الدواميس
مجتمع الجبل الغربي بيئة مستقرة .. ولهذا ليس بالجبل قبائل .. وإنما قرى.
’’ الدواميس استراحات .. وقت الزيتون .. في الربيع يمشوا الناس للغابة .. ويقعدوا فيهن .. أسبوعين ثلاثة .. ويرجعولها في الصيف ..‘‘.
الدواميس والبيئة العامة للجبل الغربي
لالوت
كان سبب زيارتنا أصلا هو مهرجان الربيع بنالوت .. واكتشفت أولا أن نالوت هو الإسم الشائع .. لكن أهلها ينطقونه لالوت .. كان مهرجانا بسيطا .. شوية موسيقى .. وكلمات .. محاضرات بالمساء .. معرض صغير لمطبوعات مجلس الثقافة العام ومركز الجهاد .. ومشاهد فولكلورية في قصر نالوت .
الملفت حقا كان مشاركة الناس، بأعداد كبيرة .. الآباء بل وأمهات بأطفالهم.
نالوت في مهرجان الربيع, 2007
وفي نالوت التقينا بالصدفة أصدقاء: الشاعر السنوسي حبيب من هون، والشاعر الشاب صلاح عجينة من الزاوية، والمبروك من سبها، والصحفي الأستاذ محمد طرنيش .. والأستاذ خليل العريبي.
زحام في قصر نالوت .. إحتفالا بمهرجان الربيع
قلت: ’’جئنا لحضور المهرجان .. احتفالا بجزء من تراثنا الليبي .. المفروض نعملوا مهرجان لكل الثقافات اللي تشكلت منها الثقافة الليبية الحديثة .. الليبيون الأوائل، الإغريق، الرومان، البربر، بني هلال، الترك، اليهود، الكريت، الطليان .. إي حتى الرومان .. وإلا من أين جاءت أسماء طرابلس ودرنة وصبراته وتوكرة ولبدة وطلميثة .. ألسنا ما نزال نلبس الجرد .. الحولي .. وهو نفس التوجا الرومانية !‘‘.
’’ولم لا .. يحق لليبيين .. بل على كل الليبيين .. أن نحتفل بالثقافة الأمازيغية .. لأنها ثقافتنا جميعا .. فالليبيين هم نسل ذلك الانصهار الهائل بين العرب الوافدين من المشرق وسكان البلاد الأصليين .. ألسنا نحتفل بالميلود الذي ابتكره الفاطميون، وربما أخذوه عن أصول مصرية قبل الإسلام .. ونحتفل بعاشوراء .. بل وعيد الأضحى .. هذه مشتركات تلتقطها الثقافات مثلما تتسرب مياه النهيرات الصغيرة قرب المنبع .. وتمتزج .. ولهذا فإنك حين تشرب من النهر .. فإنك تشرب من كل الينابيع الجبلية البعيدة .. وكذلك الثقافة‘‘.
غاســـــــرو
القصور كثيرة في الجبل الغربي .. تشير بشكل عام إلى المستوطنات البشرية القديمة أو القرى .. ودائما على قمة تل. لكن القصر أو الغاسرو بتحديد أكثر، هو المبنى المركزي في وسط القرية .. وهو مؤسسة اجتماعية .. محيطه دائري، جداره بناء يحوي غرفا .. لكل أسرة غرفتها لتخزين محصولها من القمح والشعير والزيت وغيرها. وللغاسرو غفير مسئول عنه يمنع اعتداء أحد على ممتلكات آخر. أما الساحة في وسط الغاسرو فلعقد الأسواق واجتماع الأعيان والعزّابة الحكماء.
قد يبدو نظام القصر غريبا أو خاصا بالجبل الغربي .. لكننا نجد إشارات لنفس النظام في الجبل الأخضر حين نجد قرى لها نفس التسمية مثل قصر ليبيا وقصور المجاهير ..الخ، التي اندثرت أطلالها المعمارية وبقي الإسم.
قصر الحاج: صورة عبر كوة في الجدار الخارجي, من داخل غرفة تخزين نحو الساحة
العطش: سمة العصر الحديث
جلي أن الجبل الغربي الآن بيئة طاردة. ليس فقط بسبب غياب المشاريع الإنمائية .. فالأمر أكثر بساطة .. الجفاف .. إن البيئة قاحلة قاسية هنا. ربما أيضا تكاثر السكان مثل بقية ليبيا دون تخطيط ! وسألت: من أين تشربون ؟
- المياه المعبأة
- ..
- تعتمد الناس على المواجن من مياه الأمطار
- ...
- الآبار عميقة .. وماؤها مرّ وعسير لما بها من كالسيوم
- ..
- وعلى السيارات لتعبئة خزانات البيوت .. ثلاثين دينار للسيارة.
نعم المنطقة محدودة الموارد والمياه والزراعة .. واضح أن الفقر هو القاسم المشترك .. يعوضه دخل أبنائها العاملين خارجها .. في طرابلس وغيرها.
ماذا نتوقع إذن .. ليس سوى مواساة الغبن بالأسطورة .. !!
وهل نلوم العطشى إذا اشتكوا ؟
فماذا ننتظر ؟
وشني حكاية الأمازيغية ؟
الطرح العرقي لا أساس له لأنه لا يستقيم مع حقائق التاريخ وعليه يصبح نوعا من الديماغوجية. فالليبيون مزيج من العرب والبربر وغيرهما من الأجناس. يصدق ذلك على عموم الليبيين كما يصدق على سكان جبل نفوسة. ثم إن الذين انعزلوا أو احتموا بالجبل، كانوا أساسا إباضيين .. خوارج .. ومنهم من قدم من المشرق حيث ظهر المذهب الخارجي .. بل ومن عُـمان. لهذا فإنني لا أقبل بالتصور العرقي الذي يزعم بأن أبناء الجبل الغربي جنس مستقل مختلف.
لقد شهدت ليبيا هجرات متعددة وفي كل الاتجاهات. كان مجئ بني هلال وبني سليم أكبر تحول ديموغرافي .. ولأنه ضخم لم يؤد إلى اندثار الوافدين في المجتمع المحلي .. لكنه لم يقض على السكان الأصليين وثقافتهم .. وهذا ما قاد إلى امتزاج متكافئ، ساهمت فيه كل ثقافة .. مثلما نجد في الثقافة الأميريكية الآن، أواللغة الإنجليزية الحديثة التي هي مزيج من الثقافتين الإنجليزية والفرنسية القديمة بدليل أننا نستطيع تتبع المفردات اللغوية الإنجليزية إلى أحد هذين الأصلين .. مناصفة تقريبا.
ولا أقبل الأمازيغية كمطلب سياسي.
لم لا تكون الأمازيغية تعبيرًا عن حنين وإحساس بالإنتماء إلى المكان ومن مرّوا عليه عبر القرون .. وإلى لسان / رطانة / لغة مشتركة .. وإلى قصص وأساطير الأصل المشترك كالتي نجدها في روايات قبائل بادية برقة التي تحكي كل منها نسبها إلى سلف واحد .. شئ أشبه بشجرة عائلة. ولا ننسى أن هناك جيوبًا أخرى انعزلت لكونها واحات .. مثل ما حدث في الجبل الغربي .. أوجلة، الجغبوب، ثم سيوة في مصر .. وهناك تسمى اللغة الأمازيغية رطانة.
إذن لا نستطيع أن نقبل الأمازيغية إلا في سياق ثقافي .. إنها وجه آخر لثقافـتنا الليبية المشتركة .. وعلينا أن نفرغها من سم التعصب.
نعم .. العوامل السلبية كثيرة، وقد تستغلها أطراف لا تريد لنا الاستقرار ..
لكن علينا أولا أن نلتفت للعوامل المحلية والقابلة للتصحيح:
العزلة التي تسبغها جغرافية المكان، وغياب التواصل الثقافي: فلماذا لا نحدث أطفالنا في كتبهم المدرسية عن تنوع ثقافتنا ؟ أين التلفزيون الليبي الذي يتجاهل كل قرى وواحات ليبيا ؟ ولماذا لا تؤسس جامعة متقدمة ينسب إليها الطلبة من كل ليبيا بنظام الحصص حسب تعداد كل منطقة ؟
العطش: لماذا لا نسرع بتوصيل مياه النهر الصناعي إلى جبل نفوسة أو تغذى المنطقة من محطة تحلية عند صرمان مثلا ؟
لماذا غياب المشاريع ؟ : وحين تساءلت الدولة دايرة وجهها لغادي ؟ ... كانت الإجابة "الدولة ما ورّت وجهها بُـكــّـل !"
ورغم هذه الشجون ... لنذهب إلى مهرجان الربيع في نالوت، لأنه مهرجاننا جميعا.
--------------------------------------------------------------------------------