يا مصر.. يا مهد المولد وفرحة الطفولة.. وأيام الصبا ومثوى الآباء والأجداد.. وبهجة الأعياد والمواسم يا مصر.. يا حب العمر وهم السنين والأيام.
كل عام وأنت مصر بأهلها الحقيقيين الذين لا يحصدون دوماً سوى الخسائر والمرارة، بينما باسمهم يهتف ويصرخ دوماً من يتكسبون ويهرولون للقفز فوق مقعد، ويتعاركون لثأر قديم ويتسابقون من أجل قضمة من كعكة جديدة معجونة بدمك وآلامك.. ناضجة فوق حرائق كنوزك وتراثك وتاريخك.. أنا يا مصر من جيل الآباء الذين ما شاهدوا قط سوى قنابل وحرائق الأعداء والمحتلين.. والذين ما عانوا قط سوى من إيذاء الغرباء.. لم نلعن ولم نسب ولم نتهم ولم نخوِّن سوى الغاصبين والطامعين فى شبر من أرضك أو ذراع..
نحن الذين لم نعرف عن فرنسا سوى أنها قاتلة المليون شهيد فى الجزائر ومعذبة جميلة بوحريد وبوعزة وهاتكة أعراض العرب وضاربة بحقوق البشر عرض كل الحوائط، وهى فى الوقت نفسه تحمل علم الثورة الفرنسية «الحرية.. الإخاء.. المساواة». وتحت هذا الشعار، ظلت فى المغرب العربى 126 عاماً تعمل بدأب على تجريف الثقافة ومحو الهوية واللغة.. لم نعرف عنها سوى أنها شنت علينا حرباً غاشمة عام 1956، مع الإنجليز واليهود وكانوا ثلاث دول.. كان أيامها شبابنا وإخوتنا الكبار يحاربون مع المقاومة الشعبية على خط القنال، ونحن نمسك الأقلام بصعوبة لنرسم الدبابة والمدفع، والمارد المصرى الذى يقف بقدميه فى بحر القنال رافعاً علم مصر الحر الأخضر.. وكنا صغاراً.
كانت طائرات الأعداء تضرب وتحرق وتدمر فى عمق القاهرة وشباب مصر يموتون، بعد أن يستميتوا دفاعاً ومقاومة، نحن الذين لم نعرف عن بريطانيا العظمى سوى أنها هى التى احتلت مصر لمدة سبعين عاماً، وهى التى قتلت الشباب المصرى والفلاحين والفلاحات بالطائرات والقنابل فى عام 1919.. وحاربت الألمان فى الحرب العالمية الثانية فوق رؤوسنا ودفعنا دماراً وخراباً بلا ذنب فى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. لم تكن تريد أن ترحل ولا أن تجلو من أرضنا.. وبعد شهور عادت لتضرب وتدمر، مع فرنسا ومع إسرائيل، أراضينا وموانينا وقنالنا، نحن الذين سنظل كارهين ورافضين لإسرائيل حتى الممات..
ولن نتصور إسرائيل سوى لص ملتوٍ سارق الأرض وكاذب وملفق وشعب لا أصل له، يبحث عن أصول وهوية فى أرض كنعان وأرض مصر.. أرض الحضارات والتراث والثقافة والأديان.. شعب يبدع فى المجازر ويتفنن فى المذابح لا يعرف سوى حقوق الإنسان اليهودى، ولا تعرف عنه رؤوس الأمريكان إلا أنه شعب السلام والحق والديمقراطية، لأنه شعب الله المختار له الرفعة والنصر والقنابل النووية، ولنا نحن العقل وضبط الأعصاب وحقوق الإنسان والمنظمات الأهلية.
نحن الجيل الذى أصابه الغثيان من الإفك والادعاء من دولة «تمثال الحرية» وحامية حمى البشر والإنسانية، وهى الآن تعلن أنها «الرب الأعظم» تخرب وتدمر وتهدد وتقسم وتقتل وتزيف وتتسيد تحت رايات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتضع حذاء إسرائيل فوق رؤوسنا نحن العرب وهو الهدف والمراد.
نحن الجيل الذى يحاول أن يرى فى تاريخه زعماء شرفاء وأياماً مضيئة، ويرفض أن يلطخ من عمره وعمر آبائه مائة عام.. ويرفض أن يصبغ أيامه بصبغة العار والحضيض..
ويرفض أن يهان جيشه الوطنى الشريف العريق الذى تتحاكى بعبقريته الدول، والذى رفع رأس الأمة عالياً فى 1973، وأعاد الأرض المسلوبة، نحن الذين لم نرَ شباباً يقذف بالحجارة إلا فى وجه إسرائيل وجنودها السفلة السفاحين باقرى بطون الحوامل وقاتلى الأجنة والشيوخ، ونحن الذين نرفض هيمنة العلم الأزرق ذى النجوم البيضاء، بينما أبناؤنا يهرولون إلى هناك ويفاخرون بمقابلة المشاهير منهم وتسلّم جوائز الحرية والثورة، ويقفون فى الميادين يطلبون المساعدة لإسقاط جيشهم الوطنى الوفى ذى التاريخ المضىء بعد أن بلغ عمره المائتى عام.. يطلقون عليه لفظ «العسكر» وكأنه جيش المماليك والانكشارية والألاضيش..
اختلفت الرؤى، وانعكست الحقائق، والأعداء الأزليون أصبحوا أصدقاء ودعاة حرية وديمقراطية، والرأى الحكيم لصالح الوطن أصبح ثورة مضادة وفلولاً.
انظرى يا مصر إلى الأبناء.. كم تفرقوا شيعاً وفرقاً متنافرة اختلط عليهم الحق والباطل.. مشغولين بسباب أصحاب الرأى المختلف بأفظع الألفاظ وهم واهمون أنه هكذا الثورة والوطنية.. يخونون ويهددون الآباء ويصفونهم بالعبيد وهم يشكرون الأمريكان والناتو.. بعد أن تاهت من أعينهم مصلحة الوطن وظلمتهم نخبة فاسدة.. كانت بالأمس القريب من حملة مباخر السلطان ولم تتصد، ولم تطالب يوماً بالتغيير، وتحولت فى يوم السادس والعشرين من يناير الماضى إلى كتيبة من ساكبى أنهار النفاق والكذب أمام الشباب حتى انزلق ليحصدوا هم ما استطاعوا من غنائم.. وظلمهم إعلام أعمى يظن أن مصلحته بعيدة عن مصلحة الوطن، وأنه قادر على القفز من السفينة وهى تغرق..
انظرى يا مصر وابحثى عن الشيطان المتخفى خلف المشهد، يتحين الوقت المناسب ليطفئ نورك ويشوه جمالك ويمحو بهاءك وروعة إنسانك.
انظرى فأنت أصل الحكمة.. أنت مصر.. الساهرة.. الطاهرة.. الصابرة.. الثائرة.. الساخرة.. الآمنة الرائعة دوماً بإذن الله.
لميس جابر