الحج رحلة العروج
الحج نعمةٌ عظيمة يمنْ الله بها على مِنْ يشاء من عباده, وهي عبادة روحيّة تُقام في كلِّ عام في مكان مخصوص ووقت مخصوص, يلتقي فيهِ الناس ببكّة المباركة, يلتفون حولَّ الكعبةِ المُشرْفة ويطوفون متمثلين بالملائكة التي تطوفُ حولَّ العرش, بكلِّ خشوعٍ وخضوع الغنّي والفقير, الكبير والصغير, العربّي والعجمي جمعيهم سواء باللباس الأبيض الذي يذكرنا بطفولتنا, ومماتنا, ويوم حشرنا يوم تُنشرُ صحافنا وقد أثبتَ الملكان كل صغيرةٍ وكبيرة فلم يغادرها, إلا ما شاء الله في هذا العروج العظيم سنحلق قليلاً بأرواحنا
حُجاج هذا العام كُنّا أو لم نكُن, لتعُم الفائدة من هذا البرنامج الذي يقدّمهُ اللهُ لعباده لتصفى النفوس وتغتسل بماء التوبة النصوح وتعود محملّةٍ بالكثير من المنافع والمكاسب التي لا تقف عند دائرة الفرد (الحاج) وحدهُ فحسب, بل تمتد هذهِ النعمة لتشمل من حوله
ليحصّل العبّد في نهاية الأمر مرتبة الفوز الأكبر وهو أن تعود الروح جديدةٍ وكما يُقال يعود الحاج كما ولدتهُ أُمّه وهذهِ المرتبة لا تُنال بالتمني والقعود
كما لا تُدرك إلا بعد مشقةٍ وجهد, والأمرُ كذلك لِمِنْ رانَ على قلبه, فأصبح أعمى القلب والبصيرة, وكُلٌّ يعمل على شاكلته هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل وثبتنا على الولاية
هُنا سيكون المتسع لننهل بعض الإرشادات لنهيّأ أنفسنا لِـ بلوغ هذهِ الرتبة العظيمة, وإن لم نكُن في رِكاب الحجاج, فلتكن نيّتك بالوصول, ولتوجه قلبك وجميع جوارحك لتسير مع الحجاج وفي صفوفهم تسعى وتلبّيْ
ما هو الحج؟
هو عميلة قصديّة, يقصد به العبّد ربّه, يقطع كل هذهِ المسافات امتثالاً لأمر الله عزّ وجل, وهو عهد بين العبّد وربّه يقطعهُ على نفسه وهو إني جئتُكَ يا ألهي لأجدد ولائي وأعلن طاعتي إليك بهذهِ المناسك. وكما جاءَ في كتاب الجوهر في تعريف الحج رياضة نفسانية, وطاعةٍ مالية, وعبادة بدنية قوليّة وفعلية, وجودية وعدميّة
فهل يوجد عبادة جمعت كل هذا كالحج بمكوّنه الروحي, والفقهي, والثقافي فكري
الحج هو روح الجهاد, جهاد النفس, البدّن, والمال
نستشعر من خلال كُلَّ هذا بإنهُ السفر إلى الآخرة, وكما يُقال هو الحشرُ الأصغر.. فيه المرء يجاهد نفسه ويعقد العزم على إصلاح النيّة وإخلاص السريرة وأداء القربّة والتجنب عن الرياء متجرداً عن حب المدح والثناء وترك الغيبة
فكيف تُهيأ نفسك إلى هذا السفر؟ وبما ستتزود؟
قبّل الذهاب وحتى قبل تِلك الجلسات الإرشادية أبدأ من نفسك, لتستمع إلى المحاضرات المتعلقة بالحج, والتي هي ليست بقليلة, أقرأ الروايات والأحاديث التي جاءت في هذا الصدد وتدبّر فيها, ليُكن كتاب آداب الحرمين معك ليكُون الزاد في أوقاتِ الفراغ, أقرأ الأدعية وخُذ بنفسك إلى هُنا وبالشوط الأول وصولاً إلى الشوط السابع, وأكمل القراءة وتأمل في الأدعية لتصل إلى باطنك
أفرد لكَ دفتراً خاص لتكتب ما تستمع إليه من جواهر الكلمات, والعبّرْ, وهذه وسيلة جيدة لتذكير النفس دائماً بما عزمت عليه, ولتغتسل بغسل التوبة, وتصلّي ركعتين لله وتدعو بمناجاة التائبين لِأمام زين العابدين عليهِ السلام, وليكن دعائك الدائم هو طلب الهداية من الله والتوفيق لنيل الصلاح وطلب المعونة من الله ليعينك على تهذيب نفسك وأن يرزقك من يعينك على ذلك اللهم أعنّي على نفسي كما تُعين الصالحين على أنفسهم
ولنتذكر أخي/ أختي بأن هذه النعمة العُظمى لا يرزقها الله إلا لمن يحبْ, فلو لم يحبّك الله لم يكتب لكَ التوفيق بزيارته
وأنتَ وافدٌ على ضيافة أكرم الأكرمين, فماذا عليك فعله لتكون كما يجب, قُل يا الله إنّي أُحبّك فاجعلني كما تُحبْ, وأمضي بتطهير نفسك بقرار تزكية النفس بدعاء أو صلاة, وأعمل يومياً بكل حركة تُذكرْ نفسك فيها بتزكية ما تفعلهُ في يومك, وصحح عملك وأصلح بين الناس بعد إصلاحِ نفسك اللهم إني أعوذُّ بكَ من مضلاتِ الفتن
ولتتغير أو أقلها تحاول التغير بتطوير عبادتك فتتقرب إلى الله أكثر, عبادتك اليوم لا يجب أن تكون مطابقة لِأمس, والأسبوع القادم, فنحنُ لابد أن نزداد علماً لنزداد وعيّاً ومن ثُمًّ إقبالاً, لتحقيق روح العبادة بمضمونها الروحي, وذلك لا يكون إلا بالاستعداد الروحي بطهارة القلب من كل حقد وحسد, طهارة البطن فلا تأكل إلا الحلال, وابتعد عما تشتبه فيه, طهارة الجوارح, ومن ثُمّ الوعي الروحي الذي لا يكون إلا بالتطبي
همسة
أعلم بأنهُ إذا سُلبّت منك صلاة الليل في ليلةٍ ما أو أي مُستحب أنت دائم الإتيان به, فحتماً ستكون لهذهِ الأسباب فكُن على حذّرْ
أخيراً
لكل عبادة فلسفة تحتاجُ أن نبحرْ في أعماقها حتى تعرفها حق المعرفة بمعرفة أسرارها. إذ أنَّ لكل شيء ظاهرٌ وباطن وأكثر الأمور سرّيةً وأسراريّة هو الحج
اللهم أجعلنا من خيرةِ حجاجك وأنلنّا أقصى مكاسبه ومنافعه بمنّك وفضلك يا رب