رجال من التاريخ الإسلامي: الأفغاني..سياسته سبقت علمه
صوره ارشيفية-محمد بن صفدر الحسيني الأفغاني
كتب محمود عبد المنعم
ولد محمد بن صفدر الحسيني الأفغاني سنة (1838 م - 1254 هـ)، واختلف الناس في تقدير المدينة التابع لها الأفغاني، فالبعض قال مدينة أسد آباد التي تبعد بحوالي 27 كيلو مترًا، والتي تقع بين دولتي العراق وإيران، فيما يذكر آخرون أنه من قرية أسعد آباد إحدى القرى التابعة للعاصمة الأفغانية كابول.. إلا أن الرأي الأرجح أنه ينتمي لإحدى قرى بلاد الأفغان، لذلك كني بالأفغاني، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويمتد إلى الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين أسد آبادی.
وقد كانت لأسرة جمال الدين منزلة كبيرة في بلاد الأفغان، بسبب النسب الشريف الذي تنتهي به العائلة، فضلاً عن مقامها الاجتماعي والسياسي الذي كانت تتمتع به، حيث كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية، تمارس فيه نظام حكمها الخاص طبقًا لنظام اللامركزية في الحكم، إلى أن قام «دوست محمد خان» أمير الأفغان بنزع الإمارة منهم، وقام بنقل والد جمال الدين وبعض أفراد عائلته إلى مدينة كابول، وانتقلت الأسرة كلها معه، وكان الأفغاني يبلغ من العمر وقتها ثماني سنوات، وقد رباه والده بالطريقة السائدة في تربية أبناء الأمراء والعلماء في هذا الوقت.
وقد تميز الأفغاني بمجموعة من الصفات، حيث كانت لديه مخيلة واسعة، كما كان حاد الذكاء، ولديه قوة الفطرة، عمد إلى تعلم اللغة العربية، والأفغانية منذ الصغر، وتلقى علوم الدين، والتاريخ، والمنطق، والفلسفة، والرياضيات، وقد أنهى الأفغاني مسيرته من هذه العلوم في سن الثامنة عشرة من عمره، ثم اتجه بعد ذلك إلى الهند، وخلال زيارته تمكن من الذهاب إلى السعودية لأداء فريضة الحج، وقام بالانتقال بين القرى للتعرف على أحوالها، وعادات أهلها.
بعدها انتظم في أداء العمل الحكومي، وكان ذلك في عهد الأمير دوست محمد خان، وكان قد أوكل إليه مرافقته في حملة حربية مخصصة لفتح مدينة هراة، إحدى مدن الأفغان، وقد أكسب ذلك الأفغاني الشجاعة، واقتحام المخاطر، والجرأة والإقدام.
وبعد وفاة الأمير دوست محمد خان دب الخلاف بين ولي عهده «شير علي خان» وإخوته، على الحكم وانضم جمال الدين إلى محمد أعظم أحد الإخوة الثلاثة، وعندما أصبح هو الأمير على إمارة الأفغان، عظمت منزلة الأفغاني وأصبح الوزير الأول لديه، ولكن الحرب الداخلية اندلعت مرة أخرى، وهزم محمد أعظم، على يد شير علي الذي استعان بالقوات وأصبح بعدها واليًا على بلاد الأفغان وعميلاً للإنجليز.
وقد ظل جمال الدين في كابول لم يمسسه الأمير الجديد بأي سوء، وذلك احتراماً لعائلته إلا أن الأمير شير علي تربص للأفغاني، مما أدى إلى رغبته فى الرحيل عن البلاد، فاستأذنه للخروج لأداء مناسك الحج، فذهب إليها عن طريق الهند، وكان ذلك عام 1869 م، ووجد هناك أنه يتمتع بشهرة كبيرة سبقته إلى بلاد الهند، وذلك لما عرف عنه من العلم والحكمة، إلا أن الحكومة الهندية لم تسمح له بطول الإقامة في البلاد، فاتجه مبحرًا إلى ميناء السويس.
وعندما جاء إلى مصر لم يكن يهدف طول الإقامة بها، ولكن ما وجده من ترحاب شديد من أهل البلاد وإقبالهم الشديد على التزود من العلم الوفير لدى الإفغاني أنساه غربة اللقاء، وجعله يطيل فترة بقائه فيها والتي وصلت إلى أربعين يوماً، ثم سافر بعدها إلى الأستانة، وقد لقي من السلطان عبدالعزيز حفاوه كبيرة، علاوة على أن الصدر الأعظم عالي باشا كان على علم بالمكانة الكبيرة التي يحظى بها الأفغاني، وتمتع خلال إقامته هناك بمنزلة الأمراء والوزراء والعلماء، وصار عضواً في مجلس المعارف، وبدأ عمله على إصلاح مناهج التعليم، إلا أن آراءه الإصلاحية لم تجد تأييداً من زملائه، الأمر الذي أدى محاربته من قبل بعض علماء الأستانة، لجأ معها للرحيل عنها والرجوع إلى القاهرة.
وعندما جاء جمال الدين إلى مصر في المرة الثانية عام 1871، أبدى رياض باشا وزير الخديو إسماعيل حاكم مصر رغبته ببقائه في القاهرة، وقامت الحكومة المصرية بإعطائه راتباً مقداره ألف قرش كل شهر مقابل إقامته، وأهدت إليه مترجمًا يعمل على راحة الأفغاني خلال رحلاته المتعددة في القاهرة، والتي بدأ طلابها يتوافدون بأعداد كثيرة ليقتبسوا الحكمة منه، وهو الأمر الذي أسعده كثيرا، وبث روح الحكمة والفلسفة في نفوسهم، وتوجيه أذهانهم إلى الأدب، والإنشاء، والخطابة، وكتابة المقالات الأدبية، والاجتماعية، والسياسية، فظهرت على يده نهضة في العلوم والأفكار التي أنتجت أطيب الثمرات.
ظهرت على يده مجموعة من الطلبة متحرري العقول، وبسببه بدأ فن الكتابة والخطابة في مصر في استعادة هيبته مرة أخرى، وحلقات دروسه ضمت إلى جانب طلبة العلم الكثير من العلماء والموظفين والأعيان، مما أدى إلى عودة النهضة العلمية مرة أخرى إلى الشارع المصري ونزع الغفلة عنه، وبدأ يضع مجموعة من الخطط التي تستهدف النهوض بالعلوم المختلفة مرة أخرى.
وقد قام بتأليف مجموعة من الكتب العلمية منها كتاب «الرد على الدهريين» والذي قام بترجمته الشيخ محمد عبده إلى اللغة العربية، علاوة على كتاب (تتمة البيان في تاريخ الأفغان) والذي ينتقد فيه الشيعة في أسلوب انصرافهم عن بعض أركان الدين إلى ظواهر غريبة عنه وعادات محدثة، وهو بذلك يبرز الدليل الذي ينفي عنه انتماءه إلى الشيعة، وكتاب آخر يسمى (القضاء والقدر).
السياسات المالية للخديو إسماعيل لم تجعله ينفق على العلم مثلما عهد الأفغاني، ما أدى إلى انقلابه عليه، وبدأ في تكوين مجموعة من الآراء السياسية المناهضة له، وبعد ذلك تولى الخديو توفيق الحكم، وقد توسم فيه الأفغاني الخير، إلا أن ذلك لم يدم لفترة طويلة، حيث رمى توفيق نفسه في أحضان الإنجليز، وهو ما أدي إلى وقوف الأفغاني مع قوى الشعب المعارضة، وهو الأمر الذي رفضه توفيق وقام بإصدار قرار بنفيه إلى الهند.
وعندما أخفقت الثورة العرابية في تحقيق أهدافها وانتهي الأمر باحتلال مصر، تم السماح للأفغاني بالذهاب إلى أي بلد، فاختار الذهاب إلى أوروبا، فذهب إلى إنجلترا سنة 1883، لكنه ما لبث أن انتقل إلى باريس، وكان تلميذه محمد عبده منفياً في بيروت عقب إخماد الثورة، فدعاه إلى باريس، ومن هناك أصدر جريدة (العروة الوثقى)، وبدأت فى محاربة الاستعمار، وتحرير مصر والسودان من الاحتلال، وكانت تضم مجموعة كبيرة من علماء العالم الإسلامي، وظل يتنقل فى أوروبا والهند وإيران حتى لبى دعوة السطان عبد الحميد وذهل للإشراف على مشروع الجامعة الإسلامية، فى الاستانة.
وفرضت عليه الرقابة فى ظل الارتياب الذي كان ينعم به السلطان عبد الحميد، حتى أصيب الأفغاني بمرض سرطان الفم، فصدرت الأوامر بإجراء جراحة للأفغاني على يد كبير جراحي القصر السلطاني، فأجرى له العملية الجراحية فلم تنجح، ومات بعدها، وأنتشرت الشائعات أن العملية لم تؤد بشكل جيد بأسلوب متعمد، لتنتهي رحلة الأفغاني المكوكية عام 1897 م وتم نقل رفاته إلى بلدته سنة 1945 م.