إرازموس
إيرازموس (باللاتينية: Desiderius Erasmus Roterodamus) عاش في (روتردام ح. 1469- بال 1536 م) هو فيلسوف هولندي، من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا ، كان يكتب باللغة اللاتينية.
تمتع إيرازموس بشخصية مستقلة كما عرف عنه طبعه الساخر (مناظرة في مدح الجنون)، قام بالتعليق على نصوص العهد الجديد ، وحاول أن يضع مبادئ الحركة الإنسانية حسب التوجهات المسيحية، كما أراد أن يقرب بين أتباع المذهب الكاثوليكي وأتباع الحركات الإصلاحية الجديدة.
النشأة
ولد أعظم عالم بالإنسانيات عام 1466 أو عام 1469 في روتردام أو بالقرب منها وهو الابن الثاني غير الشرعي لجيرارد وهو كاتب في أدنى الدرجات. وأمه مرجريت ابنة طبيبة وأرملة. ويبدو أن الأب رسم قسيساً عقب هذه الكارثة ولا ندري كيف سمي الصبي بالاسم السخيف ديزيدريوس أرازموس ومعناه الحبيب المرغوب فيه. ولقد علمه مدرسوه الأوائل القراءة والكتابة باللغة الهولندية ولكنه عندما ذهب ليدرس مع أخوة الحياة المشتركة في ديفنتر غرم لأنه كان يتحدث بلغته الوطنية فقد كانت اللغة اللاتينية هناك "الزاد الرئيسي للتعليم" وكانت التقوى تراعى بحزم كوسيلة من وسائل التربية والتهذيب- ومع ذلك فإن الأخوة كانوا يشجعون على دراسة كلاسيكيات وثنية مختارة وبدأ أرازموس في ديفنتر يمسك بزمام اللغة اللاتينية والأدب بصورة مذهلة
الفيلسوف
عند عودته إلى بروكسل وجد نفسه فريسة الإغراء بالتمسك بالحرص نظراً لما استقبل به من ترحاب ودي في البلاط الملكي. وأخذ منصبه كمستشار خاص بجد، ونسي أن المؤلفين اللامعين قلما تتوفر فيهم صفة الحنكة السياسية. وألف في عجلة عام 1516 الحافل بالأعمال كتابه:"تربية أمير مسيحي" الذي يفيض بالتفاهات التي كانت سائدة قبل ظهور كتاب ميكافيلي عن السلوك الذي يجب أن يتبعه ملك. وكتب في إهدائه لشارل بصراحة تتسم بالجرأة :"إنك تدين للعناية الإلهية في الفوز بمملكتك دون الإضرار بأحد ولسوف تظهر حكمتك على الوجه الأكمل إذا استطعت أن تحافظ فيها على السلام والهدوء". وكان ارازموس، مثل معظم الفلاسفة، يعد الملكية أهون الأشكال الحكومية شراً، وكان يخشى الشعب ويعده "وحشاً متقلباً متعدد الرؤوس". وكان يستنكر مناقشة الشعب للقوانين والسياسة ويرى أن فوضى الثورة أسوأ من أي استبداد للملوك، بيد أنه أشار على أميره المسيحي أن يتقي شر تركيز الثروة، فالضرائب لا تفرض إلا على الكماليات، ويجب تقليل الأديرة وزيادة المدارس، وعلاوة على كل هذا يجب ألا ينشب قتال بين الحكومات المسيحية- ولا حتى ضد الأتراك. "خير لنا أن نتغلب على الأتراك بالتقوى في حياتنا لا بالأسلحة. وهكذا يتم الدفاع عن الإمبراطورية المسيحية بنفس الوسائل التي أسست بها أصلا". "ماذا تولد الحرب ألا الحرب؟- ولكن الدماثة تدعو إلى الدماثة والعدالة تدعو إلى العدالة".
ولما كان شارل وفرانسس قد ثارت بينهما العداوة فإن أرازموس وجه الدعوة تلو الدعوة للسلام وامتدح الملك الفرنسي في حالة عابرة من المصالحة وتساءل كيف يمكن أن يفكر أحد في شهر الحرب على فرنسا "أطهر جزء في العالم المسيحي وأعظمه ازدهاراً". ووصل إلى ذروة الفصاحة المتحمسة في كتابه (الشكوى من السلام 1517).
"أمر في صمت على مآسي الحروب القديمة ولن أركز الحديث إلا على الحروب التي نشبت في خلال هذه السنوات الأخيرة. أين الأرض أو البحر الذي لم يحارب فيه الناس بطريقة من أقسى ما يمكن؟ وأين النهر الذي لم تصطبغ مياهه بدم الإنسان... بالدم المسيحي؟ يا للعار العظيم! إنهم يتصرفون بقسوة في المعركة تزيد على قسوة غير المسيحيين، وبوحشية تفوق وحشية حيوانات الغاب.. وكل (هذه الحروب) نشبت بسبب نزوات الأمراء على حساب الإضرار بالناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعارك... وليس بين الأساقفة والكرادلة والبابوات، وهم كهنة المسيح، من يخجل من بدء الحرب التي لعنها المسيح. ما هو الشيء المشترك بين الخوذة وتاج الأسقف؟ ويا أيها الأساقفة، يا من يحملون لواء الرسل، كيف تجرءون على أن تعلموا الناس أموراً كثيرة عن لحرب في نفس الوقت الذي تعلمونهم فيه تعاليم الرسل؟ إن السلام ولو كان جائراً أفضل من الحروب ولو كانت تمليها العدالة".
قد يفد الأمراء والقواد من الحرب ولكن الجماهير تتحمل المآسي والنفقات. وقد يكون من الضروري أحياناً شن حرب دفاعاً عن النفس ولكن حتى في الحالات قد تكون رشوة العدو أشد حكمة من شرور الحرب. فليرفع الملوك منازعاتهم إلى البابا. وقد يكون هذا إجراء غير علمي في عهد يوليوس الثاني إذ كان هو نفسه رجلا محارباً، أما ليو العاشر وهو "حبر متعلم تقي أمين" فإنه سيحكم بالعدل ويرأس فعلا محكمة دولية. ووصم أرازموس القومية بأنها لعنة للبشرية وتحدي الساسة أن يبتدعوا حكومة عالمية. وقال: "إني أتمنى أن أكون مواطناً عالمياً" واغتفر لبودي حله لفرنسا ولكنه قال : "في رأيي أنه أقرب للحكمة أن تكون علاقاتنا مع الأشياء والناس أساساً مثل اعتبار العالم البلد المشترك بالنسبة لنا جميعاً".
كان أرازموس أضعف الناس حماساً للقومية في عهد الإصلاح الذي رفع من شأن القومية. وكتب يقول: "إن أسمى شئ هو أن يستحق المرء أن ينسب إلى الجنس البشري".
ويجب ألا نتوقع من أرازموس أن يقدم لنا أي مفهوم واقعي للطبيعة البشرية أو عن أسباب الحروب أو عن سلوك الحكومات فهو لم يواجه قط المشكلة التي كان يعالجها في مكيافيلي في تلك السنوات نفسها. وهل كان في وسع حكومة أن تبقى إذا مارست الأخلاق التي تحث المواطنين على اتباعها. كانت وظيفة أرازموس أن يبتر الأغصان من شجرة الحياة لا أن يبني فلسفة إيجابية متينة. بل إنه لم يكن واثقاً من أنه مسيحي، فكثيراً كتب: "إن الذين ينكرون وجود الله ليسوا ملحدين كهؤلاء الذين يصورونه تعالى متزمتاً". وكان لا يكاد يؤمن بأن العهد القديم من كلام الله لأنه أقر برغبته في "أن يرى العهد القديم كله يبطل" إذا كان يهدئ من الحنق على رويخلين. وسخر من الروايات المأثورة عن مينوس ونوما بأنهما كانا يغريان شعبيهما بالخضوع لتشريع غير لطيف بنسبته إلى الآلهة. ولعله راوده الشك في أن موسى كان يتبع نفس السياسة. وعبر عن دهشته لأن "مور" رضى بالحجج التي تساق لإثبات خلود النفس ورأى أن العشاء رمز وليس معجزة، ومن الواضح أنه راوده الشك في الثالوث وفي تجسد الإقنوم الثاني وفي ولادة العذراء، وكان على مور أن يحميه من مراسل أعلن أن أرازموس قد اعترف في خلوة بعدم إيمانه. وطرح للنقاش واحداً بعد الآخر العادات التي درج عليها المسيحيون في عهده-صكوك الغفران والصيام والحج والاعتراف السري والرهبانية والعزوبة الأكليريكية وعبادة مخلفات القديسين والصلوات للقديسين وحرق الهراطقة. وقدم تفسيرات مجازية أو منطقية لكثير من فقرات الكتاب، المقدس، وقارن قصة آدم وحواء بقصة بروميثيوس، وأشار بتفسير الكتب المقدسة تفسيراً يلتزم أقل ما يمكن المعنى الحرفي، وحول عذاب الجحيم إلى الألم الدائم للعقل الذي يصحب الإثم المعتاد. ولم يذع شكوكه بين الناس لأنه لم يكن لديه أساطير مواسية أو رادعة يقدمها بدلا من الأساطير القديمة. وكتب يقول: "إن التقوى تستلزم منا أن نخفي الحقيقة أحيانا وأن نحرص على ألا نظهرها دائماً كما لو كان لا يهم متى وأين أو لمن نظهرها، ولعلنا نجد لزاماً علينا أن نتفق مع أفلاطون في أن الأكاذيب مفيدة للناس". وعلى الرغم من هذا الميل الشديد للمذهب العقلي فقد ظل أرازموس ظاهريا متفقاً مع المحافظين ولم يعدم قط محبته للمسيح وللأناجيل وللطقوس الدينية الرمزية التي رفعت بها الكنيسة من شأن التقوى. وابتدع شخصية في محاورته تقول "إذا كان ثمة شئ شائع الاستعمال عند المسيحيين لا يتنافر مع الكتب المقدسة فإني أراعيه لهذا السبب بحيث لا أسئ إلى الناس الآخرين".
وكان يحلم بأن يستبدل باللاهوت: فلسفة المسيح، وسعى إلى التنسيق بين هذه الفكرة وبين رأى كبار الوثنيين. ووصف أفلاطون وشيشرون وسينكا بعبارة "ملهم من الله" ولم يقبل أن يحرم هؤلاء الرجال من الخلاص وكان لا يكاد يستطيع أن يمتنع عن الصلاة على الروح القديس سقراط. وطلب من الكنيسة أن تختصر المذاهب الجوهرية للمسيحية "إلى أقل عدد ممكن وأن تترك للباقي حرية الرأي". ولم يدافع عن التسامح الكامل مع كل الآراء (ومن يفعل؟) ولكنه اتخذ موقفاً رفيقاً منحازاً نحو الهرطقة الدينية. وكان مثله الأعلى في الدين هو محاكاة المسيح ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نسلم بأن ممارسته للشعائر كانت أقل من أن توصف بأنها مطابقة لتعاليم الكنيسة الإنجيلية.
الإنسان
كيف عاش فعلا؟ لقد أقام إبان هذا العهد (1517) معظم وقته في الفلاندرز في بروكسل وأنتوب ولوفان-وسكن في خلوة أعزب مع خادم وإن كان كثيراً ما قبل ضيافة ذوي الثراء الذين كانوا يتسابقون على صحبته باعتبارها امتيازا اجتماعيا واحتفالا فكريا. وكان أنيقاً قفي أذواقه وكانت أعصابه ومشاعره رقيقة إلى الحد الذي كان كثيراً ما يتألم فيه خشونات الحياة الشديدة. وكان يشرب النبيذ بكثرة ويتفاخر بقدرته على حمل الكأس بثبات، ولعل هذا كان بسبب داء النقرس والحصوات التي كانت تضايقه، ولكنه كان يعتقد أن النبيذ يخفف من ألمه بتوسيع شرايينه. وفي عام 1514 وهو في الخامسة والأربعين أو الثامنة والأربعين من عمره وصف نفسه قائلا إنه: "عليل أشيب الرأس... يجب ألا يشرب سوى النبيذ" ويجب أن "يكون متأنقا في طعامه". وكان الصيام لا يناسبه، وكان يتميز غيظا من السمك؛ ولعل الصفراء عنده لونت لاهوته. وكان قليل النوم مثل معظم الناس الذين لا تعرف عقولهم المشغولة متى يأوون إلى الفراش، وكان يواسي نفسه بأصدقائه وكتبه "يخيل إلى إني أنتزع من نفسي عندما أحجز عن عاداتي في الدراسة. إن بيتي هو المكان الذي توجد فيه مكتبتي". وكان يلح في طلب النقود بكل ما عرف من مثابرة عن قسيس أبرشية، وذلك لشراء الكتب إلى حد ما. وكان يتلقى معاشات منتظمة من مونتجوى ووارهام وهدايا عينية مثل مبلغ الثلاثمائة فلورين (7500 دولار؟) من جان ليه سوفاج رئيس بورجنديا، وحقوق تأليف تزيد عن تلك التي كسبها أي مؤلف آخر في عصره. وكان يتنصل من أي حب للمال ويقول إنه يبحث عنه لأنه، كأي رجل بلا موارد، يخشى ألا يجد ما يؤمنه في وحدته عندما يبلغ أرذل العمر. وفي الوقت نفسه استمر يرفض الوظائف المربحة التي كان يمكن أن توسع دخله على حساب حريته.
كان مظهره أولا لا يؤثر في الناس، فقد كان قصير القامة نحيل البدن أصفر الوجه ضعيف البنية، خافت الصوت، وكان يؤثر في الناس بيديه الحساستين وأنفه الأقنى وعينيه الزرقاوين الرماديتين تلمعان ببريق الذكاء، وكلامه حديث يدل على عقلية خصبة لماحة من أحسن العقليات في هذا العصر اللامع، وكان أعظم الفنانين من معاصريه أبناء الشمال يتوقون إلى رسم صورة له، فوافق على أن يجلس أمامهم لأن هذه الصور كانت تلقى ترحيبا من أصدقائه باعتبارها هدايا، وصوره كينتان ماسيس عام 1517 وهو مستغرق في الكتابة وملتف بمعطف ثقيل يقيه برد الحجرات في تلك القرون وأهديت هذه الصورة إلى مور. ورسم ديرر صورة بالفحم لأرازموس عام 1520، ونقش له حفرا ملفتا للنظر عام 1526، وهنا أضيفت لمسة الريشة الألمانية تماما على "الأوربي الطيب" سحنة هولندية. وقال الجالس "إذا كنت أبدو كهذه الصورة فأنا محتال كبير". وتفوق هولبين على كل هذه الجهود في صور كثيرة رسمها لأرازموس إحداها في تورين وثانية في إنجلترا وثالثة في بازيل وأحسنها في اللوفر- وكلها روائع رسمها أعظم مصور للوجوه في الشمال، وهنا كان العلامة قد أصبح فيلسوفاً هادئاً متأملاً وإن كان سوداوياً إلى حد ما، وسلم في نفور لحياد الطبيعة المتواكل وفناء العبقرية. وكتب عام 1517 يقول: "يجب أن نتحمل ما يأتي به حظنا وقد هيأت عقلي لتقبل كل حدث". وهي فلسفة رواقية لم يحققها قط... وقال عن شاب طموح: "إنه يحب المجد ولكنه لا يعرف ما يكفله المجد من عناء". ومع ذلك فإن أرازموس مثل كثير من ذوي النفوس النبيلة، كان يواصل العمل ليلاً ونهاراً ليتغلب على هذا العبء.
وبدت أخطاءه واضحة للعيان، أما فضائله فكان لا يعملها إلا المخلصين من أصدقائه، وكان في وسعه أن يتسول بلا خجل، ولكن كان في وسعه أيضا أن يعطي، وكثيراً ما كانت تشيع في حرارة مدحه روح متمردة. وعندما وجه بفيفركورون Piefferkorn هجومه إلى رويخلين كتب أرازموس إلى أصدقائه من الكرادلة في روما، وساعد على الحصول على الحماية للعالم بآداب اللغة العبرية المتعب، وكان يفتقر إلى التواضع والاعتراف بالجميل، فقد كان هذا من الصعب على رجل يخطب وده البابوات والملوك.
وكان يضيق ذرعا بالنقد ويستاء منه. وكان أحيانا عليه بطريقة تعسفية في هذا العصر الشهير بالجدل، وشاطر في مناهضة السامية حتى مع علماء عصر النهضة، وكانت اهتماماته في أضيق الحدود كما كانت قوية، فقد أولع بالأدب عندما كان يلبس ثوب الفلسفة، وبالفلسفة عندما كانت تترك المنطق للحياة؛ ولكنه تجاهل تقريبا العلم والمسرح والموسيقى والفن. وسخر من معظم نظم الفلك التي كانت تختال على المسرح وسخرت معه النجوم. وليس في كل مراسلاته العديدة تقرير للألب أو لعمارة أكسفورد وكامبردج أو لتصوير رافائيل أو لنحت مايكل أنجيلو الذين كانوا يعملون ليوليوس الثاني عندما كان أرازموس بروما (1509)، ثم إن الترتيل القوي في الأبرشيات المقومة آذى فيما بعد أسماعه المهذبة. وكانت حاسة الفهاكة عنده عادة تتسم بالدقة والرقة، وكانت رابيلية ولكنها في الغالب ساخرة، وانقلبت مرة إلى سخرية لا تتسم بالإنسانية كما حدث عندما كتب إلى صديق عندما سمع بأجرام بعض الهراطقة: "سأرثي لهم أقل إذا رفعوا ثمن الوقود ولا سيما أن الشتاء على الأبواب".
ولم تكن من صفاته الأثرة الطبيعية أو الأنانية التي يتسم بها كل الرجال، بل كان يتصف بذلك الغرور الخفي المحبب أو الإعجاب بالذات الذي لولا لأنسحق الكاتب أو الفنان في الإندفاع القاسي للعالم يتسم بعدم الاكتراث.
وكان يحب الإطراء ويوافق عليه على الرغم ممن كانوا ينكرون عليه ذلك من آن لأخر. وكان لأحد أصدقائه: "أن خير النقاد يقولون أني أكتب أحسن من أي إنسان على ظهر الأرض". وكان هذا حقاً وأن كان باللاتينية فحسب، فقد كان يكتب بفرنسية رديئة ويحدث قليلا بالهولندية والإنجليزية، وكان "يتذوق العبرية بطرف اللسان فقط" وكان يعرف اليونانية معرفة ناقصة ولكنه كان يجيد تماماً اللغة اللاتينية، وكان يستخدمها باعتبارها لغة حية يمكن تطبيقها على معظم التفاهات والأشياء الحقيرة غير اللاتينية في عهده. وقد اغتفرت أجيال قرن مشغوفة بالكلاسيات معظم أخطاءه نظراً لما يمتاز به أسلوبه من إشراقة زاهية. وما تتسم به تقديراته للأشياء، بأقل من قيمتها، من سحر عجيب، وما تتصف به سخريته من تهكم لاذع. وتضارع رسائله خطابات سيشرون في البلاغة والدماثة وتفوقها حيوية وفطنة. وفضلا عن هذا فقد تفرد بلغة لاتينية خاصة به، ولم تكن تقليداً للغة سيشرون بل كانت كلاماً حياً قويا طيعا، ولم تكن صدى لألفاظ مضى عليها 1500 عام. وكانت رسائله مثل رسائل بترارك مطمع أنظار الأدباء والأمراء بعد حديثه المثير وهو يقول لنا، ولعل هذا بشيء من الرخصة الأدبية، أنه كان يتسلم كل يوم عشرين رسالة ويكتب أربعين خطابا. ونشرت منها بضع مجلدات في حياته بعد أن فتحها مؤلفها بعناية حتى يقرأها من يتم بعده. وكان بين من يراسلونه ليو العاشر وأدريان السادس والملكة مارجريت ملكة نافار والملك سيجموند الأول ملك بولندا وهنري الثامن وموروكوليه وبيركايمار. وكتب مور المتواضع: "لا أستطيع أن أتخلص من شعور نزوى بالغرور.. عندما يخطر ببالي أني سأكون موضع ثناء من خلف بعيد لصداقتي لأرازموس".
ولم يضارعه في شهرته كاتب آخر من معاصريه، اللهم إلا إذا اعتقدنا أن لوثر كاتب. وأبلغ بائع كتب في أكسفورد عام 1520 أن ثلث مبيعاته كانت من أعمال أرازموس. وكان له أعداء كثيرون وبخاصة بين علماء اللاهوت في لوفان، غير أنه كان له مريدون في اثنتي عشرة جامعة، وكان هناك علماء للإنسانيات في أوربا ينادون به قدوة وزعيما. وفي ميدان الأدب كان يمثل عصر النهضة ومذهب الإيمان بالإنسان مجتمعين- عبادتهما للكلاسيات ولأسلوب لاتيني مصقول واتفاق الجنتلمان (السادة المهذبين) على ألا يختلفا مع الكنيسة وألا يزعجا أساطير الجماهير التي لا غنى عنها، على شريطة أن للكنيسة أن تغض النظر عن الحرية الفكرية لطوائف المتعلمين وتسمح بتقويم مفاسد وسخافات رجال الدين تقويما داخليا قانونيا. وقد هلل أرازموس مثل كل علماء الإنسانيات لتبوء ليو العاشر منصب البابوية، فقد تحقق حلمهم - وها هو عالم بالإنسانيات وعلامة وسيد مهذب، يمثل اتحاد النهضة والمسيحية معا، قد ارتقى أعظم العروش. وليس من شك في أنه سوف يتم تطهير سلمي للكنيسة، وينتشر التعليم، وسيحافظ الناس على شعيرتهم المحببة وإيمانهم الذي يجدون فيه العزاء وإن كان العقل البشري سوف يكون حراً.
وظل هذا الأمل يراود أرازموس حتى بداية عهد لوثر تقريباً، ولكنه في اليوم التاسع من سبتمبر عام 1517 كتب من أنتورب إلى توماس، كرينال يورك، عبارة تنذر بالويل: "في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك ثورة عظيمة توشك على الوقوع". وفي أقل من شهرين وقعت الثورة.