأة.
أنشغل عنهما بمتابعة الفيلم الذي وصلته, مع وصول البطل إلى الصف في أول الموسم الدراسي.
إنه أستاذ تجاوز سنّ الأربعين ببضع خيبات. دائم السخرية بشيء من الرومنطيقية وربما الحزن المستتر. لقد عاد بعد جيل وأكثر إلى المعهد الذي درس فيه, ليعمل مدرسا في مادة الأدب. ومن الواضح أنه جاء لينقذ الطلبة من الأخطاء التي سبق أن تعلمها على هذه المقاعد نفسها, أو تلك القناعات التي تربى عليها.. وتكفلت الحياة بتكذيبها بعد ذلك.
يدخل الصف بشيء من الاستفزاز المرح, وهو يصفر أمام دهشة الطلبة الذين لم يتعودوا تصرفا كهذا, في مؤسسة دراسية صارمة, ومشهورة بمحافظتها على التقاليد العريقة.
يتجه مباشرة, نحو جدار علقت عليه صورة تذكارية, بالأسود والأبيض, لطلبة شغلوا هذه المقاعد الدراسية نفسها, فوجا بعد آخر, وجيلا بعد آخر, على مدى قرن كامل.
هاهو يشير بيده إلى الطلبة أن يلحقوا به, ويطلب منهم أن يتأملوا تلك الصور التي لم تستوقفهم قبل اليوم, ويدققوا في وجوه أصحابها, المجتمعة في صور جماعية للذكرى.
يلحق به الطلبة مندهشين, فيبادرهم وكأنه يواصل حديثا سابقا, أو كأنه يقدم لهم نفسه, كواحد سيمر الآخرون أمام صورته.. على أحد جدران هذا المعهد دون انتباه:
"كل اللذين ترونهم على هذه الصور, بهيئاتهم الرياضية التي تشبه هيئاتكم, وعنفوان شبابهم الذي يشبه عنفوانكم, بابتسامتهم العريضة, وطموحاتهم الكبيرة, ومشاريعهم وأحلامهم وثقتهم المطلقة في الحياة, كما هي الآن ثقتكم جميعهم الآن.. عظام تحت قبور فاخرة. لقد ماتوا كما ستموتون!".
وقبل أن يستوعب الطلبة هذا الكلام الغريب, لأستاذ يرونه لأول مرة, يواصل:
"كل واحد فيكم هنا, ذات يوم سيتوقف فيه كل شيء ويبرد جسده ثم تأكله الديدان وكأنه لم يكن.
"انظروا.. إنهم ينظرون إليكم الآن, كأنهم في صورهم هذه, يقولون لكم كلاما لا بد أن تنصتوا إليه. تعالوا.. اقتربوا.. حاولوا أن تلتقطوا كلماتهم.."
يقترب الطلبة مذهولين من جدار تغطيه الصور العتيقة, فيأتيهم صوت الأستاذ من الخلف. وكأنه يتحدث على طريقة المهرجين الذين يحركون دمية بيدهم, وهم يتكلمون على لسانها بصوت باطني, دون أن يحركوا شفاههم.
"استفيدوا من اليوم الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة. اسطوا على الحياة.. امتصوا نخاعها كل يوم مادام ذلك ممكنا. فذات يوم لن تكونوا شيئا.. سترحلون وكأنكم لم تأتوا.."
ثم يواصل بصوت عاديٍّ:
"كان هذا درسكم الأول. بإمكانكم الآن أن تعودوا إلى مقاعدكم.. وتفتحوا كتاب الأدب.."
لم يمنعني انشغالي بمتابعة الفيلم, من التفكير في الرجل والمرأة الجالسين أمامي, واللذين جئت أصلا لمتابعتهما.
كانا صامتين. لا أدري أكانا حقا مشغولين بمتابعة الفيلم, ولكنهما لم يتبادلا أيّة كلمة.
ورغم ذلك, كنت أشعر كأن تعليمات الأستاذ ونصائحه, قد تركت تأثيرا فيهما. وبدا لي كأن اليد اليمنى للمرأة, كانت تتحرك ببطء نحو ذلك الرجل, وتتقدم نحوه بإصرار.
وهو ما شجعني على الاعتقاد بأنها هي المرأة "ذاتها". مادامت ليست معنية بهذا الفيلم بقدر ما هي معنية بالتحرش بهذا الرجل.
من الواضح أنها مشتاقة إليه. وإلا فماذا عدا الحب يمكن أن يأتي بها إلى هنا, لتكون الأنثى الوحيدة, في قاعة كهذه, لمشاهدة فيلم كهذا؟
شعرت بشيء من الشفقة عليها. وربما بشيء من الشفقة على نفسي أيضا. مادمنا موجودتين هنا من أجل الرجل نفسه.