عام الفيل هو العام الّذي ولد فيه سيّدنا ومولانا رسول الله(ص)، وقد سُمّي بهذا الاسم، لأنّه شهد قدوم أبرهة ملك الحبشة على رأس جيش كبير، ومعه الفِيَلَة، من أجل هدم الكعبة الشّريفة، وورد ذكر هذه الحادثة في القرآن الكريم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}[الفيل: 1-5].
كما وجاء تفاصيل هذه الحادثة في كتب السِّيَر والتّاريخ، قال ابن كثير في تفسيره: كان هذا توطئةً لمبعث رسول الله(ص)، فإنّه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم ـ يا معشر قريش ـ على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الّذي سنشرّفه ونعظّمه ونوقّره ببعثة النبيّ الأمّيّ محمد(ص) خاتم الأنبياء.
وبنى أبرهة كنيسةً ضخمة، وقرّر أن يدعو أهل الجزيرة العربيّة لأن يحجّوا إليها بدل الكعبة، وينقل الكعبة إلى أرض اليمن، وأرسل أبرهة الرّسل والدّعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز يدعونهم إلى الحجّ إلى كنيسة اليمن، فأحسّ العرب بالخطر إذّاك، ولم يستجيبوا لطلبه، فغضب وقرَّر أن يهدّم الكعبة، وجاء على رأس جيش عظيم، وكان بعضهم يمتطي الفِيَلة، وجاء رسول أبرهة إلى مكّة، فدلّوه على عبد المطلب الّذي قال له الحديث المشهور: "نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت ربّ يحميه".
أمر عبد المطّلب أهل مكّة بأن يلجأوا إلى الجبال المحيطة بها، وذهب هو وجمعٌ معه إلى جوار البيت ليدعو..
تقدّم أبرهة وجيشه صوب الكعبة، حتى إذا كان طلوع الشمس، طلعت عليهم الطّير ومعها الحجارة، فجعلت ترميهم، وكلّ طائر في منقاره حجر وفي رجليه حجران، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت أخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطنٍ إلا أحرقه، ولا عظمٍ إلا أوهاه وثقبه، وهكذا هزم الجيش وهلك قائده بعد ذلك.
وفي تفسيره لسورة الفيل، يقول سماحة المرجع المفسِّر السيّد محمد حسين فضل الله(رض): {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الّذين جاؤوا بكلّ قوّتهم وعدّتهم ليهدموا الكعبة الّتي جعلها الله موضعاً لعبادته، ومحجّةً لخلقه، وليست الرّؤية ـ هنا ـ هي الرّؤية الحسيّة، لأنّ الزّمان قد ابتعد عن الفترة الّتي نزلت فيها السّورة، بل الرّؤية القلبيّة المنفتحة على التّاريخ الصّادق المعروف لدى النّاس من جهة، وعلى الحقيقة الصّارخة المتمثّلة بالكعبة الباقية على مرّ السّنين بكلّ التحدّي الإلهيّ للّذين يريدون أن يهدّموها أو يمسّوها بسوء من جهة أخرى.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}، فلم يستطيعوا أن يحقّقوا لأنفسهم أيّ نجاح لخطّتهم فيما كادوه وخطّطوا له من تخريب الكعبة وتدميرها، بل تحوَّل كيدهم إلى تدمير أنفسهم وضياع جهدهم.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}، أي جماعات متفرّقة لتحارب كيدهم بدلاً من أهل مكّة الّذين هربوا إلى الجبال خوفاً من قوّتهم وبأسهم وبطشهم.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ}، وهي كلمة فارسيّة مركّبة من كلمتين، تفيدان معنى الحجر والطّين، أو حجارة ملوّثة بالطّين.. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}، والعصف هو الحاف من ورق الشّجر، والمأكول هو الفتيت من الطّحين حين تمزّقه الحشرات وتأكله، أو حين يأكله الحيوان ويمضغه، وهكذا تمزّقت أجسادهم وتفتّتت بفعل هذه الحجارة الّتي كانت تفعل فيها فعل القذيفة الّتي تحوّل الأجساد إلى أشلاء بقدرة الله الّتي لا يعجزها شيء.
وبقي للتّاريخ الرّساليّ الإيحاء الإلهيّ الّذي يؤكّد للمؤمنين أنّ الله إذا أراد حماية بيته ودينه، فإنّه يتدخّل بإرادته بطريقة خارقة للعادة، ليهزم كلّ الطّغاة الّذين يريدون به كيداً، فلا تثبت أمامه قوّة، ولا تنجح أيّة مكيدة، مهما كان نوعها، فعلى المؤمنين أن يعرفوا كيف حفظ الله بيته الحرام، حتّى وهو في أيدي المشركين الّذين تفرّقوا عنه، فكيف لا يحميه وهو في أيدي المؤمنين، وتلك هي العبرة البالغة في كلّ حين...