الفن التشكيلي الإماراتي صورة المكان 1/2
الحنين إلى المكان, شكل من أشكال التعاطي الدائم مع الواقع, بمختلف مستوياته الواقعية والنفسية, والإيحائية وتختلف
سبل المحاكاة وألوانها من فنان إلى آخر لتكون الموهبة والخبرة الذاتية أدوات الاختيار أو الاختزال أو التكرار, فالفنان الذي يعي مهمته التسجيلية مثلا هو غير الفنان المحلل لدرجات الانتماء للواقعية, بل وانتقادها أحيانا وإعادة تأليفها, وقد تعامل مع هذا الواقع العديد من فناني الإمارات منذ بداية الحركة التشكيلية وحتى اليوم,
وسواء صاحب الاهتمام والتشجيع هؤلاء الفنانين أو تنحى عنهم إلا أن ترجيح ارتباطهم القوي بالمتلقي إنما يقع ضمن مفهوم الفهم المباشر لتفاصيل المنظر الطبيعي الذي يستمد الفنان منه موضوعا إنسانيا يقدم حميمية العلاقة بين العين والمكان, سواء أكان هذا المكان طبيعيا أم صناعيا من بناء الإنسان وآثاره واهتماماته.
الاعتماد على الحرفة, أو التقنية, أو المهارة, موضوع أساسي أيضا في المبادرة إلى العلاقة مع الجمهور, وتأكيد أدراجها في منطق وفلسفة المنظور الطبيعي والإنشائي المؤاتي لفهم العين للموجودات يسهل ـ دون أدنى شك ـ مهمة الاعتراف بها وتلقيها في إطار بحث الإنسان الدائب للسيطرة على الطبيعة ـ الخطاب الأزلي الذي جعل الإنسان يحقق نجاحاته في بناء تصوراته عن الطبيعة واستبطان هذه التصورات في محاولة لاعلاء الذات وإشراكها في فعل ستختلف الآراء والفلسفات حوله فيما بعد بنتيجة المراقبة والملاحظة لمعاني التمايز والاختلاف.
ْوسواء اعتبرنا التعامل مع الطبيعة أو المكان رثاء لها أو ابتهاجا باحتوائها للأدوار الإنسانية المرئية فإن الإشارة إلى أن هذا النوع من الفنون قد شكل ظاهرة في التشكيل العربي عامة والتشكيل في الإمارات خاصة هي إشارة إلى عميق الاستفادة من المحامل التشكيلية التي أبدعها الآخر في رحم فلسفات مختلفة, بل وتشكل مرجعا خالص التكامل للخيال والعقل في إبداعه لأعمال لاقت من الاهتمام ما يفوق جاذبيتها وانتمائها الحضاري للعصر, ساعد في ذلك الحنين والعشق للموضوعات التي بات يفصل المجتمع في الإمارات عنها خطوات واسعة, مما يجعل الرغبة لإعادة التصور واقعة في مقدار الانفعال الذي تولده مثل هذه الأعمال التي تفتح نوافذ من الحاضر على الماضي تذكر الناشئة بدورة
التاريخ التي تمضي باتجاه واحد حاملة معها السلوكيات والذكريات وعدم الاستقرار بسبب إحلال نظم جمالية مكان أخرى. وبسبب تبدل صورة الحاضر إلى ما يوافقه إنتاجيا وأخلاقيا واجتماعيا. إذ لا مجال للثبات, فالتغيير سنة الكون وقانون تبدله من حال إلى حال.
إلا أن عديد الفنانين لابد يشيرون بأعمالهم إلى حالة من الثبات تطال تجربتهم بالرغم مما يحاولون أن يوصوا به من تغيير في الأساليب أو الاتجاهات, ودون اكتراث ـ في اغلب الأوقات ـ بمبادئ التغير الاجتماعي والمعرفي والتقني التي تطال الحراك الإنساني في انتقاله من موقع إلى آخر. ولا تشكل هذه الإحالة أي هجوم أو صدام مع تلك التيارات, فهي أشكال سائدة في مختلف العصور والأزمان, وتتجلى في القيمة التربوية التي تشير إليها وخاصة فيما تقدمه من كشف عن خصائص ومفاهيم سابقة كادت تنتهي أو تختفي أو إنها اختفت فعلا من الحياة, وبهذا نتبادل الحوار معها يكون من منطلق الدلالات التاريخية لمحتوياتها, وهي تلعب دورا توضيحيا للتقاليد والأدوار في تحولها من حال إلى حال.
ولا عجب فيما نراه من إقبال الفنانين الأجانب على أيقاظ معرفتنا بالنعمة التي نحن فيها حين يتهافتون على رسم رموز تقترن بالدلالات الفاعلة في اهتمامات الإنسان المحلي لما تشير إليه في التراث البصري والعقلي والتاريخي, وبكل ما يحقق الذات في تحولها إلى الخلف للارتباط بالأفكار التي تنأى عن المستقبل وما يمكن أن يدفع باتجاه اكتشاف الرؤى المعاصرة ودمجها في رؤى الحداثة التي تعبر عن أشكال التغير ف بجماليات الإنسان الجديد..
ومهما كانت قيمة الإحالة السلفية لإبراز الذات التاريخية المحملة برموز التراث وعباراته البصرية.. إلا أن انقطاعا عن روح الحياة سيبدو جليا فيما تكرسه مثل هذه الرسوم التي تخاطب الواقع باعتباره جزءا من الماضي لا باعتباره نداء للنقد يتضمن مشروع التعبير عن المعاش. والقضية الأساسية في هذا الطرح هي ما يستشعره المبدع وهو يلح على البحث في الفنون البصرية للوصول إلى بدائل ترقى بفهم المجتمع لأحوال الفنون بدلا من اقتيادها إلى الخلف. في اكثر رسوم الطبيعة التي تمجد الفهم الاستهلاكي للعمل الفني لا تشارك الروح في تفجير طاقة الجمال في المتلقي, بل إن هذه الرسوم تقسم الموقف منها إلى اثنين, الأول يعتقد بغرابة إنجاز مثل هذه الأعمال, وهؤلاء يمتلكون روحا نقدية,
والثاني يرى ضرورة إنجازها لتأكيد استمرار بؤس تلقيها تحت اكثر من غطاء قد يصل بعضها إلى حدود الحديث عن الأخلاقيات الجمالية. وقد كانت مساحة التشكيل في الإمارات مساحة واسعة تمثل هذا التجاذب فيما بين الدعوة الاحلالية والدعوة التغييرية, بما حققه أبناؤها الفنانون من إنجازات حملت بمجملها اختيارات الإنسان المبدع في هذه المنطقة من
الخليج العربي. ولقد سعى اكثر من تجمع فني لاستبدال صورة السائد في الفنون منذ بداية الثمانينيات في القرن المنصرم وحتى اليوم, وهي مواجهة يشير اكثر من باحث إلى إنها تتم في إطار الصراع بين القديم والجديد,
مما يشير إلى أزمة تنويرية يعيشها المحمل التشكيلي الإماراتي يسببها الحنين إلى الماضي وما تفرزه الحياة الجديدة بمطلقها الفلسفي والمعماري والنظري والاقتصادي من دعوة للتحديث والاستمرار في إنتاج ثقافة مغايرة مواكبة لانتصارات الإنسان وانحيازه إلى خصوصيته رغم أن سرعة التحديث تؤدي أحيانا إلى إنتاج صدامات اجتماعية ومعرفية يعجز التكيف معها وقد تؤدي إلى الشعور بمجموعة من الاستلابات الفكرية التي تطال مجالات إنتاج الثقافة والمعارف. إن الانتماء لعالم متحرك يمتزج فيه الماضي بالحاضر قد يعرقل عملية الإنتاج المعرفي كونه يقدم الماضي بصورة الحاضر
وهذا انشقاق واضح في هوية وخصوصية المجتمع الذي ينشد دائما التقدم والحرية والسيادة كحقوق تعيد صياغة التوجه الفكري وتجيب عن أسئلته الراهنة.. وإذا كانت الإحالة إلى المكان لا تخرج عن الإطار الحنيني الذي أشرنا إليه في البداية فإن ذلك يدعونا للتميز بين المكان الواقعي والمكان الافتراضي في العمل الفني.. المكان الذي تدلي جمالياته برؤاها التنويرية كلما أوغل المرء في سبره والكشف عن سطوته أو ترهله أو ما يحاول بعض المبدعين تحقيقه بتزيينه على هيئة ما يكون الجوهر.
لقد سعي عبد القادر الريس باستثنائية مشهود لها أن يكون حياديا في تفكيره البصري إذ تنازعه التسجيل والتجريد, وثمة مغزى وراء ذلك يتمثل بإعلانه عن انتمائه لكل ما يبدع, ولعل إنجازاته المتفوقة تقنيا ولونيا تنضج في الأجيال اللاحقة قيمة التراث الأصيل وما خلفه الأجداد للأبناء في رحلتهم الشمولية (العمارة والحرف والمهن). حتى إن مرجع العديد من الأجيال الجديدة ينكمش في تصور أعمال هذا الفنان المجيد.
إلا أن الرحيل عبر الماضي لا يعدو التفكير المثالي به والانقطاع عن الحاضر (الواقع الحقيقي) وذلك بحصر الوطن في إطار لا يتحرك قد يستدعي الوقوف عند فترة زمنية بما يحيط بها من (نوستالجيا) تؤجج المشاعر دون أن تكون عتبة للانتقال إلى مجال ارحب كما كان يحدث في بنية القصيدة الجاهلية على سبيل المثال.
أشير إلى خصوصية تجربة الريس ليس على مستوى الإنجاز فحسب, بل ما تحققه من صدى تخيلي وإيحائي جمالي يطل الوهم الذي ينشئ التصورات الجديدة للواقع الماضي, وبكل ما يمكن أن يجعلنا نتفكر بالمجازات البصرية الواقعية التي استنبطها الفنان من الموثيفات المحلية, وهو وان صورها على نحو شديد المهارة بالمطابقة المنظورية والتشريحية والتلوينية فإن ذلك يذكر بالإحالات المباشرة التي قام بها الفنان محمد يوسف علي مبكرا حين جعل من هذه الموثيفات مادة الموضوع وشكله فاستخدم الأبواب والنوافذ والأخشاب والجبس وغير ذلك من المواد التي تشكل جزءا لا ينفصل عن الواقع الواقعي, مستفيدا من غياب استخدامها وندرته لتتحول أعماله إلى مفاهيم لا يحدها حاجز عن المتلقي الذي قد يتعامل معها في الحقيقة كنفيسة من نفائس التعلق بالماضي, وقد استفاد العديد من فناني الخليج العربي من هذه التجربة المبكرة فنوعوا عليها وعلى إشاراتها ورموزها الواقعية.
كما إن مجموعة المحدثين في الفنون الإماراتية لم يبتعدوا كثيرا عن هذا المفهوم بأعمالهم المتنوعة, معتبرين إن التحول في المفهوم لا يعني التحول الشكلي, فالفكرة هي الدافع إلى التشكيل, الفكرة باعتبارها ماضيا وحاضرا, وبمقدار ما تشكل أعمالهم انتماء للذاكرة فإنها من الناحية الذهنية اكثر ارتباطا بالواقع المباشر لموجودات المكان, بل إن انبثاق العمل, أي عمل, إنما يشكل إضافة حية إلى الذاكرة الواقعية التي تتفاعل مع لغة التعبير عن هذا الواقع,
وقد تميز اكثر من فنان في الإمارات في هذا الجانب الاكتشافي والتنبؤي للواقع فأهلهم للمرور بمراحل مختلفة, قد تختلف في أسلوب التعامل مع الواقع إلا أنها تتفق بالاتجاه والهدف لإعادة صياغة الموقف من التراث والواقع والتجديد في ظل التحديثات التي طالت المجتمع, وقد جاراهم بوعي وحذق الفنان عبد الرحيم سالم الذي استطاع أن يبقى محايدا في بحثه البصري دون أن يوغل في تيار أو جماعة, فبقي وفيا لذاتيته التي يستلهم منها الفضاء الحركي بمقدرة توازي مرئيات الواقع واحتمالات تحقيقه عبر الحركة, وهو وان كان نحاتا مجيدا فإن هذه الإمكانية ذهبت هدرا بمقابل الإيغال في تفصيلات التصوير التي لم يقف على جانب محدد فيها بل استمر عبر تجربته الطويلة نسبيا (تخرج العام 1980 من القاهرة) في تنويع المواد والخامات (الحجر والخشب والمعادن, الأدوات التراثية, الورق المعدني, الورق الشفاف, النايلون, الأحبار الصناعية, الباستيل, العرض الادائي).
وشكلت مساحة الحلم لدى المبدعة نجاة حسن مكي فضاء اللوحة عبر متابعتها للموتيفات التقليدية الأنثوية خاصة, فترجمت خامات البيئة الشعبية إلى وسائط بصرية يعيد إيقاعها التراكمي بناء المساحة بشكل يجعل الواقع يحضر متحللا من ارثه التجسيدي ليستحيل إلى تفاصيل مبهرة للعين في فيمتها الطقسية, موحية بموسيقى حفية, ليست أعلى من صوت الواقع معه. وقد نجحت نجاة مكي في إخفاء لغة شعائرية خلف هذه الموتيفات تضج بالانتماء للأنثى وكيفية أدراك عالمها الداخلي والحواسي بخبرة مستقرة أهلتها لاستكمال حوارها مع المكان, ومع السعي لاستنفاذ الحنين إليه بطريقة مغايرة.
ويمكن القول من هذا المنظور أن المحمل التشكيلي في الإمارات الذي وضع المكان كواقع متعدد المستويات في مركز اهتمامه, قد نجح في انتزاع عدد من المفاهيم من بحث المبدعين الذي يتراوح بين الرؤى المباشرة وما فوق هذه الرؤى ليستمر المخاض خارج محاكاة الواقع والوقوع في أسره, مؤكدين على انتزاع الذات من نظريات المحاكاة والبقاء في عالم الانزياح لا الاستقرار إذ لم يتعامل أي منهم مع الواقع على انه أمر علوي أو تفوقي وإنما يروح نقدية غائية استمرت مادتها من الصراع التشكيلي العربي والدولي حول الأفكار العامة التي يشكل المكان أحد محاور جدالاتها كموقع افتراضي للخصوصية إن لم نقل الهوية.
لقد أهم الفنان في الإمارات بهذه العلاقة التواصلية مع الواقع دون أن يذهب به الاعتقاد للولاء المطلق له, سواء من جهة التخيل التي لجأ إليها الريس أو لغة استنطاق الذاكرة بما تتالى عليه حسن شريف وحسين شريف ومحمد احمد إبراهيم وعبد الله السعدي ومحمد كاظم وكافة التخارجات التي سعى إليها أو ما قامت به مكي من إحلال للموثيفات مكان أصولها وما ذهب إليه محمد القصاب ومحمد العبدالله وعبدالرحيم سالم للارتقاء بإيقاع العمل البصري ليفيض على الواقع بدلا من تمثله أو محاكاته.