بسم الله الرحمن الرحيم
مع الجزء الخامس و العشرون
(6)
وبعض أيات من سورة الجاثية
حم - 1 تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ – 2 إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ - 3
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ – 4
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ – 5 تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ - 6
مازلنا نعيش مع أنوار مبادئ الإسلام التي التزم بها المسلمون الأوائل فسادوا العالم , فملأوا الدنيا نورا وعدلا.
منطق العلم واليقين
آيات الله تعالى في الكون من حولنا لا تدع مجالا للشك لأي عاقل لأن يدرك أن للكون إله خالق مدبر حكيم عليم يدير هذا الكون الهائل. وكان يجب على هذا الإنسان العاقل أن يذعن لرسالة ربه التي تنير له طريق السعادة في الدنيا والأخرة, فلو أرسل لك شخص برسالة فمن السفه أن تلقها دون أن تعرف محتواها , فما بالك برسالة الله رب العالمين للبشر. فمن رحمة الله تعالى بالإنسانية أن أرسل لهم خير البشر صلوات ربي وسلامه عليه بخير كتاب على وجه الأرض القرآن العظيم لتحقيق الرحمة والعدل فيما بينهم والنجاة والنعيم في الأخرة.
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ – 2 إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ - 3
وكتاب الله تعالى يطلب منك التدبر والتأكد والتفحص والعلم بالآيات المكتوبة والآيات الكونية من حولك , وذلك لكونه الحق من عند الله تعالى لا يأتيه الباطل من قريب أو بعيد بل هو الحق المطلق.
والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء , ولا حال دون حال . فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب . .
وأي شيء ليس آية ؟
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ – 4
هذه السماوات بأجرامها الضخمة , وأفلاكها الهائلة , وهي - على ضخامتها – تدور في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق .
وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر , وهي ذرة , أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة . ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الفسيح . . تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه.
وقد أودع الله تعالى خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة . لو اختلت خصيصة واحدة منها أو تخلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم على الأرض.
وكل شيء في هذه الأرض وكل حي . . آية . . وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض . . آية . . والصغير الدقيق كالضخم الكبير . . آية . . هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة . . آية . . آية في شكلها وحجمها , آية في لونها وملمسها . آية في وظيفتها وتركيبها . وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان . . آية . . آية في خصائصها ولونها وحجمها . وهذه الريشة في جناح الطائر . . آية . . آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها . وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت , وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره.
ولكن , من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها ؟ لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها ؟ لمن ؟
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ – 3
فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداء ; والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء . تشير كلها إلى الخالق العظيم .
ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم ; وهي أقرب إليهم , وهم بها أكثر حساسية.:
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ – 4
وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب , وبهذه الخصائص الفريدة , وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة . خارقة . خارقة نسيناها لطول تكرارها , ولقربها منا ! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة واستهوالاً لهذا التركيب العجيب.
إن الحياة في أبسط صورها معجزة . في الإميبا ذات الخلية الواحدة . وفيما هو أصغر من الإميبا ! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد ؟ وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي.
وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعاً وأجناساً , وأشكالاً وأحجاماً , لا يحصيها إلا الله . وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه . معجز في تصريفه . معجز في تناسب حياته على هذه الأرض , بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة , تحفظ وجوده وامتداده , وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء . واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير ; وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً . .
النسور جارحة ضارية وعمرها مديد . ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير . . ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير ؟ وكيف كانت تقضي على جميع الطيور ؟
والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية . فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء ؟ إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء . . ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدوداً بالقدر المطلوب ! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم... .
والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف . . وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين . فكيف لو افلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنين ؟ لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون ؟ ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف... .
وهكذا وهكذا . في الخلق ذاته . وفي خصائصه . وفي تدبيره وتقديره . في عالم الناس , وعالم الدواب . . في هذا كله آيات . آيات ناطقة . ولكن لمن ؟ من الذي يراها ويتدبرها ويدركها ؟
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ - 3
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ – 4
واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس , وكي تتأثر , وكي تنيب . . اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن ; وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة من غير شك أعمى يتخبط في ظلمات الجهل والشتات.
ثم ينتقل بهم من ذوات أنفسهم وحركة الأحياء حولهم , إلى الظواهر الكونية , وما ينشأ عنها من أسباب الحياة لهم وللأحياء جميعاً.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ – 5 تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ - 6
واختلاف الليل والنهار ظاهرتان قد لا يلحظهما الإنسان من كثرة التكرار,
ولكن أية عجيبة تطالع الحس البشري وهو يواجه الليل أول مرة أو يواجه النهار ؟ إن القلب الشاعر المتفتح يرى هذه العجيبة دائماً , وينتفض لها دائماً ; ويرى يد الله التي تدير الكون كله كلما رأى الليل والنهار.
وتنمو معارف البشر , ويتسع علمهم عن بعض الظواهر الكونية , ويعرفون أن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة . ولكن العجيبة لا تنقص شيئاً بهذه المعرفة . فإن دورة الأرض هذه عجيبة أخرى . دورة هذا الجرم حول نفسه بهذه السرعة المنتظمة , وهو عائم في الهواء , سابح في الفضاء , غير مستند إلى شيء إلا إلى القدرة التي تمسك به وتديره كما شاءت بهذا النظام الذي لا يتخلف , وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء.
ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء ;ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء ; وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض , وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين . من الأحياء ! ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري ولا تنقصان.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ – 5
فهذه الأشعة التي تنزل من السماء ليست أقل أثراً في إحياء الأرض من الماء . فحرارة الشمس تبخر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطاراً , وتجري عيوناً وأنهاراً ; وتحيا بها الأرض بعد موتها . تحيا بالماء وتحيا بالحرارة والضياء سواء.
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
والرياح تمضي شمالاً وجنوباً , وشرقاً وغرباً , منحرفة ومستقيمة , دافئة وباردة , وفق النظام الدقيق المنسوق المقصود في تصميم هذا الكون العجيب ; وحساب كل شيء فيه حساباً دقيقاً لا يترك شيئاً للمصادفة العمياء . . ولتصريف الرياح علاقة معروفة بدورة الأرض , وبظاهرتي الليل والنهار , وبالرزق الذي ينزل من السماء . وكلها تتعاون في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون .
آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
فللعقل هنا عمل , وله في هذا الميدان مجال.
وبهذه المبادئ يعيش المؤمن حياة اليقين مع آيات الله تعالى , سواء المكتوبة في القرآن العظيم أو المبثوثة في الكون.
*******
وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى