المُرُوءَةُ في ظلالِ الشِّعِْر
د. أسامة عثمان
اختلفت كلمةُ اللغويين والأدباء في معنى المروءة، فمِنْ قاصرٍ لها على معنى معين ومِنْ راءٍ أنها تعم المحاسن الخلقية كلَّها.
قال ابن منظور في لسان العرب: "والمُرُوءَة: الإِنسانية... يقال من المُرُوءَةِ: مَرُؤَ الرجلُ يَمْرُؤُ مُرُوءَةً، ومَرُؤَ الطعامُ يَمْرُؤُ مَراءَةً، وليس بينهما فرق إلا اختلاف المصدرين. وكَتَب عمرُ بنُ الخطاب إلى أبي موسى: خُذِ الناسَ بالعَرَبيَّةِ، فإِنه يَزيدُ في العَقْل ويُثبتُ المروءَةَ. وقيل للأَحْنَفِ: ما المُرُوءَةُ؟ فقال: العِفَّةُ والحِرْفةُ. وسئل آخَرُ عن المُروءَة، فقال: المُرُوءَة أَن لا تفعل في السِّرِّ أَمراً، وأَنت تَسْتَحْيِي أَن تَفْعَلَه جَهْراً. وطعامٌ مَريءٌ هَنِيءٌ: حَمِيدُ المَغَبَّةِ بَيِّنُ المَرْأَةِ، على مثال تَمْرةٍ."
ومن هذا يُلمح أن المروءة تلتقي أيضًا ومعنى السهولة، فهي في الأخلاق السهلة الكريمة التي تستسيغها الطباع السليمة، وتسعى إلى بلوغها النفوس النازعةُ نحو الكمال.
هذا، ومن تصريفات الفعل الأصلي (مرأ) صيغةُ: تفعَّل (تمرَّأَ) التي تفيد معنى الصَّيْرُورَة: تَمَرَّأ أي صار ذا مرُوُءة. أو التكلّف، أي بذلَ جهدًا ومعاناة حتى يتصف بالمروءة ويكتسبها، وهذا يعني أنّ للإنسان يدًا في بعث المروءة في نفسه وتربيتها فيها.
وجاء في كتاب الكامل للمبرِّد: "...يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: إنا معشر قريش، كنا نَعُدُّ الجودَ والحِلمَ السوددَ، ونعد العفافَ وإصلاحَ المال المروءةَ.
قال الأحنف بن قيس: كثرةُ الضحك تُذهِب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة،
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما المروءة؟ فقال: موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء.
وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة.
وقيل لمعاوية: ما المروءة؟ فقال: احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النُّبْلُ؟ فقال: الحِلْمُ عند الغضب، والعفو عند القدرة...".
ويبدو أنهم قد اختلفوا في أيِّ الصفات أقرب إلى تحقيق المروءة، وأيها أولى برفع المنزلة واستجلاب الهيبة؛ فرآها بعضُهم في إصلاح المال، ورآها آخرون في صفات معنوية أخرى.
وتلتقي المروءة في الاشتقاق مع المَرْء، وهو الواحد من بني آدم، فكأنها إذ تصبغه بتلك الصفات الجميلة، تردُّه إلى إنسانيته التي خُلق عليها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] أما رَدُّهُ أسفلَ سافلين فقد يكون بالهوى الذي تميل النفوس إليه، أو بالاستجابة إلى وساوس الشيطان: أي أن الله عز وجل خلق جنس الإنسان في أحسن شكل، متصفًا بأجمل الصفات وأكملها... لكن الله سبحانه قد رده أسفل سافلين؛ بكفره وعصيانه واتّباعه لهواه.
ومن هنا جاء قول الشاعر لبيد بن ربيعة:
ما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسِه والمرءُ يصلحُهُ الجليسُ الصالحُ
فالفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها كريمةٌ، لكنها معرضة للتلوث والانحراف، أو الانحطاط باتباع الهوى؛ فجاء الدين للحفاظ عليها نقيةً قويمةً، وجاءت الأنظمة والتشريعات لضبطها وإرشاد الإنسان إلى ما لا يُضمن اهتداؤه إليه بنفسه.
فمن أصاب من الشعراء صفةً من الصفات الكريمة التي فطر الله الإنسان عليها فقد تضمن شعرُه ما يحيي المروءة، ويذكي ذكرها تنويها وتمجيدًا، وبناء على كون المروءة جامعةً للمحاسن كلِّها، فإنك واجدُها في الكرم، وعزة النفس، والحفاظ على الجار، والكرم والجود، والإيثار، والشجاعة والنجدة، والقناعة والزهد بمتاع الدنيا الفانية، وطهارة العرض، والحياء، والحفاظ على العهد والوفاء بالوعد، وعدم احتمال الضيم، وفي الصبر وعدم الملل أو الضجر، وفي نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، وغيرها من المناقب والمحاسن الخلقية.
وتنشأ المروءة العربية إِمّا من تأثُّرات العرب بما تبقى من رسالات سماوية، وأديان وشرائع أوحى الله بها إلى الرسل الذين لم تخلُ أمةٌ منهم، أو أنها تكون من الفِطَر السليمة التي لم تُلوث، أو من العقول الحكيمة التي تعمقت في النظر في معاني الحياة وتجارِب الناس؛ فاهتدت إلى تلك المعاني وصاغتها شعرًا.
ولا يخفى أن العربيَّ والعرب لم يكونوا أقلَّ من غيرهم اتصافا بالشمائل والمناقب والصفات الكريمة والأخلاق الرفيعة، إن لم يكونوا أفضلَهم في شدة بأسهم وفروسية أخلاقهم؛ وذلك أهَّلهم لتنزُّلِ رسالة الإسلام عليهم، واختيارهم لأن يكونوا مادة الإسلام الأولى. وقد عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته بيَّنَ فيه "أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير..." وقال في موضع آخر: "وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتهم من ذميم الأخلاق..."، مع ما هم عليه من ضلال في الأديان، وظلم في التشريعات، وتواضع منزلتهم السياسية بين الأمم.
ونظرًا للتقدير الكبير والمكانة العالية التي كان الشعر يتبوؤها في الحياة العربية؛ تلك المكانة التي أمدته بالسيرورة والانتشار وشرف الاستقبال، فقد كان من الطبيعي أن ينهض الشعر بتلك المهمة؛ بأن يكون هو الخطابَ الأدبيَّ الحافلَ بالقواعد الأخلاقية المحكَّمة، والمثل العليا التي يسعى العربي إلى تمثُّلها.
وقد كانت النفس العربية آنذاك؛ تتصف بالاستعصاء أنفةً وإباءً، وتستصعب أن يعظها أحدٌ غيرها. وهي لا بد لها من وعظ وتذكير، ولا ينفعها مثلُ اتعاظها من نفسها.
لن ترجع الأنفسُ عن غَيِّها = حتى يُرى منها لها واعظ
فلو لم يأتِ الوعظ يومَها من الشعر بسلطته المحترمة المقدَّرة، فلربما لم يكن له مثل ذلك القبول. فهو أسرع الأساليب البشرية تأثيرا في الوجدان واختلاطا في النفوس، وهو أقربها إلى الصدق، وأوفاها بحمل التجارب الإنسانية واختزالها.
هذا، ولم يُعْنَ الإسلام بإنزال الشعر عن تلك المكانة، ولم يقلِّل من دوره في التهذيب والتثقيف، بل إنه أقره على ذلك، مادام داعيا إلى المعالي، مبرَّأً من الدعوات الكافرة، ومترفعا عن المجون وتزيين القبيح. قال رسول الله:" إن مِنَ الشعرِ حكمةً".
وقد أتى النابغةُ الجَعْدِيُّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنشده:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ إِذْ جاءَ بالهُدَى ويَتْلُو كتاباً كالمَجَرَّةِ نَيِّرَا
بَلَغَنا السَّماءَ مَجْدَُنا وجُدُوَدَُنا وإِنَّا لنَرْجُو فَوْقَ ذلك مَظْهَرا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إلى أين أبا ليلى؟" فقال: إلى الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شاء الله". وأنشده:
ولا خَيْرَ في حِلْمٍ إِذَا لم تَكُنْ له بَوَادِرُ تَحْمِى صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرا
ولا خَيْرَ في جَهْلٍ إِذَا لم يكن له حَلِيمٌ إِذَا ما أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفضض اللهُ فاك"، قال: فبقي عمره لم تنقص له سنٌّ، وكان مُعَمَّراً.
في قدرة الشعر على استمالة الكريم:
وكأنّ من وظيفة الشعر أن يذكِّر الكريمَ بكرامة أصله، وما يقتضيه ذلك من خلق أو موقف، ومن هنا جاء قولُ عمرَ بن الخطّاب -رضي الله عنه-: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلبَ اللئيم. (العقد الفريد- ابن عبد ربه الأندلسي)
في بعثه المروءة:
وفي معرض دعوة معاوية للحارث بن نوفل لرواية الشعر، وحفظه وبيان فضله في إيقاظ المروءة، أشاد ببيتين من الشعر كانا من أسباب ثباته وتشجُّعِه، وهما:
أبتْ لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإعطائي على المكروه مالي وضربي هامةَ الشيخِ المشيحِ
وهما لعمرو بن الإطنابة. وبعدهما قولُه:
وقولي كلَّما جشَأتْ وجاشتْ مكانَكِ تُحمَدي أو تَسْتَريحي
لأدفعَ عن مآثِرَ صالحاتٍ وأَحمِي بعدُ عن عِرضٍ صحيحِ
(ديوان المعاني- أبو هلال العسكري)
وقد كان الخلفاء والقادة يحرصون على رواية الرفيع من الشعر، ويرغبون في ذلك لأبنائهم، فقد قال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: "روِّهم الشِّعر يَمْجُدوا ويَنْجُدوا". كما كانوا يتمثلون الأبيات من الشعر حين يكون واقعُها.
فقد أخبر العتبى عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان -رحمه الله- كان يوجه إلى مصعب جيشًا بعد جيش فيهزمون، فلما طال ذلك عليه واشتد غمُّه أمر الناس فعسكروا، ودعا بسلاحه فلبسه، فلما أراد الركوب قامت إليه أم يزيد ابنه -وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية- فقالت: يا أمير المؤمنين، لو أقمت وبعثت إليه لكان الرأي، فقال: ما إلى ذلك من سبيل، فلم تزل تمشي معه، وتكلمه حتى قرب من الباب، فلما يئست منه رجعت فبكت، وبكى حشمها معها، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك فقال: وأنت أيضاً ممن يبكي! قاتل الله كُثيِّراً، كأنه كان يرى يومنا هذا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همَّه حَصَانٌ عليها نظمُ درٍّ يزينها
ولكن مضى ذو مرةٍ متثبت بسنة حق واضحٍ مستبينها
( الأمالي- أبو علي القالي)
و(المروءة) في الإيجابيات والمناقب نقيضةُ (العيب) في السلبيات والمثالب؛ كلمةٌ جامعة، أو وصفٌ عام كأنها قانون للأخلاق يصنفها، ويقدمها، أو يؤخرها.
لَيسَ المُروءَةُ في الثِيابِ وَبطنَة إِنَّ المُروءَةُ في نَدىً وَصَلاحِ
وَتَرى الفَتى رَثَّ الثِيابِ وَهَمُّهُ طَلَبُ المَكارِمِ في تُقىً وَصَلاحِ
(أحمد بن طيفور)
روافد شعرية إلى دوحة المروءة:
ويفيض الشعر العربي في عصوره المتعاقبة بالمعاني الإنسانية التي تصقل النفوس وتهذبها، أقتطف منها أبياتًا.
معنى الأمانة:
قال عمرُ بن الخطّاب للوَفد الذين قَدموا عليه من غَطفان: من الذي يقول:
حلفتُ فلم أتركْ لنَفْسك رِيبةً وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ
قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي على وَجَل تُظنُّ بيَ الظُنونُ
فألفيتُ الأَمانةَ لم تَخنْها كذلك كَان نُوحٌ لا يَخونُ
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعرُ شُعرائكم. (العقد الفريد- ابن عبد ربه)
القناعة والرضا:
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ
أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى وأَنَ الغِنى يُخشى عليه من الفقرِ
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
ولحاتم الطائي:
فإِنَّك إنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وفَرْجَكَ نَالاَ مُنْتَهَى الذَّمّ أَجْمَعَا
وللشنفرى:
وَإِن مُدَّتِ الأَيدي إِلى الزادِ لَم أَكنُ بِأَعجَلِهِم إِذ أَجشَعُ القَومِ أَعجَلُ
في بعث الثبات والشجاعة والإقدام والنجدة:
وكان عليٌ -رضي الله عنه- إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ يومَ لا يُقدر أم يوم قُدِرْ
يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبُه ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِرْ
قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول:
وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه
ولزهير:
ولَأَنْتَ أَشْجَعُ من أُسَامَةَ إِذْ دُعِيَ النزَالُ ولُجَّ في الذُّعْرِ
قال عمرو بن برَّاقة الهَمْداني:
متى تجمع القلبَ الذكيّ وصارما وأنفاً حمِيّا تجتنبْكَ المظالمُ
ولطَرَفَةَ:
إِذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني عُنيتُ فَلَم أَكسَل وَلَم أَتَبَلَّدِ
في الشكر:
لزُهير بن جناب:
ارفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى
يَجزيك أو يثني عليك فإنّ مَن أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى
وفي حفظ السر:
لقيس بن الخطيم:
وإنْ ضيَّع الإخوانُ سرّاً فإنَّني كتومٌ لأسرارِ العشيرِ أمينُ
في الهيبة:
للفرزدق:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنينه شممُ
يُغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ فَما يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
قالوا:لم يُقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
[ابن قتيبة- الشعر والشعراء]
في الحياء:
قال عبيد السلاميّ:
وأعرضُ عن أشياء لو شئتُ نلتُها حياءً إذا ما كانَ فيها مقادِعُ
في الصبر وعدم الجزع:
قول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
في حفظ اللسان:
قال امرؤ القيس:
إِذَا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عليه لِسَانَهُ فلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
وقال أيضا:
وَلَو عَن نَثاً غَيرِهِ جاءَني وَجُرحُ اللِسانِ كَجُرحِ اليَدِ
وقال طرفة:
وإنَّ لِسَانَ المَرْءِ ما لم تَكُنْ له حَصاةٌ على عَوْراتِهِ لَدَلِيلُ
في اصطناع البر:
قال امرؤ القيس:
واللهُ أَنْجَحُ ما طَلَبْتَ بِهِ والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْلِ
وللحطيئة:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالناسِ
وفي الكرم:
قال عبد الملك لقومٍ من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتفقوا على بيت زهيرٍ:
تَرَاهُ إذَا ما جِئْتَهُ مُتَهَلَّلاً كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الِّذِي أَنْتَ سائِلُهْ
وقال حاتم الطائي:
أَماوِىَّ إِنَّ المالَ غادٍ ورائِحٌ ويَبْقَى من المالِ الأَحادِيثُ والذّكْرُ
أَماوِىّ إني لا أَقُولُ لسائِلٍ إِذَا جاءَ يَوْماً حَلَّ في مالِنا نَذْرُ
أَماوِىَّ إِمَّا مانِعٌ فمُبَيِّنُ وإِمَّا عَطاءٌ لا يُنَهْنِهُهُ الزَّجْرُ
أَماوِىَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عنِ الفَتَى إِذا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضاقَ بها الصَّدْرُ
أَماوِىَّ إنْ يُصْبِحْ صَدايَ بِقَفْرَةٍ من الأَرضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تَرَىْ أَنَّ ما أَنْفَقْتُ لم يَكُ ضَرَّنِي وأَنَّ يَدِي ممَّا بَخلْتُ به صِفْرُ
وقد عَلِمَ الأَقْوَامُ لَوْ أَنَّ حاتِماً أَرَادَ ثَرَاءَ المالِ كان له وَفْرُ
وفي التسامح:
قول زهير في مدح هرم بن سنان:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَظَّلِمُ
قد سبق زهيرٌ إلى هذا المعنى، لا ينازعه فيه أحدٌ غير كُثيِّر، فإنه قال يمدح عبد العزيز بن مروان:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُصْرم
[الشعر والشعراء]
وفي العفة:
إِذا أَنْتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجَهْلِ والخَنَا أَصَبْتَ حَلِيماً أَو أَصابكَ جاهِلُ
ولعنترة:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
وللشنفرى:
لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تَبيتُ بُعَيدَ النَومِ تُهدي غَبوقَها لِجارَتِها إِذا الهَدِيَّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمَنجاةٍ مِنَ اللَومِ بَيتها إِذا ما بُيوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كَأَنَّ لَها في الأَرضِ نِسياً تَقُصُّهُ عَلى أَمِّها وَإِن تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ
أُمَيمَةُ لا يُخزي نَثاها حَليلَها إِذا ذُكَرِ النِسوانُ عَفَّت وَجَلَّتِ
ويستوقفنا البيتُ الرابع:
إذ "يقول كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئاً ضاع لا ترفع رأسها، والنسي الشيء المنسي. وتبلت أي تقطع كلامها ولا تطيله من فرط حيائها..." [شرح أدب الكاتب – ابن الجواليقي]
وفي الجرأة واقتحام الخطر:
قول زهير:
ولَيْسَ لِمَنْ لم يَرْكَبِ الهَوْلَ بُغْيَةٌ ولَيْسَ لرَحْل حَطَّهُ اللهُ حامِل
في العزة وعدم المبيت على الضيم:
قول النابغة، وهو مما يتمثل به من شعره:
ومَنْ عَصاك فعاقِبهْ مُعاقَبَةً تَنْهَى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ
وعليه قول الشنفرى:
وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
في سيادة الأخيار:
قول الأفوه الأودى:
لاَ يَصْلُحُ القَومُ فَوْضَى لاَ سَرَاةَ لَهُمْ ولا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهل الرَّأي مَا صَلَحَتْ فإنْ تَوَلَّتْ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَادُ
في حسن التصرف بحسب المواقف واختلاف الناس:
قال أبو دؤاد الإيادي:
مِنْ رجال من الأَقارِبِ فَادُوا من حُذَاق هُمُ الرُّؤُوس العظامُ
فهُمُ لِلْمُلاَيِنِينَ أَنَاةٌ وعُرَامٌ إِذَا يُرَادُ العُرَامُ
وقريبٌ منه قولُ المتنبي:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
في الحفاظ على العهد و الجوار والقرابة:
قال امرؤ القيس:
عَلَيها فَتىً لَم تَحمِلِ الأَرضُ مِثلَهُ أَبَرَّ بِميثاقٍ وَأَوفى وَأَصبَرا
أبو دؤاد الإيادي:
تَرَى جارنَا آمِناً وَسْطَنا يَرُوحُ بعَقْدِ وَثيقٍ السَّبَبْ
إِذَا ما عَقَدنا له ذِمَّةً شَدَدْنا العِنَاجَ وعَقْدَ الكَرَبْ
البحتري:
إذا احْتربَتْ يوماً ففاضت دماؤها تذكَّرتِ القربى ففاضت دموعُها
الثراء والغنى:
عدَّه بعضُهم من لوازم المروءة، ولا سيما في المجتمع الجاهلي؛ قال النَّمِر بن تولب:
فَالمالُ فيهِ تَجِلَّةٌ وَمَهابَةٌ وَالفَقرُ فيهِ مَذَلَّةٌ وَقُبوحُ
ورأى مالك بن حريم الهمداني بأن الفقير، أو قليل المال:
يَرى دَرَجاتِ المَجدِ لا يَستَطيعُها وَيَقعُدُ وَسْطَ القَومِ لا يَتَكَلَّمُ
خاتـمة:
وليست تلك المحاسنُ والأخلاق الكريمة مما يُعفِّيه الزمانُ أو تنقص من قيمته التطوراتُ المادية؛ لأنها ثابتة في الخَيْرية والرِّفعة، فالصدق والأمانة والاستقامة في المعاملات والعلاقات، مثلا، كانت ممدوحةً في الجاهلية، وفي الإسلام، وهي كذلك في هذا الزمان، وحتى قيام الساعة، عند جميع العقلاء والأسوياء. لا تتغير صفتها بالتقادم. وينبغي أن لا يختلف عليها البشر.
ومن المعلوم أن التشريع الإسلامي حين نزل، ثم اكتمل قد أقرّ في العرب أخلاقًا وسجايا كانت تتحلى بها وتقدرها، كالكرم والحفاظ على العهد والشجاعة والشهامة، ونفى أخرى كانت العرب متورطة فيها؛ كالحمية الجاهلية، والغزو للنهب والسلب، والمفاخرة بالقبيلة وغيرها. فبعد نزول الشريعة صارت هي الميزان والحكم على أخلاق العرب ومفاخرهم، فَحُكْمُ الله قاضٍ على تلك الصفات، قبولا أو رفضا، وتهذيبا أو تكميلا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق".
م0ن رائع اعجبنى