السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستتغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتابُ اللَّه، وخَيْرَ الهدي هديُ مُحَمَّد، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ.
من أعظم الفتن فتنة المال؛ ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
فمع قلَّة المال تستكين النَّفس لربِّها غالبًا، ومع كثرة المال تتطلَّع النفس إلى الزيادة ويحصُل التنافس؛ فعن عمرو بن عوْف الأنصاري: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجزْيتها، فقدم أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمِعَت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصُّبح مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا صلَّى بهم الفجر انصرف فتعرَّضوا له فتبسَّم رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - حين رآهم، وقال: ((أظنُّكم قد سمعتم أنَّ أبا عُبيدة قد جاء بشيءٍ؟)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبْشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليْكم، ولكن أخْشى عليْكم أن تبسط عليْكم الدُّنيا كما بُسِطَت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهْلِككم كما أهلكتهم))؛ رواه البخاري (3158) ومسلم (2961).
فربَّما حمل التنافُس والاستِكثار إلى كسْبه بطرُقٍ غير مشْروعة، ومن طرُق كسبِه غير المشْروعة التَّحايل في كسْبِه في البيْع والشِّراء، بغشٍّ أو تدْليس أو أيْمان كاذبة، وغيْر ذلك ممَّا يغرر به النَّاس، وربَّما اغترَّ من يغشّ النَّاس في بيعه وشرائِه بما يحصل عليه من أموال بسبب الغش والتدليس، ولكن العبرة ليست بالحال بل بالمآلِ، ليست العِبْرة بكثْرة المال بل ببرَكة هذا المال وعدَم تعرُّضه للآفات أو تعرُّض صاحبه؛ فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعِهما، وإن كتما وكذبا مُحِقَت بركة بيعهما))؛ رواه البخاري (2079) ومسلم (1532).
ومن كسب المال المحرَّم الاستيلاء على أراضي الغير عن طريق الأيْمان الكاذِبة وشهود الزّور، فليتَّق الله مَن هذه حالُه، وليعلم أنَّه سيأتي يوم القيامة وقد حمل هذه الأراضي، قد جعل الله له طاقة على حملِها مع الشدة والعنت في عرصات القيامة، فجمع له بين الفضيحة بين الخلائق وبين التعب والمشقَّة؛ فعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنَّه خاصمتْه أروى في حقٍّ زعمتْ أنَّه انتقصه لها إلى مروان، فقال سعيد: أنا أنتقص من حقِّها شيئًا! أشهد لسمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن أخذ شبرًا من الأرض ظُلمًا فإنَّه يُطَوَّقُه يوم القيامة من سبع أرَضين))؛ رواه البخاري (3198) ومسلم (1610)، أي: إنَّه يحمله من سبع أرَضين ويكلّف إطاقة ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ آل عمران: 161].
وممَّا يتساهل به البعض: الاعتداء على أراضي المرافق العامَّة التي ينتفع بها المسلمون في الحال أو المآل، فتجده يتعدَّى على بعض الأراضي الحكوميَّة التي أرصدت لخدمة المسلمين حيث تكون مستقبلاً مرافق عامَّة ينتفع بها المسلمون، فيحرم تملُّك ما يحتاجه المسلمون بالإحْياء من طرق ومراعٍ ومحتطبات ومتنزَّهات، ومقارّ للمؤسَّسات الحكوميَّة وغير ذلك، قال ابن قدامة في "المغني" (6/ 151): "ما تعلَّق بمصالح القرْية كفنائها ومرعى ماشيتِها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائِها، لا يُملك بالإحياء، ولا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم".
فإذا كانت المرافق العامَّة لا تُملك بالإحياء من غير خِلاف بين أهل العلْم، والإحياء من طرُق التملُّك الشَّرعيَّة، فتملُّكها كلّها أو بعضها بالتَّحايُل أو بالشَّفاعات محرَّم من باب أولى.
ومن طرُق كسْب المال الحرام ما يفعلُه بعض أصْحاب مكاتب العقار من قيام بعضِهم بأخذ وكالةٍ من شخصٍ لَم يسبق له أن قدَّم في صندوق التنمية العقاريَّة، ثمَّ يقوم بشراء صوري لقطعة أرض للموكّل والتقديم بها لصندوق التنمية العقاريَّة، ثمَّ يعود صاحب المكتب مرَّة أخرى ببَيْع هذه القطعة من الوكيل لشخْصٍ آخَر وهكذا مقابل مالٍ من الوكيل، وفي هذا الفعل مَحاذير شرعيَّة، منها: اشتماله على شهادة الزّور في البَيع للوكيل والشِّراء منه، فشهادة الزور تعمد الكذب في الشَّهادة، وهي من كبائر الذّنوب، فمَن لم يستطِع التَّقديم للبنْك لعدَم ملْكه أرضًا لا يستعجِل التَّقديم بأمر محرَّم، فيبوء بالإثْم المقدم وصاحب المكتب والشهود إذا كانوا يعلمون.
بعض الشَّركات التي تطرح للاكتتاب لا تخلو من ريبة ويكثر القيل والقال حولَها، فعلى الحريص على دينِه الحريص على أن ينبت جسده من مال طيِّب حلال أن يتجنَّب مواطِنَ الشُّبه، ففي الحلال غُنْية عن الحرام، ومَن تعامل بالشَّركات التي فيها ريبة غالبًا يقع في المحرَّم، ويختلط مالُه حلالا وحرامًا، وقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّ الحلال بيّن وإنَّ الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمنِ اتَّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالرَّاعي يرعَى حول الحمى يوشِك أن يرْتَع فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمى، ألا وإنَّ حِمى الله محارمه))؛ رواه البخاري (52) ومسلم (1599) واللفظ له.
ليتَّق الله مَن أخذ أموال النَّاس ظُلْمًا وعدوانًا، وليرجع الحقوق إلى أصحابِها في حال القدْرة قبل أن يُحال بيْنه وبين ذلك، فيكون في قبره وفي حشرِه يعذَّب بهذه الأموال التي أخذها بغير حقّ وورثتُه يتنعَّمون بها بعد وفاتِه، فلغَيْرِه الغُنْم وعليْه الغُرْم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابِه أجْمعين.
ربَّما حمل البعْض بسبب أولادِه أن يحصل على المال من غير مظانِّه الشَّرعية، أو يمنع الأموال الواجبة عليه، فالولد مجْبنة مبخلة يوسوِس له الشَّيطان بذلك حتَّى لا يدع أولادَه بعد وفاته عالة يتكفَّفون الناس، وهذا من كيد الشَّيطان للبعض؛ فالأوْلاد يُحفظون بصلاح أبيهم وتقْواه بعد وفاته لا بالمال الحرام الَّذي خلفه لهم، ففي سورة الكهف التي تُستحبّ قراءتُها يوم الجمعة قصَّة الخضر وموسى - عليْهما السلام -: ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]، ثمَّ بيَّن الخضر - عليْه السَّلام - الحكمة من إقامة الجدار: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82]، فحفِظ الله مال هذيْن اليتيمَين بصلاح أبيهما؛ ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ فالرجل الصَّالح يُحفظ في ذريَّته وتشمَلُهم بركة صلاحِه في حياته ومن بعد وفاته.
فمن اتَّقى الله في المال فلم يأخُذ ما لا يستحقُّه، أو أعطى غيرَه من مال غيره ما لا يستحقُّه، ولم يحابِ أحدًا، فالجزاء من جِنْس العمل، فهو محفوظ في الدُّنيا والآخِرة، فالمؤدي للأمانة مع مُخالفة هواه يُثِيبُه الله فيحفظُه في أهْلِه وماله بعده، والمطيع لهواه يُعاقِبه الله بنقيض قصْدِه، وفي ذلك الحكاية المشْهورة أنَّ عمر بن عبدالعزيز قيل له: يا أمير المؤمنين، أقفرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم! وكان في مرض موتِه فقال: أدْخِلوهم عليَّ، فأدْخلوهم وهم بضعةَ عشرَ ذكرًا ليس فيهم بالغ، فلمَّا رآهم ذرفت عيْناه، ثمَّ قال لهم: "يا بنيَّ، والله ما منعتُكم حقًّا هو لكم، ولَم أكن بالذي آخُذ أموال النَّاس فأدفعها إليكم، وإنَّما أنتُم أحد رجُلَين: إمَّا صالح فالله يتولَّى الصَّالحين، وإمَّا غير صالح فلا أخلف له ما يَستعين به على معصية الله، قوموا عنِّي"، قال ذاكرُ القصَّة: فلقد رأيتُ بعض بنيه حَمَل على مائه فرس في سبيل الله؛ يعني: أعطاها لِمن يغزو عليها.
وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهَدة من أهل زمانِنا أو ممَّن سبق عبرة لِمن اعتبر.