مجلة (موهبة)، العدد ٣٦، سبتمبر ٢٠١٠
تخيّل أنك قضيت نزهة صيفية بدون أن يقف الذباب على وجهك ويطن عند أذنيك، وبدون أن يتجمع النمل على طعامك. تخيل أنك لم تعد من إجازتك لتجد الصراصير -حية وميتة- مبعثرة في كل ركن من منزلك في منظر مقزز. تخيل عالماً بلا بعوض يقلق منامك بلسعاته التي تخترق جلدك ويرعبك بنقل الأمراض السارية. وإذا كنت مبتلى بهوس الخوف من الحشرات أو ما يعرف بالـ Entomophobia، فإنك بلا شك ستقدر مزية التخلص من هذه الكائنات ومن العناكب والعقارب أيضاً والتي -بالمناسبة- لا تُصنف علمياً كحشرات وإنما تتبع رتبة العنكبيات.
بطبيعة الحال فهذا محض خيال.. وهو خيال متطرف جداً وغير منطقي. لأن الله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً. وحين ندرك أن عدد فصائل الحشرات يقدر بنحو الـ 30 مليوناً، أي أنها تشكل أكثر من 90% من مختلف أشكال الحياة على كوكب الأرض، فإننا سنتدبر ملياً في أهمية هذه المخلوقات.
هناك مقولة منسوبة للعالم الشهير (ألبرت إينشتاين) تنص أنه في عالم بلا نحل؛ فإن البشرية بأسرها ستنقرض خلال أربع سنوات! وهذه المعلومة غير الأكيدة مبنية على حقيقة مفادها أن النحل -وسواه من الحشرات- يقع على عاتقه تلقيح تسعين نوعاً من المحاصيل الغذائية. طبعاً هناك الرياح ووسائل التلقيح الصناعية، لكن لنتخيل ماذا سيحل بنظامنا الغذائي لو فقدنا “تسعين” صنفاً من المحاصيل دفعة واحدة؟
الحشرات كالنحل وديدان القزّ هي المصادر الطبيعية الوحيدة للعسل وللحرير الطبيعي. سيجادل البعض أن الحياة ستستمر بدون عسل طبيعي. وسيجادل آخرون بأن بعض الحشرات لم تجلب للبشرية سوى الويل. الجراد تسبب في مجاعات تاريخية قضت على الملايين عبر التاريخ. وكذلك القمل الذي تواطأ مع الفئران ونقل الطاعون القاتل خلال العصور الوسطى، ناهيك عن بعوض الملاريا. وماذا عن لدغات العقارب والدبابير؟ والنمل القاتل في أميركا الجنوبية والصراصير القذرة في كل مكان؟ هذا كله كلام صحيح.. لكنه يمثل نصف الحقيقة.
الصراصير مثلاً مهمة جداً وبالذات بالنسبة لحضارتنا الصناعية.. لأنها تقتات على المخلفات التي ننتجها يومياً بكميات مهولة -هذا ليس ذنب الصراصير- وهي مخلفات ستغرقنا لو لم تخلصنا منها هذه المخلوقات التي تُفتت النفايات الكبيرة إلى جزيئات أصغر تأتي عليها البكتيريا الأشد دقة. وهذه هي نفس المنظومة الطبيعية التي تحلل لنا أيضاً الجثث وتريحنا من أذاها. إن الصراصير التي تتكاثر أكثر كلما ازدادت كميات النفايات التي ننتجها نحن أساساً تسدي لنا خدمة عظيمة والحال كذلك!
العناكب بالذات مظلومة لأنها -ما خلا نوعاً أو اثنين- عاجزة حتى عن لسعنا.. مع أن الكثرين يخافون من منظرها ويسارعون لقتلها بلا سبب. لولا العناكب وشباكها لانفلت تعداد الحشرات الأخرى الأصغر ولتكاثرت حتى حجبت عنا الهواء وضوء الشمس!
حشرات المزارع هي ذاتها التي تلقح المحاصيل وتقلب التربة وتسمدها أيضاً بتحلل أعدادها الهائلة. ولا ننسى أن الحشرات تمثل أولى درجات السلم الغذائي الطبيعي، لأنها هي غذاء الطيور الصغيرة والأسماك التي تقتات عليها بالتبعية الحيوانات الأكبر. إفناء الحشرات سيقتضي خللاً أكيداً في الدورة الغذائية وسيؤدي لنتائج مدهشة وغير متوقعة.
قد تبدو الحشرات هشة وحقيرة لدرجة تغرينا لسحقها بلا رحمة.. لكن قصر أعمار هذه الكائنات وبساطة تركيبها كانت بالذات عوناً عظيماً للعلماء الذي استغلوها لتحقيق فتوحات باهرة. ذبابة الفاكهة مثلاً كانت أول كائن معقّد ترسم خريطته الوراثية بالكامل، والدروس التي تعلمناها في هذا الصدد ساعدتنا على رسم الخريطية الجينية البشرية أوائل هذا القرن. كما وأن كائنات مثل العَلَق كانت لها استخدامات طبية قديمة منذ الأزل. وإذا جسرنا على الخوض في فوائد الحشرات فلا يسعنا إلا ان نؤكد على أنها مصدر غذائي غني بالبروتين.. لمن يريد أن يجرب!