د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": أنت عمري
د. نبيل فاروق
التفتت الممرضة إلى المريضة التي بدأت تستفيق من غيبوبتها العميقة
تلفّت الدكتور وجدي حوله في حذر؛ ليطمئن إلى خلوّ قسم الحالات الحرجة، في المستشفى الخاص الذي يعمل فيه، من أي شخص، يمكن أن ينتبه إليه، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وربّت على جيب معطفه الطبي؛ ليتأكد من وجود اختراعه الصغير فيه، قبل أن يدفع باب حجرة تلك المريضة، الغارقة في غيبوبة عميقة، منذ أكثر من ستة أشهر، ويدلف إلى المكان في سرعة، ثم يغلقه خلفه في إحكام، وهو يلقي نظرة متوترة على ساعة يده، التي أشارت عقاربها إلى الثالثة والنصف صباحا تقريبا...
كان يعلم جيّدا أن موعد مرور طاقم التمريض؛ لمتابعة المريضة، سيأتي في الخامسة صباحا، مما يعني أنه أمامه ساعة ونصف الساعة؛ ليثبت نجاح اختراعه...
وفي توتر أخرج جهازه الصغير من جيب معطفه، وحمله في حرص، كما لو أنه وليد غير مكتمل النمو، ووضعه على المنضدة الصغيرة، إلى جوار المريضة مباشرة، ثم اعتدل يلهث، كما لو أنه قد بذل جهدا خرافيا، وغمغم في عصبية:
- حتى مساء اليوم كنت مريضتي، أما الآن فأنت عمري كله.
تطلع إلى مريضته بضع لحظات، وهو يبذل كل جهده؛ للسيطرة على انفعاله، ثم التقط نفسا عميقا، وقال وكأنه يتحدث إليها:
- الحادث الذي أصابك أسقطك في واحدة من أنواع الغيبوبة غير ذات التفسير الواضح؛ فكل أجهزتك تعمل على نحو طبيعي، وعلى الرغم من هذا، فأنت غارقة في غيبوبتك.
كشف ذراع المريضة، ودفع في عروقها إبرة رفيعة، تتصل عبر أنبوب طويل بذلك الجهاز الصغير، وهو يواصل:
- ولقد بذلنا كل المحاولات الممكنة، ليس لعلاجك، ومحاولة إخراجك من غيبوبتك العميقة فحسب، ولكن لفهم وتفسير سببها أيضا.
كشف ذراعه، ودفع في أوردته إبرة مماثلة، تتصل عبر أنبوب شبيه بذلك الجهاز الصغير، متابعاً:
- وفي النهاية، أقرّ الكل بعجزه، وبأنه لا سبيل إلى تفسير حالتك، أو علاجها في الوقت الحالي، وكل ما يمكننا هو الإبقاء عليك آمنة، وفي حالة طبية ممتازة، حتى نتوصّل إلى التفسير أو العلاج.
نقل بصره بينها وبين جهازه الصغير، الذي يحوي مفتاحاً واحداً، مع مصباحين صغيرين على جانبيه، أحدهما له لون أحمر، والثاني أخضر اللون، مع مؤشر رقمي مستطيل أعلاهما...
كان يشعر بتوتر شديد، قبل أن يختبر جهازه للمرة الأولى، فقال وكأنه يفرغ توتره، في حديثه مع امرأة لا تسمعه:
- نظريتي تقول: إن ما تعانين منه أشبه بجهاز حيوي، نضبت بطاريته الأساسية، فبدا من الخارج سليما كما كان، ولكنه في حاجة إلى الطاقة المحركة الرئيسية.
ومال نحوها، مضيفاً فيما يشبه الهمس:
- الطاقة الحيوية.
قالها، وتراجع في توتر، وعاد ينقل بصره بينها وبين جهازه الصغير، والتقط نفسا عميقا آخر، في محاولة للسيطرة على أعصابه الثائرة، قبل أن يتابع:
- ولست أعني بالطاقة الحيوية هنا تلك الطاقة الطبيعية للجسم البشري، والتي يمكن قياسها بشتى الوسائل الحديثة، وإنما أعني نوعا آخر من الطاقة... تلك الطاقة التي تكمن في الدم، وتنشأ عن سريانه في العروق... الطاقة التي تمنحنا الحياة، والتي تصنع منا بشراً، يفكّر، ويشعر، ويكره ويحب.
التقط نفساً عميقاً آخر، وتمتم:
- طاقة الدم الحيوية.
صمت لحظات، وكأنه ينتظر منها تعليقاً، ثم هزّ رأسه، مغمغماً:
- المسبار الذي غرسته في عروقك وعروقي، لا يشبه إبرة محقن عادي، فهو ليس مجوّفاً مثله، بل هو مسبار خاص؛ لقياس طاقة الدم الحيوية، ونقل ذبذباتها المنمنمة، إلى جهازي الصغير، الذي يقوم بفحصها، وتحليلها، وقياس قوتها، ثم يقارنها بذبذبات الطاقة الدموية الحيوية الصادرة من عروقي، ويعمل على معادلة الطاقتين...
هزّ رأسه، وكأنما يقنع نفسه بالفكرة، قبل أن يستطرد:
- هذا أشبه بمحاولة إيقاظ بطارية سيارة فارغة... إننا نوصّلها ببطارية سيارة أخرى، فتدور، وتعود السيارة ذات البطارية الفارغة للعمل.
ألقى نظرة على ساعة يده، فوجد أن عقاربها تقترب من الرابعة صباحاً، وأدهشه أن مرّ كل هذا الوقت دون أن ينتبه، فغمغم في توتر:
- أظن أنه من الأفضل أن نبدأ التجربة.
تأكد مرة أخرى من كل التوصيلات، قبل أن تتجه سبابته في تردد وتوتر، إلى الزر الوحيد في الجهاز الصغير...
وبمنتهى العصبية، ضغط الزر...
في البداية، أضاء المصباح الأحمر، وبدأ الجهاز عمله...
ولكنه لم يشعر بشيء...
أي شيء...
لخمس دقائق كاملة، بدت له أشبه بدهر كامل، راح يحدق في الجهاز، وفي المصباح الأحمر، والمؤشر الرقمي المستطيل، بالقرب من قمة الجهاز، والذي ظل يشير إلى الصفر، وكأنما لم يستقبل شيئاً....
لا نبضات عادية، أو فوق عادية...
ولا ذبذبات ولا أي دليل على وجود تلك الطاقة الدموية الحيوية...
وفي توتر شديد، عقد الدكتور وجدي حاجبيه، وهو يغمغم:
- مستحيل! كل حساباتي تؤكد أن...
وقبل أن يتم عبارته، بدأ كل شيء فجأة....
بلا مقدمات، بدأت الأرقام تتحرك في سرعة، على تلك الشاشة المستطيلة...
وشعر الدكتور وجدي بصدمة مباغتة...
لم تكن صدمة نفسية أو عصبية، وإنما صدمة حقيقية...
صدمة، شعر معها وكأن لكمة قوية قد أصابت رأسه، دون سابق إنذار...
وأمام عينيه، اللتين اتسعتا عن آخرهما، اختفت معالم الحجرة، وظهرت بدلاً منها معالم منزل قديم...
كان من الواضح أن ذكريات هذه المريضة، الغارقة في غيبوبة عميقة، قد انتقلت إليه، بوسيلة ما...
كان المنزل قديماً، يشبه بيوت القرن التاسع عشر، وهناك موقد كبير على الأرض، يمتلئ بفحم مشتعل، وتفوح منه رائحة بخور قوية...
وكانت هناك أصوات عجيبة تتردد...
أصوات بلغة ليست عربية حتما...
ولا هي حتى واحدة من اللغات الخمس، التي يجيدها...
كانت لغة غريبة...
عجيبة..
ومخيفة...
وكانت هناك يدان، تتحركان حركات عجيبة...
وبين الحين والآخر، تلقيان بعض البخور في الموقد...
وعلى الرغم من حالة الجمود، التي أصابته عقب الصدمة، استطاع أن يستوعب الأمر في سرعة...
إنه الآن داخل عقل المرأة...
يشعر بما شعرت به...
ويرى ما رأته...
ذلك الصوت الذي يسمعه، بتلك اللغة العجيبة، هو صوتها...
واليدان هما يداها...
إنه، وعبر وسيلة لم يقرأ حتى عنها من قبل، يرى عبر عينيها....
ويحيا ذاكرتها...
كان يريد أن يقاوم هذا الشعور المخيف، إلا أنه عجز عن هذا تماما...
حاول حتى أن يمد يده؛ ليطفئ جهازه الصغير...
ولكن هيهات ...
لقد تجمّد كل جسده، وصار أشبه بمريض مصاب بشلل كامل، فيما عدا عقله، الذي ظل يعمل...
ويرى..
ويشعر...
كانت نيران الموقد تتأجج أكثر وأكثر، مع ترديد تلك الكلمات العجيبة...
ثم فجأة، راحت تلك الصورة تتكون داخلها...
وعلى الرغم من حالة الجمود، التي سقط جسده فيها، شعر الدكتور وجدي برجفة عنيفة، تسري في أوصاله، وهو يرى ما رأته المرأة داخل النيران...
كائن بشع رهيب، تكوّن وسط النيران، وبدا كجزء من الجحيم، بقرنيه الصغيرين، وملامحه السوداء البشعة، وزوج الأعين اللتين غابت منهما القزحية تماما، ويدين أشبه بقطعتين من الحجر الملتهب...
وراح الصوت يعلو، ويكتسب رنة رعب، ثم بدأت الكلمات تعود إلى العربية، مع صرخة المرأة:
- انصرف... انصرف.
ولكن ذلك الكائن البشع واصل التكوّن، حتى صار هو والنار كيانا واحدا...
وفي مشهد رهيب، خرج من موقد النيران، واتجه نحوها...
وصرخت المرأة...
وصرخت...
وصرخت...
وصرخت...
وسمع الدكتور وجدي صدى صراخها في رأسه...
وعبر ذاكرة عينيها، رأى ذلك الكائن يملأ بصرها كله...
وعبر أذنيها، سمعه يقول:
- أنت أردت هذا.
صرخت المرأة، بكل رعب الدنيا:
- انصرف... لن أفعل هذا مرة أخرى... انصرف... انصرف.
قال ذلك المخلوق البشع، وهو يمدّ نحوها يدين صغيرتين، في كل منهما ثلاثة أصابع، تنتهي بمخالب حادة طويلة:
- لست تملكين الطاقة اللازمة لصرفي.
صرخت بكل رعب وفزع الدنيا، واقترب ذلك الشيء البشع منها أكثر وأكثر، وبدا ذيله الشبيه بذيل جدْي يتلاعب خلفه، و...
وفجأة، توقّف...
وخفق قلب الدكتور وجدي، في رعب هائل، عندما ابتسم ذلك البشع ابتسامة شيطانية، برزت إثرها أنيابه الحادة الرفيعة الطويلة، وهو يقول:
- آه... هناك آخر.
ثم بدأت الصورة تتسع، ليملأ وجهه البشع بصر الدكتور وجدي كله، ويرنّ صوته المخيف في أذنيه، وهو يتابع:
- أنت جلبت هذا لنفسك.
وحاول الدكتور وجدي أن يصرخ...
حاول أن يستنجد...
أن يفعل أي شيء...
ولكنه لم يستطع ...
أما ذلك الكائن البشع، فقد غاص في أعماقه، وراح يسيطر على كيانه، و...
"إنها معجزة"...
هتفت بها ممرضة الخامسة صباحاً، وهي تستدعي الطبيب المناوب، عبر الهاتف الداخلي للمستشفى، قبل أن تلتفت إلى المريضة، التي أفاقت من غيبوبتها العميقة، متابعة في انفعال:
- لقد استعادت مريضة الحجرة 13 وعيها... لست أدري كيف... لقد حضرت في موعدي؛ لقياس وظائفها الحيوية، فوجدتها واعية، تشعر بالدهشة، وتتساءل أين هي... الدكتور وجدي؟! هذا هو أغرب ما في الأمر.
وألقت نظرة على الدكتور وجدي، الذي بدا ذاهلاً، جامداً، يحدّق أمامه في لا شيء، قبل أن تتابع في انفعال بلغ ذروته:
- كل وظائفه الحيوية تعمل جيدا، ولكنه واقع في غيبوبة عجيبة... غيبوبة ليس لها تفسير.... أي تفسير.