السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. وعملًا بالآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب الله ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 21- 30].
قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴾ يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فيقول: ﴿ كَلَّا ﴾: أي: حقًا ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ ﴾ أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾ [طه: 105]. وقوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22] أي وقام الخلائق من قبورهم لربهم وجاء ربك يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد-صلى الله عليه وسلم- بعد ما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذلك حتى تنتهي النوبة إلى محمد-صلى الله عليه وسلم- فيقول: أنا لها، فيذهب فيشفع عند الله ثم يجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفوفًا[1]، فيا له من موقف عظيم كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 25، 26]..
قوله تعالى: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ [الفجر: 23] روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا»[2].
وقوله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ ﴾ [الفجر: 23] أي: عمله وما كان أسلفه في قديم الدهر وحديثه، ﴿ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ [الفجر: 23]: أي: وكيف تنفعه الذكرى، يقول نادمًا: ﴿ لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]: أي: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيًا، كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].
أما إذا كان طائعًا فإنه يود لو ازداد من الطاعات، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمد بن أبي عميرة- رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «لَو أَنَّ عَبدًا خَرَّ عَلَى وَجهِهِ مِن يَومِ وُلِدَ إِلَى أَن يَمُوتَ هَرِمًا فِي طَاعَةِ اللهِ لَحَقِرَهُ ذَلِكَ اليَومَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنيَا كَيمَا يَزدَادَ مِنَ الأَجرِ وَالثّوَابِ»[3].
قوله تعالى: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 25] أي ليس أحد أشد عذابًا من تعذيب الله من عصاه، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50]. ﴿ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 26] أي: ليس أحد أشد قبضًا ووثقًا من الزبانية لمن كفر بربهمڬ، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين فإنهم يُقَرَّنُون بسلاسل من نار ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، قال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50]. وقال تعالى: ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحاقة: 30 - 33].
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ﴾ [الفجر: 27، 28] أي: النفس الزكية والمطمئنة هي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق، فيقال لها: ارجعي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته، ﴿ رَاضِيَةً ﴾ [الفجر: 28]: أي: في نفسها مرضية، أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، كما قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8].
قوله: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 29، 30]: أي في جملة عبادي ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾، وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ». قَالَ: «فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ..» ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الحَدِيثِ: «ثُمَّ يَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي القَبْرِ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ»[4].
وروى الطبراني في المعجم الكبير بسنده إلى سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم يُر على خلقه، فدخل نعشه ثم لم يُر خارجًا منه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ما يُدرى من تلاها: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30][5].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الحديث مخرج في الصحيحين، أخرجه البخاري برقم 3340؛ ومسلم في صحيحه برقم 194.
[2] برقم 2842.
[3] برقم 17650 وقال محققوه: إسناده صحيح.
[4] (14/378) برقم 8769 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[5] (10/236) برقم 10581 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/285) ورجاله رجال الصحيح.