سجـود آلقـلــب
إن أجمل مذاق قد يتذوقه المرء في حياته،
وأسمى المشاعر تكون لحظة سجــــوده لله تبــــارك وتعالى ..
وحين يكون العبد مهمومًا فيسجد،
لا يتمالك نفسه حتى يبكي ..
فإذا سقطت دمعته وأخذ يبُث شكواه لربِّه،
يجد إن صدره قد انشرح وانفرجت أساريره ..
فكم خفف السجود من هموم ..
وكم نفَّس عن مكروب ..
وكم من حاجةٍ ما انقضت إلا بالسجود ..
وكم من دعوة ما استجيبت إلا في السجود .
وحين يسجد الجسد، يسجد معه القلب ..
وبعد أن يرفع رأسه،
يجد نورًا في وجهه من أثر السجود ..
وهذا النور يزداد يوم القيامة،
قال صلى الله عليه وسلم:
" أُمَّتِي يومَ القيامةِ غُرٌّ منَ السجودِ، مُحَجَّلُونَ مِنَ الوُضوءِ "
الراوي: عبدالله بن بسر المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 607
خلاصة حكم المحدث: صحيح
يقول ابن القيم
وقيل لبعض العارفين:
أيسجد القلب بين يدى ربِّه ؟!،
قال: أي والله، بسجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة.
فشتان بين قلب يبيت عنه ربِّه قد قطع في سفره إليه بيداءَ الأَكوان وخرق حجب الطبيعة،ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربِّه في دار فشاهد عز سلطانه
وعظمة جلاله وعلو شأْنه وبهاءَ كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبِّر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتُعْرَض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأْمر فيها بما يشاءُ،
فينزل الأمر من عنده نافداً [ كما أمر ]، فيشاهد الملك الحق قيومًا بنفسه، مَقِّيمًا لكل ما سواه، غنيًا عن كل من سواه، وكل من سواه فقيرٌ إِليه ..
قال تعالى :
{ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمن:29]
يغفر ذنبًا .. ويفرج كربًا .. ويفك عانيًا .. وينصر ضعيفًا .. ويجبر كسيرًا .. ويغني فقيرًا .. ويُميت .. ويُحيي ويُسعِد .. ويُشقى ويُضل .. ويهدي ويٌنْعِم على قوم،
ويسلب نعمته عن آخرين .. ويعز أَقوامًا، ويذل آخرين .. ويرفع أَقوامًا، ويضع آخرين. كتاب[طريق الهجرتين وباب السعادتين (23:46)]
يقول ابن القيم أيضا
فى كتابه مدارج السالكين(الجزء الأول صــ 429،430)
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء فهذا سجود القلب.
فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه إذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم وخشع الصوت والجوارح كلها وذل العبد وخضع واستكان ووضع خده على عتبة العبودية ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم فلا يرى إلا متملقا لربه خاضعا له ذليلا مستعطفا له يسأله عطفه ورحمته فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه فليس له هم غير استرضائه واستعطافه لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له يقول: كيف أغضب من حياتى في رضاه وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟.
وصاحب هذا المشهد: يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية وهو القيم بمصالحه كلها فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشده وثاقا ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبا فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تستبق على خديه قد اعتنقه والتزمه وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولا مؤوي له سواك ولا مغيث له سواك مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك أنت معاذه وبك ملاذه.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
سجـود آلقـلــب
فيا لها من سجدة،
لا يرفع القلب رأسه منها إلى يوم لقاء ربِّه ..
حتى إن عدوك يبكي حسرةً،
من شدة غيرته منك على سجودك لربِّك ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ
( وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي)
أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ "
صحيح مسلم - كِتَاب الْإِيمَانِ - باب بَيَانِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ
أما نحن فنسجد يوميًا ولله الحمد، ولكن منّا من يسجد دون أن يدرك مدى عظمة السجــود!!
ومنّا من أنعم الله عليه بهذه النعمة!!
فأقول لنفسى أولا ولك
يامن لم تدرك بعد..
جرِّب لذة السجود بصدق ..
اسجد بين يدي ربِّك،
وقلبك وروحك ووجدانك وعقلك وذهنك لا يفكر
إلا في أن تقترب من الله سبحانه وتعالى ..
قال تعالى :
{ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق: 19]
نسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا في طاعاتنا وصلاتنا
نسألك اللهم بنور وجهك وبأسمائك الحسنى
ألَّا تحرمنا نعمة السجود بين يديك
أبداً ماحيينا
ونسألك ياربنا أن تنعم علينا بنعمة سجود القلب بين يديك
سبحانك ربنا وتعاليت
سبحانك لا نحصى ثناءً عليك
أنت كما أثنيت على نفسك
سبحانك لا إله إلا أنت