وتخصيصهن جاء ليبين عظم الواجب والتبعة الملقاة عليهن، وكذلك لأنّ الثواب مضاعفٌ بالنسبة لهن، كما كان العقاب مضاعفاً أيضاً.
بيّن الله سبحانه لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء، وهو يقرر واجباتهن في معاملة الناس، وفي عبادة الله، وفي بيوتهن، ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم، وحياطته وصيانته من الرجس، وما يتلى في تلك البيوت من آيات الله والحكمة، مما يلقي عليهن تبعات خاصة، ويفردهن من بين سائر النساء.
ففي حال التقوى فلهن الأجر مرتين، وفي حال المعصية بإتيان الفاحشة المبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين، ولا تشفع لهن قرابتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن بيّن الله لهن منزلتهن التي ينلنها بـ (حقها) وهو التقوى، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم بها..
ومن هذه الوسائل:
عدم الخضوع بالقول:
((فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ))[الأحزاب:32]، وذلك منعاً للأسباب المثيرة لأصحاب القلوب المريضة.
القول المعروف:
((وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا))[الأحزاب:32]، لا لحن فيه، ولا إيماء، ولا هذر، ولا هزل، ولا دعابة، ولا مزاح.
الاستقرار في البيوت
: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ))[الأحزاب:33]، إشارة لطيفة إلى أن الاستقرار في البيت هو الأصل، وما عداه هو الاستثناء، وإنما هي الحاجة تقدر بقدرها.
عدم التبرج:
((وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى))[الأحزاب:33]، أي: عندما يحدث الاضطرار للخروج بعد الأمر بالقرار في البيوت، وقد كانت النساء في الجاهلية يمشين بين الرجال، وبعضهن تتكسر وتتغنج، وبعضهن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فلا يحجب قلائدها وأقراطها وعنقها وربما أشياء أخرى فيبدو ذلك منها، وذلك هو التبرج وما شابهه.. والنص الكريم يشير إلى أن ذلك التبرج من مخلفات الجاهلية.
الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، كخاتمة للتوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم.
تلك هي التوجيهات الربانية، ساقها الله تعالى لحكمة، وقصد، وهدف، هو: استحقاق أهل ذلك البيت لإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم.. فهو سبحانه يسميهم: (أهل البيت)، بدون وصف للبيت لتحديد ماهيته أو مكانه، ولا إضافة إلى صاحبه، كأنما هو البيت الواحد في هذا العالم المستحق لأن يذكر مطلقاً دون تحديد أو إضافة.
فإذا قيل البيت عرف وحدد ووصف، كما هو شأن الكعبة المشرفة هي بيت الله، فيقال عنها: البيت، والبيت الحرام، وكذلك التعبير عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً، هو تكريم وتشريف واختصاص.
وفي العبارة القرآنية تلطّفٌ ببيان علة التكليف وغايته، يشعرهم بأن الله بذاته العلية يتولى تطهيرهم، وتربيتهم، وإذهاب الرجس عنهم، في رعاية علوية مباشرة، وجعل من تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس، وتطهير أهل ذلك البيت.
ويختم تلك التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بدأ به، فيذكرهن بعلو مكانتهن وامتيازهن على سائر النساء، لمكانتهن من رسول الله، وبما أنعم الله به عليهن، حين جعل بيوتهن مهبطاً للقران، ومنزلاً للحكمة، ومشرقاً للنور والهدى.
ثم يخيرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها، وبين إيثار الله ورسوله والدار الآخرة، ليبين أي الخيارين أفضل وأجزل وأكمل، وبذلك تبدو جزالة النعمة التي ميزهن الله بها.. ولقد اخترن رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة.
إن استخدام ميم الجمع بدلاً عن نون النسوة عند ذكر أهل البيت، لأن الخطاب يشمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه ومن قرب منه، والتوجيهات تنسحب آثارها على كل أهل البيت، وإن كان الخطاب موجهاً لأمهات المؤمنين خاصة بمناسبة التخيير الذي كان قبلها، والذي بموجبه اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختياراً مطلقا.. وكن حيث تؤهلهن مكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان العالي اللائق، ببيت الرسول الكريم.
وبعد:
هذه التعاليم الكريمة المشتملة على أرقى أصول التربية، ليست مقتصرة على نساء النبي وحدهن، إنها التربية الخاصة لغرض الاقتداء بهن من سائر نساء الأمة؛ لأنهن محط الأنظار ومحل الاقتداء، والمثل الذي يسعى الجميع لتمثّله والوصول إليه، فكل مؤمنة هي محل الخطاب وموضع التكليف..
والحمد لله رب العالمين..