إليك سيدتي من غربتي ( 1)
محمد سيف
بقلم د. محمد سيف .
هذا كتابي إليك من غربة قاسية كثيرا ، فيها ما فيها من الهم والقصص المشوقة ، ولن أزيدك هما بسبب الغربة ، ولكني سأحاول جاهدا أن أخبرك بما يهمك ويهمني من حقيقة وخيال .
فها أنا جالس في شرفة بيتي أنظر إلى تلك اللوحة الجمالية التي أبدعها الخالق في تناسق مبهج ، أرض خضراء ، تتغنى بنسيم الشتاء الباسم ، وسماء زرقاء تُلبدها غيوم تتشكل في كل لحظة وحين وكأنها ترسم لوحة في ذهني تبصرها عيني ، فكل صورة رسمتها أفكاري من حروف وكلمات وملامح بشرية ، أجد في تلك الغيوم إشارات متصلة بما في مخيلتي .
في هذا الوقت سيدتي بدأت الأزهار تمايلها النسمة ، وكأنها تداعب خصرها الرطيب ، فتتبسم بسمة خجلة ، والنسيم يداعب ورقها الزاهي ، ويحمل تلك الرائحة الزكية العطرة ، ويرمي بها في شرفة منزلي ، فتتساقط على محياي واستنشقها ، فتنساب في عقلي حتى تعطر فكري وكل جوانبي ، فإنك من جرّائها ستجدين أحرفي وكلماتي من ذات الرائحة العطرة والألوان الزاهية من تلك الأزهار الجميلة .
فلتعلمي أن هذه الشرفة الجميلة في منزلي المطلة على الحديقة التي تزخر بتلك الأنواع الرائعة من الأزهار التي تُعشق من أشكالها وألوانها وروائحها ، هي المؤنسة لي في هذه الغربة ، ولتعلمي سيدتي أني منذ أن أسرتني الغربة المؤلمة وأنا قد بدأت طباعي تتغير شيئا فشيئا ، حتى بدأت لا أعرف ما تهوى نفسي وما تمتنع عنها ، فالقلب بدا غريب الأطوار في انقباضه عن الناس ، وكأن ما حل به قد جلب له جيشا مدججا من البؤس ، فحاصره وأحكم الحصار ، وانقطعت عني مؤني النفسية ، فلا أزال في ليلي ونهاري لا سلوى لي غير كتبي أقرأ فيها وأحاور عقول من خطها ، ولا أكاد أرفع رأسي ، إلا لطير قد يقف بجانب الشرفة ، أو عندما تنساب قطرات المطر لتزيد ذلك المنظر الخلاب جمالا ، أو إذا رأيت أحدا قد مر بجانب شرفتي فهز رأسه بتحية جسدية ، عندها أرفع رأسي مبادلا تلك اللغة الجسدية بمثلها .
في ذات يوم كان المطر شديدا منذ الصباح الباكر ، وأنا كعادتي مطرقا رأسي في كتابي ، فما إن رفعت رأسي حتى وجدت في طرف الشرفة طائرا صغيرا قد بلله مطر السماء ، وكان يرتجف من شدة البرد ، فوضعت الكتاب على تلك الطاولة الصغيرة بجانب كوب قهوتي التي لا أتقن إعدادها حتى الساعة ، واقتربت منه فما حرك ساكنا ، وكان في استسلام تام ، غير أنه رفع رأسه ، ثم أومأ به ، كمن يساق إلى حتفه مستسلما، فأخذته في دفء يدي ، إلى داخل البيت ووضعته بجانب المدفأة ، ثم وضعت له قليلا من الماء ، ولكنه لم يقربه ، وكأنه قد غضب من كل ماء! لما حصل له من جراء المطر ، كان لونه يغلبه الصفار على حمرة مبهرة لم تخلط بينها ما شابها من مطر السماء ، صبغة ربانية !
فجعلته في طرف الغرفة وعدت إلى كتابي أواصل ربط الأفكار وأجمعها من شتات ، وأحاور في مخيلتي ما جادت به قريحة الكاتب ، فما هي إلا لحظات لم أشعر بها حتى بدأ الليل يلقي بستاره رويدا رويدا على ضياء الشمس المطل على استحياء من بين تشققات الغيوم ، فنظرت إلى صديقي الجديد نظرة المشفق والقلق من أن تدركه المنية من شدة البرد ، فقربت له الماء الذي أضرب عنه وهو حياته وشيئا من طعام قليل .
ثم آويت إلى فراشي لغلبة النعاس وتأخر الوقت ، ففي الغد أبدأ يوما جديدا مع جامعتي في غربتي ، يوما أتحمل من أجله هذا الشقاء ، وأغمضت عيني كي أطوي مع إغماضتها صفحة هذا اليوم وأفتحها على إشراقه يوم جديد ، وأسرح في أحلام الغربة القاسية التي لا تقل في قسوتها عن الغربة ذاتها .
وجاء الفجر معلنا يوما جديدا في حياتي وحياة صديقي الجديد صاحب اللون الزاهي، صفرة مشربة بحمرة ، فما إن استرجعت عيني قوتها البصرية حتى راحت تتفقد الصديق وما حل به ، فلم أجده إلا بجانب الشرفة يناظر الشروق وكأنه يعرفه ، ولكن بدا أن هناك حائلا بينه وبين تلك السماء التي اعتاد أن ينطلق فيها ، وهذا الحائل أنا من صنعه إنقاذا له .
شعرت أن صديقي الذي لم يعرني أي اهتمام يرغب في ترك البيت والشرفة ، وينطلق إلى عشه الذي اشتقاق له ، فبادرت إلى فتح باب زجاجي هو الحد الفاصل بين الشرفة وغرفتي ، فطار وحل على طرف الشرفة ، وبدأ يعزف لحنا شجيا ومؤثرا ، وإن كان الحزن لم أشعر به إلا بداخلي ،أما هو فهذا التأثير في تغريداته لم تكن حزنا من جراء ألم ، بل هي أصوات جميلة تحمل شيئا من الشجن ، ولكنها جاءت من وراء فرح الخروج من بيتي إلى ذلك الفضاء الواسع .
غادر ذلك الطائر شرفة منزلي إلى حيث لا أدري ، وأعلم أنه لن يعود إلى هذا المكان ثانية ، فهنا قيدت حريته لساعات قليلة ، فهو ينظر إلى وكأني سجانه ! لم يلتفت لأي حسنة أخرى صدرت عني ، لأنه شعر بغربة مخيفة في غرفتي عن ذلك العالم الفسيح الذي اعتاد عليه ، فيشرق فيه ويغرب وكأن الأرض أرضه والسماء سماؤه .
لا ينشغل بالك بهذا فهو مجرد صديق لساعات معدودات ، أحسبه يبغضها بغضا ، ولا يرغب أن يعيدها الزمان أبدا ، فمهما كان القيد جميلا والمكان فسيحا فهولا يساوي ذلك العش الذي اعتاد عليه .
وأحسبه في ذلك اليوم الذي وجدته عاجزا عن الطيران وساقه مطر السماء إلى شرفتي ، كان بالنسبة له يوما طويلا ، لا فرق فيه بين ليله ونهاره ، وعتمته وضيائه ، ولا تطلع الشمس على مرأى جديد هو به سعيد ، ولا تغرب عن منظر جميل، بل هو من هذا في شقاء العليل .
كل هذا كان بسبب شعوره بالغربة ، وهو طائر قد اعتاد أن يفرد جناحيه في السماء ، ويطير حيث يشاء .
كل هذه الكآبة في صديقي الطائر صنعتها غربته عن عشه الصغير ، فلم أسمع تغريده إلا وهو يغادر ، وكأنه يقول : يا صاحبي المغترب دع ألم الغربة بين جوانحك ، ولا تذق غيرك تلك المرارة .