بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى سرا ، فأسلم على يديه : السابقون الأولون ، وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها ، ثم علي ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو بكر رضي الله عنهم ، ثم دخل الناس في دين الله واحد بعد واحد ، حتى فشى الإسلام في مكة ، /مسلم الإيمان (207) ، أحمد (3/477). ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بالدعوة فقال : " وأنذر عشيرتك الأقربين "" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين "" فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " ، فدعاهم إلى الله ، وصعد على الصفا وقال : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش ، حتى اجتمعوا ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج عليكم بسفح هذا الوادي أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : نعم ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد "/البخاري ، برقم 4971 ، ومسلم /194 – (برقم 208) . وقد ناصبه صناديد قريش ومن معهم العداء ، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يتهمه بصفة الكذب أو صفة غير لائقة ، وقد قال الله تعالى : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ، ولو عرفوا خلقا ذميما - وقد عاش بينهم أربعين عاما - ؛ لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها أمام الناس ، ووجدوا أن كلمة ( ساحر ) و ( كاهن ) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه ؛ حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، والزوجة وزوجها ، واتهموه بالجنون ؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده ، وتابع دعوته إلى الله في المواسم ، والأسواق ، وخرج إلى الطائف ، وأسلم الجن في طريقه عند رجوعه من الطائف ، وحصل له من الأذى الكثير فصبر واحتسب .
ثم أسري به إلى بيت المقدس ليلا وعرج به إلى السماوات العلى ، وقبل الإسراء جاء جبريل ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدره ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيده فعرج به /البخاري ، برقم 349 ، ومسلم برقم 163 . وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صدره ثلاث مرات ، الأولى في بني سعد وهو صغير ، والثانية عند البعثة فقال : ( وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس : /مسلم الإيمان (162) ، أحمد (3/288). فأخرج علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك / ، وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال ، من العصمة من الشيطان ، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ؛ ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم وقع شق الصدر عند العروج إلى السماء ؛ ليتأهب للمناجاة ، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم /فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، 7/204 - 205 . .
وصل ليلة الإسراء والمعراج إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام فوق السماء السابعة ، وفرضت عليه الصلاة ، وصلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ركعتين ، ورجع قبل أن يصبح إلى مكة ، واستمر في دعوته إلى التوحيد ، وصلى في مكة قبل الهجرة ثلاث سنين ، ولما اشتد الأذى من قريش ، وأكمل ثلاثة عشر عاما في دعوته قومه إلى التوحيد ، أذن الله له بالهجرة ، فهاجر إلى المدينة ، وفرضت عليه فيها بقية شرائع الإسلام خلال عشر سنوات ، كما تقدم ، وسيأتي إتمام الكلام في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قومه ، وفي غزواته ، وجهاده ، وحجه حجة الوداع ، ورجوعه إلى المدينة ، ثم موته بعد أن كمل الله به الدين صلى الله عليه وسلم . .
يتبع...